106

ـ كما ألمحنا فيما سبق ـ إلا بولاية واسعة النطاق تضفيها السماء على الهيئة الحاكمة أو الفرد الحاكم، وتشمل حق جميع التصرفات التي لا تتقوم الدولة إلا بها، من قبيل:

1 ـ التصرف في ممتلكات القاصر.

2 ـ وتنبيه العصاة.

3 ـ وإجراء النظم والقوانين الشرعية ولو عن طريق إجبار من لا يخضع لها بالاختيار.

4 ـ وخصم المرافعات.

5 ـ وتوحيد المواقف فيما يحتاج الى ذلك، كما في الأمر بالجهاد وغير ذلك.

6 ـ والالزام في كثير من الموارد الأخرى بما هو غير لازم بالعنوان الأولي، أي في نفسه وبغض النظر عن أوامر الدولة.

كما ان هذه الولاية تؤدي كثيراً الى تجويز ما هو غير جائز بالعنوان الأولي(1).



(1) الولاية ـ كما سيتضح ان شاء الله في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ لها مجال واسع في الالزام بغير ما هو لازم بالعنوان الأولي، وأما في تجويز ما هو غير جائز فلا مجال لها إلا بأحد شكلين:

الأول: أن يكون عدم الجواز ثابتاً بأصل من الأصول العملية التي بحثت في علم الأصول أو بالظن في مورد لم يكن محيص عن أتباعه عند عدم

107

فالبحث حول جعل الشورى أساساً للحكم يجب أن يتركز على انه هل يُستفاد من أدلة الشورى كونها مبدأ للولاية بعرضها العريض وفي نطاقها الواسع أولاً؟

محتملات الشورى

فنقول: ان المحتملات بدواً في مسألة الشورى ثلاثة:

المحتمل الأول:

ان يدّعى أن الشورى تؤدي الى امتلاك السلطة الشرعية والولاية؛ فلو تمت الشورى على تعيين فرد أو هيئة ولياً فالولاية



الامارة الشرعية، وهنا يقدم حكم ولي الامر اذا شكل امارة تتقدم على الأصل أو على ذلك الظن.

الثاني: أن تكون الولاية قد أعملت في موضوع الحكم الإلزامي، فتؤثر في تبديل الحكم الى الترخيص بتبدل الموضوع. كما لو أجبر الولي شخصاً ما بحق على بيع ماله، فيجوز للمشتري شراؤه رغم أن شراء المال بغير رضا البائع غير جائز في الحالات الاعتيادية. فالولاية هنا أعملت في موضوع الحكم الالزامي بعدم الشراء والتصرف وبطلانه، حيث ان موضوع الحكم بعدم جواز الشراء والتصرف وبطلانه هو عدم توفر أحد الامرين ـ وهما "رضا البائع، وكون الإكراه بحق ومن قبل ولي الإكراه" ـ أما وقد تحقق الإكراه بحق ومن قبل وليه فلا مانع من الصحة. وبكلمة أخرى: أن رضا الولي في باب البيع يقوم مقام رضا صاحب المال. هذا، وأما إعمال الولاية مباشرة في تبديل الحكم الالزامي الواقعي الى الترخيص في المخالفة فغير صحيح.

108

تثبت له أولها في الحدود التي قررتها نفس عملية الشورى، ولو تمت عملية الشورى على حكم فأقرت بها الأكثرية عاد الحكم نافذاً حتى في الموارد التي يكون الحكم فيها مخالفاً لمقتضى الواجب الالزامي الظاهري الثابت عند الفرد، بغض النظر عن الحكم المذكور(1).

ويمكن للولي المعين بالشورى أن ينفذ قانون العقوبات وغيرها من القوانين التي يجب أن ينفذها الولي لا غير، كما يمكنه أن يشرف على الشؤون الاجتماعية التي لا يسد نقصها إلا من له الولاية.

وبكلمة واحدة: ان الشورى يمكنها أن تثبت جميع شؤون الولاية العامة.

المحتمل الثاني:

أن يدّعى أن الشورى إذا أدت الى لزوم العمل طبق خط خاص، فإن ذلك حكم يلزم الجميع، حتى لو كان على خلاف الرأي الشخصي للمتبع الذي يرى لنفسه عدم الإلزام لولا الشورى.

وبهذا تكون نتيجة الشورى هي تبديل الجواز بالوجوب ودون أن تستطيع ـ أي الشورى ـ أن تثبت للولي كل شؤون الولاية العامة



(1) ولو في خصوص ما اذا كان الحكم كاشفاً ـ حسب المصطلح الذي سوف نذكره في بحثنا عن ولاية الفقيه ـ والا فلا يمكنه رفع الالزام الا بتبديل الموضوع.

109

ـ بعرضها العريض ـ ذلك بأن يقال: ان دليل الشورى ليس فيه ظهور يمكن معه إثبات هذا المستوى من الولاية، وإنما الذي يظهر منه أن وزانه هو وزان دليل وجوب الوفاء بالنذر والعهد واليمين والشرط والعقد، وكلها انما تفترض في المساحة الجائزة من الأحكام، حيث لم يكن يوجد فيها إلزام بخلاف هذه الأحكام ولو بنحو ظاهري.

وهذا المدعى ـ لو تم ـ لم يغننا في مجال إنشاء الحكومة الاسلامية التي يمكنها أن تملأ كل الفراغات الاجتماعية، فإنها ـ كما قلنا ـ تتوقف على ثبوت الولاية في الدائرة الواسعة التي أشرنا اليها ولا تكتفي الولاية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب فحسب.

المحتمل الثالث:

أن تكون الشورى مجرد أسلوب للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، دون أن تؤدي الى إلزام أو ولاية أو تسليط على أي شيء ـ أي دون أن تنتج الولاية بعرضها العريض ـ كما في المحتمل الاول، وحتى دون أن تنتج الولاية في مجال تبديل الجواز بالوجوب كما في المحتمل الثاني.

ومثل هذا لوحده لا يمكنه ـ كما هو واضح ـ أن يشكل أساساً لدولة إسلامية إطلاقاً، بعد أن أوضحنا فيما سبق احتياج الدولة قبل كل شيء الى الولاية، والمفروض أن الشورى بهذا

110

المعنى لا تؤدي اليها.

وهكذا يبدو لنا: أن الشورى إنما يمكنها أن تشكل أساساً للدولة الاسلامية إذا استطعنا أن نعين المحتمل الأول وندلل عليه من بين المحتملات الثلاثة المذكورة.

علاقة أدلة الشورى بأدلة ولاية الفقيه

نحن نعلم أن هناك أدلة تنص على أن الولاية العامة إنما هي لله تعالى ثم للرسول (صلى الله عليه وآله) ثم للامام المعصوم ـ على رأي الشيعة ـ، وأخيراً فهي للفقيه الحائز على بعض الشرائط عند غيبة الامام على ما سيأتي الحديث عنها.

ولذا فينبغي لنا أن نلاحظ العلاقة بين أدلة ولاية الفقيه وأدلة الشورى، لو تمت لها دلالة بنحو المحتمل الأول السابق، إذ قد يقال: ان أدلة الشورى ـ حتى لو كانت دالة على الولاية العامة بعرضها العريض وهو المحتمل الأول ـ لا تنفع في مجال جعل الشورى والتصويت بيد الأمة جميعاً، مع وجود أدلة ولاية الفقيه؛ وذلك لأن الشورى إنما تفرض في المساحة التي تركتها الشريعة ولم تقضِ فيها بقضاء من الله ورسوله، قال تعالى:

﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون

111

لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً(1).

فإذا كان القائد قد عين من قبل الله تعالى كما هو الحال في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)، فهو قضاء من الله تعالى بأنه رئيس الدولة الاسلامية، ولا مورد فيه للشورى. وهكذا الحال في عصر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ على رأي الشيعة ـ وثبوت إمامتهم بالنص… وكذا أيضاً لو تمت الأدلة على ولاية الفقيه وأثبتت أنه قائد المجتمع في عصر غيبة الامام (عليه السلام)، ولذا فلا معنى لطرح هذه المسألة؛ أي مسألة القيادة على بساط الشورى، وانتخاب جميع الأمة.

وإذاً فدليل الشورى ـ لو تم على النحو الأول ـ لا مجال له في دائرة تعيين القائد.

نعم، لو جمعنا بين الدليلين (دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى) نعرف أن الشورى والتصويت يجب أن تتم بين الفقهاء أنفسم.

وهكذا يحاول هذا الاعتراض أن يسلب مجموع الأمة الدور الأساس عن طريق الشورى في نظام الحكم الاسلامي، حتى على تقدير دلالة أدلة الشورى على الولاية العامة.

وقد يقال بتعارض الأدلة في فتح مجال لعمل الشورى بين مجموع الأمة، وتأثيرها في غير مجال تعيين القائد المنفذ، وهو



(1) سورة الاحزاب الآية36.

112

مجال الفراغ التشريعي، وذلك بأن يقال:

لنقبل أن الشورى والتصويت من قبل الأمة لا دور لها ولا مجال عند تعيين السلطة التنفيذية العليا من قبل الله تعالى، وهي تتمثل في الفقيه في عصر الغيبة، ومعه لا خيرة للناس في ذلك.

إلا أن هناك منطقة فراغ واسعة تركتها مرونة الاسلام، لأنها ترتبط بمساحة حياتية متغيرة غير محددة بعناصر مشتركة؛ فلم تقض الشريعة فيها بحكم مباشر وقانون خاص، ولكن عينت من يُرجَع إليه في ملء هذه المنطقة ملأً منسجماً مع متطلبات الظروف. وقد تعارضت الدلالة وتنافت في مجال تعيين هذا المرجع، فمن دليل يؤكد على أنه الفقيه، الى آخر يركز على أنه الأمة أو الأكثرية.

ووفقاً لهذا العرض يكون الدليلان ـ دليل ولاية الفقيه ودليل الشورى ـ في مستوى واحد، ولا يتقدم أحدهما على الآخر في هذا المجال.

والواقع: أن هذا البيان لا يتم، فقد سبق وان قلنا: أن قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم يقرر بأن الشورى إنما تكون بين من يكون الأمر ـ موضوع التشاور ـ أمرهم؛ فإذا كان هناك موضوع ينسب تارة الى دائرة واسعة وينسب تارة أخرى الى جماعة خاصة في داخل تلك الدائرة، فتصبح إضافة الأمر إليهم آكد وأوثق، فإن ذلك إجمالاً في النص السابق،

113

وتردداً بين منح الشورى للدائرة الكبرى أو الدائرة الضمنية.

ودليل ولاية الفقيه يدل على أن موضوع ملء منطقة الفراغ من هذا القبيل، فهو من جهة أمر يهم الأمة وينظّم حياتها، فهو ينسب اليها بهذا الاعتبار. ولكنه من جهة أخرى ينسب الى الفقهاء ـ بدلالة أدلة ولاية الفقيه ـ وليس الفقهاء إلا قطاعاً خاصاً من قطاعات الأمة.

فبناءً على دليل ولاية الفقيه، يكون دليل ﴿وأمرهم شورى بينهم مجملاً بالنسبة لهذا المورد، ومع ذلك لا ينهض كدليل معارض لدليل ولاية الفقيه غير المبتلى بالإجمال. وتثبت بالتالي أن الولاية ـ سواء في مجال السلطة التنفيذية أو مجال ملء منطقة الفراغ ـ هي للفقيه لا غير، وإن كان لابد للفقهاء بحكم آية الشورى أن يتشاوروا فيما بينهم في كيفية التنفيذ وملء منطقة الفراغ.

الجمع بين الدليلين بانتخاب الفقهاء فقط:

وربما يعترض على ما سبق بأننا لو قبلنا هذه الدلالة التامة لأدلة ولاية الفقيه ومنحناه سلطة التنفيذ وملء منطقة الفراغ، فماذا يبقى في البين لدليل الشورى غير التشاور بين الفقهاء أنفسهم، بينما جاءت الآية في معرض وصف المؤمنين عموماً؟ فهل يمكن تأويلها في إرادة خصوص الفقهاء؟ إن الفهم العرفي يأبى ذلك، ولذا فهو يرى حصول

114

تنافٍ بين الدليلين إذا قبلنا بالنتيجة السابقة(1).

ولذا فإن مقتضى الأخذ بكلا الدليلين ـ لو تمّا في نفسيهما ـ هو القول بمنح الأمة حق انتخاب مرشحيها للحكم، ولكن ليس لها أن تختار من غير الفقهاء، فإذا انتخبت من الفقهاء راح المنتخبون يديرون الأمور بالتشاور فيما بينهم.

فإذا أعطينا الأمة هذا المقدار من النصيب في الأمر، كنّا قد تجاوبنا مع الفهم العرفي الذي لم يستسغ بأي وجه تخصيص الآية الكريمة وجعلها في دائرة الفقهاء فقط(2). إلا أن كل هذا البحث فرع أن نفهم من دليل الشورى مسألة التصويت وإعطاء الولاية بيد الأكثرية أو من ينتخب.

فلنقم بمناقشة أدلة الشورى ومعرفة مدى إمكان تعيين الاحتمال الأول منها من بين الاحتمالات الثلاثة السابقة.

ملاحظة أدلة الشورى

أما الروايات:

فنستثني منها قبل كل شيء ما دل على أن تعيين الامامة في



(1) فان هذا من سنخ اباء بعض الأدلة عن التخصيص حسب مصطلح علماء أصول الفقه.

(2) أي إن هذا المقدار كاف لرفع مثل محذور الاباء عن التخصيص، وعليه فهو القدر المتيقن ثبوته للأمة.

115

زمن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً كان بالشورى والانتخاب(1)! وقد تقدم الحديث عنها.

وهنا نلاحظ أن بعض روايات الشورى لا تشتمل على أمر بالشورى أو نهي عن مخالفتها، وإنما لا تعدو كونها حثاً على التشاور، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة".

وهذا القسم من الروايات ـ لا يدل على المقصود ـ كما هو واضح.

كما أن هناك قسماً منها يأمر بالمشورة دون أن ينهى عن مخالفة المستشارين، وهي كما في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية حيث قال له: "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض ثم اختر أقربها الى الصواب وأبعدها من الارتياب".

وهذا القسم لو فرض(2) دلالته على وجوب المشورة على الإطلاق فإنه لا دلالة فيه على كون لزوم التشاور لأجل ما في الشورى من ولاية، ذلك أن الولاية لم تؤخذ ـ لا لغة ولا عرفاً ـ في كلمة الشورى.



(1) وكذا ما الحقناه به في الهامش.

(2) اشارة الى إمكان رفض هذه الدلالة بجعلها رواية مرشدة الى القاعدة العقلائية التي تحكم بحسن التشاور في الأمور للاستضاءة بآراء الاخرين، وهذه القاعدة يختلف ملاكها ـ من حيث اللزوم والاستحباب ـ من مورد الى مورد، بل قد يكون الأمر في نظر الشخص واضحاً كل الوضوح بحيث لا يرى مورداً للمشورة فيه.

116

ولهذا فيمكننا أن نقول: ان المراد به هو إيجاب التشاور طبق المحتمل الثالث من المحتملات الثلاثة الماضية، وذلك للاستضاءة بآراء الآخرين والاستفادة من خبراتهم، كما هو الظاهر من الوصية الماضية حيث يقول (عليه السلام): "ثم إختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب"، ويعطي الخيار بيد المستشير دون المستشارين.

وهناك قسم ثالث من الروايات ينهى عن مخالفة نتيجة الشورى، كقوله (صلى الله عليه وآله): "استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا".

وهذا القسم يمكن حمله على مجرد الحث دون الوجوب والولاية، وذلك بملاحظة أن هذه الرواية لم ترد بالنسبة لخصوص الأمور العامة، وإنما تشمل الأمور الشخصية. ومن الواضح أن المشورة في الأمور الشخصية ليست إلا بمعنى الاستضاءة بآراء الآخرين بلا أي إلزام.

ولعل أكثر الروايات دلالة على المقصود ما مضى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمرؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".

وهناك نقطتان يمكن أن تؤثرا في قوة الاستدلال بهذا الحديث:

النقطة الأولى: أنه يمكن أن يدّعى في هذا الحديث أنه

117

لا يشمل إطلاقاً الأمور الشخصية، لأن قوله (صلى الله عليه وآله) "أموركم شورى بينكم" موجّه الى المجتمع المسلم من حيث هو مجتمع، والأمر أمره، فلا ينظر الى الأمور الفردية الشخصية. ولذا نجد عدم افتراض مستشير ومستشار في الحديث(1)؛ فهناك وحدة



(1) ولعل هناك من يقول: ان قرينة التقابل في الرواية بين عبارة "أموركم شورى بينكم" وعبارة "اموركم الى نسائكم" تقتضي شمول الجملة الاولى للقضايا الشخصية كما تشمل الجملة الثانية لها، ذلك لأن الضمير في قوله "أموركم الى نسائكم" راجع الى الرجال بقرينة ذكر النساء، فهي اذن تتعرض لتدخل النساء في أمور الرجال الشخصية وتوجيههم وتحبذ اختصاص مشورة الرجال بالرجال وعدم تدخل النساء في تلك الأمور.

ولكن قد يرد عليه بأن قوله صلى الله عليه وآله: "أموركم شورى بينكم" يحتمل أن يقصد منه الأمور العامة لمجموع المسلمين بما فيهم الرجال والنساء، ويراد منه تدخل النساء في الشؤون العامة.

ولربما قيل بهذا الصدد انه اذا كنا نتردد في المقصود من قوله "أموركم الى نسائكم"، هل هو ناظر الى الشؤون الخاصة أو العامة، اذن نحتمل كون هذا المقطع قرينة على شمول المقطع الأول للأمور الشخصية لأن القرينة على الفرض الأول ثابتة. ومع هذا الاحتمال يصبح المقطع الأول مجملاً مبهماً لا يمكن أن يستفيد المقصود منه.

كما أنه قد يؤيد شمول الرواية للقضايا الشخصية مجيء التعبير بصيغة الجمع "أموركم"، ومقابلة الجمع بالجمع تعني التقسيم والتوزيع، فأمر هذا وأمر ذاك وأمر ذلك.

118

بين المستشيرين والمستشارين تتجلى في المجتمع. وعليه فهذه الأمور هي الأمور العامة.

وإذ قد عرفنا أن الرواية لا تشمل الأمور الشخصية، فإن هذه الرواية لا تكون مبتلاة بالإشكال الذي أوردناه سابقاً على الروايات؛ إذ كان شمولها للأمور الشخصية يصرفها الى أن المراد بها هو خصوص الاسترشاد والاستضاءة بآراء الآخرين، دون أن تنتج أي ولاية.

وهو المحتمل الثالث من المحتملات السابقة.

فإذا استطعنا أن نعثر على دلالة في الرواية على المحتمل الأول للشورى ـ أي إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً أو لمن يعين من قبلها ـ لم يكن لهذه الدلالة معارض من هذه الجهة.

النقطة الثانية: ان في الرواية قرينة تصرفها الى المحتمل الأول للشورى دون الثالث، وهي ما أشرنا إليه من وحدة المستشير والمستشار وعدم افتراض اختلافهما.

بيان ذلك: أن أكثر روايات الشورى فرض فيها مستشير ومستشار، وفرض أحدهما على الآخر، وفرض الأمر المستشار فيه أمراً راجعاً الى المستشير دون المستشار، وذلك من قبيل وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن الحنفية الماضية "اضمم آراء الرجال بعضها الى بعض"؛ فالمستشير هو محمد بن الحنفية مثلاً والمستشارون هم الرجال.

وقوله: "لا مظاهرة أوثق من المشاورة" محتمل لذلك؛

119

فهناك شخص يحتاج الى ظهر وقوة فتقول الرواية أن قوته بالمشورة مع الآخرين.

وقوله فيما مضى أيضاً: "استرشدوا العاقل ولا تعصوه"؛ فهناك شخص يسترشد عاقلاً.

وقوله: "من لا يسترشد يندم"؛ والفرد طبعاً يستشير غيره لا نفسه.

وقوله: "لن يهلك امرؤ عن مشورة".

وقوله: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه". وغير ذلك.

فهذه الروايات فرضت مستشيراً له أمر يحتاج فيه الى مشورة ومستشاراً، ولذا فبالإمكان حملها على المحتمل الثالث، بأن يقال ان المستشير يعمل في النهاية برأيه لا برأي المستشار وإنما يستشير لكسب العلم والمعرفة، واحتمال تأثير كلام المستشار على رأيه وتبدل رأيه بذلك.

وأما النهي الوارد في بعضها عن مخالفة المستشار، فيحمل على الحث على العمل برأيه ما لم تتحقق رؤية واضحة على خلافه وذلك بما مضى من قرينة عدم تخصيص المشورة بالأمور العامة.

وأما قوله: "أموركم شورى بينكم" فليس المفروض فيه مستشير ومستشار يختلف أحدهما عن الآخر، وإنما الأمر أمرهم جميعاً، فكلهم مستشيرون وكلهم مستشارون في أمر مشترك.

فلا يتطرق بحسب المفهوم العرفي احتمال أن المستشير يعمل برأيه لا برأي المستشارين كي يحمل على المعنى الثالث، إذ لا يوجد

120

مستشير منفصل عن المستشارين، كما لا يتطرق عرفاً أيضاً احتمال العمل برأي ولي ما منفصلاً عن المشورة بنكتة سيأتي توضيحها ان شاء الله عند الاستدلال بالآية الثانية على الشورى.

إذن، فيصبح المفهوم العرفي للكلام هو: أن الرأي رأي المجموع على شكل الأخذ برأي الأكثرية مثلاً أو على أي شكل آخر. وبهذا يثبت المعنى الأول وتثبت إمكانية تعيين ولي الأمر بالشورى.

وحاصل ما ذكرناه هو إمكان القول بتمامية دلالة هذه الرواية لولا الملاحظة العامة الماضية في أول بحث الشورى. إلا أنه لا قيمة لهذه الرواية من حيث السند. وواضح أن روايات الشورى ـ وإن قلنا أنها متواترة أو مستفيضة ـ إذا كان ما يمكن أن يتم منها دلالة لا يبلغ حد التواتر ولا الاستفاضة سقط بضعف السند.

البحث عن آية ﴿وشاورهم في الأمر.

وأما الآيات فتنحصر في الآيتين الشريفتين:

الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر.

ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الآية بوجهين:

الوجه الأول:

ان الاستدلال بهذه الآية الشريفة اما أن يفترض نشوؤه من إدعاء

121

أن الأخذ بآراء الغير المستشار متضمن في مفهوم (الشورى)، فإذا أطلق هذا اللفظ ومشتقاته فهم منه استقراء آراء الآخرين والأخذ بأكثريتها مثلاً. أو يفترض نشوؤه من ادعاء أن الأمر بالشورى إنما هو للوصول إلى ما هو أقرب للواقع، ولا يتم هذا إلا إذا عمل المستشير برأي الآخرين. في حين أنه لو استشارهم ثم أعرض عمّا توصلوا اليه فإن هذه الشورى سوف لا تحقق هدفها المرجو. وهكذا تجعل هذه الصفة الطريقية للشورى قرينة عرفية على أنه يهدف من الأمر بالشورى إعطاء الولاية للأكثرية مثلاً.

أما الفرض الأول فباطل جزماً، فلم يؤخذ ـ لغة ـ في مفهوم "الشورى" أن يؤخذ بآراء الغير لتثبت بذلك الولاية لهم ولو بنحو ناقص فضلاً عن ثبوتها ـ أي الولاية ـ بالنحو الكامل. وبه نعرف أن لا دليل هناك من مفهوم الشورى يلزمنا بحمل "الشورى" في الآية على المحتمل الأول أو المحتمل الثاني.

وهكذا أيضاً لا يتم الفرض الثاني، إذ حتى لو قبلنا أن المشورة المفروضة في الآية كانت لتحقيق الوصول الى ما هو الأصلح أو للتعويد على مبدأ يوصل الأمة الى ما هو الأصلح "وإن كان النبي (صلى الله عليه وآله) غير محتاج الى ذلك"، حتى لو قبلنا هذا، فإنه لا يلازم ولا يقتضي أن تعطى الولاية للأكثرية، إذ يحتمل أن يكون الأمر بالشورى لتحصيل المعرفة بآراء الآخرين والاستضاءة بأفكارهم

122

وتجاربهم التي تضاف الى تجارب المستشير مما يقربه الى ما هو الأصلح حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية. وإنما استعرض الآراء وانتخب منها ـ حسب فهمه وتصوراته ـ الرأي الأصلح الذي قد لا يعدو أن يكون رأي القلة، أو رأيه هو لا غير بعد أن رأى بطلان آرائهم.

هذا، وقد لا يكون الأمر بالشورى في هذه الآية باعتبارها طريقاً للوصول الى الرأي الأسد، وإنما باعتبارها عملية تطيب القلوب والعواطف وتحملها بشكل أكثر مسؤولية الأمر الذي استشير فيه. وإذا راجعنا سياق الآية رأيناه يناسب هذا المعنى، إذ يقول تعالى:

﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.

انه سياق تطييب القلوب وشدها الى الدعوة الاسلامية، فلا يتم الاستدلال بهذه الآية الكريمة حتى لو فرضنا أن سبيل الوصول الى الأصلح منحصر بالأخذ برأي الأكثرية.

هذا، وقد تجعل رواية علي بن مهزيار ـ التي سبق ذكرها ـ شاهدة على أن الملاحظ في الآية الكريمة هو عنصر الوصول الى الحق والأصلح دون مجرد تطييب القلوب وتحميل المسؤولية.

فقد روى العياشي عن أحمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال: كتب إليَّ أبو جعفر (عليه السلام) أن سل فلاناً أن يشير عليَّ

123

ويتخير لنفسه فهو أعلم بما يجوز في بلده وكيف يعامل السلاطين، فإن المشورة مباركة؛ قال الله لنبيه في محكم كتابه: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله؛ فإن كان مما يجوز كتبت أصوب رأيه، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله. ﴿وشاورهم في الأمر قال: يعني الاسختارة.

إلا أن هذه الرواية لم تدل على أن الغرض الأساس في المشورة في الآية الشريفة كان هو اكتشاف الأصح، فلا يمكن أن نثبت وجوب المشورة بالآية الكريمة كقاعدة عامة من باب الوصول الى ما ينبغي العمل به.

ثم ان هذه الرواية ضعيفة سنداً، لعدم معرفتنا بالرواة الذين كانوا الواسطة بين العياشي وأحمد بن محمد.

وإذ قد أثبتنا ـ الى هنا ـ عدم وجود دلالة على ان الشورى في الآية فإنما كانت للعمل برأي الأكثرية قلنا: ان هناك دلالة على خلاف ذلك تستفاد من قوله تعالى: ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله، فهذا يعني عدم وجوب العمل برأي المشاورين. فليس المفروض في مورد الآية التشاور لاتباع نتيجة رأيهم أياً كانت، وإنما طلبت منه (صلى الله عليه وآله) أن يشاورهم ثم يتخذ هو القرار النهائي، ويتوكل على الله.

ومن هنا، فليس من الصحيح ما جاء في تفسير المنار حيث فسر ﴿فإذا عزمت فتوكل على الله بالعزم على امضاء ما ترجحه

124

الشورى(1)، لأن هذا الكلام إنما يتم لو كان صدر الآية ظاهراً في الإلزام باتباع رأي الأكثر، فيحمل عندئذ "فإذا عزمت" على امضاء ما ترجحه الشورى، أما مع عدم ظهور الصدر في ذلك فإن قوله تعالى "فإذا عزمت" محذوف المتعلق؛ أي لم يذكر العزم على ماذا، وهذا الحذف يصبح ظاهراً في أن متعلق العزم عبارة عما يرتئيه هو بنفسه(2). وتكون الآية ظاهرة في المحتمل الثالث من المحتملات التي ذكرناها في الشورى، وهو مجرد طلب الاسترشاد بآراء الآخرين بلا أي إلزام في البين.

الوجه الثاني:

أنه لا يمكن تفسير الآية الكريمة بفرض أي ولاية للمستشارين أو الأكثرية، فمن الواضح عدم وجود أي حاكمية أو ولاية لأي جهة في مورد الآية ـ وهو النبي (صلى الله عليه وآله) ـ إذ هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فإذا قالوا: أن عمل النبي بالشورى كان لغرض تدريب الناس على الالتزام بهذا النظام وإن لم يكن بنفسه محتاجاً الى الشورى ولم تكن للمشاورين أي ولاية عليه.



(1) تفسير المنار ج4 ص205.

(2) أي أنه متى ما حذف متعلق العزم من دون قرينة على تعيين المحذوف كان ظاهره عرفاً ان متعلقه هو رأي نفس العازم.

125

قلنا: انه إذا لم نقبل وجود الولاية في المورد الذي صرحت الآية به، فكيف نقبل دلالتها على الولاية في غير موردها(1)؟!

البحث عن آية ﴿وأمرهم شورى بينهم

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم.

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: أنه لا إشكال في أن المفروض عادة في باب الاستشارة أن المستشير يعمل بعد الاستشارة برأي ما، فما هو الرأي الذي يعمل به في المقام، وهل يتعين أن يكون هو رأي المستشارين أو أكثريتهم مثلاً، أو لا يتعين ذلك، بل قد يطرح رأي المستشارين جميعاً ويعمل برأي نفسه لإقوائية أدلته، أو لأن كل واحد من المستشارين دله على نقاط ضعف كلام الآخر مثلاً، أو أن هناك ولياً آخر في المجتمع غير الأكثرية، أو من تعينه الأكثرية يتعين الأخذ برأيه، وإنما كانت الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الناس، فقد تؤثر أفكار الناس على الولي وتنير الدرب أمامه؟

فهذه فروض ثلاثة:

1 ـ فرض العمل برأي المستشارين.

2 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين، ثم يعمل المستشير بما يرتئيه هو.

3 ـ فرض كون الاستشارة لأجل الاستضاءة بأفكار المستشارين،



(1) يقول الأصوليون: ان خروج المورد من العام مستهجن عرفاً.

126

ثم الذي يصمم على رأي معين ويتبع الآخرون رأيه هو ولي المجتمع لا الأكثرية.

اما الفرض الأول فهو المقصود.

وأما الفرض الثاني، وهو أنه قد يأخذ المستشير برأي نفسه ويطرح رأي المستشارين فهذا يتوقف على المغايرة بين المستشير والمستشار، بينما نجد هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة التي أضافت الأمر الى ضمير راجع الى نفس المستشارين.

وأما الفرض الثالث، وهو افتراض وجود شخص ما غير تمام المستشارين أو أكثريتهم يجب الرجوع إليه، فهو وإن كان محتملاً في المقام، ولكنه خلاف الظاهر في الآية الشريفة، وكذا في رواية "أموركم شورى بينكم"، وذلك بنكتة عدم وجود أي إشارة في الكلام من قريب أو بعيد الى وجود ولي من هذا القبيل يؤخذ برأيه(1).

إذن فالمتعين هو الفرض الأول، وهو العمل برأي المستشارين أنفسهم أو أكثريتهم. وهذا يعني إعطاء الولاية للأمة أو الأكثرية؛ إما ولاية جزئية في دائرة تبديل الجواز بالوجوب كما هو الحال في المحتمل الثاني من المحتملات الثلاثة التي عرضناها لأدلة الشورى، أو ولاية عامة تتم على أساسها إقامة الدولة كما هو الحال في المحتمل الأول من تلك المحتملات الثلاثة. وهذا هو المتعين



(1) راجع الملحق رقم (1).

127

بمقتضى إطلاق الدليل، فإن التقيد بتلك الدائرة الخاصة هو الذي يحتاج الى القرينة(1).

وقد يقال: انه لا يستفاد من الآية الشريفة وجوب الالتزام بالشورى، وذلك لأن سياق الآية يمنع عن الدلالة على الوجوب، قال الله تعالى: ﴿فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون* والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون* والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون* والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، حيث نلاحظ أن جملة ﴿أمرهم شورى بينهم وقعت في سياق جمل عديدة تبين تعاليم اخلاقية للشريعة بعضها واجب وبعضها مستحب وبعضها يكون في بعض الفروض واجباً وفي بعض الفروض غير واجب، بل أحياناً غير صحيح، كالإنفاق مما رزقهم الله تعالى، وهذا السياق يكسر الدلالة على الوجوب.

إلا أن هذه المناقشة إنما تفيد في مقابل جعل الآية الشريفة دالة على الوجوب بعد تطبيقها على المحتمل الثالث من الشورى، فتكون الآية أمراً بالمشورة لأجل الاستضاءة بأفكار الآخرين. وهكذا يتردد الأمر بين أن يكون هذا الأمر أمراً وجوبياً أو استحبابياً، وعندئذ



(1) راجع الملحق رقم (2).

128

يقال: إن السياق المذكور لا يدع الأمر دالاً على الوجوب.

أما إذا فسرنا الآية بتشاور المسلمين فيما بينهم في أمورهم واتباع رأي الأكثرية دون مجرد الاستضاءة بالأفكار والتجارب، فإن العرف لا يحتمل أن يكون الأمر أمراً استحبابياً، لأنه يتعلق بمبدأ هام لحل مشاكل المجتمع الاسلامي وإدارة شؤونه العامة. ومعه يقال: ان الشورى إما أن تنتج الولاية العامة التي تشكل أساس الحل الاجتماعي أولا، فإن لم تكن تنتج الولاية شرعاً لم تكن علاجاً للمشكلة الاجتماعية، فلا معنى للأمر بها سواء كان الأمر للوجوب أو للاستحباب. وإن كانت تؤدي الى ولاية شرعية عامة لمن ينتخب أو للأكثرية كي تنحل المشكلة بذلك اذن فالأمر للوجوب، فإن اتباع الولي أمر واجب، ولا معنى لجعله مستحباً، إذ الاتباع الاستحبابي وغير الإلزامي ليس أساساً لحل المشكلة الاجتماعية.

وهكذا بينا أقصى ما يمكن ذكره في تأكيد الاستدلال بالآية الكريمة على جعل الشورى أساساً لبناء الدولة الاسلامية.

والواقع أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم، فصحيح أن مورد الآية الكريمة يبعد جداً أن يفترض فيه كون المستشير شخصاً أهمه أمر فاحتاج الى شخص آخر كمستشار له، دون أن يكون لهذا الآخر أي رابطة بالأمر المذكور، وإنما كان الأمر في الآية مضافاً للمستشارين أنفسهم، إلا أن هناك في مورد الآية احتمالين:

129

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود اتخاذ رأي المستشارين أو الأكثرية منهم مرجعاً في تحديد المواقف في القضايا العامة.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود هو الشورى بمحتملها الثالث، أي مجرد استعانة الناس بعضهم ببعض في الأفكار والخبرات، مع فرض وجود ولي للأمر هو الذي يقرر المواقف ويحسم الأمر فيها، مستفيداً من مشورته واطلاعه على آراء الأخصائيين في كل مورد يرتبط بهم.

والاحتمال الثاني هذا هو الظاهر من الآية.

أما ما ذكرناه في معرض تقوية الاستدلال من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر خلاف الظاهر لاحتياجه الى قرينة ومؤونة زائدة غير مذكورة في الآية، فإنه غير صحيح باعتبار

ان الظاهر من الآية الكريمة أنها تصف جماعة المؤمنين ببعض الأوصاف الحسنة، وهي عبارة عن أفعال وتروك ـ أي امتناعات عن أفعال ـ وصفات مرغوب فيها شرعاً في زمان نزول الآية على الأقل.

أما افتراض أن بعض هذه الصفات مما يرغب الالتزام به في زمان مستقبل فحسب، حيث لا يكون أمراً حسناً إلا في ظرف يتحقق فيما بعد زمان نزول الآية؛ هذا الافتراض خلاف ظاهر الآية.

ومن الواضح أن الولاية الالهية في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) كانت له لا للشورى، وانه كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم،

130

وقد أمر بالمشورة وترك له الخيار بأن يعزم فيتوكل على الله في تنفيذ عزمه، اما تشاوره مع الناس فإما انه كان لجلب النفوس وتطييب القلوب، أو أنه كان من باب معرفة آراء الآخرين ـ أي المحتمل الثالث ـ على أشد تقدير.

إن ظهور الآية في أنها تصف أناساً مؤمنين نموذجيين تحسن منهم هذه الصفات في زمان صدور الآية لا في زمن متأخر فحسب، وكذلك وضوح وجود ولي الأمر للمسلمين ـ وقتئذ ـ هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن لا ولاية أخرى تثبت عن طريق الشورى. كل هذا يشكل دليلاً وقرينة تكاد تكون متصلة بالآية، كأنه قد صرح بها على الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة وقتئذ.

صحيح ما قلناه سابقاً: من أن فرض الأخذ برأي ولي الأمر بعد المشورة دون رأي المستشارين خلاف ظاهر الآية لولا القرينة.. ولكن قد عرفنا أن القرينة موجودة بنحو تشبه التصريح بها أثناء نزول الآية لأنها واضحة في الأذهان وضوحاً تاماً.

وبهذا يظهر أن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على منح الشورى الولاية الشرعية العامة استدلال باطل.

آية: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير

وفي ختام هذا البحث نود أن نسجل عجبنا الشديد ممن استدل على نظام الشورى بآية كريمة أخرى، هي قوله تعالى:

﴿ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون