165

الماء المطلق كثير وقليل:

(7) ينقسم الماء المطلق إلى قسمين:

أ ـ يسمّى بالماء الكثير، ونطلق هذا الاسم:

أوّلا: على كلّ ماء له رصيد يمدّه بالماء، ويسمّى هذا الرصيد بالمادة؛ لما فيه من إمداد بالماء، كماء البئر النابع، وماء العيون النابعة، سواء كان الماء النابع منها جارياً أو واقفاً. وكذلك الماء الجاري في الجداول والأنهار، سواء كان مستمدّاً من عيون في جوف الأرض أو في باطن الجبال، أو من ذوبان الثلج المتراكم على رؤوس الجبال، فإنّ كلّ ماء من هذا القبيل يعتبر ماءً كثيراً، سواء كان الظاهر منه للعيان كثيراً حقّاً كما في الأنهار، أو قليلا كما في بعض العيون النابعة الواقفة؛ لأنّ الكثرة هنا على أساس المادة، أي الرصيد الذي يستمدّ منه الماء.

ثانياً: على ماء المطر حين نزوله من السماء، على أن يبلغ من الكثرة حدّاً يمكن أن يجري على الأرض الصلبة ولو قليلا، فإنّه يعتبر كثيراً حينئذ، ويبقى كثيراً أيضاً بعد تجمّعه على سطح الأرض، حتّى ولو كان المتجمّع كميّةً ضئيلةً ما دام المطر يتقاطر عليه باستمرار.

ثالثاً: على الماء الراكد الذي ليس له مادة في الأرض ولا في السماء إذا بلغ كرّاً أو أكثر، وسيأتي تحديد الكر في الفقرة (10) من هذا الباب.

ب ـ يسمّى بالماء القليل وهو غير الماء الكثير، ويعني الماء الذي لا مادة له، ولا يبلغ مقدار الكرّ، وليس مطراً.

166

حكم القليل والكثير

 

(8) والقليل والكثير طاهران مطهّران من الحدَث والخبَث(1)، غير أنّهما يختلفان في تأثّرهما بالنجاسة، فالماء الكثير ـ لكثرته وحصانته ـ لا يتأثر ولا يتنجّس بمجرّد ملاقاته للنجاسة، فلو أصابه بول أو دم يبقى طاهراً، ومن أجل ذلك يسمّى الماء الكثير بالماء المعتصم؛ لأنّ كثرته تحفظه من النجاسة.

وأمّا الماء القليل فيتأثّر وينجّس بمجرّد أن يلاقي العين النجسة، كالبول والدم والكلب. أمّا إذا لاقاه الشيء المتنجِّس دون العين النجسة (وهو الشيء الذي تنجّس بملاقاة العين النجسة كالملعقة التي يلطعها الكلب) فينظر هل هو سائل مائع كالماء والحليب، أو جامد كالملعقة والصابون؟ فإن كان مائعاً يتنجّس الماء القليل بمجرّد الملاقاة، وإن كان جامداً فلا يتنجّس إذا لم يكن في الشيء المتنجّس الذي لاقى الماء أجزاء من العين النجسة، وإلّا تنجّس الماء القليل بالملاقاة لعين النجاسة، فالملعقة إذا أصابها الدم ومسحت عنها الدم وغمستها في ماء قليل فلا تنجّسه(2)، (والسائل والمائع بمعنى واحد).

 


(1) مع فوارق أحياناً في كيفية التطهير بين القليل والكثير، كما سيأتي في باب أنواع المطهّرات إن شاء الله تعالى.(منه (رحمه الله)).
(2) بل يتنجّس الماء القليل بملاقاة المتنجّس الجامد الأوّل أيضاً، إلّا أنّ هذا الماء لا ينجّس شيئاً، وأقصد بالمتنجّس الأوّل: ما تنجّس بملاقاة عين النجس، أو بملاقاة المائع المتنجّس بعين النجس، والأثر الشرعي لتنجّس الماء القليل يظهر في حرمة شربه من ناحية، وفي عدم إمكانيّة التطهير به من الحدث والخبث من ناحية اُخرى.
167

(9) إذا أصابت عين النجاسة جانباً من الماء القليل تنجَّس الماء كلّه، ولم تقتصر النجاسة على ذلك الجانب.

ولكن إذا كان النجس في مكان أسفل وورد عليه ماء قليل من أعلى ـ كما إذا صبّ من إبريق ـ فتسري النجاسة إلى محلّ الملاقاة من الماء فقط. أمّا الماء الأعلى فيبقى على طهارته.

ولو انعكس الأمر وكانت النجاسة في أعلى والماء القليل في أسفل، وذلك بأن كان الماء القليل يفور صاعداً كالعمود بسبب أو بآخر، ويلاقي النجاسة في العلوّ؛ لو كان ذلك سرت النجاسة للطرف الأعلى من الماء القليل الملاقي، ولا تسري إلى العمود وما دونه، ومثله لو كانت النجاسة في محاذاة الماء القليل وفي خطٍّ مقابل ومواجه له، ثمّ دفع الماء إلى النجاسةِ فينجس منه ما لاقاه فقط، ويبقى ما عداه على طهارته.

وبكلمة موجزة: أنّ الماء إذا كان في حالة تحرّك سريع في أيّ اتّجاه من الاتّجاهات ولاقى النجس في اتّجاهه تنجّس موضع الملاقاة من الماء، ولم يتنجّس ما خلفه من ماء.

(10) أشرنا في الفقرة (7) إلى أنّ أحد أقسام الماء الكثير: الكرّ من الماء، وهو: كلّ ماء بلغ وزنه ثلاثمائة وستّةً وسبعين كيلو غراماً تقريباً.

وإذا كان الماء من الماء الصافي الذي يستعمل في أنابيب الإسالة(1) فحجم الكرّ منه يساوي ثلاثمائة وسبعةً وخمسين ألفاً ومائتي سنتمتر مكعّب، ولمّا كان طول الشبر لا يقلّ عادةً عن واحد وعشرين سنتمتراً أمكن القول بأنّ الماء الصافي



(1) الماء المقطَّر كثافته وثقله (1) غرام لكلّ سنتمتر مكعّب، بينما الماء الصافي كثافته (05/1) غرامات لكلّ سنتمتر مكعّب؛ لاحتوائه على الأملاح.(منه (رحمه الله)).

168

إذا كان يساوي تسعةً وثلاثين شبراً مكعّباً فهو يحتوي على كرٍّ مع زيادة شيء قليل(1)، ومن الناحية العملية نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ الحوض المربّع الممتلئ ماءً إذا قاسه أيّ إنسان اعتياديٍّ بأشباره فكان كلّ من طوله وعرضه وعمقه يساوي ثلاثة أشبار ونصف شبر، أو كان بُعدان من هذه الأبعاد الثلاثة يساوي ثلاثة ونصفاً والبعد الثالث ثلاثة أشبار وثلث الشبر، فهو كرّ مع زيادة، فيكون معتصماً.

(11) الماء الكرّ إذا كان راكداً ساكناً فلا فرق فيه بين أن يكون بكامله في مكان واحد أو أكثر، ولا بين أن يكون جزء منه في أعلى وآخر في أسفل، أو أن يكونا متساويين ماداما متّصلين بسبب من الأسباب، ففي كلّ هذه الحالات يعتبر كثيراً ومعتصماً، ولا يتنجّس بمجرّد الملاقاة.

(12) الماء قد يكون جارياً ومتحرّكاً، ومثاله: الماء الذي يجري من خزّانات الحمّامات بواسطة الأنابيب إلى حياض صغيرة تحت الأنابيب، وهذا له حالتان:

الاُولى: أن يكون الماء الموجود في الخزّان بقدر الكرّ أو أزيد.

الثانية: أن يكون الماء الموجود في الخزّان دون الكرّ، ولكن إذا ضُمّ إليه المقدار الذي جرى منه في الأنابيب وما انحدر منها إلى الحوض الصغير الموضوع تحت الاُنبوب كان الكلّ بقدر الكرّ.

ففي الحالة الاُولى يعتبر ما في الخزّان معتصماً، وكذلك ما في الحوض الصغير ما دام الاُنبوب مفتوحاً عليه ويصبّ فيه، فلو وقع دم في ماء الخزّان أو ماء



(1) المتيقّن من روايات الكرّ ما يحتوي على اثنين وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر، والأقوى كفاية سبعة وعشرين شبراً بحسب الشبر المتعارف.

169

الحوض لا ينجس.

وفي الحالة الثانية يعتبر ما في الحوض الصغير معتصماً لا ينجس بمجرّد ملاقاة النجس، ما دام متّصلا بمخزنه عن طريق تدفّق الماء من الاُنبوب إليه. وأمّا ما في الخزّان فليس معتصماً؛ فإذا لاقته عين النجاسة يتنجّس.

(13) كلّ ماء قليل اتّصل بماء كثير فهو معتصم، وتجري عليه نفس الأحكام التي تجري على الماء الكثير. فلو كانت هناك ساقية فيها ماء قليل وتقاطر عليها ماء المطر، أو اتّصلت بجدول من الماء له مادة أو فتحت عليها اُنبوباً يصبّ عليها من خزّان كبير أصبح ماء الساقية معتصماً ما دام الاتّصال ثابتاً.

ومن الجدير الإشارة هنا إلى أنّ ما يوضع في فوهة اتّصال خزّان الماء بالمادة التي يستمدّ منها الخزّان ـ ويسمّى بالطوّافة ـ يقطع اتّصال ماء الخزّان بالمادة في حالة امتلائه، فإذا لم يكن الخزّان بقدر الكرّ اعتبر الماء قليلا، ولكن بمجرّد أن يبدأ الخزّان بدفع الماء وتنخفض الطوّافة يعود الاتّصال، ويصبح ماءً كثيراً معتصماً.

وقد يوضع في فوهة الاُنبوب حاجز فيه ثقوب صغيرة متقاربة ينفذ الماء من خلالها بقوة ويسمّى بالدوش(1)، وهذا الماء المنحدر من هذه الثقوب إذا كان ينزل على شكل قطرات متلاحقة مع فواصل بينها ولو صغيرة فهو ماء قليل، وإذا كان تتابع القطرات سريعاً على نحو يشكّل خطّاً متّصلا في نظر العرف فهو ماء كثير؛ لأنّه متّصل بمادته.

(14) لو رأينا ماءً في حوض صغير ـ مثلا ـ وشككنا هل هو بوزن الكرّ



(1) كلمة فارسية اُخذت من الفرنسية، وقد غلب على استعمالها هكذا في الحمّام. انظر معاجم اللغة الفارسية. (لجنة التحقيق).

170

حتّى لا ينجس بالملاقاة، أو دون ذلك ؟ فحكمه حكم الماء القليل يتنجّس بمجرّد الملاقاة لعين النجاسة.

(15) لو رأينا ماءً قليلا دون الكرّ وهو يجري على الأرض، وشككنا هل هو متّصل بماء كثير أو بمادة نابعة حتّى لا ينجس بالملاقاة باعتباره كثيراً، أو غير متّصل كي يتنجّس بها ؟ فحكمه حكم القليل، إلّا إذا كان الشاكّ على علم سابق بأنّ هذا القليل الجاري كان متّصلا من قبل بالكثير أو بالمادة فيحكم عندئذ بطهارته إن لاقته النجاسة ولم يتغيّر.

(16) حوض ماء فيه مايزيد على كرٍّ، واُخذ منه مقدار يسير للاستعمال، وشككنا هل بقي في الحوض كرّ من الماء، أو بعض من ذلك ؟ فحكمه حكم الكثير، فلا يتنجّس بمجرّد الملاقاة لعين النجاسة.

(17) تقدّم في الفقرة (7): أنّ أحد أقسام الماء الكثير: ماء المطر البالغ حدّاً من الكثرة يمكنه أن يجري على الأرض الصلبة، وهذا يعني أنّه لا يتنجّس بملاقاة النجاسة، فلو أنّ قطرةً من ماء المطر وقعت مباشرةً على عين نجسة كالميتة ـ مثلا ـ لم تتنجّس، سواء استقرّت عليها أو انفصلت عنها ما دام المطر يتقاطر.

ولو تجمّعت قطرات المطر في موضع من الأرض فوقع فيها نجس لم تتنجّس ما دام المطر يتقاطر. وكذلك الحكم إذا جرى ماء المطر على السطح ـ مثلا ـ وانحدر منه إلى الأرض في ميزاب ونحوه، فإنّ الماء المنحدر من الميزاب معتصم، ولا يتنجّس لو لاقى في الأرض عيناً نجسةً ما دام تقاطر المطر وإمداده مستمرّاً.

ومثل الماء المنحدر من السطح إلى الأرض تماماً ماء المطر المتساقط على أوراق الشجر والمنحدر منها إلى الأرض.

وأمّا إذا أصاب ماء المطر سقف الغرفة وتسرّبت رطوباته في السقف، ثمّ

171

ترشّح منه إلى أرض الغرفة فلا يعتبر الماء المتساقط على أرض الغرفة كثيراً ومعتصماً حتى ولو كان المطر لا يزال يتقاطر على سقف الغرفة؛ لأنّ الصلة انقطعت بين ماء المطر والماء المتساقط من سقف الغرفة على أرضها.

(18) تقدّم في الفقرة (7): أنّ أحد أقسام الماء الكثير: الماء النابع من مادة، ولا فرق في ذلك بين عيون الماء المستمرّة في النبع طيلة السنة والعيون الموسمية التي ينبع منها الماء في موسم معيّن من السنة، فإنّ ماءها يعتبر كثيراً ومعتصماً في ذلك الموسم الذي تنبع فيه.

كيف يتنجّس الماء الكثير؟

(19) مرّ بنا: أنّ الماء الكثير بكلّ أقسامه المتقدّمة في الفقرة (7) لا يتنجّس بمجرّد ملاقاة عين النجس، ولكنّه يتنجّس إذا لاقته عين النجس فغيّرت لونه أو ريحه أو طعمه بالنجاسة، وإذا تغيّر بوصف رابع ـ كثقل الوزن أو خفّته مثلا ـ مع احتفاظه باللون والريح والطعم الطبيعي للماء فلا ينجس.

(20) ولا أثر لتغيّر الماء الكثير بملاقاته للشيء المتنجّس بعين النجس(1). أجَلْ، إذا تغيّر الماء بعين النجاسة الموجودة فعلا في المتنجّس يتنجّس الماء عندئذ بلا ريب. مثلا: ماء متنجّس بالدم وصار لونه أحمر لوجود الدم فيه، ثمّ ألقينا هذا الماء المتنجّس الأحمر في حوض طاهر ـ كرّاً أو أكثر ـ فتغيّر لونه وصار أصفر، فماء الحوض يتنجّس في هذه الحالة.

(21) كما لا أثر أيضاً لتغيّر الماء الكثير بعين النجس بدون ملاقاة، كما إذا انتقلت الرائحة من عين النجس المطروحة قريباً من الماء الكثير إليه بسبب قربها


(1) وهو ما كان طاهراً في الأصل وأصبح متنجّساً بسبب ملاقاة عين النجاسة مثلا.(منه (رحمه الله)).
172

منه فإنّه لا ينجس بذلك.

(22) لا نقصد بالتغيّر الذي ينجّس الماء الكثير أن يكتسب نفس لون النجس أو طعمه أو ريحه بالضبط، بل يكفي أن يحصل تغيّر في لون الماء وطعمه وريحه ولو لم يتطابق مع النجس، ومثاله: أن يصبح الماء الكثير أصفر بسقوط دم أحمر فيه فيكون نجساً.

(23) لنفرض أنّ عين النجاسة لاقت الماء ولم يتغيّر لونه ولا طعمه ولا رائحته؛ إمّا لسبب يعود إلى عين النجاسة أو الماء، وإمّا لأمر خارج عنها وعن الماء أيضاً بحيث لولا هذا الأمر الخارج أو ذاك الوصف لتغيّر اللون أو الطعم أو الرائحة، فهل يحكم بتنجّس الماء في هذا الفرض ؟

والجواب على ذلك يستدعي التفصيل التالي:

أ ـ قد يستند بقاء الماء على حاله وعدم تغيّره إلى أنّ عين النجاسة ليس لها لون أو رائحة ـ مثلا ـ لتعطي للماء شيئاً من لونها أو رائحتها حتّى يتغيّر، فإن كان الأمر كذلك فالماء طاهر ولا يتنجّس.

ب ـ وقد يستند عدم تغيّر الماء إلى أنّ عين النجاسة يتطابق لونها ـ مثلا ـ مع لون الماء الذي كان متصفاً به قبل وقوع النجاسة فيه، ومثاله: أن يكون الماء أحمر اللون بسبب صبغ من الأصباغ، ثمّ تسقط فيه كميّة من الدم فلا يبدو لحمرة الدم أثر لأنّ الماء أحمر، وفي هذا الفرض يتنجّس الماء.

ج ـ وقد يكون لعين النجاسة وصفها الخاصّ بها، وهو وصف يختلف عن صفات الماء، ولكن يستند عدم تغيّر الماء بها إلى أمر خارج عن النجاسة والماء معاً، كبرودة الجَوّ التي تحول دون تأثّر الماء برائحة الجيفة النجسة بحيث لو كان الجوّ معتدلا أو حارّاً لحدث التغيّر، وفي هذا الفرض يبقى الماء على طهارته.

(24) إذا كان الماء من أحد أقسام الماء الكثير وتغيّر بعضه بالنجاسة

173

فتنجّس فهل يتنجّس الجزء المتغيّر منه فقط، أو يتنجّس كلّه؟

والجواب: أنّ غير ذلك الجزء إن كان لا يزال ماءً كثيراً فهو معتصم ولا يتنجّس.

ويمكن توضيح ذلك ـ على سبيل المثال ـ في حالتين:

الاُولى: لنفرض حوضاً كبيراً وقع دم في جانب منه فاصفرّ الماء في هذا الجانب، فهل يتنجّس الماء في الجانب الآخر قبل أن يتسرّب إليه لون الدم؟

والجواب بالنفي ما دام الجانب الآخر بقدر الكرّ.

الثانية: لنفرض ماءً جارياً دون الكرّ في ساقية وله مادة، وقد أصاب النجس وسط الساقية فتغيّر الماء في ذلك الموضع فهل يتنجّس الماء كلّه؟

والجواب: أنّ الماء الواقع بين ذلك الموضع والمادة التي ينبع منها الماء لا يتنجّس بحال، وأمّا الماء الواقع بعد موضع التغيّر فحكمه يحتاج إلى تفصيل، وهو: أنّ وسط الساقية إذا كان فيه خيط من الماء لا يزال غير متغيّر ويربط الماء الذي بعده بما قبله من ماء الساقية فلا يتنجّس من ماء الساقية سوى ما تغيّر فعلا، وإذا كان قد تغيّر كلّه فيتنجّس ما بعده.

إذا تنجّس الماء فكيف يطهر؟

(25) إذا تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة فيطهر إذا أوصلناه بماء كثير معتصم. ومثال ذلك: ماء في وعاء يتنجّس، فنفتح عليه اُنبوباً من أنابيب الماء الممتدّة إلى البيوت في هذا العصر، فيطهر ماء الإناء بوصول الماء من الاُنبوب إليه وفي نفس اللحظة بدون حاجة للانتظار إلى أن ينتشر ماء الاُنبوب في كلّ جوانب الإناء.

ومثال آخر: ماء في وعاء يتنجّس، فتضعه تحت السماء فيتقاطر عليه ماء

174

المطر بدرجة ملحوظة ـ لا قطرة وقطرتين فقط ـ فيطهر بذلك، بل إنّ الماء يتحوّل في كلا المثالين إلى ماء معتصم ما دام متّصلا بماء الاُنبوب أو المطر، ويطهر حينئذ الوعاء الذي هو فيه بملاقاة ذلك الماء له.

وإذا تنجّس الماء الكثير بسبب التغيّر بعين النجس فيطهر إذا توافر أمران:

أحدهما: أن يزول التغيّر ويعود الماء إلى حالته الطبيعية، سواء حصل ذلك بمرور الزمن أو بمزجه بماء آخر.

والأمر الثاني: أن يوصل ـ وهو سليم من التغيّر ـ بماء كثير معتصم، ككرٍّ من الماء أو ماء المطر وغيرهما.

ويمكن إنجاز الأمرين معاً بعملية واحدة، بأن نفتح ـ مثلا ـ اُنبوب الماء على الماء المتغيّر، فينتشر ماء الاُنبوب في الماء المتغيّر حتى يزيل تغيّره ويطهّره باستمرار اتّصاله به بعد ذلك.

ونذكر مثالين لتطهير الماء المتغيّر للتوضيح كما يأتي:

الأول: أن يتغيّر حوض من الماء برائحة الجيفة، فيترك مدّةً إلى أن تزول تلك الرائحة الكريهة، ثمّ يفتح عليه اُنبوب الماء فيطهر.

الثاني: أن يتغيّر ماء الحوض بلون الدم ويصفرّ، فيصبّ فيه ماء آخر سليم بوعاء مرّات عديدةً حتّى تضعف الصفرة وتزول، ثمّ يفتح اُنبوب الماء عليه، أو يتساقط عليه ماء المطر فيطهر، ويمكن أيضاً أن يفتح عليه ماء الاُنبوب منذ البداية ـ كما عرفت ـ فيزيل الصفرة ثمّ يطهّره.

175

[ أحكام متفرّقة للماء ]

 

تبخير الماء النجس:

(26) إذا تنجّس الماء ثمّ تبخّر، وتحوّل البخار من جديد إلى ماء فهذا الماء طاهر. ونفس الشيء يصدق على كلّ مائع آخر ـ إذا تنجّس ـ ولو لم يكن ماءً مطلقاً بل ماءً مضافاً كماء الورد، أو لم يكن ماءً على الإطلاق كالحليب، بل يصدق على البول أيضاً وغيره من الفضلات؛ فإنّه إذا تبخّر وصار البخار مائعاً فهذا المائع طاهر(1).

 


(1) النجس أو المتنجّس إذا استحال إلى البخار أو إلى أيّ شيء آخر فإن كانت الاستحالة مزيلةً لمناشئ القذارة في نظر العرف أصبح طاهراً، وإلّا فلا، ونوضّح ذلك بذكر بعض الأمثلة:
1 ـ لو جعل شيء من البول النجس في ظرف مضغوط وبُخِّر بالنار إلى أن تحوَّل كلّه بخاراً فالبخار وإن كان لا يتحمّل النجاسة عرفاً ولكنّه متى ما رجع في نفس الظرف إلى الميعان فهو مستوعب لكلّ مناشئ القذارة التي كان يمتلكها قبل التبخير، ويعتبر المائع الذي حصل بمماسّة الظرف للبرودة ـ مثلاً ـ عين النجس، وكذلك الماء المتنجّس لو تحوّل بخاراً في ظرف مضغوط ثمّ رجع فيه إلى العرق كان متنجّساً.
2 ـ لو بُخِّر البول في جوٍّ مشتمل على هواء طلق ثمّ رجع مائعاً بعد أن زالت عنه كلّ خصائص البول الموجبة للقذارة عرفاً فرجع ماءً صافياً غير حامل لشيء من صفات البول القذرة فهذا الماء طاهر.
3 ـ لو اُحرقت الخشبة المتنجّسة إلى أن أصبحت فحماً فقد تبخّرت في نظر العرف القذارات التي كانت تحملها هذه الخشبة على أساس ملاقاتها لعين النجس، وأصبحت العين الموجودة بعد الإحراق نظيفةً عن تلك القذارات فنحكم بطهارة هذا الفحم.
176

حكم الماء إذا تطهّر به الإنسان:

(27) عرفنا أنّ الماء يتطهّر به الإنسان من النجاسة، ويتوضّأ، ويغتسل، والسؤال: أنّ هذا الماء إذا استعمل في التطهير والوضوء والغسل فهل يبقى طاهراً، أو يتنجّس؟ وهل يمكن استعمال نفس الماء مرّةً ثانيةً في التطهير أيضاً؟

والجواب: أنّه لا يتنجّس إلّا إذا لاقى عين النجاسة(1) وكان الماء قليلا، أو تغيّر بأوصافها على ما تقدم. وإذا تنجّس فلا يسمح بالتطهير به ثانيةً، وإذا لم يتنجّس خلال الاستعمال الأول ظلّ كما كان، فيجوز التطهير به من النجاسة، كما يجوز الوضوء والغسل به.

حكم الشكّ والاشتباه:

(28) إذا شكّ المكلّف في أنّ هذا الماء نجس أو طاهر اعتبره طاهراً، ويستثنى من ذلك ماإذا كان على علم بأنّه كان متنجّساً في السابق ولا يدري هل طهر أم لا؟ ففي هذا الفرض يحكم على الماء بأنّه لا يزال متنجّساً حتى يثبت العكس.

 


(1) أو المتنجّس الأوّل، إلّا أنّ الماء الذي لاقى المتنجّس الأوّل الجامد لا ينجّس شيئاً وإن حرم شربه، ولم يصحّ التطهير به، ونقصد بالمتنجّس الأوّل الجامد: ما خلا من عين النجاسة كاليد التي تنجّست ببول أو منيٍّ ثمّ اُزيلت العين عنها، أمّا لو لم تزل العين عنها ولكنّ العين جفّت عليها ثمّ لاقت اليد ماءً قليلاً فهذا الماء حاله حال الماء الملاقي لعين النجس.
177

الطهارة

2

الوضوء

 

 

○   تمهيد.

○  الشروط.

○  الأجزاء.

○  وضوء الجبيرة.

○  في ما يجب الوضوء له ويستحبّ.

○  نواقض الوضوء.

○  الخلل والشكّ في الوضوء.

○  سنن الوضوء.

○  قضاء الحاجة وأحكامها.

 

 

179

تمهيد

 

(1) الوضوء: عبارة عن غسل الوجه واليدين، والمسح على مقدَّم الرأس وعلى القدمين، فهذه الغسلات الثلاث والمسحات الثلاث تسمّى في الشرع وضوءاً، ويطلق على الوجه واليدين ومقدَّم الرأس والقدمين أعضاء الوضوء.

وصورة الوضوء بإيجاز هي: أن تغسل وجهك بماء مطلق طاهر، ابتداءً من منابت الشعر إلى نهاية الذقن، ثمّ تغسل يدك اليمنى ابتداءً من المرفق إلى أطراف الأصابع، ثمّ تغسل يدك اليسرى كذلك، وتمسح بنفس الرطوبة التي خلّفها في باطن كفّك اليمنى مقدَّم رأسك ولو بإصبع واحدة، ثمّ تمسح ـ ولو بإصبع واحدة منها ـ أيضاً ظاهر قدمك اليمنى، ويكفي أن تضع باطن أحد أصابع كفّك اليمنى أو راحتها على أطراف أصابع قدمك اليمنى وتجرّها إلى نهاية قدمك، ثمّ تمسح برطوبة باطن كفّك اليسرى التي نشأت من الوضوء ظاهر قدمك اليسرى كذلك، وتحرص في كل ذلك على أن لا تتماهل إلى الدرجة التي تجفّ بسببها الرطوبة في أعضاء الوضوء قبل أن تُكمِلَ الوضوء.

ويعتبر الوضوء طهارةً شرعاً، والمتوضّئ متطهِّراً، والطهارة التي تحصل بالوضوء شرعاً تبقى مستمرّةً إلى أن يصدر من المتوضّئ شيء من البول أو الغائط، أو غير ذلك ممّا يسمّى شرعاً بالحدث، وسيأتي في فقرة لاحقة بيان تلك

180

الأشياء التي تنقض أثر الوضوء، وهي ما يعبّر عنها بنواقض الوضوء، وبموجباته أيضاً.

والوضوء عبادة، بمعنى أنّه لا يصحّ ولا يحقّق طهارةً شرعاً إلّا مع نيّة القربة. ونيّة القربة هي: أن تأتي بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى، ومثالها من يأتي بالفعل بداعي الطاعة لله: إمّا لأنّه تعالى أهل لأن يطاع ويعبد، أو التماساً لثوابه، أو خوفاً من عذابه، فالمتوضّئ لابدّ له أن يقصد بوضوئه أنّه يأتي به لأجل الله وامتثالا لأمره تعالى.

والوضوء في نفسه طاعة ومندوب في كلّ الأحوال والمواقع، وفي نفس الوقت هو واجب لغيره، حيث يجب للصلاة وأشياء اُخرى، على ما يأتي في بعض الفقرات المقبلة.

والوضوء لا يتمّ بدون ماء؛ لأنّ الماء هو الذي يتوضّأ به، فيُغسَل به الوجه واليدان، ويُمسَح به الرأس والقدمان، ولهذا يسمّى الوضوء بالطهارة المائية.

وللوضوء شروط وأجزاء ونواقض تفسده، وأيضاً له كماليات ومستحبّات، وغير ذلك على التفصيل الآتي:

181

(1) الشروط

 

شروط ماء الوضوء:

(2) هناك شروط للماء الذي يُتوضَّأ به، وهي:

أوّلا: أن يكون الماء مطلقاً، فلا يصحّ الوضوء بالماء المضاف كماء الورد.

ومن كان عنده إناءان: في أحدهما ماء مطلق وفي الآخر ماء الورد ـ مثلا ـ وكلاهما طاهر، ولكنّهما تشابها ولم يميِّز بينهما فله أن يتوضّأ أوّلا بأحدهما، ثمّ يكرّر الوضوء بالثاني، وبذلك يعلم بصحة الوضوء.

وثانياً: أن يكون طاهراً، فلا يصحّ الوضوء بالماء النجس.

وثالثاً: أن يكون مباحاً، فلا يصحّ أن تتوضّأ بماء لغيرك بدون موافقته.

وإذا وجد ماء في إناءين وعلم المكلّف الذي وجب عليه الوضوء أنّ أحدهما نجس والآخر طاهر من غير تعيين، أو أنّ أحدهما له والآخر لشخص لا يأذن باستعماله من غير تعيين أيضاً فابتعد عنهما معاً، ولو توضّأ من أحدهما لم يصحّ، إلّا إذا كان المكلّف على علم سابق بنجاسة أحدهما المعيّن المعلوم لديه بالخصوص، أو بأنّه لإنسان آخر، وعندئذ يبتعد عنه وحده، وله أن يستعمل الآخر فيما شاء.

ولا يشترط في ماء الوضوء ـ إذا كان طاهراً ـ أن يكون غير مستعمل في إزالة الخبث، ولا في الوضوء والغسل، كما تقدّم في الفقرة (27) من فصل أحكام الماء، فكلّ ماء مطلق مباح يصحّ به الوضوء.

(3) إذا كان الماء مباحاً والوعاء الذي يحويه مغصوباً فهل يصحّ الوضوء بهذا الماء؟

182

والجواب: إذا كان المتوضّئ يغترف من هذا الإناء ويتوضّأ به صحّ الوضوء، وأثم المتوضّئ، وأمّا إذا غمس وجهه في الإناء بقصد الوضوء ورأى العرف أنّ هذا الغمس بالذات هو تصرّف في نفس الإناء المغصوب فعندئذ يكون الوضوء باطلا.

ولا يجب في صحة الوضوء أن يقع الماء المنفصل عن أعضاء المتوضّئ في مكان مباح.

(4) يصحّ الوضوء من الماء الموضوع في إناء الذهب والفضّة(1).

(5) لا يسوغ الوضوء بماء الآخرين إلّا مع الإذن منهم صراحةً أو بشاهد الحال، بأن كانت حالتهم تدلّ على الإذن، ومجرّد الشكّ في الرضا وعدمه غير كاف، أجل، يسوغ الشرب والوضوء من الأنهار والجداول والعيون الغزيرة النابعة، وما إليها ممّا جرت عليه عادة الناس مع عدم المنع والإنكار من أصحاب الماء؛ بل ليس لأصحاب هذا الماء منع الآخرين من ذلك.

وأيضاً يسوغ الوضوء بالماء الموقوف في المساجد والمدارس والأماكن العامة للوضوء وغيره من الانتفاعات، إلّا مع العلم بأنّ ماءها وقف خاصّ على المصلّين في المسجد، أو على طلاب المدرسة دون غيرهم، فإذا علم بذلك لم يصحّ الوضوء بماء المسجد من غير المصلّين فيه، ولا بماء المدرسة من غير طلبتها.

ونفترض أنّ إنساناً علم بأنّ هذا الماء لا يسوغ الوضوء به إلّا لمن صلّى في هذا المكان بالذات، وتوضّأ هو بهذا القصد والنية، ولكنّه لم يصلّ في ذلك المكان لسبب من الأسباب فهل يكون وضوؤه صحيحاً ؟



(1) يحرم الوضوء في إناء الذهب والفضّة، نعم لو كان يغترف مِن مائهما ويتوضّأ به صحّ وضوؤه، ولكنّه كان آثماً.

183

والجواب: كـلاّ، بل عليه أن يستأنف الوضوء في هذا الفرض.

(6) من توضّأ جاهلا أو ناسياً بماء متنجّس أو مضاف أو مغصوب بطل وضوؤه.

شروط المتوضّئ:

(7) وهناك شروط في المتوضّئ لا يصحّ الوضوء بدونها، وهي:

أوّلا: طهارة المواضع التي تغسل وتمسح في الوضوء، من الوجه و اليدين والرأس والقدمين، فلو توضّأ وشيء منها نجس لم يصحّ الوضوء، ولكنّ هذا لا يعني أنّه يجب عليه أن يطهّر وجهه ويديه ورأسه وقدميه منذ البداية، بل لو كانت يده اليسرى متنجّسةً ـ مثلا ـ فبدأ بالوضوء قبل تطهيرها فغسل وجهه ثمّ طهّرها وواصل وضوءه صحّ عمله، فالمقياس أن يكون كلّ واحد من مواضع الغسل والمسح طاهراً عندما يغسل أو يمسح.

وكذلك لا يعني ما ذكرناه أن يكون كلّ رأسه طاهراً، أو أن تكون قدمه كلّها طاهرةً حين الوضوء، بل يكفي أن يكون موضع من الرأس والقدمين طاهراً بالقدر الذي يُتاح له أن يمسح عليه، وسيأتي بيان المقدار الذي يجب مسحه.

ثانياً: أن يكون جسم المتوضّئ ـ وبتعبير أخصّ: المواضع التي يمسحها من جسمه ـ في مكان مباح غير مغصوب عند مسح الرأس والقدمين، ولا يشترط أن يكون كذلك عند غسل الوجه واليدين، فلو صادف غسل الوجه واليدين في مكان مغصوب ومسح الرأس والقدمين في مكان مجاور مباح صحّ الوضوء.

ولو انعكس الأمر بأن غسل الوجه واليدين في مكان مباح ومسح الرأس والقدمين في مكان مجاور مغصوب بطل الوضوء وفسد.

184

ثالثاً: أن يكون المتوضّئ في حالة صحّية على نحو لا يضرّ به الوضوء ضرراً خطيراً، فإذا كان الوضوء يضرّ به ضرراً خطيراً (وهو الضرر الذي يحرم على المكلّف أن يوقع نفسه فيه) وجب عليه التيمّم، ولو عصى وتوضّأ بطل وضوؤه، وإذا كان الوضوء يضرّ به ضرراً غير خطير بأن يُصاب بحمّىً يسيرة ـ مثلا ـ كان بإمكانه التيمّم، ولكن لو ترك التيمّم وتوضّأ صح وضوؤه ولا إثمعليه(1).

رابعاً: نيّة القربة وحقيقتها الداعي والباعث نحو الفعل ابتغاء مرضاة الله ومن أجله؛ لأنّ الوضوء عبادة، كما تقدّم في الفقرة (1)، وكلّ عبادة لا تصحّ بدون نية القربة، كما مرّ بنا في الفقرة (1) من فصل أحكام عامة للعبادات، كما مرّ في ذلك الفصل توضيح هذه النيّة والأحكام المتعلّقة بها، فلاحظ الفقرات (3) و (6) و (8) و (9) و (10) و (11) و (17) من ذلك الفصل.

وإيجاد الوضوء من أجل الله تعالى قد يكون على أساس أنّ الوضوء في نفسه طاعة ومستحبّ، وقد يكون على أساس أنّه واجب لغيره ممّا يريده الله تعالى، كالصلاة، فمن نوى بوضوئه الإتيان به من أجل الله على أحد هذين الأساسين صحّ وضوؤه.

وعلى هذا فمن نوى الوضوء لصلاة الظهر ـ مثلا ـ قربةً إلى الله تعالى صحّ وضوؤه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون وضوؤه بعد دخول وقت الصلاة أو قبل دخوله.

ومن نوى الوضوء لكونه طاعةً لله ومستحبّاً في نفسه صحّ منه، ولا فرق في


(1) متى ما كان الضرر ممّا يهتمّ به عقلائيّاً ويُتّقى منه فالأحوط وجوباً ترك الوضوء في تلك الحالة والانتقال إلى التيمّم.
185

ذلك أيضاً بين أن يكون وضوؤه قبل دخول وقت الصلاة أو بعد دخوله.

(8) لا يجب في نيّة القربة قصد الوجوب أو الاستحباب، فلو توضّأ من أجل الله تعالى وتقرّباً إليه لعلمه بأنّ هذا ممّا يرضيه صحّ وضوؤه، ولا حاجة به إلى أن يعيّن الوجوب أو الاستحباب.

(9) يجب استمرار هذه النية والبقاء عليها حتّى الانتهاء والفراغ من الوضوء بالكامل، ولا يمنع عن الاستمرار فيها أن يسرح ذهن المتوضّئ في اُمور اُخرى ما دامت النية في أعماق نفسه ثابتةً على نحو لو سأله شخص ماذا تصنع لأجاب أنّي أتوضّأ من أجل الله تعالى.

(10) من وجب عليه التيمّم ـ لأنّ الوقت لا يتّسع للوضوء والصلاة معاً لكن يتّسع لها مع التيمّم ـ ومع ذلك عصى وتوضّأ فهل يصحّ منه هذا الوضوء ؟

والجواب: أنّ هذا الوضوء صحيح، إلّا في حالة واحدة، وهي: أن يتوضّأ على أساس أنّه يدّعي أنّ الصلاة التي ضاق وقتها تفرض عليه الوضوء، ولا تسمح له بالتيمّم، مع أنّه يعلم بأنّها تستوجب شرعاً التيمّم لا الوضوء، ففي هذه الحالة يقع الوضوء باطلا. وأمّا إذا توضّأ من أجل تلك الصلاة التي ضاق وقتها وهو يجهل أنّها تستوجب التيمّم، أو توضّأ من أجل كونه مستحبّاً في نفسه، أو من أجل غاية اُخرى ـ كقراءة القرآن مثلا ـ فالوضوء صحيح.

(11) لو كان عند المكلّف قليلٌ من الماء لا يكفي إلّا لوضوئه فقط ولكن أجحف به العطش شربه وتيمّم، ولو صبر على شدّة العطش وتوضّأ صح منه الوضوء.

(12) الرياء مضرّ بنية القربة، وهو: أن يتوضّأ لا من أجل الله فقط، بل من أجله تعالى ومن أجل كسب مرضاة الناس وإعجابهم، فيكون الوضوء باطلا.

186

ولا يضرّ بنية القربة العُجْب ـ وهو أن يشعر المكلّف بعد أن يتوضّأ لله بالزهو لذلك ـ فإنّه لا يبطل الوضوء وإن أحبط ثوابه.

وأمّا قصد النظافة والتبريد ورفع الكسل وما إلى ذلك ممّا هو من فوائد الوضوء وثماره التابعة له فلا يضرّ إطلاقاً ما دام تابعاً للباعث على طاعة الله، وما دام السبب الرئيسي الداعي إلى الوضوء هو الإخلاص له سبحانه وتعالى(1).

(13) من دخل مكاناً مغصوباً بلا إرادة منه واختيار، ثمّ عجز عن الخروج منه صحّ وضوؤه في ذلك المكان.

(14) ومن دخل مكاناً مغصوباً بلا إرادة منه ثمّ تمكّن من الخروج وجب عليه أن يعجّل بالخروج بلا إبطاء، وإذا تسنّى له الوضوء حال الخروج فتوضّأ وهو يمشي في طريقه للخروج صح وضوؤه، شريطة أن لا يستدعي ذلك منه المكث المعتدّ به بحيث يتنافى مع التعجيل الواجب.

ومثله في الحكم: إن دخل المكان المغصوب بإرادته واختياره ثمّ ندم واستغفر.

شروط الوضوء:

إذا تكاملت شروط الماء وشروط المتوضّئ جاء دور شروط الوضوء نفسه، وهي ثلاثة:

أوّلا: (15) المباشرة، والمراد بها هنا: أن يزاول ويمارس المتوضّئ بنفسه أفعال الوضوء بالكامل، ولا يسوغ له أن يستنيب غيره في شيء من ذلك إلّا مع


(1) وبتعبير أدّق: لو كان الداعي الإلهي كافياً في تحريكه نحو الوضوء بحيث لو لم يكن ذلك الداعي الشخصي موجوداً لتوضّأ أيضاً صحّ وضوؤه.
187

العجز والاضطرار، وليس من الاستنابة غير السائغة أن يمسك غيره إبريق الماء بيده ويصبّ الماء منه في كفّ المتوضّئ فيغسل المتوضّئ به وجهه ويتوضّأ، أو يقرّب المتوضّئ وجهه أو ذراعه من فوهة الإبريق حتى يغمره الماء بالكامل، فإنّ هذا جائز، ويعتبر الغير هنا بمثابة اُنبوب الماء.

وإذا اضطرّ المتوضّئ إلى أن يُوضّئَه غيره لمرض ونحوه فيجب أن ينوي، فيغسل الغير وجهه ويديه، ثمّ يمسح رأسه وقدميه بكفّ المريض نفسه(1).

ثانياً: (16) الموالاة، بمعنى التتابع في أفعال الوضوء وعدم الفاصل بينها، بحيث لا يجفّ تمام الأعضاء السابقة في الجوّ المعتدل. ولا يضرّ جفاف العضو لحرارة الجوّ ولداء ترتفع فيه حرارة الجسم إلى الدرجة القصوى ـ مثلا ـ أو بسبب التجفيف، ولا ينفع وجود الرطوبة في أطراف لحية متعدّية على حدّ الوجه.

ثالثاً: (17) الترتيب بين أفعال الوضوء، والقصد منه: تقديم غسل الوجه على غسل اليد اليمنى، وتقديم هذه على اليسرى، وتقديم اليسرى على مسح الرأس، وتقديمه على مسح القدم اليمنى، وتقديم هذه على القدم اليسرى.

(18) ولو عاكس وخالف الترتيب سهواً أو عمداً أعاد على الترتيب مع الحرص على بقاء الموالاة، وإن استدعت إعادة الترتيب عدم الموالاة ونفيها استأنف الوضوء من جديد.

 


(1) ويجوز له أيضاً الانتقال إلى التيمّم إنْ أمكنه ذلك بدلاً من رفع اليد عن المباشرة بنفسه.
188

(2) الأجزاء

 

أجزاء الوضوء أربعة: غسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، ومسح القدمين. والتفصيل كما يلي:

غسل الوجه:

الواجب الأول من أجزاء الوضوء غسل الوجه.

(19) مقدار ما يغسل: بعد تحقّق نية القربة يجب غسل الوجه بإسالة الماء عليه، وحَدُّه طولا منابت شعر الرأس من مقدّمه إلى نهاية الذقن، وعرضاً ما دارت عليه الإصبع الوسطى والإبهام ـ أي ما اشتملت عليه الإصبع الوسطى والإبهام من الوجه عندما تضعهما عل الجبهة مفتوحتين وتمسح بهما وجهك ـ وما زاد فليس بواجب، إلّا من باب الاطمئنان والتأكّد من وجود الواجب.

(20) ومن نبت الشعر على جبهته أو كان أصلع قدّر وقاس بالمثيل والنظير في حدّ وجهه طولا وعرضاً بلا صلع في الرأس ولا شعر على الجبهة، ومن صغر وجهه أو كبر أكثر من المعروف، أو طالت أصابعه أو قصرت عمّا هو مألوف يراعي الوسطى والإبهام المتلائمتين المتناسبتين مع وجهه(1).

 


(1) وتفسيره: أنّ من المعلوم أنّ كبر الوجه يتناسب طرداً مع طول الأصابع وسعة الكف، فإذا اتّفق في حالة اختلال هذا التناسب فكان الوجه كبيراً والكفّ صغيرة والأصابع قصيرة فلا يكفيه أن يغسل ما اشتملت عليه إصبعه الوسطى وإبهامه فقط، بل يجب عليه أن يغسل ←
189

(21) ولا يجب غسل ماتحت الشعر النابت في الوجه، بل يجب غسل الظاهر من الشعر فقط، من غير فرق بين الرجل والمرأة، وبين شعر اللحية وغيرها، شريطة أن يكون الشعر كثيفاً على نحو يغطّي المحلّ كالشارب والحاجب، ولو تفرّق الشعر وظهرت البشرة للعيان من خلاله وجب غسلها، كما يجب حينئذ غسل هذا الشعر المتفرّق أيضاً.

(22) ولا يجب فتح العينين وغسلهما عند غسل الوجه(1)، كما لا يجب غسل باطن الفم أو الأنف، ولا ماطال واسترسل من اللحية، ولا الشعر المتدلّي من الرأس على الوجه.

كيفية الغسل: يؤدّى الغسل بالكيفية التالية:

أوّلا: (23) أوّلا: يجب الابتداء في غسل الوجه من أعلاه إلى أسفله، فلو ابتدأ من الأسفل أو الوسط لم يصحّ الوضوء، ولا يعني ذلك التدقيق على نحو يغسل كامل جبهته ثمّ ينتقل منها إلى منطقة العينين من وجهه وهكذا فإنّ هذا تدقيق غير لازم، فلو أسال ماءً على جبهته فأصاب الجزء الأيمن من جبهته وعينه اليمنى، ثمّ أسال كفّاً آخر من الماء على الجزء الأيسر من جبهته وما تحته صحّ وضوؤه.

ثانياً: (24) يجب إيصال الماء إلى الوجه بقصد الوضوء: إمّا بإسالة الماء عليه بالكفّ وإمرار المتوضّئ يده على وجهه لإيصال الماء إلى كامل الوجه،



ما كانت إصبعاه تشتملان عليه لو كانت أصابعه وكفّه اعتيادية ومتناسبة مع كبر وجهه.(منه (رحمه الله)).
(1) الأحوط وجوباً غسل مطبق العينين وظَهرهما معاً.