المولفات

المؤلفات > تزكية النفس

193

له الرجل: أعجبت من هذه البيضة؟ فوالذي بعثك بالحقِّ ما رُزئت شيئاً قطّ، فنهض رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يُرزَء فما لله فيه من حاجة».

وهناك تفسير ثالث لتلك الروايات التي تثبت البلاء للأنبياء، ثُمّ للأولياء، ثُمّ للأمثل فالأمثل، وهو: أن يكون المقصود بالبلاء: الامتحان لا المصائب والمحن، والامتحان كما قد يكون بالمصائب والمحن كذلك قد يكون بالنعم والخيرات، كما قال الله تعالى: ﴿... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(1) وكما قال الله تعالى عن لسان سليمان: ﴿... فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ...﴾(2).

وقد اتَّضح بكلّ ما سردناه أنّ الفقه والعرفان يشكّلان سدى ولُحمة لثوب التقوى. وَمَن يفصل بينهما، ويفترضهما مدرستين منفصلة إحداهما عن الأُخرى لا يعرف شيئاً من الفقه ولا العرفان.

وأُؤكّد أ نّني لا أقصد بفرض الظاهر والباطن للإسلام تصحيح طريقة الباطنيّين الذين يُظهِرون للناس شيئاً ويُبطنون شيئاً آخر، بل أقصد أنّ للإسلام باطناً يشعّ من ظاهره، وظاهراً شفّافاً يُري باطنه، وظاهره يتلألأ نوراً، وباطنه أصفى وأنقى، وظاهره هو الذي تكفّل به الفقه الذي يحدّد الإجزاء وسقوط القضاء والإعادة لعامّة الناس، وباطنه ـ أيضاً ـ يفهم من نفس الأدلّة الفقهيّة، ويستفيد منه علماً وعملاً الخلّصون من عباد الله كلّ بدرجته، ولم يكن بالإمكان تكليف عامة الناس بتحصيل كلِّ درجات الكمال للنفس، فاكتفى الإسلام بأقلِّ الدرجات لعموم الناس مع فتح باب الترقّي والنمو والاقتراب إلى الله سبحانه وتعالى لمن أحبّ ذلك وبقدر ما يهتمّ به.


(1) السورة 21، الأنبياء، الآية: 35.

(2) السورة 27، النمل، الآية: 40.