المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (8) محــاســبة النفس (2)

3

ومن هذا النمط الكلام المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام): «... واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامِدَة، ورياحهم راكِدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية. فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، والنمارق الممهّدة، الصخور والأحجار المسنّدة، والقبور اللاطئة المُلحّدة التي قد بُنيَ بالخراب فِناؤها، وشيد بالتراب بناؤها، فمحلُّها مقترب، وساكنها مغترب بين أهل محلّة موحشين، وأهل فراغ متشاغلين، لايستأنسون بالأوطان، ولايتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنوّ الدار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بِكَلْكَلِهِ البِلى، وأكلتهم الجنادِل والثَّرَى...»(1).

وقد روي أنّه «سُئِلَ عيسى (عليه السلام) مَنْ أفضل الناس؟ قال: مَنْ كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرةً»(2).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نبّه بالتفكّر قلبك، وجافِ عن الليل ساجداً، واتّقِ الله ربّك»(3).

وإنّني أختم الحديث في هذا الفصل بذكر روايتين واردتين بشأن الآيات المباركات التي افتتحنا بها هذا الفصل:

الأُولى ـ رُوي عن ابن عمر(4) قال: «قلت لعائشة: أخبريني بأعجب مارأيت من رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ فبكت وأطالت، ثُمّ قالت: كلُّ أمره عجب، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثُمّ قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله إنّي لأُحبّ قربك، وأُحبّ مرادك، قد أذنت لكَ، فقام إلى قِرْبة من الماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام يصلّي، فقرأ من القرآن، وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بِلال يؤذنه بصلاة الغداة، فرآه يبكي، فقالله: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبكَ وما تأخّر؟! فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكوراً، ثُمّ قال: مالي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: ﴿إن في خلق السماوات والأرض...﴾ ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها».


(1) نهج البلاغة: 475 ـ 476، رقم الخطبة: 226.
(2) تفسير البرهان 1/331.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) التفسير الكبير للرازي 9/133 ـ 134.