المولفات

المؤلفات > تزكية النفس من منظور الثقلين (3) علائم فاضحة

8

وقد أجابوا في الفلسفة عن ذلك بما مضى حديث مختصر عنه في الحلقة الأُولى من هذا الكتاب من توضيح: أنّ وجود المخلوقين وجود تعلقي، وبالإضافة الإشراقيّة لا المقوليّة التي تتطلب استقلال أحد الوجودين عن الآخر مع وجود رابط بينهما بل هو عين الربط، وهذا بالدقّة غير دعوى نفي الوجود نهائيّاً عن المخلوق.

وعلى أيّ حال، فنحن هنا نكتفي بدلالة الوجدان والضمير على وجود ضالٍّ أراد الله أن يهديه بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولو كان الربّ هو الذي يعرف نفسه وليس غيره فما معنى إرسال الرسل وإنزال الكتب؟! وما معنى ما يدّعيه صاحب هذا الكلام من تربية النفس بالعرفان، وأيّ نفس يربّيها؟ وهل يريد بتربية نفسه تربية العدم المحض المتمثل في التعيّنات الماهوية، أو تربية الله سبحانه وتعالى؟!

وإمّا أن صاحبه يعتقد أنّه وإن كان هو غير الله إلّا أنّه بالتربية والرياضة والعرفان والسلوك يفنى في الله بالوصول إليه بخرق الحُجب، فلا يبقى غير الله، فيكون الربّ هو الذي يعرف نفسه(1).

والخطأ الفلسفي في هذا الكلام كما مضى هو: أنّ التجرد عن البدن والجوانب المادّية لو تمّ بمعنى الكلمة فالجانب المجرد من النفس لم يكن نقصه وحدّه مخصوصاً بما كان معه من البدن والمادّة وبنقائصهما وأعراضهما، بل نفس إمكانه وحدوثه وفقره بما هو، ومحدوديّةُ ذاته والتي كلّها تكون علائم تدل على النقص الذاتي الذي يمنع عن وصوله إِلى مقام الربّ تعالى أُمورٌ ذاتية له، فلا يمكنه التجرد عنها، وذاتيّةُ النقص في الممكن المخلوق ـ أيضاً ـ امرٌ وجداني.

ويقول بعض(2): إنّ التجرد الكامل ومن جميع الجهات لا يحصل إلّا بعد الموت؛ وذلك لأنّه في هذا العالم نرى أنّه لو دخل السالك إِلى عالم اللاهوت، وفنى في جميع الأسماء بما فيها اسم (أحد)، وحصل له البقاء بعد الفناء، وهو البقاء بالمعبود، فعندئذ وإن كان قد حصل له التجرد بقدر الاستعداد الإمكاني، ولكنّه لم يحصل له التجرد الكامل ومن جميع الجهات حتى عن الاستعداد الإمكاني؛ وذلك لأنّه ـ برغم أنّ علمه عندئذ علم إلهي، ويكون مع كلِّ موجود، ويكون مطلعاً على الماضي والمستقبل ـ تكون له علاقة إجماليّة بتدبير البدن، وهذا يمنعه عن حصول التجرد التام فيما فوق الإمكان. نعم، بعد الموت تنقطع علاقته بالمرّة عن البدن، فيحصل له التجرد التام اللاهوتي.


(1) أُنظر الفارق الكبير بين تفسير خرق الحُجُب والفناء الكامل بمعنى أنّه لم يبق شيء غير الربّ، والربّ هو الذي يعرف نفسه، وبين ما يقوله آية الله جوادي آملي ـ حفظه الله ـ في تقدمته لكتاب سرّ الصلاة في الصفحة الثامنة عشر: من أنّ الخرق النهائي عبارة عن أن لا يرى الإنسان نفسه، وليس عبارة عن الانعدام، فإنّ الانعدام ليس كمالاً، وإنّما الكمال هو عدم الرؤية، والسالك يصل في مقام الفناء التام إِلى مستوى أنّه لا يرى شيئاً غير الله، فلا يرى نفسه، ولا غيره ولا عدم رؤيته للغير، ولا رؤيته للحق...
(2) راجع تعليق السيد محمّد حسين الطهراني على الرسالة المنسوبة لبحر العلوم: 39 ـ 40، والرسالة تسمّى سير وسلوك.