المولفات

المؤلفات > مَغزى البيعة مع المعصومين (علیهم السلام)

4

فلو كانت هذه الكلمات ـ بعد فرض صدورها ـ تشير إلى العقد الاجتماعيّ ووجوب الوفاء بالعقد لطرفيّ العقد لأنّهم ارتبطوا به كارتباط المتبايعين بعقد البيع أو المتناكحين بعقد النكاح ونحو ذلك، لكان لمعاوية أو للناس الآخرين المخالفين أن يجيبوا عليّاً: متى أصبحنا طرفاً للعقد كي تُلزِمنا بذلك؟! أفلا يكفي هذا قرينة على أنّ هذه النصوص إن صحّت فهي واردة احتجاجاً على معاوية أو على القوم على أساس إلزامهم بما التزموا من صحّة خلافة الخلفاء السابقين، وشرعيّة ما وقع لهم من البيعة وافتراض أنّ نفس البيعة أورثث حقّ الحكم ولم تصدر هذه النصوص على أساس منطق يؤمن به نفس المتكلّم؟

وممّا يشهد لكون البيعة على أساس فكرة أخذ الميثاق فحسب لا على أساس فكرة تحصيل حقّ الولاية والحكم ما ورد من مطالبة عليّ  معاوية بالبيعة، كما جاء في كتاب له  إلى جرير بن عبدالله البجليّ لمّا أرسله إلى معاوية: «أمّا بعد، فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثُمّ خيّره بين حرب مُجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته. والسلام»(1).

وفي كتاب له  إلى معاوية في أوّل ما بويع له بالخلافة:

«فبايع من قبلك وأقبل إليّ في وفد من أصحابك»(2). وتوضيح المقصود أنّه إن كانت بيعة من بايعوا عليّاً  من المهاجرين والأنصار كافية في حصول ولاية الحكم له على كلّ الاُمّة، وكان الهدف من البيعة تحصيل هذه الولاية كما هو الظاهر الأوّلي للنصوص السابقة التي حملناها على الاحتجاج برأي الخصم، إذن فلا معنى لمطالبة معاوية بالبيعة، ولا يبقى مجال إلّا لمطالبته بالطاعة بعد أن تمّت البيعة ولو من قبل قسم من المسلمين، وإن كانت بيعة من بايعوه  غير كافية لتحصيل ولاية الحكم كان لمعاوية تمام الحقّ بعد عدم إيمانه بفكرة العصمة في رفض البيعة، بحجّة أنّ ولاية الحكم لم تتحقّق بعد لعليّ  ولا داعي لمعاوية في الاشتراك في تحقيق ذلك. وهذا بخلاف ما لو فرضنا البيعة على أساس فكرة أخذ الميثاق بعد ثبوت الحقّ سابقاً، فيكون هدف عليّ  من مطالبة معاوية بالبيعة أخذ الميثاق على الطاعة منه تأكّداً من أمر خارجيّ وهو دخوله في صفّ المناصرين لعليّ ، لا تحقيقاً لموضوع الحكم التشريعي بثبوت ولاية الحكم. أفلا يكفي كلّ هذا شاهداً على أنّه لا يمكن تفسير كلّ هذه النصوص ـ إن صحّت ـ إلّا على أساس الاحتجاج وأخذ الخصم بمبدأ يؤمن به، وهو فكرة مغلوطة عن البيعة غير قابلة للقبول في رأي المتكلّم نفسه.

وكذلك الحسن  بعد أن تمّت له البيعة من قبل أهل الكوفة استمرّ في الحرب ضدّ معاوية وأهل الشام التي كانت في زمن عليّ ، على رغم أنّ معاوية وأهل الشام لم يكونوا طرفاً للعقد الاجتماعي مع الحسن  حتّى تكون للحسن  سلطة شرعيّة عليهم في رأي من يرى أنّ السلطة تأتي على أساس العقد.

وكذلك الحسين  اكتفى في إقدامه على الخروج لإقامة حكومة إسلاميّة لجميع المسلمين بما تمّت له من بيعة أهل الكوفة، في حين أنّ أهل الشام لم يكونوا قد بايعوه.

فكلّ هذا يعني أنّ هذه البيعات كانت بيعة في حدود التأكّد من وجود الناصر بالقدر الذي تفترض كفايته للنهوض، وهذه قرينة عرفيّة على أنّ مغزى البيعة كان عبارة عن أخذ الميثاق بالنصر كي يتمّ التأكّد المعقول من وجود الناصر حين ينهض المعصوم بالأمر، ولم يكن مغزاها عبارة عن العقد الاجتماعي مع الاُمّة لانتزاع حقّ ولاية الحكم منهم، وإلّا لما كان المقدار الذي حصل من البيعة كافياً لذلك.

ومن الشواهد على أنّ البيعة للمعصوم يعقل أن تكون بروح تأكّد المعصوم من طاعة المبايع، لا بروح انتزاع ولاية الحكومة منه، أنّ آية بيعة النساء الواردة في القرآن الكريم واضحة في أنّ أكثر ما بايعت النساء النبيّ (صلى الله عليه و آله) عليه ـ إن لم يكن كلّه ـ هي أحكام شرعيّة لا أحكام حكوميّة، وذلك من قبيل أن لا يشركن بالله ولا يزنين، في حين أنّ المبايعة على ولاية الحكومة بالنسبة للأحكام التشريعيّة الإلهيّة لا معنى لها.

الطريق الثاني: بعد أن نفترض عدم كفاية ما سبق كقرينة ولو عرفيّة على تفسير مغزى البيعة بمعنى التأكّد بنسبة مئويّة معقولة من وفاء المبايع وطاعته، لا بمعنى انتزاع حقّ ولاية الحكم منه، تصبح هذه البيعات في ذاتها مجملة؛ لأنّها من فعل المعصوم وليس من قوله، والفعل يقبل أكثر من تفسير واحد، فيكون المرجع عندئذ النصوص القرآنيّة أو الروائيّة التي تدلّ على تماميّة ولاية الحكم قبل البيعة أو على اشتراطها بالبيعة.

ونحن نقتصر هنا على ذكر ثلاثة نصوص قطعيّة الصدور واضحة الدلالة جميعاً في ثبوت ولاية الحكم قبل البيعة دون اشتراطها بالبيعة، اثنان منها من الكتاب والثالث سنّة قطعيّة.


(1) نهج البلاغة: 835، طبعة الفيض.
(2) نهج البلاغة: 1070، طبعة الفيض.