المولفات

المؤلفات > القضاء في الفقه الإسلاميّ

213

لازمه حجّية علم القاضي لنفسه لإثبات جواز القضاء بما علم بحقّانيته، ولكن هذا المقدار لا يُثبت ما هو الظاهر من كلمات مَنْ جَعَل العلم ميزاناً في قبال البيّنة واليمين؛ من أنّ العلم _ كالبيّنة واليمين _ يوجب فصل الخصومة بحيث لا تُقبل إقامة الدعوى والبيّنة مرّةً أُخرى على خلاف ما قضى به القاضي.

توضيح ذلك: أنّ البيّنة حجّة تُثبت المدّعى لدى الشكّ لكلّ أحد، وحجّيّتها تعبّديّة، لا وجدانيّة خاصّة بشخص دون آخر، فلو حكم القاضي وفقها فقد قامت الحجة وانتهت الخصومة، وليس لشخص آخر يشكّ في مطابقة حكم القاضي الأول للواقع أن ينظر مرّةً أُخرى في الدعوى، يطالب ببيّنة أو يمين. أمّا العلم فحجّيّته خاصّة بالعالم، أمّا الشخص الآخر الذي يشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع فقد شكّ في موضوع القضاء الذي قضى به ذاك الحاكم وهو الواقع، ولا حجّة له تثبت الواقع تعبّداً؛ إذاً من حقّه أن ينظر مرّةً أُخرى في دعوى من يدّعي عدم مطابقة حكم الحاكم الأول للواقع وعدم تماميّة موضوع جواز القضاء وهو الواقع، ويسمع البيّنات والأيمان، فصحّ القول بأنّ العلم ليس ميزاناً للقضاء كالبيّنة واليمين، فالبيّنة واليمين يخصمان النزاع وينهيانه بخلاف العلم.

صحيحٌ أنّه مع الشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع وبالتالي في صحّة قضائه تجري أصالة الصحّة، كما أنّه مع الشكّ _ في كون القاضي قد قضى حقّاً وفق نظام البيّنات والأيمان أو لا _ تجري أصاله الصحّة، لكن أصالة الصحّة لا تمنع عن سماع دعوى من يخالف الأصل والنظر لمعرفة أنّ لديه دليلاً على خلاف الأصل أو لا.

نعم، لو ادّعي الإجماع على الملازمة بين جواز القضاء وبين نفوذه وضعاً في حقّ غيره، وقد فرض في المقام جواز القضاء بالعلم لحجّيّته للقاضي، ثبت نفوذه وعدم بقاء مجال لسماع الدعوى من قبل قاضٍ آخر، إلا أنّ عهدة إثبات هذا الإجماع على مدّعيه.