المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

256


وهناك توجد مرحلة بين المرحلتين هذه المرحلة على إجمالها وعلى غموضها لا إشكال فيها؛ لأنّه حينما تتم الاستطاعة وحتّى لو كنت أنا غير عالم بذلك يصبح قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) مرتبطاً بي بوجه من الوجوه، وقوله:(إذا زالت الشمس فصلِّ) سواء علمت بالزوال أو لا يصبح بعد الزوال كأنّه ارتبط بنا وتوجّه إلينا، فهذه منطقة بين منطقة الجعل ومنطقة التنجيز، أمّا ما هي حقيقية هذه المنطقة أو هذه المرحلة؟ ففيه بحث بينهم ونحن الآن لا نريد أن ندخل في هذا البحث، ولكنّنا نقول إجمالاً: إنّ مدرسة الشيخ النائيني(رحمه الله) تقول: إنّ هذه المنطقة عبارة عن منطقة الفعليّة أو منطقة المجعول، وذلك قياساً للأحكام الشرعية بالقضايا التكوينية، فكما أنّه عندما نقول: النار حارّة يكون هذا صادقاً قبل وجود النار، ولكن حينما توجد النار تتحقق الحرارة والإحراق بالفعل، وتحصل الفعلية لهذا الإحراق، وقبل وجود النار ليس الإحراق فعلياً رغم صدق قولنا: إنّ النار محرقة، كذلك قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) أثبت وجوب الحجّ على المستطيع قبل وجوده، من سنخ إثبات الحرارة والإحراق للنار قبل وجود النار، ولكن بعد ما وجدت الاستطاعة يصبح هذا الوجوب فعلياً، كما أنّه بعد ما وجدت النار يصبح الإحراق فعلياً، هذا فهم وتصوّر هذه المدرسة.

وبالمقابل هناك من يرى أنّه لا يمكن قياس باب التشريع بباب التكوين، ولا يوجد شيء اسمه فعلية الحكم، وهذا ما يراه اُستاذنا(رحمه الله)، ويراه ـ أيضاً ـ الشيخ العراقي(رحمه الله)، وهذا هو الصحيح، ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار وجود منطقة بين المنطقتين، أو مرحلة بين المرحلتين، وعندئذ تفسّر هذه المرحلة بتفاسير اُخرى، فيقال بتعبير اُستاذنا(رحمه الله): الطرفيّة لهذا الجعل، أي: إنّني قبل الاستطاعة لم أكن طرفاً لهذا الجعل، والآن أصبحت طرفاً لهذا الجعل، أو إنّنا قبل الزوال لم نكن طرفاً لهذا الخطاب والآن أصبحنا طرفاً لهذا الخطاب، والزمان لم يكن طرفاً لهذا الخطاب والآن بعد زوال الشمس أصبح الزمان طرفاً له، أو يقال بتعبير آخر: إنّ الحكم كان فعلياً منذ البدء خلافاً لما يقوله الشيخ النائيني، لكنّه الآن أصبح فاعلاً ومحرّكاً بعد أن لم يكن محرّكاً، فقبل أن أستطيع ليس قوله:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع) محرّكاً لي، أمّا الآن أصبح محرّكاً لي بالتحريك التشريعي، أو قل الآن أصبح قابلاً للتحريك ولو بمعنى: أنّه لو علمت لتحرّكت، أي: أصبح فيه اقتضاء التحريك، وفعليّة التحريك تتوقّف على العلم، ونحن الآن لا نريد أن ندخل في تحقيق حقيقة الأمر، وإنّما نقول إجمالاً: إنّه لا شكّ في وجود شيء ومرحلة ومنطقة من هذا القبيل، عندئذ كلامنا مع المحقّق الخراساني(رحمه الله)وكذلك مع الشيخ العراقي(رحمه الله) فيما نحن فيه هو: أنّ هذين العَلَمين كأنّهما ركّزا حديثهما على ما قبل هذه المرحلة، وهي مرحلة الجعل، فالشيخ العراقي كلامه واضح حيث شرح ذلك بكل تفصيل في تقرير بحثه، وهو موجود بشكل مجمل في المقالات(1)، وكذلك موجود بشكل مختصر في تعليقه على فوائد الاُصول، فهو(رحمه الله) يرى ـ وكأنّما ينظر إلى مرحلة الجعل فقط ـ أنّه لا معنى للسببيّة أصلاً، ولا معنى لأن نقول: إنّ الاستطاعة سبب لوجوب الحجّ، أو نقول: إنّ زوال الشمس سبب لوجوب الصلاة، وإنّما السببيّة موجودة في المصلحة والملاك، فالملاك سبب والمصلحة سبب، بمعنى: أنّه محرّك للمولى نحو إيجاب الحكم، فإن شئت فقل: إنّ المصلحة أو الملاك علّة غائية للإيجاب، وإن شئت فقل: إن العلم بالملاك علّة فاعليّة محرّكة للمولى، فالعلية تكون


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 371 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي