المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الخامس

255


المصلحة سبّبت الجعل، وكلامنا إنّما هو في هذه السببية لنرى هل هي مجعولة أو هي منتزعة من ذاك الحكم التكليفي مثلاً؟ وهنا عبّر الشيخ النائيني بتعبير أنّها منتزعة بحيث إنّه لولا ذاك الجعل لما كان دلوك الشمس سبباً لفعلية وجوب الصلاة، وطبعاً هذا المطلب بحاجة إلى شيء من التعميق، وسنذكره ـ إن شاء الله ـ، ولكنّ المقصود الآن هو أنّ من الواضح أنّ كلام الشيخ العراقي بعيد عن روح كلام الشيخ النائيني، فالشيخ النائيني يلتفت إلى مرحلة الفعلية بالمعنى الذي هو يقصد بالفعلية، أمّا الشيخ العراقي فلم يلتفت إلى ذلك. هذا المقدار واضح.

لكن مع ذلك لو يؤخذ كلام الشيخ النائيني على بساطته لا يُنهي السؤال، ولا بدّ من تعميق له؛ وذلك لأنّه لو أردنا أن نتكلّم عن هذه السببية التي هي محطُّ نظر الشيخ النائيني ـ وهي سببيّة دلوك الشمس لفعلية وجوب الصلاة ـ ونقول: إنّ هذه السببيّة مثلاً منتزعة من الجعل ينطرح السؤال هنا مرّة اُخرى وهو: أنّ(هذه سببية حقيقيّة وليست سببية عنائيّة او مجازيّة، ونحن نعلم أنّ السببيّة الحقيقيّة لا يمكن أن تنتزع من جعل، بل هي بحاجة إلى نكات تكوينيّة) ومن هنا لا بدّ أن نحلّ بشكل عامّ هذا الإشكال، وهو: أنّ هذه السببيات كيف نتصورها؟ ومامعنى أن تكون هذه انتزاعية تنتزع من الجعول ونحن نعلم أنّ الجعل أمر اعتباري، والأمر الاعتباري لا يؤثّر أثر التكوين؟ فهذه السببية كيف تولّدت؟ هذه النقطة لا بدّ من حلّها ولا بدّ من الالتفات إليها، وأيضاً لا يكفي لحلّها مسألة أن ننتقل من مصطلحات الشيخ النائيني إلى مصطلحات اُستاذنا، من قضية أنّ دلوك الشمس يجعلنا طرفاً للجعل، فأيضاً يقال: إنّ دلوك الشمس سبب لصيرورتنا طرفاً للجعل، وهذه سببية حقيقية وواقعيّة، وليست سببية مجازيّة أو عنائيّة، فهذه السببيّة كيف جعلت؟ وكيف خلقت بالجعل؟ وكيف انتزعت من الجعل؟ هل هي جعلت مباشرة؟ وكيف يمكن أن تخلق بالجعل الاعتباري والجعل من عالم الاعتبار بينما السببية من عالم التكوين؟ أو أنّها انتزعت من الجعل وهذا أصعب؟ فكيف يكون الشيء التكويني ينتزع من شيء مرتبط بعالم الاعتبار؟ هذا الإشكال لا زال باقياً، وهذا حلّه هو أنّ الجعول هي اعتبارات، وهي قضايا تكوينية، أي: إنّ الجعل بما هو جعل شيء تكويني صدر من المولى، وهذه تخلق مصداقاً للأسباب، ولا تخلق السببيّة، ففرق بين خلق مصداق الأسباب وبين خلق السببيّة، فالسببيّة لا تخلق بالجعل، ولكنّ الجعل يخلق المصداق، وهذا شبيه بما يقال في الجعول التكوينية أيضاً، كما يقول الفلاسفة: إنّ النار هي سبب للإحراق، وحتّى الخلق التكويني للنار ليس خلقاً للسببية، وإنّما هو خلق لمصداق السبب، أمّا السببيّة فهي ثابتة قبل خلق النار، وكذلك دلوك الشمس في المقام سبب بشكل كبروي قبل خلق الوجوب لفعليّة كلّ وجوب مقيّد بدلوك الشمس، هذه ككبرى ثابتة قبل الجعل، وجعل هذا الحكم خلق، والجعل بالنسبة لنفس ما يجعل تكوين، ويكون محقّقاً لمصداق هذه الكبرى، وعندئذ نقول: هذه السببيّة منتزعة من هذا الجعل.

هذه خلاصة ما أردت توضيحه كتعميق لكلام الشيخ النائيني(رحمه الله).

وعلى أيّة حال، فلا شكّ أنّ هناك منطقة وسطيّة بين مرحلة الجعل ومرحلة التنجيز، فحينما قال مثلاً:(لله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) تمّ الجعل، وحينما قال:(إذا زالت الشمس فصلِّ) تمّ الجعل رغم أنّه الآن أي: قبل زوال الشمس، أو قبل الاستطاعة لم تنشغل عهدتنا بشيء، هذه مرحلة الجعل، ومرحلة التنجيز طبعاً تأتي بعد العلم، فلو علمت بوجوب الصلاة والحجّ، وعلمت بحصول الزوال وعلمت بالاستطاعة يتنجز الوجوب،