المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

36

الكلّيات، ليختار منها ما يشاء، وكفيته أمر الذهاب إلى المدرسة والعودة منها إلى البيت. إنّ إلمامه بعلوم اللّغة العربيّة يفوق حدّ التصوّر لطفل في سنّه، وكم من مرّة جعلني أقف أمامه محرجاً لاأحير جواباً، فأضطر أن اُؤجّل الجواب على سؤاله إلى يوم آخر؛ لئلّا أكون في موضع العاجز عن الجواب أمام تلامذتي. وقال هذا الشيء عينه مدرّس الدين وأضاف: أنّه يصلح أن يكون مدرّساً للدين واُصوله.

وقال كذلك مدرّسو العلوم الاُخرى، مُبدِين دهشتهم وحيرتهم في نبوغ هذا الطفل ومستواه خائفين أن يقتله ذكاؤه.

كان(رحمه الله) أوّل من يدخل الصفّ، وآخر من يخرج منه، وكان كلّه إصغاءً وانتباهاً إلى ما يقوله المدرّس، وكأنّ ما يتلى شيء جديد بالنسبة له، وكأنّه لم يحفظ في ذاكرته أضعاف ما يتلى عليه في الصفّ. وما وجدته يوماً وقد ركبه الغرور، أو طغى عليه العجب بنفسه، أو تعالى على زملائه التلاميذ ممّا عنده من علم ومعرفة. كان مؤدّباً جدّاً يحترم معلّميه وزملاءه، ويفرض احترامه على الجميع، وكثيراً ما كنّا نفتقده متغيّباً لشهر أو حواليه من المدرسة، ثُمَّ إذا به يحضر عند الامتحان، فيؤدّيه، فينال الدرجة العليا، ولو كانت هناك درجة أعلى، لاستحقها بجدارة. وكنّا عند تغيّبه نستفهم من الإدارة عن السبب، فيكون الجواب الذي اعتدناه: أنّه يحضر دروساً خاصّة تشغله عن حضور المدرسة. كنّا نختاره وخاصّةً مدرّس الدروس الدينيّة في درس الصلاة إماماً يؤمّ زملاءه في الصلاة، فكان واللّهِ جديراً بها يؤدّيها بخشوع العابد الزاهد المتوجّه إلى ربّه العليّ الكريم. وكان يختار من بين طلّاب كلّ المدرسة؛ لإلقاء القصائد والكلمات في الصحن الكاظميّ الشريف منذ كان في الصفّ الثاني الابتدائيّ، وذلك في موكب العزاء الذي اعتادت المدرسة أن تنظّمه كلّ عام.

وليس عجيباً على مثل هذا الطفل أن يستظهر قصيدة تضمّ ثلاثين بيتاً أو أكثر، أو كلمة عن ظهر قلب خلال ربع ساعة بعدها يتلوها علينا بكلّ فصاحة متجنّباً اللّحن حتّى إذا قرئت له ملحونة.

كان شعلة ذكاء، وقدوة أدب، ومثال خلق قويم، ونفس مستقيمة. ما فاه والله بحياته في المدرسة بكلمة إلّا وبعثت في نفس سامعها النشوة والحُبُور، وما التقت عيناه لفرط