المولفات

المؤلفات > مباحث الاُصول، القسم الثاني - الجزء الأوّل

35

لقد كان كلّ ما يُدرَس في هذه المدرسة من كافّة العلوم دون مستواه العقلىّ والفكرىّ، كان شغوفاً بالقراءة، محبّاً لتوسيع دائرة معرفته، ساعياً بجدٍّ إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة، لا تقع عيناه على كتاب إلّا وقرأه، وفقه ما يحتويه في حين يعزّ فهمه على كثير ممّن أنهوا المرحلة الثانويّة. ما طرق سمعه اسم كتاب في أدب، أو علم، أو اقتصاد، أو تأريخ، إلّا وسعى إلى طلبه. كان يقرأ كلّ شيء.

وقد حدّثني أحد الزملاء ممّن كان لديهم إلمام بالماركسيّة، واطّلاع على كثير من الكتب التي كتبت فيها قائلاً لي: لقد جاءني يوماً مبدياً رغبته في أن يقرأ بعض الكتب الماركسيّة ونظريّاتها؛ ليطّلع على مكنونات هذه النظريّة، تردّدت في بادئ الأمر عن إرشاده إلى ذلك؛ لأنّه طفل، وخشيت أن تتشبّع أفكاره بالماركسيّة ونظرياتها، وبعد إلحاح منه شديد، ولمّا كنت لااُحبّ ردّ طلبه أرشدته إلى بعض المجلّات والكتب المبسّطة في كتابتها عن الماركسيّة وفي عرضها لها. وقد أخذت على عاتقي تهيئة ما تيسّر لي من هذه المجلّات والكتب، وهي نادرة وعزيزة؛ لأنّها كانت آنذاك من الكتب المحرّم بيعها في المكتبات.

وبعد أن تسلّمها منّي تهلّل وجهه فرحاً، ثُمَّ أعادها إلىّ بعد أن قرأها مكرّراً طلبه أن أجد له كتباً أكثر موضوعيّة، وأعمق شرحاً وعرضاً لآراء الماركسيّة، فهيّأت له ما طلب، وكنت أظنّ أنّه سوف لايفقه منها شيئاً؛ لأ نّني أنا نفسي رغم مطالعاتي الكثيرة في هذا الموضوع أجد أحياناً صعوبة في فهمها. وبعد مدّة اُسبوع واحد أعادها إلىّ، وطلب غيرها، وأضاف المدرّس قائلاً: أحببت أن أعرف ما الذي استفاده هذا الطفل من قراءته لهذه الكتب، وإذا به يدخل في شرح الماركسيّة طولاً وعرضاً، فأخذت عن شرحه لها كلّ ما غمض علىّ معناه عند قراءتي لها، فعجبت لهذا الطفل المعجزة، وهو لمّا يزل في المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائيّة. وقد زاد في اطمئناني عند ما راح يشرح لي أنّه كان يأتي على مناقشة كلّ رأي على حدة مناقشة العالم المتبحِّر في العلم، فاطمأننت بأنّه لم يتأثّر بالماركسيّة مطلقاً، وأنّه كان يقرؤها كناقد لاكدارس لها.

وحدّثني عنه مدرّس اللّغة فقال: والله لو لاالأنظمة والقوانين ولو كانت هناك حكومة تقدّر النبوغ والكفاءة، لمنحته الشهادة الثانويّة بأعلى الدرجات، وفتحت له أبواب