502

وترك الصبر، وهكذا سائر الأُمور. فالمؤمن يعلم أنَّه على أ يَّة حال قد روعيت مصلحته، ولوحظت الخيرات والبركات له.

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الفضيل بن يسار، عن الصادق(عليه السلام):

«... يا فضيل بن يسار، إنَّ المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيراً له، ولو أصبح مُقطَّعاً أعضاؤه كان ذلك خيراً له. يا فضيل بن يسار، إنَّ الله لا يفعل بالمؤمن إلاّ ما هو خير له. يا فضيل بن يسار، لو عدلت الدنيا عند الله ـ عزَّوجلَّ ـ جناح بعوضة ما سقى عدوَّه منها شربة ماء. يا فضيل بن يسار، إنَّه مَنْ كان همُّه همَّاً واحداً كفاه الله همَّه، ومَنْ كان همُّه في كلِّ واد لم يبالِ الله بأيِّ واد هلك»(1).

نعم، إنَّ الله ـ تعالى ـ أقرب إلى عبده من حبل الوريد، ويعلم سرائره، وهو الذي خلقه وخلق كلَّ ما حوله من العالَم الذي جعله ضِمنه، فمن الطبيعي أن يكون أعرف بما يصلحه وما يفسده من نفس العبد.

وعلى أيِّ حال، فلا يخفى أنَّ هذا المقطع وكذلك المقطع الذي قبله راجعان إلى المؤمن الاعتيادي لا إلى الكمّل من عباده؛ وذلك ـ كما أفاده السيّد الإمام الخمينيّ (رحمه الله)(2) ـ لأنَّ مَنْ يكره الموت، أو يعبث الغنى والفقر بقلبه إنَّما هو المؤمن العام دون الخواصِّ.

قوله: «وما يتقرَّب إليَّ عبد من عبادي بشيء أحبُّ إليَّ ممَّا افترضت عليه، وإنَّه يتقرَّب إليَّ بالنافلة حتّى أُحبُّه، فإذا أحببته كنت إذن سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته».


(1) أُصول الكافي 2 / 246.

(2) الأربعون حديثاً للسيّد الإمام(رحمه الله)، ترجمة السيّد محمَّد الغرويّ: 519.

503

لايخفى أنَّ كون الفرائض أحبُّ إلى الله من النوافل، لا ينافي كون بعض المستحبات أثوب عند الله من الواجب، كما يقال في السَّلام وردِّ السَّلام؛ فإنَّ وجه أحبِّية الواجب اشتماله على المصلحة الملزمة؛ ولهذا يكون تركه مبغوضاً لله عزَّوجلَّ، في حين أنَّ المستحب ليست مصلحته إلزاميَّة؛ ولهذا يرخِّص الشارع في الترك. وهذا لاينافي أثوبيّة المستحب؛ فإنَّ الثواب لا يدور مدار المصلحة، بل يدور مدار مقدار التضحية والإخلاص، ولا شكَّ أنَّ التضحية الموجودة في الابتداء بالسلام أكثر من التضحية الموجودة في جواب السلام، بل على العموم إنَّ الالتزام بالمستحبات على رغم الإحساس بعدم الوجوب، يكون أثقل على النفس من الالتزام بالواجبات؛ لأنَّ الإحساس بوجوبها يكفي في انبعاث الداعي في نفس المؤمن الابتدائي إلى العمل، في حين أنَّ الالتزام بأمر غير واجب يكشف عن إخلاص أكثر وهمَّة أقوى.

وقد ذكر علماؤنا (رضوان الله عليهم) تفاسير عديدة للتعبير بـ «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به...»:

منها: ما قاله الشيخ البهائي(رحمه الله): من أنَّ المراد ـ والله العالم ـ أنِّي إذا أحببت عبدي جذبته إلى محلِّ الأُنس، وصرفته إلى عالم القدس، وصيَّرت فكره مستغرقاً في أسرار الملكوت، وحواسَّه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت، فيثبت ـ حينئذ ـ في مقام القرب قدمه، ويمتزج بالمحبَّة لحمه ودمه إلى أن يغيب عن نفسه، ويذهل عن حسِّه، فيتلاشى الأغيار في نظره حتّى أكون له بمنزلة سمعه وبصره كما قال مَنْ قال:

جنوني فيك لا يخفى
وناري منك لا تخبو
فأنت السمعُ والأبصارُ
والأركانُ والقلبُ(۱)
 


(1) راجع مرآة العقول 10 / 391.

504

أقول: وكما يُفهَم من هذا التفسير: إنَّ هذا المقام لا يحصل إلاّ بجذب الله تعالى لعبده إيَّاه بعد أن يحبَّ عبده، وإلاَّ فالعبد قاصر عن الوصول إلى هذا المقام. ولنعم ما تمثَّل به السيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله) هنا من البيت الفارسي، وهو:

تا كه از جانب معشوق نباشد كششى
كوشش عاشق بى چاره بجائى نرسد(1)

أمَّا عن أقسام المحبَّة فأدنى أقسام المحبَّة هو:

القسم الأوّل: للحبِّ وهو: الحبّ الحيوانيّ البحت، وهو: أنَّ الإنسان كالحيوان يحبُّ ما يوجب التذاذ قوَّة من قواه، كقوَّة الباصرة في المبصرات المحسَّنة، أو الذائقة في المذوقات الشهيَّة، أو الشامَّة في الروائح الطيِّبة، أو ما إلى ذلك ممَّا يعود في واقعه إلى حبِّه للذائذ نفسه، لا إلى حبِّه بالمعنى الحقيقي للكلمة لذاك المحبوب. وهذا الحبُّ مشترك بين الإنسان والحيوان بفرق: أنَّ الإنسان أدقُّ من الحيوان في التفنُّن في هذه الالتذاذات، وأوسع التذاذاً من الحيوان، فالإنسان يدرك من روائع الصور ما لا يدركه الحيوان، وكذلك من روائع المطعومات وما إلى ذلك، إلاّ أنَّ هذا الفرق ليس فارقاً جوهريَّاً، وهذا الحبُّ لا قيمة أخلاقيَّة أو عرفانيَّة له على الإطلاق؛ لأنَّه في الحقيقة لم يتجاوز حبَّ الذات، وكلُّ ما في الأمر إنَّما هو حبُّ التلذُّذ وبغض الألم.

والقسم الثاني: للحبِّ هو: أنَّ الإنسان عادةً يحبُّ وجود نفسه وحياته، وذلك أمر فطريٌّ وجبلِّيٌّ للبشر، فإن أدَّى هذا الحبُّ إلى حبِّ واهب الوجود بنفس منطق حبِّ الالتذاذ بالوجود، رَجَعَ إلى القسم الأوَّل وإن أدَّى إلى حبِّ واهب الوجود بمنطق أنَّ المحسن إلينا يستحقُّ الحبَّ، رَجَعَ إلى ما سوف يأتي إن شاء الله من القسم الثالث وإن أدَّى إلى حبِّ واهب الوجود باعتبار أنَّ وجودنا إن هو إلاَّ


(1) چهل حديث للسيّد الإمام الخمينيّ(رحمه الله): 591.

505

وجوداً تعلقيَّاً بحتاً، وأنَّ الوجود الاستقلالي ليس إلاّ لله تعالى، فهو المستحقُّ للحبِّ. فهذه درجة عالية من الحبِّ العرفاني الذي لا يناله إلاَّ مَنْ له حظٌّ عظيم، ولا يدركه إلاّ صاحب القلب المُرهَف، و﴿إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم﴾ ولا يكفي في ذلك مجرّد الإحساس العقلي والعلمي والبرهاني بانحصار الوجود الاستقلالي بالله تعالى، بل يحتاج إلى الإحساس بذلك بالضمير والوجدان وعين البصيرة. رزقنا الله ـ تعالى ـ ذلك بحقِّ محمِّد وآله.

ولعلَّ هذا أحد معاني «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه...»(1) أي: أنَّ الإنسان لا يعرف الوجود المستقل إلاّ إذا عرف وجوده التعلقي، وأنَّه ليس إلاّ تعلُّقاً بحتاً.

وبمناسبة حديث «مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه» أستذوق أن أنقل هنا كلمة لطيفة منسوبة إلى بعض العلماء، وكأنَّه قصد بها تفسير هذا الحديث قال:

«الروح لطيفة لاهوتيَّة، في صفة ناسوتيَّة، دالَّة من عشرة أوجه على وحدانيَّة ربَّانيَّة:

1 ـ لمَّا حرَّكت الهيكل ودبَّرته علمنا أنَّه لابدَّ للعالم من مُحرِّك ومُدبِّر.

2 ـ دلَّت وحدتها على وحدته.

3 ـ دلَّ تحريكها للجسد على قدرته.

4 ـ دلَّ اطلاعها على ما في الجسد على علمه.

5 ـ دلَّ استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه.

6 ـ دلَّ تقدُّمها عليه وبقاؤها بعده على أزله و أبده.

7 ـ دلَّ عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.

8 ـ دلَّ عدم العلم بمحلِّها من الجسد على عدم أينيَّته.

9 ـ دلَّ عدم مسِّها على امتناع مسِّه.


(1) البحار 2 / 32.

506

10 ـ دلَّ عدم إبصارها على استحالة رؤيته»(1).

أقول: وقد دلَّت إحاطتها بمخلوقاتها الذهنية بالعلم الحضوري على إحاطة الله بكلِّ الموجودات بالعلم الحضوري.

وقد دلَّ ارتباط مخلوقاتها الذهنيَّة بإفاضته لها الوجود آناً فآناً (فلو قطعت النظر عنها لحظة واحدة لانعدمت) على ارتباط العالم أجمع بالله تعالى كذلك، فهو إنَّما يدوم بإفاضة الله ـ سبحانه وتعالى ـ الوجود إيَّاهُ لحظة فلحظة، ولو قطع الله الإفاضة عن العالم لانعدم العالم.

وقد دلّ تحريكها للجسد بمجرد الإرادة على أنَّه ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2).

والقسم الثالث: للحبِّ حبُّ من أحسن إلينا، وهذا الحبُّ أحد منشأيه: حبُّ الذات، ولكن ليس هو عين حبِّ الذات، كما كان كذلك في مثل حبِّ الصور الرائعة الحسيَّة، أو المطعومات الشهيَّة، أو الروائح العطرة، بل هنا قد تجاوز ـ حقّاً ـ الحبَّ إلى غير المحبِّ، وهو المحسن. ومنشأه الآخر إدراك الضمير لاستحقاق هذا المحسن الحبَّ حينما يكون إحسانه إلينا فعلاً حسناً في إدراك الضمير الُخلُقي. وهذا القسم من الحبِّ ينمو ويشتدَّ في العبد بالنسبة لله تعالى بقدر ازدياد اكتشاف العبد لنعم الله ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(3).


(1) البحار 61 / 99 ـ 100.

(2) السورة 36، يس، الآيتان: 82 ـ 83 .

(3) السورة 14، إبراهيم، الآيات: 32 ـ 34.

507

وأصل نعمة الوجود من الله، ونعم الآفاق والْأَنْفُسَ من الله، والنعم التي تصلنا من المخلوقين إن هي إلاّ بتوفيق الله وقدرته وإلهامه وتسهيله وتقديره، فالمنعم الحقيقي الكامل إن هو إلاّ الله، فهو المستحقُّ للحبِّ وللشكر والثناء. وهذا القسم من الحبِّ لله هو المناسب لمستوى عامَّة المؤمنين، وعلى هذا الأساس أُكِّد عليه في بعض الروايات، وذلك من قبيل: ما ورد عن جابر، عن الباقر(عليه السلام) قال: «أوحى الله ـ تعالى ـ إلى موسى(عليه السلام) أحببني وحبِّبني إلى خَلْقي، قال موسى: يا ربِّ، إنَّك لتعلم أنَّه ليس أحد أحبَّ إليَّ منك، فكيف لي بقلوب العباد ؟ ! فأوحى الله إليه فذكِّرهم نعمتي وآلائي، فإنَّهم لايذكرون منِّي إلاّ خيراً»(1).

وعن النبيِّ(صلى الله عليه وآله) قال: «قال الله ـ عزَّوجلَّ ـ لداود(عليه السلام) أحببني وحبِّبني إلى خَلْقي، قال: يا ربِّ، نعم أنا أُحبُّك، فكيف أُحبِّبك إلى خَلْقك ؟ قال: اذكر أياديَّ عندهم، فإنَّك إذا ذكرت ذلك لهم أحبُّوني»(2).

القسم الرابع: حبُّ مَنْ هو مستحقّ للحبِّ سواءٌ أحسن إلينا أو لا، وهو مَنْ يستجمع صفات فاضلة، والجمال الباطني والمعنوي، ولا جامع لجميع الكمالات والجمالات والفضائل إلاّ الله تعالى، وجميع جمال المخلُوقين وكمالهم إن هو إلاّ ترشحاً من بحر جماله.

قال آية الله الشيخ المشكيني حفظه الله: إنَّ أحد الشعراء قال: (حسن يوسف در دو عالم كس نديد) ثُمَّ عجز عن تكميل البيت، فطلب ممَّن كان أشعر منه تكميل البيت فأجابه: (حسن آن دارد كه يوسف آفريد).

اللَّهمّ إنِّي أسألك من جمالك بأجمله، وكلُّ جمالك جميل، اللَّهمَّ إنِّي أسألك بجمالك كلِّه.


(1) البحار 70 / 22.

(2) المصدر السابق.

508

وهذا القسم من الحبِّ لله لا يوجد في مراتب عالية إلاّ لدى العرفاء الكمّل.

القسم الخامس: للحبِّ هو: الحبُّ الناشئ من القرب في سلسلة الوجود، كحبِّك لأولادك، أو لأبويك، أو لعشيرتك، ولا أقرب إليك في سلسلة الوجود من الله سبحانه وتعالى الذي هو الخالق، وهو الواهب للحياة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَة مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَّكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾(1).

إلاّ أنَّ الإحساس بذلك ووجدانه ـ أيضاً ـ خاصٌّ بالعرفاء بالله.

القسم السادس: للحبِّ هو: الحبُّ الناشئ من الأُنس، فإذا أنست بجارك، أو بصاحب لك، أو بشريك لك في السفر، أو في التجارة، أو بصديق لك في مجلس، أو بزوجك في الحياة الزوجيَّة، أو ما إلى ذلك، أحببته.

والأُنس بالله هو الذي يقوِّي لذَّة مناجاته، وهو خاصٌّ ـ أيضاً ـ بأولياء الله وأصفيائه.

الأُنس بالله لا يحويه بطَّالُ
وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلُّهم نجبٌ
وكلُّهم صفوة لله عمَّال(2)

والآن أودُّ أن أتحدّث بحديث مختصر عن علائم حبِّ الله.

قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(3).


(1) السورة 23، المؤمنون، الآيات: 12 ـ 14.

(2) الإحياء للغزالي 4 / 314.

(3) السورة 62، الجمعة، الآيتان: 6 ـ 7.

509

وقال عزَّوجلَّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

وقد مضى عن الصادق(عليه السلام) قوله:

تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه
هذا محالٌ في الفعالِ بديعُ
لوكان حبُّك صادقاً لأطعته
إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ(2)

قيل:

لاتخدعنَّ فللمحبِّ دلائلٌ
ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعّمه بمرِّ بلائه
وسروره في كلِّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطيَّةٌ معروفةٌ
والفقرُ إكرامٌ وبِرٌّ عاجل
ومن الدلائل أن ترى من عزمه
طوعَ الحبيبِ وإن الحَّ العاذل
ومن الدلائل أن يُرى متبسّماً
والقلبُ فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يُرى متفهِّماً
لكلام من يحظى لديه السائل(3)

ووجدت في مكان آخر هذا البيت:

ومن الدلائل أن يُرى من شوقه
مثلَ السقيم وفي الفؤادِ علائل(4)

وقيل أيضاً:

ومن الدلائل حزنُه ونحيبهُ
جوفَ الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً
نحو الجهاد وكلِّ فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى
من دار ذلٍّ والنعيم الزائل


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(2) البحار 70 / 15.

(3) رواها الغزالي عن أبي تراب النخشبي في الإحياء: 4 / 313.

(4) خزينة الجواهر: 133.

510

ومن الدلائل أن تراه باكياً
أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلّما
كلَّ الأُمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضياً
بمليكه في كلِّ حكم نازل
ومن الدلائل ضحكهُ بين الورى
والقلبُ محزونٌ كقلب الثاكل(1)

وقد ورد في الحديث: «أوحى الله إلى بعض الصدِّيقين: أنَّ لي عباداً من عبيدي يحبُّوني وأُحبُّهم، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم، فإن أخذتَ طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتُّك، قال: يا ربِّ، وما علامتهم ؟ قال: يراعون الظلال بالنهار(2) كما يراعي الشفيق غنمه، ويحنُّون إلى غروب الشمس كما تحنُّ الطير إلى أوكارها عند الغروب، فإذا جنَّهم الليل، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، ونصبت الأسرَّة، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، نصبوا إليَّ أقدامهم،وافترشوا إليَّ وجوههم، وناجوني بكلامي، وتملَّقوني بأنعامي ما بين صارخ وباك، وبين متأوِّه وشاك، وبين قائم وقاعد، وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحمَّلون من أجلي، وبسمعي ما يشكون من حبِّي. أوَّل ما أعطيهم ثلاثاً: الأوَّل أقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عنِّي كما أُخبر عنهم. والثاني لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما من مواريثهم لاستقللتها لهم. والثالث أُقبل بوجهي عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أُريد أن أُعطيه ؟ !»(3).

والآية التي بدأنا بها الحديث وهي قوله تعالى.: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ


(1) الإحياء 4 / 313، رواها الغزالي عن يحيى بن معاذ، وقد حذفتُ منه بيتاً رأيته غير موافق لمذهب الحقِّ. وفي خزينة الجواهر نسب بعض أبيات هذين المقطعين إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام). راجع خزينة الجواهر: 131 ـ 138.

(2) لعلَّ المقصود: مراعاة الظلِّ وانتظار وصوله إلى النهاية، فهو عبارة أُخرى عن قوله: ويحنُّون إلى غروب الشمس، ولعلَّ المقصود: مراعاة أوقات الصلوات بمراقبة الظلال.

(3) البحار 70 / 26.

511

زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ...﴾ يحتمل فيه احتمالان:

أحدهما ـ أن يكون المقصود: زعمهم أنَّهم يحبُّون الله فإن كانوا صادقين في زعمهم فعليهم أن يتمنُّوا لقاء حبيبهم بالموت.

والثاني ـ أن يكون المقصود: زعمهم أنَّ الله يحبُّهم فإن كانوا صادقين في زعمهم فعليهم أن يتمنُّوا الموت؛ كي يصلوا إلى ثواب مَنْ يحبُّهم.

والاحتمال الثاني هو الأقوى؛ لما ورد في مورد آخر من القرآن خطاباً لليهود قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ﴾(1).

ويؤيِّد ذلك ـ أيضاً ـ قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء ...﴾(2).

وعلى أيَّة حال، فمن علامات حبِّ الله تعالى ما يلي:

الاُولى: تمنِّي الموت، إمَّا لأنَّه بالموت يحصل لقاء الله تعالى، وإمَّا لأنّه بالموت يصل إلى ما أعدَّ الله له من الثواب الجزيل. ومن المحتمل أن يكون ممَّا يشير إلى هذه العلامة ما ورد في نهج البلاغة عن إمامنا أميرالمؤمنين(عليه السلام): «... والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُ مِّه ...»(3).

وورد ـ أيضاً ـ في الحديث: «لمَّا اشتدَّ الأمر بالحسين بن عليّ بن أبي طالب نظر إليه مَنْ كان معه، فإذا هو بخلافهم؛ لأنَّهم كُلَّما اشتدَّ الأمر تغيَّرت ألوانهم،


(1) السورة 2، البقرة، الآيتان: 94 ـ 95.

(2) السورة 5، المائدة، الآية: 18.

(3) نهج البلاغة: 34، رقم الخطبة: 5.

512

وارتعدت فرائصهم، ووجلت قلوبهم، وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، فقال لهم الحسين(عليه السلام): صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة(1) فأ يّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ ! وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب. إنَّ أبي حدّثني عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم. ما كَذبت ولا كُذبت»(2).

وقد ورد في الصحيفة السجاديَّة عن إمامنا زين العابدين: « ... واجعل لنا من صالح الأعمال عملاً نستبطئ معه المصير إليك، ونحرص له على وشك اللحاق بك، حتّى يكون الموت مأنسنا الذي نأنس به، ومألفنا الذي نشتاق إليهِ، وحامَّتنا التي نحبُّ الدنو منها...»(3).

ولا ينافي تمنِّي الموت وحبّه بهذا المعنى ما ورد في بعض الروايات من النهي عن تمنِّي سرعة حلول الموت، وذلك من قبيل المرسلة الواردة في دعوات الراوندي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لاتتمنُّوا الموت؛ فإنَّ هول المطَّلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره، ويرزقه الله الإنابة إلى دار الخلود»(4) فإنَّ أصل حبِّ الموت يجتمع مع عدم تمنِّي اقترابه حينما يكون الأوَّل بروح لقاء الله، أو لقاء ثوابه. والثاني بروح الإكثار من ثواب الله، أو من مرضاته. وقد ورد في الأدعية


(1) الظاهر أنّ الصحيح: (النعيم الدائم) أو (النعم الدائمة).

(2) البحار 6 / 154 و 44 / 297.

(3) الصحيفة السجاديَّة، الدعاء الأربعون.

(4) البحار 6 / 138.

513

المرويَّة عنهم(عليهم السلام) الدعاء بطول العمر، وذلك من قبيل ما ورد في بعض أدعية ليالي شهر رمضان: وأن تجعل فيما تقضي وتقدّر أن تطيل عمري في خير وعافية(1).

وخير دعاء ندعو به لأنفسنا في هذا المضمار ما عن إمامنا سيّد الساجدين (عليه السلام): «...عمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ، أو يستحكم غضبك عليّ...»(2).

وبهذه المناسبة أروي قِصَّة منقولة عن المرحوم آية الله الحاج آقا حسين القمِّي(رحمه الله)، فقد رُوي أنَّه حينما أحسَّ بقرب انتهاء مرجعيَّة الشيعة إليه طلب من عدد من علماء النجف الأشرف وأكابرهم أن يجتمعوا إليه في الحرم الشريف، فجمعهم في الإيوان تحت ميزاب الذهب، وقال لهم: إنِّي جمعتكم هنا لكي تؤمِّنوا على دعائي، فإنَّ المرجعيَّة كادت أن تنتهي إليَّ، ثُمَّ قال: اللَّهمَّ إن كان انتهاء المرجعيَّة إليَّ سيضرّ بديني، فاقبضني إليك. وطلب منهم أن يؤمِّنوا على هذا الدعاء، فلم يؤمِّنوا عليه، وانفضَّ المجلس، ثُمَّ التقى بهم بعد ذلك وقال لهم: ألستم تؤمنون بأ نّني فقيه ؟ فإنِّي أفرض عليكم بحكم ولاية الفقيه أن تستجيبوا لي فيما أردته منكم، فجمعهم مرَّة أُخرى في المكان الشريف، ودعا بنفس الدعاء، وأمَّنوا على دعائه. وانتهت زعامة الشيعة إليه، ولكنَّه لم يعش إلاّ فترة يسيرة، ثُمَّ تُوفِّي رضوان الله تعالى عليه.

وقيل: سُئل آية الله العظمى السيّد الخوئي(رحمه الله) ماذا رأيت من الحاج آقا حسين القمِّي حتّى أصبحت من مخلصيه ومتعلِّقيه ؟

فأجاب: أنَّ هذا الرجل قد صدَّق حقيقةً بيوم الحشر.

فقيل له: أفليس الآخرون مصدِّقين بيوم الحشر ؟ !


(1) مفاتيح الجنان المطبوعة بخط طاهر خويش نويس: 183.

(2) دعاء مكارم الأخلاق، وهو الدعاء العشرون من الصحيفة السجادية.

514

فقال: بلى، ولكن الأمر ذو درجات، وكأنَّ إيمان الحاج آقا حسين القمِّي بذلك إيمانٌ عن مشاهدة وحسّ.

الثانية: من علامات حبِّ الله أن ينغمر في طاعة الله، ويبتعد عن معصيته، كما مضى في البيتين المرويين عن الصادق(عليه السلام)، وكما مضى في الآية الشريفة: ﴿قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ...﴾(1) فإنَّ مَنْ يطيع الله طمعاً في الثواب، أو خوفاً من العقاب، قد تغلب عليه المغريات، أو تضعف نفسه أمام الشهوات، فيغلبه الهوى، ويرجّح كفة اللذائذ العاجلة على النعيم الآجل، أو على الاحتراز من العذاب الآجل. أمَّا الذي ذاق طعم محبَّة الله فلا شيء أطعم عنده من تحصيل رضاه، حتّى ولو اجتمعت عليه المغريات جميعاً.وسلام الله على إمامنا الذي قال: «... والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته ...»(2).

نعم، إنَّ مَنْ ذاق طعم محبَّة الله إلى حدّ العشق والهيام، أصبح معصوماً من الذنوب ما دام كذلك، ولذا ورد في دعاء كميل: «... واجعل لساني بذكرك لهجا، وقلبي بحبِّك متيَّما...» (يعني: معبَّداً مذلَّلاً).

ولا يفوتني أن أُشير إلى أنَّ الإيمان بالجنَّة والنار لو وصل إلى مستوى « ... فهم والجنَّة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون ...»(3) كان ـ أيضاً ـ موجباً للعصمة من الذنوب ما دام كذلك. وسلام الله على إمامنا الذي قال لأخيه: «... ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرُّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ! أتئنُّ من الأذى


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 31.

(2) نهج البلاغة: 473، رقم الخطبة: 224.

(3) خطبة المتقين في نهج البلاغة: 410، رقم الخطبة: 193.

515

ولا أئنُّ من لظىً ؟ !...»(1).

وقال سلام الله عليه: «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً وأُجرّ في الاغلال مصفّداً أحبّ إليَّ من أن ألقي الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها ؟ !...»(2).

الثالثة: من علامات حبِّ الله الالتزام بقيام الليل وصلاة الليل؛ فإنَّ المحبَّ يحبُّ خلوة حبيبه. ونحن نعلم أنَّ ظلام الليل، وسكون الأجراس والأنفاس يساعدان على تجمُّع الحواسّ، والقدرة على الاختلاء بالله سبحانه.

وقد فُسِّرت الخلوة بمعنى: تفرُّد العبد في موضع يخلو فيه من جميع الشواغل ممّا سوى الله من المحسوسات الظاهرة والباطنة، ويصرف فيه همَّته ونيَّته إلى الإقبال على الله والتبتُّل إليه بالكلِّية، فيحصل له الأُنس به، والوحشة من غيره(3)وفُسِّرت ـ أيضاً ـ بمعنى: محادثة السِّر مع الحقِّ حيث لا أحد ولا ملك(4).

وقد ورد في الدعاء السابع والعشرين للصحيفة السجاديَّة: « ... وفرِّغهم عن محاربتهم(5) لعبادتك، وعن منابذتهم للخلوة بك؛ حتّى لا يُعبد في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفَّر لأحد منهم جبهةٌ دونك...».

وقيل لبعض العُبَّاد: «ما أصبرك على الوحدة فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس الله عزَّوجلَّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، وإذا شئت أن أُناجيه صلَّيت»(6).


(1) نهج البلاغة: 472 ـ 473، رقم الخطبة: 224.

(2) المصدر السابق: 471 ـ 472.

(3) رياض السالكين للسيِّد علي خان 4 / 211.

(4) المصدر السابق.

(5) أي: أغنِ المسلمين عن محاربة الأعداء.

(6) المصدر السابق: ص 212.

516

وليس الهدف من نقلنا لهذه الكلمات التشجيع على ترك الأعمال الاجتماعيَّة والسياسيَّة في سبيل الإسلام، وإنَّما الهدف مجرّد التنبيه على لذَّة الخلوة بالله التي لابدَّ منها في بعض آناء الليل أو النهار، والليل أنسب. وقد مضى منَّا في الأبحاث السابقة أنَّ الإسلام نظام ذو أبعاد: فمنها بُعد العرفان والانقطاع إلى الله والاختلاء به، ومنها بُعد القضايا السياسيَّة والاجتماعيّة، ولا يصحُّ حذف بعضها من برنامج الحياة في سبيل بعض.

وفي الحديث(1) عن إمامنا الصادق(عليه السلام) قال: «كان فيما ناجى الله ـ عزَّوجلَّ ـ به موسى بن عمران أنَّه قال: يا ابن عمران، كذب من زعم أنّه يحبُّني فإذا جنَّه الليل نام عنِّي، أليس كلُّ محبٍّ يحبُّ خلوة حبيبه ؟ ! ها أنا ذا يا ابن عمران، مطَّلع على أحبَّائي، إذا جنَّهم الليل حوَّلت أبصارهم من قلوبهم، ومثَّلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلِّموني عن الحضور، يا ابن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظلم الليل، وادعني، فإنَّك تجدني قريباً مجيباً».

ومن الطريف أنَّ الله ـ تعالى ـ عبَّر في كتابه عن تعامله مع المؤمنين بالشراء ؛ إذ قال: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ...﴾(2) في حين أنَّه عبَّر في هذا الحديث القدسي عن تعامله مع المحبِّين بالهبة؛ إذ قال: «... هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظلم الليل...».

ولعلَّ هذا إشارة إلى الفارق الكبير بين درجة الإيمان ودرجة الحبِّ، فالمؤمن الذي لم يصل بعدُ إلى مستوى الحبِّ الكامل يتعامل مع الله بالبيع والشراء، فيعطيه نفسه وماله في مقابل الجنَّة، أمَّا المحبُّ فيهب لله ما لديه من دون توقُّع العوض.


(1) البحار 13 / 329 ـ 330، و 70 / 14 ـ 15، و 87 / 139.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

517

وقد قيل: إنَّ أحد العُشَّاق بالعشق المجازي الذي يقع فيما بين الناس حصل من معشوقه على وعد الوصال في ليلة معيَّنة، وانتظره العاشق بُرهة من الليل إلى أن غلب عليه النوم فنام، ثُمَّ جاءه المعشوق فوجده نائماً، فجعل في جيبه عدداً من الجوز وانصرف، ثُمَّ أصبح الصباح، وقد انحرم العاشق من لُقيا المعشوق، فأرسل إليه: أنَّك لماذا اخلفت الوعد، ولم تزرني الليلة الماضية؟ فأجابه المعشوق: أ نِّي قد زرتك، ولكنِّي وجدتك نائماً، وشاهد صدق كلامي عدد من الجوز جعلته في جيبك. إشارة إلى أنَّك بعيد عن عالم العشق، ولو كنت عاشقاً لما كنت تنام، وأنت بعد طفل يجب أن تلاعب الأطفال بالجوز(1).

وفي الحديث عن النبيِّ(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «ما زال جبرئيل يوصيني بقيام الليل حتّى ظننت أنّ خيار أُمَّتي لن يناموا»(2).

وأيضاً عنه(صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «أشراف أُ مّتي حملة القرآن، وأصحاب الليل»(3).

وأيضاً ورد في الحديث أنّه: «جاء جبرئيل(عليه السلام) إلى النبيِّ(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمَّد، عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب من شئت فإنَّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنَّك مجزى به، واعلم أنَّ شرف الرجل قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس»(4).

وأيضاً ورد في الحديث عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال أميرالمؤمنين عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام): «إنَّ في الجنَّة لشجرة يخرج من أعلاها الحلل، ومن أسفلها خيل بلق مسرَّجة ملجمة ذوات أجنحة لا تروث ولا تبول، فيركبها أولياء الله، فتطير بهم في الجنَّة حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم:


(1) خزينة الجواهر: 335.

(2) البحار 87 / 139.

(3) البحار 87 / 138.

(4) المصدر السابق: ص 138.

518

يا ربنا، ما بلغ بعبادك هذه الكرامة ؟ فيقول الله ـ جلَّ جلاله ـ إنَّهم كانوا يقومون بالليل ولا ينامون، ويصومون بالنهار ولايأكلون، ويجاهدون العدوَّ ولا يجبنون، ويتصدَّقون ولا يبخلون»(1).

الرابعة: من علامات حبِّ الله حبُّ الجهاد وتعشُّق الشهادة. وقد يكون ناظراً إلى هذا صدر الحديث الذي مضى ذكره قبل صفحات عن قِصَّة الحسين(عليه السلام) في وقعة كربلاء: كان الحسين(عليه السلام) وبعض مَن معه من خصائصه كُلَّما اشتدَّ الأمر تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم(2).

والسرُّ في جعل هذه العلامة مستقلَّةً عن حبِّ الموت الذي مضى الحديث عنه هو: أنَّ هذا أعلى مستوىً من مستويات البذل في الله والتضحية في سبيل الله، فلا شيء لدى الإنسان من أُموره الدنيوية أغلى من نفسه وحياته: لا ماله، ولا أهله وعياله، ولا أصحابه وأحبَّاؤه، فإذا بذل مهجته في سبيل الله متعشِّقاً ذلك، كان هذا آية حبِّه لله تعالى.

وقد ورد في الحديث:

1 ـ عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: « فوق كلِّ ذي بِرٍّ برٌّ حتّى يُقتل في سبيل الله، فإذا قُتِلَ في سبيل الله فليس فوقه بِرٌّ. وفوق كلِّ ذي عقوق عقوقٌ حتّى يقتل أحد والديه، فليس فوقه عقوق»(3).

فالسرّ في كون القتل في سبيل الله فوق كلِّ برٍّ، ما أشرنا إليه: من أنَّه أقوى درجات التضحية والبذل. والسرُّ في كون قتل أحد الوالدين فوق كلِّ عقوق: أَنَّ العقوق يحصل من هضم ذي الحقِّ حقَّه، ولا يوجد بحسب الحقوق البشريَّة فيما


(1) المصدر السابق: ص 139.

(2) راجع بحار الأنوار: 6/154، و 44/297.

(3) الوسائل 15/17، الباب 1 من جهاد العدوِّ، الحديث 21.

519

بين الناس أقوى ذي حقٍّ من الوالدين؛ لأنَّهما المنشأ المادِّي لوجود الشخص. ولا يوجد عقوق لهما أشدّ من القتل؛ لأنّه سلبٌ لأعزِّ الأشياء إليهما، وهي: الحياة والنفس.

2 ـ عن عليٍّ(عليه السلام): «... إنَّ أفضل الموت القتل. والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من مِيتة على الفراش »(1).

3 ـ عن سعد بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: « سألته عن قول أمير المؤمنين(عليه السلام): لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش؟ فقال: في سبيل الله»(2).

والسرُّ في مُفاد هذين الحديثين واضح، وهو: أَنَّ الموت الذي لابدَّ منه يوجب فقد الإنسان نفسه مجَّاناً وبلا عوض؛ لأنَّه لم يبذلها، وفي نفس الوقت قد فقدها، ولا بدَّ أن يفقدها، فما أحلى أن يكون ذلك بذلا في سبيل الله؛ كي يكون أقلُّ ثواب عليه الجنَّة؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ...﴾(3).

4 ـ عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن آبائه(عليهم السلام) قال: « قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): للشهيد سبع خصال من الله: أوَّل قطرة من دمه مغفور له كلُّ ذنب. والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما. والثالثة يُكسى من كسوة الجنَّة. والرابعة تبتدره خزنة الجنَّة بكلِّ ريح طيِّبة أيهم يأخذه معه. والخامسة أن يرى منزله. والسادسة يُقال لروحه: اسرح في الجنَّة حيث شئت. والسابعة أن ينظر إلى وجه الله، وإنَّها لراحة


(1) المصدر السابق: ح 12 / 14.

(2) المصدر السابق: ح 23 / 17.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 111.

520

لكلِّ نبي وشهيد»(1)، وطبعاً ليس المقصود بالنظر لوجه الله النظر المادِّي؛ لأنَّالله ـ سبحانه وتعالى ـ منزَّه عن المادَّة والتجسُّم. ووزان هذا المقطع من الرواية وزان قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾(2).

الخامسة: من علامات حبِّ الله هو: بلوغ مرتبة الرضا التي هي فوق مرتبة الصبر؛ فإنَّ الحبيب يرضى بمايريده حبيبه، فبدلا عن أن يصبر على بلائه يرضى برضاه، فكأنَّه لا يحسُّ بمكروه كي يصبر عليه.

وقد روي عن الباقر(عليه السلام) أنَّه ذهب إلى عيادة جابر في مرضه، وسأله: كيف حالك ؟

قال جابر: يابن رسول الله، أصبحت والمرض أحبُّ اليَّ من الصحّة. والفقر أحبُّ إليَّ من الغنى. والذلُّ أحبَّ إليَّ من العزِّ.

فقال له(عليه السلام): أمَّا نحن أهل البيت فلسنا كذلك. فاندهش جابر واضطرب، وسأل: فإذن كيف أنتم؟

فقال(عليه السلام): نحن نرضى بما يريده الله: فإن أراد لنا الغنى أحببنا الغنى. وإن أراد لنا الفقر أحببنا الفقر. وإن أراد لنا المرض أحببنا المرض. وإن أراد لنا الصحّة والسلامة أحببنا الصحّة والسلامة. وإن أراد لنا الحياة أحببنا الحياة. وإن أراد لنا الموت أحببنا الموت(3).

منها تنعُّمه بما يبلى به
وسرورهُ في كلِّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطيّةٌ معروفةٌ
والفقرُ إكرامٌ ولطفٌ عاجل


(1) الوسائل 15 / 100، الباب 1 من جهاد العدوّ الحديث 20.

(2) السورة 75، القيامة، الآيتان: 22 ـ 23.

(3) خزينة الجواهر: ص132.

521

بحلاوت بخورم زهر كه شاهد ساقى است
به ارادت بكشم درد كه درمانم از اوست(1)

ومن هنا وقع الكلام لدى بعض العلماء في أَنَّه ما معنى الصبر الذي نُسِبَ في الروايات إلى أئمّتنا المعصومين(عليهم السلام)؟! وذلك من قبيل ما ورد بشأن الحسين(عليه السلام): « قد عجبت من صبرك ملائكة السماوات...»(2) في حين أنَّهم(عليهم السلام)كانوا بالغين مرتبة الرضا، فتحمُّلهم للرزايا والمحن كان بحلاوة الرضا بقضاء الله، كما ورد عن الحسين(عليه السلام) قوله: « هوَّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله...»(3)، وقد مضى الحديث القائل بشأن الحسين وأصحابه: كانوا كُلَّما اشتدَّ الأمر تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم(4)، ومع تمكُّن الرضا من القلب لا يبقى موضع للصبر.

وقد أجاب عن ذلك بعضهم الذي أشرنا إليه وهو: المرحوم الشيخ عليّ أكبر النهاوندي(رحمه الله) بأجوبة لعلَّ أحسنها جوابان:

الأوَّل: أن يكون المقصود بالصبر المعنى الأعمّ للصبر الشامل للرضا بالرزايا والمحن في جنب الله تعالى.

والثاني: أن يكون إطلاق مقام الرضا بشأنهم بلحاظ جنبتهم التي تلي الربّ، وهي: جنبة روحانيَّتهم ونورانيَّتهم. وإطلاق مقام الصبر بشأنهم بلحاظ جنبتهم التي تلي الخَلْق، وهي: جنبة البشريَّة.

وأقول: إنَّ الجواب الثاني هو الأقوى؛ فإنَّ الإنسان الكامل هو الواجد لكلتا الجنبتين. وقد مضى منَّا في بحث الصبر توضيح أَنَّ الصبر لا ينافي مقام المحبَّة، والتي هي تنشئ الرضا.


(1) خزينة الجواهر: 132 ـ 133.

(2) بحار الأنوار 101 / 322.

(3) بحار الأَنوار 45/46.

(4) راجع بحار الأنوار 6/154، و44/297.

522

السادسة: من علامات حبِّ الله حبُّ أحبَّاء الله، فإنَّ مَنْ أحبَّ أحداً سرى حبُّه إلى أحبَّائه. وهذا هو معنى كون حبُّ أهل البيت(عليهم السلام) شرط الإيمان، وبغضهم علامة النفاق وقد ورد عن أبي الزبير المكّي قال: « سألت جابر بن عبد الله ـ يعني الأنصاري ـ فقلت: أخبرني أيُّ رجل كان عليُّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ قال: فرفع حاجبيه عن عينيه ـ وقد كان سقط على عينيه ـ قال: فقال: ذلك خير البشر. أما والله أن كُنّا لنعرف المنافقين على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) ببغضهم إيّاه»(1).

وهذا هو السرُّ في أنَّ حبَّ عليّ(عليه السلام) وعدمه يكون مقياساً للنجاة وعدمها في عرصات يوم القيامة. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنَّ عليَّ بن أبي طالب(عليه السلام) يجلس في يوم القيامة على كرسيٍّ من النور في الفردوس الذي هو أعلى درجات العلِّيين، وأمامه نهر من تسنيم ـ وهو شراب المقرَّبين الخالص لهم ـ ويشرف من هناك على عرصات القيامة. فَمَنْ كان معه حبُّ عليٍّ وأهل بيته أمرَ(عليه السلام)بإمراره على الصراط وإيصاله إلى الجنّة. ومن لم يكن معه حبُّهم أمرَ به إلى النار(2).

ان عليّاً علا إلى شرف
لو رامه الوهمُ زلَّ مرقاه
مَنْ لم يعاين سموَّ رتبته
فإنَّ ضعفَ اليقينِ أعماه(3)

وهنا قد يغترُّ بعض ويتخيلُّ أَنَّه ـ إذن ـ يكفيه حبُّ عليٍّ(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام)عن كلِّ طاعة، فليفعل ما أراد من الفسق والمجون، ويغفل عن أَنَّ حبَّهم(عليهم السلام) إنَّما ينجيه في عرصات يوم القيامة بقدر صدق ذاك الحبِّ. ويكون حبُّهم صادقاً بقدر طاعته لهم. وها هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: «... ولو عصيت لهويت ...»(4).


(1) معجم رجال الحديث 4 / 12 نقلا عن رجال الكشي.

(2) و (3) خزينة الجواهر: 119.

(4) بحار الأنوار 22 / 467.

523

السابعة: من علامات حبِّ الله انقطاع قلب المحبِّ إلى الله. وقد ورد في مصباح الشريعة عن الصادق(عليه السلام): « العارفُ شخصُهُ مع الخَلْق، وقلبه مع الله، لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه...»(1).

وقيل في الحبّ البشري المجازي التافه: إِنَّ الشيخ الرئيس أبا عليٍّ بن سينا كان في فترة من الزمن في جرجان لدى رجل فاضل عظيم، كان يحبُّ الحكماء، واسمه قابوس، واتَّفق أنَّه ابتلى أحد أقرباء قابوس بمرض مزمن عجزت عن معالجته الأطباء، فأمر قابوس بإحضار الشيخ الرئيس لدى هذا المريض، فحضر الشيخ الرئيس عند المريض، فرآه رجلا شابَّاً، حسن الوجه، متناسب الأعضاء، ولكنَّه هزيل البدن، شاحب اللون. ففحص نبضه، وطلب رجلا يعرف محلاَّت البلد ومواضعها معرفة جيِّدة، فأتوا له بإنسان من هذا النمط، فسأله الشيخ الرئيس عن أسماء محلاّت البلد ـ وهو آخذ بيد المريض وقابض على نبضه ـ فذكر له ذلك الرجل أسماء محلاّت البلد إلى أَن وصل إلى اسم معيَّن لتلك المحلاَّت، فاضطرب نبض المريض بحركة فجائيَّة، فقال الشيخ لذاك الرجل: اذكر لي بيوت هذا المحلِّ، فذكر الرجل تلك البيوت واحداً واحداً إلى أن تحرّك نبض المريض حركة أُخرى، فقال الشيخ: اذكر لي أسماء الساكنين في هذا البيت، فذكر الأسماء وإذا بنبض المريض تحرَّك مرّة ثالثةً لدى ذكر اسم معيَّن من بنات هذه العائلة. وبهذا انتهى فحص الشيخ عن حال هذا المريض، وذكر لمعتمدي قابوس: أَنَّ هذا الشاب قد عشق بنتاً اسمها كذا في المحلَّة الفلانيَّة والبيت الفلاني. ودواؤه وصال مَنْ أحبَّه. ففحصوا عن الأمر، وتبيَّن صدق الشيخ الرئيس في كلامه، فأخبروا قابوساً بذلك، فأحضر قابوس الشيخ، واستفسره عن طريقة كشفه لحقيقة الحال؟ فقال الشيخ: لمَّا نظرت في وجه هذا الشاب، وفحصت نبضه، علمت أنَّ مرضه مرض العشق


(1) المصدر السابق 3 / 14.

524

الدفين، والذي أبقاه سرَّاً في نفسه، فأنهكه السرُّ ثُمَّ اكتشفتُ الشخص المحبوب عن طريق ذكر أسماء المحلاَّت والبيوت وأفراد العائلة، بعلامة اضطراب نبضه لدى ذكر اسم المحلَّة المخصوصة والبيت المخصوص والفرد المخصوص.

فقال قابوس: إنَّ هذا ابن أُخت لي، وتلك بنت أُخت لي، فأوقعوا النكاح بينهما(1).

فإذا كان هذا حال العشق المجازي التافه بين الناس، فما حال الحبِّ الحقيقي لله سبحانه وتعالى؟!

وفي الختام أُؤكّد أمرين:

الأوّل: ليس المقصود بالانقطاع إلى الله ما يشتمل على الانطواء عن حياة الدنيا، والاعتزال عن المجتمع كما قد يفهمه بعض الناس، فإنَّ من شأن محبَّة الله أن يُطبِّق الإنسان ما أراده الله تعالى من مسألة خلافة الله على وجه الأرض، وإنَّما المقصود به أنَّ العارف بالله يتلوَّن ـ كلّ الحياة عنده ـ بلون الله تعالى، فلا يفعل شيئاً إلاَّ لله، وبالطريقة التي فيها مرضاة الله.

ولنعم ما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(2): من أنَّه تختلف الشريعة الإسلاميّة عن اتِّجاهين دينيين آخرين وهما:

أوّلا: الاتِّجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.

ثانياً: الاتِّجاه إلى حصر الحياة في إِطار ضيِّق من العبادة كما يفعله المترهبنون والمتصوِّفون.

أمّا الاتِّجاه الأوَّل الذي يفصل بين العبادة والحياة: فيدع العبادة للأماكن الخاصَّة المقرَّرة لها، ويطالب الإنسان بأن يتواجد في تلك الأماكن؛ ليؤدِّي لله


(1) خزينة الجواهر: 133 ـ 134.

(2) راجع نظرة عامّة في العبادات في آخر كتاب الفتاوى الواضحة.

525

حقَّه، ويتعبَّد بين يديه حتّى إذا خرج منها إلى سائر حقول الحياة ودَّع العبادة، وانصرف إلى شؤون دنياه إلى حين الرجوع ثانية إلى تلك الأماكن الشريفة.

وهذه الثنائيَّة بين العبادة ونشاطات الحياة المختلفة تشلُّ العبادة، وتُعطِّل دورها التربوي البنَّاء في تطوير دوافع الإنسان، وجعلها موضوعيّة، وتمكينه من أن يتجاوز ذاته ومصالحه الضيِّقة في مختلف مجالات العمل ...

إلى أن قال(رحمه الله) ( وهذا هو المقطع الذي أردنا أن نستشهد به في المقام ):

وأمَّا الاتِّجاه الثاني الذي يحصر الحياة في إطار ضيِّق من العبادة، فقد حاول أن يحصر الإنسان في المسجد بدلا عن أن يمدِّد معنى المسجد ليشمل كلَّ الساحة التي تشهد عملا صالحاً للإنسان.

ويؤمن هذا الاتِّجاه بأنَّ الإنسان يعيش تناقضاً داخليَّاً بين روحه وجسده، ولايتكامل في أحد هذين الجانبين إلاّ على حساب الجانب الآخر، فلكي ينمو ويزكو روحيَّاً يجب أن يحرم جسده من الطيِّبات، ويقلِّص وجوده على مسرح الحياة، ويمارس صراعاً مستمرَّاً ضدَّ رغباته وتطلُّعاته إلى مختلف ميادين الحياة؛ حتّى يتمّ له الانتصار عليها جميعاً عن طريق الكفِّ المستمرِّ، والحرمان الطويل، والممارسة العباديَّة المحدَّدة.

والشريعة الإسلاميَّة ترفض هذا الاتِّجاه أيضاً؛ لأنّها تريد العبادات من أجل الحياة، فلا يمكن أن تصادر الحياة من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلِّ تصرفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنَّه يكفُّ عن النشاطات المتعدّدة في الحياة، ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحوِّل تلك النشاطات إلى عبادات، فالمسجد منطلق للإنسان الصالح في سلوكه اليومي، وليس محدداً لهذا السلوك ...

والثاني: لا يتوهَّم أحد: أنَّنا إذا انتهينا إلى حبِّ الله فقد استغنينا عن الطاعة؛ لأنَّ

526

حبَّ الله هو غاية الغايات بالقياس إلى مقامات عامَّة الناس؛ وذلك لأنَّ أهمَّ علائم حبِّ الله وأوَّلها هو طاعته عزَّ وجلَّ، والمحبُّ مطيع لمن أحبَّه بقدر حبِّه، فبقدر ما يعصي قد ابتعد عن حبِّ الله؛ لأَنَّه خالف مرضاة الله، واستحقَّ بذلك العذاب.

وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في خطبته التي خطبها في مرض وفاته: « ... معاشر الناس ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شراً إلاَّ العمل. أيُّها الناس لا يدَّعي مدَّع، ولا يتمنّى متمنٍّ، والذي بعثني بالحقِّ نبيَّاً لا يُنجي إلاَّ عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللَّهم هل بلَّغت»(1).

 


(1) بحار الأنوار 22/467.