391

 

 

 

 

الفصل الثامن عشر

ا لتــــو كّـــل

 

قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَد جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً﴾(1).

روي عن معاوية بن وهب، عن الصادق(عليه السلام)(2) قال: «من أعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، ومن أُعطي التوكّل أُعطي الكفاية. ثُمّ قال: أتلوت كتاب الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...﴾(3) وقال: ﴿... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ...﴾(4) وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...﴾(5).

ورد في عرفان بعض العرفاء المنحرفين عن خطّ أهل البيت(عليهم السلام): أنّ التوكّل كلة الأمر كلّه إلى مالكه والتعويل على وكالته. وهو من أصعب منازل العامّة عليهم، وأوهى السبل عند الخاصّة: أمّا كونه من أصعب منازل العامّة عليهم فلأنّهم غائصون في الأسباب الظاهريّة والماديّة، ومنهمكون في ذواتهم، وغافلون عن


(1) السورة 65، الطلاق، الآية 2 ـ 3.

(2) اُصول الكافي 2 / 65، باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه، الحديث 6.

(3) السورة 65، الطلاق، الآية: 3.

(4) السورة 14، إبراهيم، الآية: 7.

(5) السورة 40، غافر، الآية: 60.

392

المؤثّر الحقيقي الواحد الأحد، فمن الصعب عليهم أن يوكّلوا الله سبحانه في أُمورهم ويعتمدوا عليه، لا على أنفسهم، ولا على ما يحسّون به من الأسباب. وأمّا كونه أوهى السبل لدى الخاصّة فلعلمهم بأنّ الحقَّ ـ تعالى ـ قد وكلّ الاُمور كلَّها إلى نفسه، وأيأس العالم من ملك شيء منها. وأشرف الناس وأكملهم وهو الرسول (صلى الله عليه وآله)، مُخاطَب بقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ...﴾ فكيف بأدونهم وأضعفهم، فإذا لم تكن أُمورهم بأيديهم وكان الملك بأسره له، فأيّ شيء يكلونه إلى الله ويسلّمونه إليه ؟ ! وفي أيّ شيء يجعلونه وكيلاً لهم؟! فكان التوكّل أضعف السبل عندهم.

ثُمّ قال: التوكّل على ثلاث درجات كلّها تسير مسير العامّة:

الدرجة الاُولى: التوكّل مع الطلب والسعي من وراء الأسباب، فبرغم أنّ التوكّل يقتضي بذاته عدم الاهتمام بالأسباب، ولكنّه يريد أن يلهي نفسه بالأسباب وما لديه من صنعة، أو تجارة، أو عمل؛ كي يقع في طريق نفع الناس، ولينشغل بما هو خير، خشية أن لو بقي فارغاً قد تَطلُب نفسه طرق الهوى، على أنّه لو اكتفى بالتوكّل وكفاه الله اُموره من دون سعي وراء الأسباب، قد يحسن ظنّ الناس به، فيحصل عنده العجب والدعوى، ففي معاطاته للأسباب وتشبّهه بالعوام، الخلاص من هذه الأمراض.

والدرجة الثانية: التوكّل مع ترك الطلب وغضّ العين عن السبب: من صنعة، أو تجارة، أو ما إلى ذلك من الاُمور؛ وذلك اجتهاداً منه في تصحيح التوكّل؛ لأنّ من يسعى من وراء الأسباب قد يكون غير واصل إلى مرتبة التوكّل، ولكنّه يتخيل الوصول إليها، أمّا إذا انقطع عن السبب وابتلى بالفقر والعدم، فقد يتّضح له عدم تمامية مقام التوكّل عنده خصوصاً لدى شدّة الجوع، فعليه أن يصحّح توكّله بانقطاعه عن الأسباب، هذا إضافة إلى أنّ تعلّقه بالأسباب الشريفة عند الناس: من

393

تجارة، ومهنة محترمة، قد يجعل النفس طالبة للتشرف بذلك، والتعزّز به، ولحفظ ماء الوجه، في حين أنّ تركه لهذه الأسباب يؤدّي إلى قمع تشرّف النفس وكسرها من ناحية، وإلى التفرّغ لحفظ واجبات الطريقة من ناحية اُخرى.

والدرجة الثالثة: هي التشبّه بالمتوكّلين، وليس صاحبها متوكّلاً في الحقيقة ؛ وذلك لمعرفته لعلل التوكّل المؤدّية إلى خلاصه من تلك العلّة؛ وذلك لأنَّه علم أنَّ الملك خالص لله لا يشاركه أحد، وليس بيده شيء كي يكله إلى الله تعالى. فهذا صاحب مقام فوق التوكّل، ولكنّه يشبه المتوكّل في قطع النظر عن الأسباب فقط(1). انتهى ملخصاً.

أقول: إنّ توهّم أنّ الالتفات إلى أنَّنا لانملك شيئاً، وأنّ الملك كلَّه لله لا يبقي مجالاً للتوكّل يجب أن ينشأ من أحد أُمور، وكلُّها باطل:

الأوّل: بيان أنّه لئن كان كلُّ شيء ملكاً لله فما معنى توكيله في أمر ما ؟ ! فإنّ الموكّل إنّما يتّخذ الوكيل فيما يملكه هو لا فيما يملكه موكّله.

والجواب: أنّ هذا إنّما يبطل التوكّل بمعنى التوكيل الذي اعتبر في الفقه عقداً من العقود، أمّا إذا قُصِدَ به مجرّد الاعتماد عليه فلا يأتي فيه هذا البيان. ويمكن أن يُسمَّى ذلك بالتوكيل الفقهي، ولكن مجازاً باعتبار الملكية المجازية التي فرضها الله لنا في الأُمور.

والثاني: بيان أنّ العبد لا معنى لإرادته لما في صالحه حتّى يتوكّل في تحقيق ذلك على الله، بل المفروض بالعبد أن لا يريد إلاّ ما أراده الله.

والجواب: أنّ أصل حبِّ الذات وحبِّ المصلحة أمر ذاتيّ للإنسان، وفرضُ انفكاكه عنه خيالٌ طوبائي كما مرّت الإشارة إليه، نعم، له أن يفدي بذلك في سبيل


(1) راجع منازل السائرين باب التوكّل من قسم المعاملات وشرحه للكاشاني: 75 ـ 77 وشرحه الآخر للتلمساني: 197 ـ 201.

394

ما يريده الله، لكنّه يبقى تمنّي أن يكون ما يريده الله مطابقاً لمصلحته ـ كما هو الواقع ـ وفي ذلك يتوكّل على الله.

والثالث: بيان أنّ العبد لا يملك اختياراً؛ لأنّ أفعاله وتروكه تُنسب إلى الله مباشرة، أو أنّه مجبور في الاختيار، فهو على أيِّ حال لا يستطيع أن يفعل شيئاً من تلقاء نفسه حتّى يتوكّل في ذلك على الله، وإنّما الفاعل المطلق هو الله، وهو مفاد التوحيد في الفعل.

فإن كان هذا هو المقصود قلنا: إنّ أساس هذا التوهّم هو: الغفلة عمّا أسماه أ ئمّتنا سلام الله عليهم بأمر بين الأمرين، والغافلون عن ذلك يكونون بين قائِل بالجبر ومنكر للاختيار وبين قائل بالجبر على الاختيار، وهو في روحه عين الجبر، ولا يصحّ معه ثواب ولا عقاب. أمّا على مسلك الشيعة ـ أعزّهم الله ـ التابعين لأئمّتهم القائلين بالاختيار الذي هو أمر بين الأمرين، فقد بقي للعبد شيء، وهو: الاختيار وإن كان ما في هذا الشيء من السلطة والقدرة مفوّضاً إليه من الله آناً فآناً، وهو أحد معاني الأمر بين الأمرين، وإذا بقي له الاختيار بقي المجال الواسع للتوكّل والتوكيل. وشرح ذلك من زاوية التحليل العقلي يُطلب من حديثنا في باب الطلب والإرادة في علم الاُصول، ولكنَّني أذكر هنا عدداً من الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام):

الاُولى: صحيحة يونس بن عبدالرحمن عن غير واحد، عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) قالا: «إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثُمّ يعذّبهم عليها. والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون. قال: فسئلا(عليهما السلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض»(1).


(1) الكافي 1 / 159 كتاب التوحيد، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، الحديث 9. والمقصود بالقدر في هذا الحديث هو: التفويض لا الجبر، فإنّ القدرية استعملت تارة في المجبّرة واُخرى في المفوّضة. راجع مرآة العقول 2 / 178 و 192.

395

أقول: ما نتصوّره: أن يكون مقصوداً له(عليه السلام)، ويكون أوسع ممّا بين السماء والأرض هو أحد أمرين وكلاهما صحيح:

الأوّل: أنّ الله زوّد البشر بكلِّ الطاقات التي يأتي بها الفعل أو يتركه، وزوّده بالقدرة والسلطان، ويفيض عليه في كلِّ آن وجوده وطاقاته وقدرته وسلطانه، ثُمّ العبد هو الذي يُعمل سلطانه الذي زوّده الله به وأفاضه عليه حتّى في ساعة الفعل أو الترك ـ يُعمِله ـ في جانب الفعل أو الترك.

والثاني: ما مضت الإشارة إليه في آخر النقطة الرابعة من الحلقة الأُولى من هذا الكتاب من: أنّ فعل العبد مستند بتبع نفس العبد إلى الله سبحانه بالإضافة الإشراقيّة وذلك لا ينافي الاختيار.

والثانية: أيضاً عن يونس، عن عدّة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قال له رجل: جعلت فداك، أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثُمّ يعذّبهم عليها. فقال له: جعلت فداك، ففوّض الله إلى العباد ؟ قال: فقال: لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك، فبينهما منزلة ؟ قال: فقال: نعم، أوسع ما بين السماء والأرض(1).

والثالثة: ما روي عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمّد وغيرهما رفعوه، قال: «كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثُمّ قال له: يا أميرالمؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر ؟


(1) المصدر السابق: الحديث 11.

396

فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة، ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر.

فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أميرالمؤمنين ؟

فقال له: مَهْ يا شيخ ! فوالله لقد عظَّم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ: وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا ؟ !

فقال له: وتظنّ أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً ؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر من الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب، ولا محمدة للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب. تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وخصماء الرحمان، وحزب الشيطان، وقدرية هذه الأُمّة ومجوسها.

إن الله ـ تبارك وتعالى ـ كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يملّك مفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثاً. ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فأنشأ الشيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته
يومَ النجاةِ من الرحمنِ غفرانا
أوضحتَ من أمرنا ما كانَ ملتبساً
جزاك ربُّك بالإحسان إحسانا»(1)

والرابعة: حديث الوشّا عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: «سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد ؟ قال: الله أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي ؟ قال: الله


(1) المصدر السابق: ص 155 ـ 156، الحديث 1.

397

أعدل وأحكم من ذلك. قال: ثُمّ قال: قال الله: يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيّئاتك منّي. عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك»(1).

انظر إلى هذه الرواية الطريفة كيف تشير إلى إفاضة القدرة من الله وانتساب الفعل إلى العبد، وتقول عن لسان الله تعالى: « يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك »؛ لأنّ قدرتك عليها منّي. « وأنت أولى بسيّئاتك منّي »؛ لأنَّ قدرتك التي أخذتها منّي صرفتها فيما هو مبغوض لي بحسب عالم التشريع.

والخامسة: الرواية المرويّة عن جعفر الصادق(عليه السلام) أنّه قال لقدريّ: «اقرأ الفاتحة، فقرأ، فلمّا بلغ قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(2). قال له جعفر(عليه السلام): على ماذا تستعين بالله وعندك أنّ الفعل منك، وجميع ما يتعلّق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمّت ؟ ! فانقطع القدريّ»(3).

أمّا ما قاله صاحب منازل السائرين من: أنّ الدرجة الثانية للتوكّل تشتمل على ترك الأسباب طلباً للاجتهاد في التوكّل، فهذا كلام باطل؛ وذلك لأنّ الله تعالى وإن كان هو المدبّر للأُمور ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾(4) وهو ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ...﴾(5).

إلاّ أنّ تدبيره على نمطين:

أحدهما: تدبيره لما لا يعقل ولا يدرك ولا يريد ولا يختار كما في الجمادات والنباتات، فهو يدبّر أمرها أفضل تدبير من دون توسّط اختيار تلك الأُمور


(1) المصدر السابق: ص 157 الحديث 3.

(2) السورة 1، الحمد، الآية: 5.

(3) مرآة العقول: 2 / 179.

(4) السورة 32، السجدة، الآية: 5.

(5) السورة 32، السجدة، الآية: 7.

398

للأسباب التي خلقها الله أو التي جعلها الله أسباباً؛ لأنَّ تلك الاُمور لا اختيار لها. فالنباتات ـ مثلاً ـ التي لا حظّ لها من الاختيار، لا تختار لنفسها أسباب النموّ، وإنّما الله ـ تعالى ـ يدبّر لها أسباب النموّ بشكل طبيعي كما في الغابات، أو بإلهام البشر للتعهّد بذلك كما في النباتات الأهليّة من دون جعل اختيارها إيّاها حلقة من حلقات تدبير اُمورها، بل وكذلك الحال في الطفل الذي لم يعطه الله حولاً ولا طولاً للدفاع عن نفسه، فتراه تعالى يلهم أباه وأُمّه الدفاع عنه وتهيئة أسباب تنميته.

وثانيهما: تدبيره للوجودات التي خلق لها العقل والإرادة والقدرة والاختيار في الحدود التي زوّدها الله بهذه الأُمور، فتدبيره لها في تلك الحدود عبارة عن نفس تزويده إيّاها بهذه الأُمور وتهيئة الأسباب الطبيعيّة لها. فلو أنّ أحداً ترك أسباب بقاء الحياة من كسب أو أكل أو شرب أو ما إلى ذلك ثُمّ مات، لم يكن له القول بأنّ الله لم يدبّر أمري، أو أنّ التوكّل على الله لم يفدني بتقصير من الله. ولو أنّ أحداً استفاد من تلك الأسباب التي خلقها الله أو الآثار التي أودعها الله فيها، واستفاد ممّا زوّده الله به من عقل وعلم وقدرة ومشيئة وما إلى ذلك، لم يكن معنى ذلك الخروج عن تدبير الله والدخول في تدبير نفسه. ولو أنّ أحداً قال: إنّي متّكل على الله وعلى تدبيره لأُموري، فترك الاستفادة من طريقة تدبير الله تعالى لأُموره، وهي: تهيئة الأسباب له، وتزويده بقدرة الكسب والعمل والصنعة والتجارة، لم يكن هذا توكّلاً، بل هذا خبال وجنون؛ فإنّ من يتوكّل على الله ينهج المنهج الذي عيّنه الله له في حصول التدبير معتمداً على الله لا على ذلك المنهج، فإنّ إبقاءه متمكّناً من ذاك المنهج وعدمه بيد الله، وإيصال ذاك المنهج إلى الهدف المقصود وعدمه بيد الله. فمن باب المثل نقول: نحن نعلم: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو

399

الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾(1) ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾(2) ونحن نعلم ـ أيضاً ـ أن الشافي هو الله ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾(3) ولكن هذا لايعني: أ نّني لو لم أسع في سبيل تحصيل الخبز أو لم أراجع الطبيب فبقيت جوعاناً أو مريضاً، أنتظر ـ عندئذ ـ أن يطعمني أو يشفيني، فإنّ إطعامه إيّاي عبارة عن إقداره لي على كسب الخبز، كي اكسب الخبز وآكله، وشفاؤه لي عبارة عن إقداري على مراجعة الطبيب، وتحصيل الدواء، وجعله للشفاء في ذاك الدواء.

وهذا الذي قلناه يتمّ حتّى على المبنى الفاسد القائل بأنّنا مجبورون على الاختيار، أو المبنى الفاسد القائل بالجبر الصريح. فعلى كلِّ حال يكون المتوكّل في تناول الأسباب اختياراً أو جبراً معتمداً على الله، لا على الأسباب التي يكون الله ـ تعالى ـ قادراً على خرقها. ولنذكر لك بعض الشواهد على المقصود من الروايات المروية عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام):

1 ـ عن الصادق(عليه السلام): «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(4).

2 ـ عن معلّى بن خنيس قال: «سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن رجل وأنا عنده، فقيل له: أصابته الحاجة. قال: فما يصنع اليوم ؟ قيل: في البيت يعبد ربّه. قال: فمن أين قوته ؟ قيل: من عند بعض إخوانه. فقال أبو عبدالله(عليه السلام): والله للّذي يقوته أشدّ عبادة منه»(5).

3 ـ ما ورد عن عمر بن يزيد بسند تام قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل قال:


(1) السورة 51، الذاريات، الآية: 58.

(2) السورة 26، الشعراء، الآية: 79.

(3) السورة 26، الشعراء، الآية: 80 .

(4) من لا يحضره الفقيه 3 / 94، الباب 58، الحديث 3، ورقم التسلسل العامّ للحديث 355.

(5) الكافي 5 / 78، كتاب المعيشة، باب الحث على الطلب والتعرض للرزق، الحديث 4.

400

لأقعدنّ في بيتي، ولأُصلّينّ، ولأصومنّ، ولأعبدنّ ربّي، فأمّا رزقي فسيأتيني، فقال أبو عبدالله(عليه السلام): هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم»(1).

4 ـ ورد عن الوليد بن صبيح قال: «سمعته يقول: ثلاثة تردّ عليهم دعوتهم: رجل رزقه الله مالاً فأنفقه في غير وجهه، ثُمّ قال: يا ربّ ارزقني، فيقال له: ألم أرزقك. ورجل دعا على امرأته وهو لها ظالم، فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك. ورجل جلس في بيته وقال: يا ربّ ارزقني فيقال له: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق ؟ !»(2).

وبعد فقد اتّضح أنّ التوكّل معناه: الاعتماد على الله ـ سبحانه وتعالى ـ في تسيير الأُمور من دون منافاة ذلك لتعاطي الأسباب ولا مطلوبية عدم التعاطي، بل مع مطلوبية تعاطي الأسباب. ومن يدّعي التوكّل مع ترك الأسباب كان كمن يدّعي الرجاء مع ترك التوبة، وفعل المعاصي.

 

ومظاهر التوكّل أُمور أربعة:

أوّلاً: إنّ المتوكّل برغم تعاطيه للأسباب ليس اعتماده القلبي عليها، بل على مُسبِّب الأسباب القادر في أيّ لحظة على أن يحول بيننا وبين الأسباب، أو بين الأسباب وبين تأثيرها ﴿وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحولُ بَيْنَ المرءِ وَقَلْبِهِ ...﴾(3) فكيف لا يحول بين المرء والأسباب، أو بين الأسباب وتأثيرها ؟ ! ووجودنا ووجود الأسباب وتوصّلنا إلى الأسباب وإلى نتائج الأسباب كلّها بافاضة مستمرّة من الله


(1) المصدر السابق 1 / 77.

(2) الكافي 2 / 511، كتاب الدعاء، باب مَنْ لا تستجاب دعوته، الحديث 3. وأمّا قوله: «وهو لها ظالم» فقد فسّره المجلسي(رحمه الله) بأنّه ظالم لها بدعائه عليها؛ لأنّه قادر على التخلص منها بوجه آخر. راجع مرآة العقول 12 / 176.

(3) السورة 8، الانفال، الآية: 24.

401

لحظة فلحظة.

ثانياً: إنّ المتوكّل حقّ التوكّل يكون صاحب نفس مطمئنّة، أي: لا يشوبه قلق أو اضطراب إذا خانته الأسباب، أو أبطأت عن الانتاج أو انحرم هو من الأسباب، أو أبطأ حصوله عليها «... وَلَعَلَّ الَّذي أَبطَأَ عَنّي هوَ خَيرٌ لي لِعِلمِكَ بِعاقِبَةِ الأُمور...»(1)، ولعلَّ هذا أحد معاني الاطمئنان في قوله تعالى: ﴿يَا أَ يَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(2).

ثالثاً: إنّ المتوكّل على الله لا يتعاطى الأسباب المحرّمة؛ لأنّه إنّما يتعاطى الأسباب من باب أنّ الله أمرنا بتعاطيها، والله تعالى لم يأمرنا بتعاطي الأسباب المحرّمة، فتركها لا يؤدّي إلى الحرمان من حصول النتيجة أو إبطائها إلاّ إذا دخل في قوله: «... وَلَعَلَّ الَّذي أَبطَأَ عَنّي هوَ خَيرٌ لي...».

رابعاً: إنّ تعاطي الأسباب من قبل المتوكّل لا يكون على شكل الحرص واللهوث وتحميل النفس ما يزيد على طاقتها الاعتياديّة؛ لأنّ كلّ هذا غير مأمور به. وقد قلنا: إنّ المتوكّل إنّما يتعاطى الأسباب لأجل أنّ الشريعة أمرته بذلك.

 


(1) دعاء الافتتاح.

(2) السورة 89، الفجر، الآيات: 27 ـ 30.

403

 

 

 

 

الفصل التاسع عشر

ا لتــفو يـــض

 

قال الله تعالى نقلاً عن لسان مؤمن آل فرعون:

﴿... وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(1).

يمكن تفسير التفويض بعين معنى التوكّل. ويمكن تفسيره بما هو فوق التوكّل؛ لأنّ التوكّل يعني: الاعتماد على الله أو توكيله فيما نريد. والتفويض يعني: إرجاع الأُمور إليه فيما هو يريد لا فيما نحن نريد، فنحن بين يديه كالميّت بين يدي الغسّال.

 


(1) السورة 40، غافر، الآية: 44.

405

 

 

 

 

الفصل العشرون

ا لثـــقـة

 

قال الله تعالى: ﴿... فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(1).

قال أبو إسماعيل عبدالله الأنصاري: «الثقة سواد عين التوكّل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم»(2).

وحاصل هذا الكلام: أنّ الثقة نقطة محورية لتلك الأوصاف الثلاثة الأُخرى. وهذا كلام صحيح، ولولا الثقة بالله لما حصل شيء من تلك الصفات.

ثُمّ يقسم الثقة على ثلاث درجات، ولكنّنا حذفنا ذلك إيماناً منّا بعدم صحّة هذا التقسيم في كثير من الصفات التي قسّمها إلى الدرجات الثلاث.

 


(1) السورة 28، القصص، الآية: 7.

(2) منازل السائرين، أبواب المعاملات، باب الثقة.

407

 

 

 

 

الفصل الواحد والعشرون

ا لتســــليم

 

قال الله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(1).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾(2).

وقال عزّوجلّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(3).

الظاهر: أنّ التسليم في الآية الاُولى والثالثة عبارة عن التسليم في الأُمور التشريعية. والتسليم في الآية الثانية عبارة عن التسليم بصدق وعد الله ورسوله. ومن هنا يبدو أنّ مصطلح التسليم الذي يعتبر من إخوة التوكّل والتفويض غير وارد في القرآن الكريم.

ولو أردنا افتراض فرق بين التفويض والتسليم فلابدَّ أن يفترض أنّ التفويض يشتمل على الفناء في قدرة الله والاعتراف بالعجز، فالعبد ـ عندئذ ـ يبرأ من حوله


(1) السورة 4، النساء، الآية: 65.

(2) السورة 33، الأحزاب، الآية: 22.

(3) السورة 33، الأحزاب، الآية: 56.

408

وقوّته إلى حول الله وقوّته. وأمّا التسليم فيشتمل زائداً على ذلك على الفناء في علم الله والاعتراف بالجهل.

وعلى أيّة حال، فقد قال بعض العرفاء المنحرفين عن خط اهل البيت (عليهم السلام): إنّ الصفات الأربع الأخيرة أعني: التوكّل والتفويض والثقة والتسليم كلُّها من الدرجات الرفيعة لعامة الناس. وأمّا الخاصّة فيتجاوزون هذه المقامات لما فيها من الاعتلال؛ لأنّها جميعاً مشتملة على نسبة الأشياء إلى غير الحقِّ تعالى جهلاً بحقائق الاُمور؛ إذ لولم تنتسب الأشياء إلى غير الحقِّ ففي ماذا يتحقّق التوكّل أو التفويض أو الثقة أوالتسليم ؟ ! إلاّ أنّ التوكّل يشتمل زائداً على ذلك على نقطة ضعف اُخرى، وهي: أنّ المتوكّل فرض مصالحَ لنفسه، فجعل الحقَّ وكيلاً عنه في تلك المصالح، فالتوكّل أدنى مرتبة من التفويض؛ لأنّ علله أكثر منه، كما أنّ التفويض أدنى مرتبة من التسليم؛ لأنّ التسليم يشتمل على الفناء في علم الله والاعتراف بالجهل، في حين أنّ التفويض غير مشتمل على ذلك، فالتسليم أقرب إلى التوحيد الذاتي(1).

أقول: قد اتَّضح بطلان هذا الطرز من التفكير ممّا شرحناه في بحث التوكّل فلا نعيد.

ونضيف هنا: أنّ المقصود بالتوحيد الذاتي لو كان وحدة الوجود بالمعنى الذي ينكر الوجود المغاير لوجود الله للممكنات حتّى بمعنى الوجود التبعي والتعلّقي وقد يُسمّى بوحدة الموجود، فهذا ما أوضحنا بطلانه في محله، وليس هنا مجال بحثه.

 


(1) راجع شرح منازل السائرين للكاشاني: 82 ـ 83 .

409

 

 

 

 

الفصل الثاني والعشرون

ا لصـــــبر

 

من هنا إلى الفصل الثلاثين سُمِّي بالأخلاق، وقيل: الأخلاق مواريث المعاملات، فإنّ الأخلاق ملكات في النفس يصدر معها الأفعال من النفس محمودة بلا رويّة، فإذا تكرّرت المعاملات القلبية مع الله بالنيّات الصادقة ظهرت من دوام تكررها هيئات راسخة في النفس؛ لتنوّرها بنور القلب وصفائه الحاصل ببركة المعاملات، فيسهل عليه بسبب تلك الهيئات صدور الفضائل والخيرات عنها وسلوك الطريقة(1).

قال الله عزّوجلّ: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاق وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2).

وقال عزّ من قائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب﴾(3).

وقال عزّ اسمه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الأَموَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا


(1) شرح منازل السائرين للكاشاني، أبواب الأخلاق، باب الصبر: 84 ـ 85 .

(2) السورة 16، النحل، الآية: 96.

(3) السورة 39، الزمر، الآية: 10.

410

إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(1).

وقال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(2).

وقال عزّ وعلا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(3).

وإليك بعض روايات الصبر:

1 ـ ورد في حديث صحيح السند عن فضيل بن يسار، عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان»(4).

ولعلَّ السرّ في افتراض الصبر رأساً للإيمان واضح:

فأوّلاً: الصبر على الطاعة وترك المعصية رأس الإيمان؛ لأنّ نفس الإنسان معجون خُلِقَ من شهوات وغرائز من ناحية، ومن العقل والحكمة من ناحية اُخرى، فليس هو كالحيوان الذي لا يمتلك إلاّ الشهوات، فلا يفترض بشأنه الصبر على مخالفتها أو تركها أو معاكستها، ولا هو كالملَك الذي لا يمتلك إلاّ العقل والمعرفة، فليست له شهوة يفترض صبره في مقابلتها.

فالصبر يعني: تغليب جيش العقل على جيش الشهوة اللذَين هم مصطفّان للقتال في نفس المؤمن، فمن الطبيعي أن يكون الصبر هو رأس الإيمان.

وثانياً: الصبر على المصيبة، يعني: حفظ الهدوء في مقابل المصيبة بقدر انتسابها


(1) السورة 2، البقرة، الآيات: 155 ـ 157.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 153.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 45.

(4) اُصول الكافي: 2 / 89، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 5.

411

إلى الله سبحانه، وإن كان لابدّ له من الدفاع عن نفسه ـ لو كان منتسباً إلى عدوّ له ـ بقدر انتسابها إلى العدوّ، بل ولابدّ له ـ أيضاً ـ من سلوك طريق العلاج في المصائب الإلهية بقدر ما يسّر الله له من العلاج. فهذا كلّه لا ينافي الصبر في مقابل المصيبة بمعنى حفظ التوازن وعدم الخروج على الله بالجزع والشكوى إلى غير الله. ومن الواضح: أنّ عدم الخروج على الله بذلك يعتبر رأس الإيمان. نعم، لا بأس بالشكوى إلى الله تعالى كما قال يعقوب(عليه السلام): ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

2 ـ ورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن حمزة بن حمران، عن الباقر(عليه السلام) قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة. وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار»(2).

وتفسير هذه الرواية واضح: فإنّ احتفاف الجنّة بالمكاره وجهنم باللذات هو الافتتان الوارد في قوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(3).

ولو كان العكس هو الواقع، أي: أنّ الجنّة كانت محفوفة باللذات، وجهنّم محفوفة بالمكاره لأصبح الناس كلُّهم مؤمنين.

3 ـ عن أبي سيّار، عن الصادق(عليه السلام) قال: «إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مظلّ عليه ] وفي بعض النسخ مطلّ عليه [ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 86 .

(2) اُصول الكافي 2 / 89 ـ 90، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 7.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآيات: 1 ـ 3.

412

للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه»(1).

ولعلّ هذا الحديث يؤكّد فكرة تجسّم الأعمال، أو أنّه تمثيل وتقريب إلى الذهن لتأثير المعنويّات والأعمال لو لم نقبل بمسلك تجسّم الأعمال.

4 ـ عن عليّ(عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّ مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسع مئة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش»(2).

هذه الرواية قسّمت الصبر إلى ثلاثة أقسام: الصبر على المصيبة، والصبر على الطاعة، والصبر على ترك المعصية.

ولكن أكثر آيات الصبر التي أشرنا في مستهلّ الحديث إلى بعضها واردة في مورد الصبر على المصيبة وإن أمكن دعوى الإطلاق فيها، نعم، يمكن استثناء آيتي:﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ...﴾.

وقد ورد تفسير الصبر في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ بالصوم(3).

وكأنّ المقصود: التفسير بالفرد المناسب لمورد الآية باعتبار قرنه بالصلاة


(1) اُصول الكافي 2 / 90، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، الحديث 8 .

(2) المصدر السابق: ص 91، الحديث 15.

(3) راجع تفسير البرهان 1 / 94.

413

لا حصره بذلك. وكذلك ورد تفسيره بالصبر على ترك الحرام(1).

وعلى أيّة حال، فالذي يُفهم من هذه الرواية: أنّ الصبر على الطاعة أفضل من الصبر على المصيبة، وأنّ الصبر على ترك المعصية أفضل من الصبر على الطاعة. وهذا أمر واضح الصحّة؛ فإنّ الصبر على الطاعة صبر على تكاليف الله تعالى، فمن الطبيعي أن يكون أفضل من الصبر على المصائب المادية: من فقد مال أو ولد أو نحو ذلك. والمقصود بالصبر على الطاعة: الصبر على فعل الواجبات، في حين أنّ المقصود بالصبر على ترك المعصية: الصبر على مخالفة الشهوات النفسية وترك اللذائذ المحرّمة. ومن الطبيعي أنّ الثاني أصعب بكثير من الأوّل؛ ولهذا أصبح الصبر عن الثاني أفضل من الصبر على الأوّل. أمّا لو غضضنا النظر عن هذا التحديد فسيتّحد الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية؛ لأنّ ترك الطاعة معصية، وترك المعصية طاعة.

ولكن قال بعض: إنّ الصبر على الطاعة فوق الصبر عن المعصية؛ وذلك لأنّ الصابر عن المعصية مشتغل بقلبه في وساوسها، والمشتغل بالطاعة سالم من هذا الوسواس، فمقامه فوق مقام ذلك الآخر، خصوصاً إذا صبر على دوامها، وحافظ عليها من النقص، وفعلها في الأوقات المشروعة من غير تفويت(2).

أقول: بناءً على هذا البيان فالصبر على الطاعة ـ أيضاً ـ فيه اشتغال قلبه بوسوسة ترك الطاعة وراحته، وربّ إنسان يطيع الله في الواجبات في حين أنّه لا يتورّع عن مقارفة المحرمات، بينما المتورع عن مقارفة المحرمات والصابر عنها يكون ملتزماً عادة بالواجبات.

ومن الطريف ـ أيضاً ـ ما قاله بعض المنحرفين عن خط أهل البيت(عليهم السلام): من أنّ


(1) المصدر السابق.

(2) راجع شرح منازل السائرين للتلمساني قسم الأخلاق: 222.

414

الصبر من منازل العامّة دون الخاصّة؛ وذلك لأنّ الخاصّة وصلوا إلى مستوى المحبّة، والمحبّ يلتذّ بالعذاب الذي أراده محبوبه، فليس له ألم حتّى يصبر عليه، فيتناقض الصبر والمحبّة كما قيل:

أُريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أُريد لما يريد

وقيل:

وكلُّ لذيذة قد نلتُ منه
سوى ملذوذِ وجدي بالعذابِ

وأيضاً إنّ الصبر أمر منكر في طريق التوحيد، بل هو أنكر من كلِّ منكر؛ وذلك لأنّ فيه قوّة الدعوى؛ لأنّ الصابر يدّعي قوّة الثبات، فيلزم من هذا أنّه يعتقد أنّ لنفسه قوّة، وأنّ تلك القوّة عظيمة. وهذا مبالغة في البهتان؛ إذ ليس لأحد قوّة أصلاً؛ لأنّ القوّة لله جميعاً، وبذلك يشهد التوحيد، والتوحيد يقتضي فناء النفس، فيكون الصبر أنكر؛ لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات(1).

أقول: هذا الكلام ناتج من عدم الإيمان بالوجود التعلّقي، ومن الغفلة عن ذاتيّة الآلام المادّية للإنسان لدى المصائب من وجه، والتي لا تنافي الالتذاذ المعنوي بما أراده الله وبالقيام بالواجب من وجه آخر.

وليس هنا محلّ شرح ذلك فلسفيّاً، ولكنّي أقول هنا: إمّا أنّ القوم جريؤون جدّاً في تأويل القرآن، أو يعتقدون: أنّ أقطابهم أعلى مرتبة من أُولي العزم من الأنبياء الذين نسب الله ـ تعالى ـ إليهم الصبر في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...﴾(2)، وكذلك قال يعقوب(عليه السلام) الذي هو نبيّ من أنبياء الله العظام وإن لم


(1) راجع منازل السائرين قسم الأخلاق باب الصبر وشرحه للكاشاني: 86، وشرحه الآخـر للتلمساني: ص 220.

(2) السورة 46، الأحقاف، الآية: 35.

415

يكن من أُولي العزم: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(1).

ويعجبني أن أذكر هنا رواية طريفة بشأن صبر يعقوب وآبائه:

فقد ورد في الأثر: «لمّا كان من أمر إخوة يوسف ما كان كتب يعقوب(عليه السلام) إلى يوسف(عليه السلام) وهو لا يعلم أنّه يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله عزّوجلّ إلى عزيز آل فرعون سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد: فإنّا أهل بيت مولعة بنا أسباب البلاء: كان جدّي إبراهيم أُلقي في النار في طاعة ربّه، فجعلها الله ـ عزّوجلّ ـ عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدّي أن يذبح أبي(2) ففداه بما فداه به، وكان لي ابن وكان من أعزّ الناس عليّ ففقدته، فأذهب حزني عليه نور بصري، وكان له أخ من أُمّه، فكنت إذا ذكرت المفقود ضممت أخاه هذا إلى صدري، فأُذهب عنّي بعض وجدي، وهو المحبوس عندك في السرقة، وإنّي أُشهدك أ نّي لم أسرق ولم ألد سارقاً. فلما قرأ يوسف كتابه بكى، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فلمّا انتهى الكتاب إلى يعقوب قال: والله ما هذا بكلام الملوك والفراعنة، بل هو كلام الأنبياء وأولاد الأنبياء، فحينئذ قال: يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف»(3).

وكما قلنا لا نريد بحث المسألة فلسفيّاً، لكن يمكن إبطال عدم إمكان اجتماع الصبر والحبّ بتجربة الإنسان العادي الغارق في حبّ نفسه حينما يشرب دواءً مرّاً، ويتحمّل ألم المرارة، ويصبر عليه في سبيل حبّه لنفسه ولشفائه المترتب على


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 18.

(2) هذه من روايات تطبيق الذبيح على إسحاق دون اسماعيل على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام.

(3) البحار 12 / 269 والآية في السورة 12، يوسف، الآية: 87 .