319

 

 

 

 

الفصل العاشر

ا لخشـــــو ع

 

قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(1).

قد فُسِّرَ الخشوع بمعنى الخضوع الممزوج إمّا بالمحبّة التي توجب انكسار النفس هيبة للمحبوب المتعالي في العظمة، أو بالخوف ممّن له سطوة تُخشى ونقمة تتّقى(2).

ولهذا ورد في بعض أدعية السحر لشهر رمضان المبارك: «اللَّهمّ إنّي أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذلّ في النار...»(3). فالإيمان يوجب الخشوع بكلا شكليه المشار إليهما، في حين أن النار ـ أعاذنا الله منها ـ توجب الخشوع بشكله الثاني.

ولتأثير الآية المذكورة في نفوس بعض الناس بعض الحكايات والقَصَص، وذلك من قبيل حكاية فضيل بن عياض التي تعرّضنا لها في أوائل المدخل لهذا


(1) السورة 57، الحديد، الآية: 16.

(2) راجع شرح منازل السائرين لكمال الدين عبدالرزاق: 50.

(3) مفاتيح الجنان في ذيل دعاء أبي حمزة الثمالي: 198 بحسب طبعة طاهر خوشنويس.

320

الكتاب، ومن قبيل قِصّة غريبة رُويت في بعض الكتب: من أنّ رجلاً معروفاً من رجال البصرة قال: كنت أمشي في طريق وإذا بصيحة جلبت انتباهي، فعقّبتُها فرأيت رجلاً طريحاً على الأرض مغمىً عليه، فسألت عنه فقالوا لي: هذا رجل من أهل الحال سمع آية من القرآن فوقع مغشيّاً عليه، قلت لهم: وأيّة آية تلك؟ فقالوا: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾ وإذا بالرجل سمع صوتي فانتبه، وأنشد هذه الأبيات الحزينة:

أما آن للهجرانِ أنْ يتصرّما
وللغصن غصن البان(1) أنْ يتبسّما
وللعاشقِ الصبِّ الذي ذاب وانحنى
ألم يأن أنْ يُبكى عليه ويُرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي
كتاباً حكى نقش الوشيّ المنمنما(2)

ثُمّ قال ثلاث مرّات: مشكل، مشكل، مشكل، فوقع مرّة أُخرى مغشيّاً عليه، فحرّكناه فإذا به قد قضى نحبه(3).

أقول: إنّ هذه القِصَّة إن لم تكن من نسج بعض المتصوّفة، وكانت قِصّة واقعية، فهي تحكي عن نموّ صاحبها في بعض الجوانب الروحية، ونقصه في بعض الجوانب الأُخرى، وإلاّ فليس المفروض بمن ينمو روحيّاً في جانب الخشوع والخضوع، أو الخوف والخشية، أو الشعور بعظمة الربّ تبارك وتعالى، أو ما إلى ذلك، أن يشوش على نفسه الحياة الدنيا، وأن يموت بسبب سماعه للآية المباركة ونحو ذلك من الأُمور، فلو صدق ذلك فهذا يعني: ضعف نفس في الشخص، وفي تحمّله، وفي حفظه لجانب الاتّزان.


(1) البان شجر معتدل القوام مهده الأصلي آسيا القطبية، ورقه ليّن كورق الصفصاف، يؤخذ من حبّته دهن طيب، ويشبّه به القدّ لطوله. وكأنّ الشاعر يشبّه شجرة الأمل بشجرة البان ويتمنّى أن يتبسم غصن أمله.

(2) الوشيّ والمنمنم بمعنى واحد تقريباً، أي: المزخرف والمنقش والمزيّن بألوان مختلفة.

(3) تفسير «نمونه» 23/346 نقلاً عن تفسير روح المعاني 27/156.

321

وحتّى ما ورد بشأن همّام رحمة الله عليه: من أنّه حينما سَمِعَ من إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) وصف المتّقين صَعِقَ صعقة كانت نفسه فيها(1) يدلّ على عدم اكتماله في بعض الجوانب الروحيّة إلى صفّ دلالته على أنّه كان من أهل الحال، وكان شفّاف الروح ورقيق القلب، كما روي أنّه قال إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)بشأنه: أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثُمّ قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها. فقال له قائل: «فما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال(عليه السلام): ويحك إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه، وسبباً لا يتجاوزه. فمهلاً لا تعد لمثلها، فإنّما نفث الشيطان على لسانك».

وهذا الجواب من قِبلِ إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) كان جواباً بقدر فهم السائل، ولو كان هذا السائل يعرف شيئاً يسيراً من حالات إمامنا(عليه السلام)وأنّه هو البكّاء في المحراب ليلاً هو الضحّاك إن طال الحراب، لما اعترض عليه بهذا الاعتراض؛ لوضوح أنّ ضيق الظرفيّة وضعف النفس الموجودين لدى همّام ليسا موجودين لدى عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) الذي كان يُغشى عليه في جوف الليل من خشية الله، وكان يمارس حياته الاعتياديّة لخدمة الإسلام في وسط النهار، وهو الذي قال في نفس خطبة المتّقين ضمن توصيفه للمتّقين: «... ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب...»، ثمّ بعد فترة من الحديث قال: «... وأمّا النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء...».

نعم هكذا يحفظ أهل الله توازنهم بين الليل والنهار.

والفرق بين الإنسان والجماد أنّ الجماد لم يكن قادراً على حمل الأمانة، ولو كان يحمَّل الأمانة لكان يفقد توازنه كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى


(1) راجع نهج البلاغة: 413، رقم الخطبة: 193.

322

السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ...﴾(1).

وقال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ...﴾(2) ولكن الإنسان هو الذي حمل الأمانة، وعليه أن يعمل على وفق متطلّباتها كاملة. وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً.

والوصول إلى هكذا مقامات مع حفظ التوازن بحاجة إلى رياضة عظيمة ومثابرة كبيرة، ولا ينالها إلاّ ذو حظّ عظيم. وذلك بحاجة إلى الصدق والجدّية الكاملين في إرادة تهذيب النفس من ناحية، وإلى الطلب من الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا في ذلك من ناحية أُخرى، فإن فعلنا ذلك كلّه حقّاً كنّا مصداقاً للآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(3).

 


(1) السورة 33، الأحزاب، الآية: 72.

(2) السورة 59، الحشر، الآية: 21.

(3) السورة 29، العنكبوت، الآية: 69.

323

 

 

 

 

الفصل الحادي عشر

ا لإ خـبـــــا ت

 

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(1).

وأيضاً قال عزّ من قائل: ﴿... وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(2).

قيل: إنّ الإخبات من أوائل مقام الطمأنينة(3) وقيل: هو السكون إلى من أنجذب إليه بقوّة الشوق(4).

وقد فُسِّر الإخبات في مجمع البحرين تارةً بمعنى الطمأنينة وسكون القلب، وأُخرى بمعنى الخشوع والتواضع(5).

وورد في الحديث عن زيد الشحام بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام) قال: «قلت له: إنّ عندنا رجلاً يقال له: كليب، فلا يجيء عنكم شيء إلاّ قال: أنا أُسلّم، فسمّيناه كليب تسليم قال: فترحّم عليه، ثُمّ قال: أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا، فقال: هو


(1) السورة 11، هود، الآية: 23.

(2) السورة 22، الحج، الآيتان: 34 ـ 35.

(3) منازل السائرين لعبدالله الأنصاري باب الإخبات.

(4) شرح منازل السائرين لعبدالرزاق الكاشاني: 51.

(5) مجمع البحرين 2/199.

324

والله الإخبات، قول الله عزّ وجلّ: ﴿... الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ...﴾»(1).

وفي الآية الثانية من الآيتين اللتين تلوناهما قد ورد توصيف المخبتين بأربعة أوصاف اثنان منها روحيان، وهما: وجل القلب لدى ذكر الله، والصبر على المصيبة، واثنان منها عمليان، وهما: إقامة الصلاة والإنفاق.

 


(1) تفسير البرهان 2/215 ـ 216، والآية: 23 في السورة 11، هود.

325

 

 

 

 

الفصل الثاني عشر

ا لـــز هـــــــد

 

قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(1).

ورد عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام): «الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾ ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(2).

يبدو أنّ هذه الآية المباركة تُبدي إحدى حِكَم وجود المصائب والمحن في الدنيا، وهي: ترويض الله ـ تبارك وتعالى ـ أولياءه على الزهد في الدنيا، والذي يعني: أن لا تملكك الدنيا، وليس أن لا تملكها، وتفسير ذلك يكمن في كلمتين: أن لا يأسوا ولا يأسفوا على مافاتهم، ولا يفرحوا بما أُوتوا، فإنّ المصائب والمحن تطأطئ الرأس، وتذهب بالخيلاء والفخر، وتعالج الظِنّة والبخل بمال الدنيا.

كما أنّ بعض الآيات الأُخرى تفصح عن حكمة أُخرى من حِكم المصائب


(1) السورة 57، الحديد، الآيات: 22 ـ 24.

(2) نهج البلاغة: 750، رقم الحكمة: 439.

326

والمحن، وهي: المجازاة أو التنبيه كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(3).

وصدر الآية المباركة الأُولى التي بدأنا بها الحديث ـ وهو قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ...﴾ أي: من قبل أن نبرأ النفوس، أو من قبل أن نبرأ الأرض، أو المقصود كلاهما، أي: من قبل أن نبرأ الأرض والنفوس ـ مطلقةٌ تشمل تمام المصائب على ما يبدو لنا، أي: سواءٌ المصيبة التي جرت لمجرد التربية على الزهد النافعة لأولياء الله، أو المصيبة التي جرت مجازاةً أو تنبيهاً، فإنّها جميعاً مقدّرة في علم الله من قبل أن يبرأ الأرض والنفوس. وأظنّ أنّ ذيل الآية الأُولى: وهي هدف التربية على الزهد أيضاً مطلقة، فالله ـ تعالى ـ لا يبخل ببعض عباده وقد هيّأ وسائل التربية لهم جميعاً. غاية الأمر أنّ من عباده من يتمتّع بهذه الوسائل، وفي مورد البحث هنا يستفيد الزهد ويتربّى عليه وذلك من قبيل أولياء الله، ومنهم من يهمل ذلك ولا يتمتع بها، بل وحتّى هدف التنبيه على التوبة في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾يوجد مَنْ لا يستفيده بسوء سريرته، ويوجد من العاصين من يستفيد فيؤوب إلى رشده.

والآيات الأخيرة التي هي آيات المجازاة أو التنبيه على التوبة لا تشمل طبعاً


(1) السورة 42، الشورى، الآية: 30.

(2) السورة 30، الروم، الآية: 41.

(3) السورة 32، السجدة، الآية: 21.

327

الأولياء الكمّلين الذين ليسوا بحاجة إلى التنبيه بإنزال المصائب.

ومن الطريف ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»(1).

وورد أيضاً عن الصادق(عليه السلام): «إنّ الله تبارك وتعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء، إمّا بمرض في جسده، أو بمصيبة في أهله أو مال، أو مصيبة من مصائب الدنيا؛ ليأجره عليها»(2).

وعنه(عليه السلام): «ما من مؤمن إلاّ وهو يُذكّر في كلّ أربعين يوماً ببلاء، إمّا في ماله، أو في ولده، أو في نفسه فيؤجر عليه، أو همّ لا يدري من أين هو»(3).

وعن الباقر(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّ المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإن كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلاّ ابتلي بالمرض، فإن كان ذلك كفّارة لذنوبه وإلاّ ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان ذلك كفّارة لذنوبه وإلاّ ضيّق عليه عند خروج نفسه حتّى يلقى الله حين يلقاه وماله من ذنب يدّعيه عليه، فيأمر به إلى الجنّة، وإنّ الكافر والمنافق ليهون عليهما خروج أنفسهما حتّى يلقيان الله حين يلقيانه ومالهما عنده من حسنة يدّعيانها عليه، فيأمر بهما إلى النار»(4).

فهذه الروايات ونحوها كالآيات تدلّ على أنّ للمصائب أسباباً مختلفة. ولا يخفى أنّه لو انحصر سبب المصائب في المجازاة أو التأديب أو كفارة الذنب، لانفضح العاصون. فمن النِعَم على العباد وجود أسباب أُخرى كرفع الدرجات


(1) البحار 81/198.

(2) البحار 81/198.

(3) المصدر نفسه: 198 ـ 199.

(4) المصدر نفسه: ص199 ـ 200.

328

حتّى يبقى الستر محفوظاً إلى يوم تُبلى السرائر، ونظيره أنّ البكاء والتوبة والتضرّع والاضطراب لو كانت خاصّة بالعاصين لانفضحوا بعملهم هذا، ولكنّها شملت حتّى زين العابدين سلام الله عليه، فيبقى الستر محفوظاً.

ومن الطريف ـ أيضاً ـ ماورد في تفسير عليّ بن إبراهيم قال: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ...﴾ قال: أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته هو بما كسبت أيديهم؟ وهم أهل الطهارة معصومون! قال: إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يتوب إلى الله، ويستغفره في كلّ يوم وليلة مئة مرّة من غير ذنب، إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب؛ ليأجرهم عليها من غير ذنب. قال الصادق(1)(عليه السلام): لمّا أُدخل عليُّ بن الحسين(عليه السلام)على يزيد نظر إليه ثُمّ قال: يا عليُّ بن الحسين ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ...﴾ فقال عليُّ بن الحسين(عليه السلام): كلاّ ما فينا هذه نزلت، وإنّما نزلت فينا ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾ فنحن الذين لا نأسى على مافاتنا من أمر الدنيا، ولا نفرح بما أُوتينا»(2).

ومن لطائف ما يروى في التأريخ عن قتيبة بن سعيد أنّه قال: وردت على بعض قبائل العرب، فرأيت الصحراء مليئة بآبال ميّتة لا تُعدّ ولا تُحصى، ورأيت امرأة عجوزاً، فسألتها لمن كانت هذه الآبال؟ قالت: لذاك العجوز الذي تراه جالساً على ذاك التل ويغزل الصوف، فذهبت إليه، وقلت له: هل هذه الآبال جميعاً كانت لك؟


(1) الراوي: إمّا هو عليّ بن رئاب فتكون هذه تكملة للحديث، أو هو علي بن إبراهيم فهذه روايـة أُخرى مرسلة.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 2 / 277.

329

قال: كانت باسمي، قلت: لماذا هلكت؟ قال: (من دون أن يشير إلى سبب الموت): الذي أعطانا هذه الآبال سلبها منّا، قلت له: ألست متألّماً على ذلك، وهل قلتَ شيئاً بهذه المناسبة؟ قال: بلى قلت هذين البيتين:

لا والذي أنا عبدٌ من خلائقه
والمرءُ في الدهر نصبُ الرزء والمحنِ
ما سرّني أن إبلِّي في مباركها
وما جرى من قضاء الله لم يكنِ(1).

 

تفسير انحرافي لمعنى الزهد:

قد يُفسَّر من قبلِ أُناس قشريّين ـ وربّما يُسمَّون بالمقدّسين وهم بعيدون عن القدس الحقيقي ـ بالابتعاد عن نعم الله وطيّباته وزينته التي أخرج لعباده. ويحاولون إبعاد المسلمين عن أيّ اهتمام بالاُمور المادّيّة الدنيويّة. ومن المفاسد العظيمة التي تترتّب على ذلك فتح السبيل لسيطرة الكافر المستكبر على خيرات المسلمين وبركاتهم ومنابعهم المادّيّة الغنيّة التي قلّ مثلها في غير بلاد المسلمين، بل وأكثر من ذلك قد يصبح الشخص المتربّى على هذه الروح إنساناً حياديّاً تجاه سيطرة المستكبرين على الحكم أيضاً مادام التقمّص بالحكم يُعْتبر عندهم لوناً من التمتّع بالدنيا، وشكلاً من أشكال طلب الجاه والذي لا يناسب الزاهدين مادام الزهد عبارةً عن أن لا يهمّك مَن أكل الدنيا(2).


(1) تفسير «نمونه» 23 / 367 ـ 368.

(2) وقد ورد في حديث عن الصادق(عليه السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا». الوسائل 16 / 12، الباب 62 من جهاد النفس، الحديث 5. وهذه الرواية إن صحّت يجب أن تحمل على معنى ﴿...لاَ تَأسَوا على مافاتَكم﴾الوارد في القرآن الكريم.

وأيضاً يكون هذا النمط من التفسير للزهد موجباً لتشويه الدين الحنيف وسبباً لاشمئزاز النفوس منه.

330

وفي مقابل هذا السنخ من التفكير أو هذا الطرز من التربية يجب بيان عدّة أُمور:

الأوّل: أنّ مَن يرغب في تقليل الاستفادة من مُتَع الدنيا: بأن يجعل تمتّعه بها أنزل من حدّ الاعتدال يجب أن لا يكون ذلك بروح الرغبة عنها وكُرهها والعزوف عنها؛ فتشمله النواهي الواردة في الكتاب والسُنّة وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ...﴾(1) وغير ذلك ممّا مضى طرفٌ منه في بحث النقطة الرابعة من نقاط المدخل، بل يكون بروح الإيثار وتقديم الآخرين على نفسه، والإيثار لا يكون إلاّ فيما هو محبوب، قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...﴾(2) فإن كان ابتعاده بالقدر المعقول عن الإكثار من النِّعم المادّية بهذه الروح فلن يؤدّي ذلك إلى ترك خيرات البلاد وبركاتها للكافر المستكبر أو للفاسق المتجبّر، بل ينسجم ذلك مع سعيه في نفس الوقت لطرد المستكبرين والمتجبّرين، وحصر الخيرات والبركات بقدر الإمكان للمؤمنين والمسلمين؛ كي يستفيدوا منها، ويتنعّموا بها، ويبذلوها ـ أيضاً ـ في سبيل الله وفي سبيل إحياء كلمة الله، فإنّ روح الإيثار لا تكون بمجرد ترك النِّعم، بل تكون بتحصيلها؛ لكي يبذلها للآخرين، وينعّم المسلمين بها، ويكون ببذل التعب في فتح باب البركات لأجل الآخرين، لا لأجل ملذّات نفسه. وكذلك التقمّص بالحكم يجب أن يكون بروح تحمّل المسؤوليّة والخدمة، لا بروح التلذّذ بالمنصب والتفكّه بالرئاسة، أو بروح الظلم والإجحاف لا سمح الله.

والثاني: أنّ الزهد ليس عبارة عن ترك الدنيا إلاّ في المحرمات والشبهات، وأمّا في المباحات فالزهد عبارة عن أن لا تملكك الدنيا. ألا ترى أنّ الآية المباركة


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 87 .

(2) السورة 3، آل عمران، الآية: 92.

331

التي بدأنا بها الحديث لم تجعل غاية سَنّ البلاء والمصائب في الدنيا بُغض نعم الدنيا المحللة، بل جعلت الغاية: أن ﴿ ... لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.

وإليك بعض روايات الزهد تلقي بمجموعها الضوء على معنى الزهد:

1 ـ عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام): «ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عزّ وجلّ»(1).

2 ـ عن أبي الطفيل قال: «سمعت أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عمّا حرّم الله عليك»(2).

3 ـ عن إمامنا زين العابدين(عليه السلام): «... ألا وإنّ الزهد في آية من كتاب الله ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾(3) ».

4 ـ عن الصادق(عليه السلام): «حبّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة»(4).

5 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «قيل لأمير المؤمنين(عليه السلام): ما الزهد في الدنيا؟ قال: تنكّب حرامها»(5).

6 ـ عن الصادق(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): مالي وللدنيا، إنّما مَثَلي كراكب رُفِعَت له شجرةٌ في يوم صائف فقال تحتها، ثُمّ راح وتركها»(6).

ويشبه هذا الكلام ما قيل:


(1) الوسائل 16/15، الباب 62 من جهاد النفس، الحديث 13.

(2) المصدر السابق: ص15، الحديث 12.

(3) المصدر السابق: ص12، الحديث 6، والآية: 23 في السورة 57، الحديد.

(4) المصدر نفسه: ص9، الباب 61 من تلك الأبواب، الحديث 4.

(5) المصدر نفسه: ص15، الباب 62، الحديث 11.

(6) المصدر نفسه: ص17، الباب 63 من تلك الأبواب، الحديث 1.

332

أحلام نوم أو كظلٍّ زائل
إنّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ(1)

وقيل:

ألا إنّما الدنيا كمنزل راكب
أناخ عشيّاً وهو في الصبح راحلُ

7 ـ وقيل: إنّ الحسن بن عليّ(عليهما السلام) كان يتمثل بقول الشاعر:

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها
إنّ اغتراراً بظلٍّ زائل حمق

وكان يُروى أنّه له(2).

وقيل: إنّه نزل أعرابيّ بقوم، فقدّموا إليه طعاماً، فأكَلَ، ثُمّ قام إلى ظلّ خيمة لهم، فنام هناك، فاقتلعوا الخيمة، فأصابته الشمس، فانتبه وقام وهو يقول:

ألا إنّما الدنيا كظلّ بنيّة
ولابدّ يوماً أنّ ظلّك زائل(3)

8 ـ ورُوي أنّ جبرئيل(عليه السلام) قال لنوح(عليه السلام): «يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من آخر»(4).

وقيل:

أرى طالب الدنيا وإن طال عمره
ونال من الدنيا سروراً وأنعُما
كبان بنى بنيانه فأتمه
فلمّا استوى ما قد بناه تهدّما(5)

9 ـ وقد نُقل عن أبي أمامة الباهلي قال: «لما بُعِثَ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أتت إبليس جنودُه، فقالوا: قد بُعِثَ نبيٌّ، وأُخرجت أُمّة، قال: يحبّون الدنيا؟ قالوا: نعم قال: إن كانوا يحبّونها ما أُبالي أن لا يعبدوا الأوثان، وإنّما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقّه، وإنفاقه في غير حقّه، وإمساكه عن حقّه، والشرّ كلّه من هذا


(1) المحجة 6/9.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المحجة 5/357.

(5) المحجة 5/369.

333

نبع»(1).

10 ـ وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أنا زعيم بثلاث لمن أكبّ على الدنيا: بفقر لا غناء له(2)، وبشغل لا فراغ له، وبهمّ وحزن لا انقطاع له»(3).

11 ـ عن الرضا(عليه السلام):

كلّنا نأملُ مدّاً في الأجلْ
والمنايا هنَّ آفاتُ الأملْ
لا يغرّنك أباطيلُ المُنى
والزمِ القصدَ ودعْ عنك العللْ
إنّما الدنيا كظلٍّ زائل
حلَّ فيه راكبٌ ثُمَّ رحلْ(٤)

12 ـ وعن محمّد بن مسلم بسند صحيح، عن الصادق(عليه السلام)، عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة زهدٌ في عاجل زهرة الدنيا، أمّا إنّ زهد الزاهد في هذه الدنيا لا ينقصه ممّا قسم الله له فيها وإن زهد، وإنّ حرصَ الحريص على عاجل زهرة الحياة الدنيا لا يزيده فيها وإن حرص، فالمغبون من غبن حظّه من الآخرة»(5).

وهذا الحديث واضح في أنّ الزهد في مقابل الحرص، وليس بمعنى التجنّب عن امتلاك نعم الدنيا، ألا ترى أنّه يرغّب في الزهد ببيان: أنّه لن يحرمه نعمة، وأنّ الحرص لن يزيده نعمة!!

والثالث: لابدّ في كلّ شيء من سلوك المنهج الوسط المتجنّب جانب التفريط وجانب الإفراط، وذلك حتّى في البذل والجود، قال الله سبحانه: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ


(1) المحجة 5/370.

(2) الظاهر أنّ المقصود: فقر النفس.

(3) البحار 73/81 .

(4) المصدر نفسه: ص95.

(5) الوسائل 16 / 11 ـ 12، الباب 62 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

334

مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(1).

وقال أيضاً: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ...﴾(2).

ومن الطريف أنّ الله ـ تعالى ـ سمّى الافراط حتّى في حقّ الحصاد الذي هو في نفسه إحسان مطلوب بالإسراف ونهى عنه، قال الله تعالى: ﴿... كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(3).

وقد ورد في تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) في قوله: « ﴿... وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ...﴾ قال: كان فلان ابن فلان الأنصاريّ ـ سمّاه ـ كان له حرث، وكان إذا جذّه تصدّق به، وبقي هو وعياله بغير شيء، فجعل الله ذلك سرفاً»(4).

وقد روى الكليني عن أبي الحسن(عليه السلام) بواسطتين كلاهما من أوثق الرواة، وهما: محمّد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: «سألته عن قول الله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا ...﴾ قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يصدّق الرجل بكفّيه جميعاً. وكان أبي إذا حضر شيئاً من هذا، فرأى أحداً من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة، والضغث بعد الضغث من السنبل»(5).

وقد تلخّص من كلّ ما ذكرناه حتّى الآن: أنّ الزهد له معنيان أوله مصداقان:

أحدهما: الاجتناب عن المحرّمات والمشتبهات.


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 29.

(2) السورة 28، القصص، الآية: 77.

(3) السورة 6، الأنعام، الآية: 141.

(4) الوسائل 9/203، الباب 16 من زكاة الغلات، الحديث 2.

(5) المصدر نفسه ح1.

335

والثاني: أن لا يأسى على مافاته، ولا يفرح بما أُوتيه. ولا يخفى أنّ الوصول إلى هذا المقام أصعب بكثير من الزهد بمعناه القشري، أعني: ترك المحلّلات.

ومن طريف ما ورد في المعنى الأوّل، أعني: ترك المحرّمات والمشتبهات ما رواه هاشم بن البريد قال: «قال لي عليّ بن الحسين(عليه السلام): الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا»(1).

فكأنّ المقصود بقوله: (أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع) هو: المعنى الأوّل للزهد، أي: أنّ أدنى درجة الورع هو: أن يزهد الإنسان في المحرمات والمشتبهات.

وورد نظير هذا الحديث عن نفس الراوي أعني: هاشم بن البريد، عن أبي جعفر(عليه السلام)، وذيله مشتمل على المعنى الثاني للزهد أيضاً، والنص مايلي(2): عن هاشم بن البريد، عن أبي جعفر(عليه السلام) «إن رجلاً سأله عن الزهد فقال: الزهد عشرة أشياء، وأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا، ألا وإنّ الزهد في آية من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿... لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ...﴾».

ثُمّ أنّه ورد عن أهل العرفان غير التابعين لأهل البيت(عليهم السلام)تفسير الزهد بثلاث درجات(3):

الدرجة الأُولى: الزهد عن المحرمات والشبهات، وهو زهد العامّة.

والدرجة الثانية: الزهد عمّا عدا المُسكة والاكتفاء بقدر الاضطرار.


(1) الكافي 2/62، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا، الحديث 10.

(2) راجع البحار 70/310 الحديث 5.

(3) راجع شرح منازل السائرين للتلمساني: 140 ـ 143، وشرحه أيضاً للكاشاني: 53 ـ 54.

336

والدرجة الثالثة: الزهد في الزهد، أي: أنّه لا يرى مال الدنيا شيئاً في جنب الله تعالى، فهو مشغول عنه بالله، لا ينشغل لا بحبّ الدنيا ولا ببغضها، قيل: ومنه قول الشاعر وإن لم يقصده:

إذا زهّدتني في الهوى خشية الردى
جلت لي عن وجه يزهّد في الزهد(1)

وذكر الغزالي(2) ما حاصله: إنّ الفقير ـ وأقصد بذلك فقر المال ـ يتصوّر له خمسة أحوال:

الأُولى: وهي الحالة العليا: أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه، وتأذّى به، وهرب من آخذه مبغضاً له، ومحترزاً من شرّه وشغله، وهذا هو الزهد، واسم صاحبه: الزاهد.

والثانية: أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله، ولا يكرهه كراهة يتأذّى بها ويزهد فيه، ولو أتاه رضي به. وصاحب هذه الحالة يُسمّى: راضياً.

والثالثة: أن يكون وجود المال أحبّ إليه من عدمه؛ لرغبة له فيه، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه، بل إن أتاه عفواً صفواً أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به. وصاحب هذه الحالة نسمّيه: قانعاً؛ إذ قنعت نفسه بالموجود حتّى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة.

والرابعة: أن يكون تركه الطلب لعجزه، وإلاّ فهو راغب فيه رغبةً لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه، أو هو مشغول بالطلب. وصاحب هذه الحالة نسمّيه: بالحريص.

الخامسة: أن يكون ما فقده من المال مضطرّاً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب، ويسمّى صاحب هذه الحالة: مضطراً. كيفما كانت رغبته في الطلب


(1) شرح منازل السائرين للتلمساني: 143.

(2) راجع إحياء العلوم 4 / 179 ـ 181، وإحياء الإحياء 7 / 315 ـ 319.

337

إمّا ضعيفة وإمّا قوية، وقلّما تنفكّ هذه الحالة عن الرغبة. فهذه خمسة أحوال، أعلاها الزهد، فإن انضمّ الاضطرار إلى الزهد وتصوّر ذلك، فهو أقصى درجات الزهد.

وهنا أورد الفيض الكاشاني(رحمه الله) على الغزالي: بأنّ الاضطرار المنضمّ إليه الزهد إن تُصوّر فليس من الخصال المحمودة، بل ولا من شيم العقلاء فضلاً عن أن يكون أقصى درجات الزهد؛ فإنّ الجائع المضطرّ إلى الخبز، الفاقد له، لو آتاه الله الخبز عفواً صفواً، فتأذّى به، وهرب من آخذه، عُدَّ من المجانين... ثُمّ التقسيم الذي ذكره ليس بسديد؛ وذلك لأنّ المضطرّ ليس قسيماً للأربعة الأُخر، بل هو ـ أيضاً ـ ينقسم إلى بعضها...(1).

نعود إلى نقل كلام الغزالي: ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد، وهي: أن يستوي عنده وجود المال وفقده، فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذّ، وإن فقده فكذلك. فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزانته لم تضرّه؛ إذ هو يرى الأموال في خزانة الله لا في يد نفسه، فلا يفرق بين أن يكون في يده أو يد غيره. وينبغي أن يُسمّى صاحب هذه الحالة: المستغني؛ لأنّه غنيّ عن فقد المال ووجوده جميعاً، وليفهم من هذا الاسم معنىً يفارق معنى الغنيّ الذي يطلق على الله تعالى، وعلى من كثر ماله من العباد، فإنّ من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فقير إلى بقاء المال في يده، وإنّما هوغنيّ عن دخول المال في يده لا عن بقائه في يده، فهو إذن فقير من وجه. وأمّا هذا الشخص فهو غنيّ عن دخول المال في يده، وعن بقائه في يده، وعن خروجه من يده أيضاً، فإنّه ليس يتأذّى به ليحتاج إلى الخروج، وليس يفرح به ليحتاج إلى البقاء، وليس فاقداً له ليحتاج إلى الدخول في يده، فغناه إلى العموم أميل، فهو إلى الغنيّ الذي هو وصف الله أقرب،


(1) المحجة: 7 / 315 ـ 316.

338

وإنّما قرب العبد من الله بقرب الصفات لا بقرب المكان، ولكنّا لا نسمّي صاحب هذه الحالة غنيّاً، بل مستغنياً؛ ليبقى الغنيّ اسماً لمن له الغنى المطلق عن كلّ شيء، وهو: الله سبحانه. وأمّا هذا العبد وإن استغنى عن المال وجوداً وعدماً، فلم يستغن عن أشياء أُخر سواه، ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زيّن الله به قلبه، فإنّ القلب المقيد بحبّ المال رِقّ، والمستغني عنه حرّ، والله تعالى هو الذي أعتقه من هذا الرقّ، فهو محتاج إلى دوام هذا العتق، والقلوب متقلّبة بين الرّقّ والحرّية في أوقات متقاربة؛ لأنّها بين أصبعين من أصابع الرحمن، فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلاّ مجازاً.

واعلم أنّ الزهد درجةً هي كمال الأبرار، ولكنّ صاحب هذه الحالة التي هي فوق الزهد من المقرّبين، فلا جرم صار الزهد في حقّه نقصاناً؛ إذ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين؛ وهذا لأنّ الكاره في الدنيا مشغول بالدنيا، كما أنّ الراغب فيها مشغول بها. والشغل بما سوى الله حجاب عن الله تعالى؛ إذ لا بُعْدَ بينك وبين الله حتّى يكون البعد حجاباً، فإنّه أقرب إليك من حبل الوريد، وليس هو في مكان حتّى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه، فإنّه أقرب إليك منك، فلا حجاب بينك وبينه إلاّ شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك، فلذلك لا تزال محجوباً عنه، فالمشغول بحبّ نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببغض نفسه ـ أيضاً ـ مشغول عن الله، بل كلّ ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإنِ التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حالة اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذّذ بمشاهدة معشوقه، ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق، ولم يلتفت إليه، فكما أنّ النظر إلى غير المعشوق لحبّه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غيره لبغضه شرك فيه ونقص، ولكن أحدهما أخفّ من الآخر، بل الكمال في أن

339

لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحبّاً، فإنّه كما لا يجتمع في القلب حبّان في حالة واحدة، فلا يجتمع ـ أيضاً ـ بغض وحبّ في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله تعالى كالمشغول بحبّها، إلاّ أنّ المشغول بحبّها غافل، وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل، وهو في غفلته سالك في طريق القرب؛ إذ يُرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة، وتتبدّل بالشهود، فالكمال له مرتقب؛ لأنّ بغض الدنيا مطيّة توصل إلى الله، فالمحبّ والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة وعلفها وتسييرها، ولكن أحدهما مستدبر للكعبة، والآخر مستقبل لها، فهما سيّان بالإضافة إلى الحال في أنّ كلّ واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها، ولكنّ حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر، إذ يُرجى له الوصول إليها، وليس بمحمود بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة والملازم لها الذي لا يخرج منها حتّى يفتقر إلى الاشتغال بالدّابّة في الوصول إليها، فلا ينبغي أن تظنّ أنّ بغض الدنيا مقصود في عينه، بل الدنيا عائق عن الله، ولا وصول إليه إلاّ بدفع العائق.

فإذن قد ظهر: أنّ الزهد في الدنيا إن أُريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال، وإن أُريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص، ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني.

وما ينقل عن الزاهدين من الامتناع من مال الدنيا فإمّا أن ينقل عمّن خاف أن لو أخذه لخدعه المال، وقيّد قلبه، فيدعوه إلى الشهوات، وهذا حال الضعفاء، فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقّهم كمال، وهذا حكم جميع الخلق؛ لأنّ كلّهم ضعفاء إلاّ الأنبياء والأولياء. وإمّا أن يُنقَل عن قويّ بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولاً إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الفعل لهلكوا كما يفرّ الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحيّة لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنّه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون، والسير بسير الضعفاء

340

ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء، فقد عرفت ـ إذن ـ أنّ أعلى المراتب في باب الزهد إيجاباً وسلباً رتبة المستغني، ثُمّ الزاهد، ثُمّ الراضي، ثُمّ القانع، ثُمّ الحريص. انتهى المقدار الذي اردت نقله من كلام الغزالي مع قليل من التلخيص، ويسير من تغيير بعض العبائر.

وأورد عليه الفيض الكاشاني(رحمه الله): بأنّه لم يرَ فرقاً بين من سمّاه بالراضي ومن سمّاه بالمستغني؛ فإنّه وصفهما جميعاً بأنّ وجود المال وعدمه سيّان عنده، وأنّه لا يفرح به، ولا يتأذّى به(1).

أقول: الظاهر أنّ الغزالي يقصد بالراضي: مَنْ يرضى بما لديه من غنىً أو فقر؛ نظراً لتساوي التذاذه بالمال لالتذاذه بالفقر، فهو لم يرق مرتبة الكمال الذي يجعله مبتعداً عن حبّ المال في ذاته، ولم يكن منحطّاً إلى حدّ لا يرغب في الفقر في ذاته، بل تساوت عنده الرغبتان وتكاسرتا، فأصبح المال وعدمه عنده سيّان. ويقصد بالمستغني: مَنْ كان المال وعدمه عنده سيّان أيضاً، لكن لا بملاك تكاسر الرغبتين، بل بملاك انحصار رغبته في الله سبحانه وتعالى، وانشغاله به، وعدم التفاته لا إلى المال ولا إلى عدمه، وشتّان الفرق بين المفهومين.

وعلى أيّة حال، فالذي نفهمه نحن من الكتاب والسُنّة وروايات أهل البيت(عليهم السلام)ليس هو المدح للهروب من الدنيا المحلّلة فيما هو أكثر من قدر الاضطرار وبغضها وكرهها، وإنّما الذي نفهمه منها عدّة أُمور:

1 ـ مدح التجنّب عن الحرام والشبهات كما مضى ذلك في بعض الروايات، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

لا يَغُرّنك من المرء رداءٌ رَقَعَهْ
وقميصٌ فوق كعب الساق منه رَفَعَهْ
وجبينٌ لاح فيه أثرٌ قد قَلَعَهْ
أرِهِ الدرهمَ تعرف غيّه أوْ وَرَعَهْ


(1) المحجة 7/316 ـ 319.

341

2 ـ مدح أن لا يفرح بما أُوتي، ولا يحزن على ما فاته كما مضى من الآية الكريمة.

3 ـ أنّ ما يصلح أكثرية الناس هو الكفاف والعفاف؛ لأنّ الأكثر من ذلك يُلهي الذهن عن الله تعالى وفقدان الكفاف يشوّش الذهن في غالب الناس الاعتياديين. وقد ورد عن عليّ بن الحسين(عليه السلام)(1) قال:

«مرّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) براعي إبل، فبعث يستسقيه، فقال: أمّا ما في ضروعها فصبوح الحيّ(2)، وأمّا ما في آنيتنا فغبوقهم، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اللّهمّ أكثر ماله وولده. ثُمّ مرَّ براعي غنم، فبعث إليه يستسقيه، فحلب له ما في ضروعها، وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبعث إليه بشاة، وقال: هذا ما عندنا، وإن أحببت أن نزيدك زدناك، قال: فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اللّهمّ ارزقه الكفاف، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله دعوت للذي ردّك بدعاء عامّتنا نحبّه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه؟ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، اللّهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف».

4 ـ مدح الإيثار على النفس، قال الله تعالى: ﴿... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾(3).

وقال عزّ وجلّ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(4).

وقال عزّ من قائل: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾(5).

5 ـ إن العباد يختلف حالهم فيما يصلحهم، فربّ إنسان يصلحه الفقر، وربّ


(1) أُصول الكافي 2 / 140 ـ 141، باب الكفاف، الحديث 4.

(2) الصبوح: ما يشرب بالغداة، والغبوق: ما يشرب بالعشي.

(3) السورة 59، الحشر، الآية: 9.

(4) السورة 3، آل عمران، الآية: 92.

(5) السورة 76، الإنسان، الآية: 8 .

342

إنسان يصلحه الغنى، وربّ شخص يصلحه المرض، وربّ آخر تصلحه السلامة... وما إلى ذلك. وقد ورد في الكافي(1) عن أبي عبيدة الحذّاء بسند صحيح، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال الله عزّ وجلّ: إنّ من عبادي المؤمنين عباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالغنى والسعة والصحّة في البدن، فأبلوهم بالغنى والسعة وصحّة البدن، فيصلح عليهم أمر دينهم. وإنّ من عبادي المؤمنين لعباداً لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالفاقة والمسكنة والسقم في أبدانهم، فأبلوهم بالفاقة والمسكنة والسقم، فيصلح عليهم أمر دينهم. وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين. وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي، فيقوم من رقاده ولذيذ وساده، فيتهجّد لي الليالي، فيتعب نفسه في عبادتي، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين؛ نظراً منّي له وإبقاءً عليه، فينام حتّى يصبح، فيقوم وهو ماقت لنفسه زارئ عليها، ولو أُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك، فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه؛ لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه حتّى يظنّ أنّه قد فاق العابدين، وجاز في عبادته حدّ التقصير، فيتباعد منّي عند ذلك وهو يظنّ أنّه يتقرّب إليّ، فلا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا، وأتعبوا أنفسهم، وأفنوا أعمارهم في عبادتي، كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي، والنعيم في جنّاتي، ورفيع درجاتي العلى في جواري، ولكن فبرحمتي فليثقوا، وبفضلي فليفرحوا، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا، فإنّ رحمتي عند ذلك تداركهم، ومَنّي يبلّغهم رضواني، ومغفرتي تلبسهم عفوي، فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسمّيت».


(1) أُصول الكافي: 2/60 ـ 61، كتاب الإيمان والكفر، باب الرضا بالقضاء، الحديث 4.

343

 

 

 

 

الفصل الثالث عشر

ا لـورع وا لتــقوى

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(1).

وقال عزَّ من قائل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾(2).

وقال عزّوجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ...﴾(3).

وقال عزَّ اسمه: ﴿... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(4).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ


(1) السورة 49، الحجرات، الآية: 13.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 197.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 102.

(4) السورة 5، المائدة، الآية: 27.