147

متّصفاً بالصفات الخَلْقيّة في عين اتِّصافه بصفات الوحدة الربوبيّة، كما أنّ الحسين(عليه السلام) كان كذلك، فمن ناحية كان من خصائصه هو وبعض مَن معه أنّه تشرق ألوانهم بتلك المصائب، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، ومن ناحية أُخرى كان يقول لبنته سكينة: لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة ما دام منّي الروح في جثماني.

أقول: ليكن السالك الذي يسافر إلى الله ثمّ يفنى في الله تنكشف لديه الحقائق التي لم تكن تنكشف بالعقل، ولكن هذا لا يعني أن يفقد الانكشافات الحاصلة بالعقل قبل السلوك إلى أن يرجع مرّة أُخرى إلى عالم الكثرة، والعقل يعرف قبل السلوك أن قضيّة عاشوراء عملة ذات وجهين: فمن أحد الوجهين بطولة وعزّ ومقام وفخر واعتزاز، ومن الوجه الآخر مصيبة ورزيّة وفجيعة عظمى، وليس من لوازم السلوك الحقيقي والعرفان الإلهي فقدان منكشفات العقل بالأخص المنكشفات الدينيّة والايمانيّة والعرفانية كأوجه عُملة عاشوراء الحسين (عليه السلام).

ولعلّ قائلاً يقول: إنّ الحدّاد كان غارقاً في عالم الفناء غافلاً عن عالم الكثرة، وعُملة عاشوراء إنّما تكون مصيبة ورزيّة بوجهها الخَلقِي وبلحاظ الكثرة؛ ولذا لم يكن يدرك هذا الجانب من العُملة، ولكنّني لا أدري أنّه لو كان الأمر كذلك كيف أدرك أساساً كون قِصّة عاشوراء تعتبر مصيبة عند الناس، ويبكون لأجلها بكاء الحزن؟! ولِمَ لم يغفل عن ذلك؟! فمثلاً مَنْ يغرق في الله، ويخشع له لدى الصلاة، ويفنى فيه لا يلتفت إلى الناس وإلى غير الله، لا أنّه يلتفت إليهم ويتعجب من انشغالهم بغير الله.

ج ـ روى صاحب كتاب (نشان از بى نشانها) المسمّى بعلي المقدادي الإصفهاني قِصّة بشأن أبيه الحاج الشيخ حسن عليّ الإصفهاني والذي يعتبره من العرفاء الكبار، والقِصَّة يرويها عن السيّد أبي الحسن المرتضوي: إنّه كان يقول:

148

كنت في مشهد الرضا(عليه السلام) بخدمة الحاج الشيخ حسن عليّ إذ جاءه رجل وقال: كنت اقرأ الفاتحة على مزار الشيخ الطبرسي وإذا بعقرب لسعتني في يدي، فسأله الشيخ: اين صار العقرب؟ فقال: دخل في ثقب. قال الشيخ: إنّ هذه العقرب قد ضلّت عن بيتها اذهَبْ إلى ذاك المكان، واجعل فمك قريباً من ذاك الثقب، وقل: أمر الحاج الشيخ حسن عليّ بأن تخرجي من الثقب، فإذا خرجت من الثقب احملها برفق، وضعها في باطن كفّك، واذهب بها إلى المقبرة الفلانيّة، واتركها قريباً من الثقب الفلاني؛ كي تُشفى يدك، ثمّ ارجع واخبرنا عن عملك.

قال الذي حكى هذه القِصّة: إنني كنت بخدمة الشيخ إذ رجع ذاك الرجل، وأخبر أنّه فعل ما أمره الشيخ به، وشفيت يده(1).

د ـ روي في كتاب (روح مجرّد)(2) عن الحدّاد: أنّه سُئِل ذات يوم عن اللعن الكثير الشديد الوارد في زيارة عاشوراء ودعاء علقمة ونحو ذلك كيف يلتئم مع روح الإِمام المعصوم الذي هو منبع الرحمة والمحبّة؟!

فأجاب الحدّاد: أنّ كلَّ لعن من هذا القبيل يكون من الرحمة على الملعون، وطلب الخير له؛ لأنّه بقدر ما تطول حياته وتكثر نعمه وقدراته تزداد معاصيه، ويشتدّ عذابه، ويوجب الإضرار بغيره ـ أيضاً ـ عن طريق الإجرام فسلب هذه النعم أو القدرات أو الحياة عنه خير له ولغيره.

أقول: لا أدري كيف ينسجم هذا الكلام مع آيات من القرآن من قبيل قوله تعالى:

1 ـ ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(3).


(1) نشان از بى نشانها: 70 ـ 71.

(2) روح مجرّد: 113 ـ 115.

(3) السورة 3، آل عمران، الآية: 178.

149

2 ـ ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(1).

3 ـ ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(2).

فيا ترى هل إن الله تعالى يـملي لهم ليزدادوا إثماً ولكن المعصوم يلعنهم كي لا يزدادوا إثماً؟!

هـ ـ ورد عن ناسخ الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم(3) في مقام بيان الطريق الذي سلكه هو من الأذكار من أجل سلوك مدارج العرفان: أنّه كان يتوسّل أحياناً بنجمة عطارد؛ لأنّ هذه النجمة تمدّ من روحانيتها أهل الأسرار، وينبغي للسالك في بداية أمره حينما ينظر إليها بعد غروب الشمس أو قبل طلوعها لدى إمكانية رؤيتها أن يسلّم عليها، ويؤخّر خطوة ويقول:

عطارد أيم الله طال ترقبي
صباحاً مساءً كي أراك فأغنما

ثمّ يؤخّر خطوة أُخرى ويقول:

وها أنا فامنحني قوىً أُدرك المنى
بها والعلوم الغامضات تكرّما

ثُمّ يؤخّر خطوة أُخرى ويقول:

وها أنا جدلي الخير والسعد كلّه
بأمر مليك خالق الأرض والسما

وينبغي تكرار هذا العمل في بوادئ السلوك.

أقول: لو فرض التوسل بعطارد بما هو فهذا شرك صريح. ولو فرض التوسل بهذا الجماد بما هو مظهر من مظاهر الربّ فهذا ـ أيضاً ـ يذكّرنا بمشركي قريش الذين


(1) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 182 ـ 183.

(2) السورة 68، القلم، الآيتان: 44 ـ 45.

(3) ص 208 ـ 209، حسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد محمّد حسين الطهراني.

150

نقل الله سبحانه وتعالى عنهم أنّهم كانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ...﴾(1). ولكنّنا لا نعرف من هو هذا الناسخ.

و ـ ويذكر في الرسالة المنسوبة إلى بحر العلوم(2):

أنّ من آثار السلوك حصول أنوار في القلب، ويكون بدء حصول النور في القلب على شكل السراج، وبعده على شكل الشعلة، وبعده على شكل الكوكب، وبعده على شكل القمر، وبعده على شكل الشمس، وبعده يغمر القلب، ويعرى عن اللون والشكل، وكثيراً مّا يكون على شكل البرق، وأحياناً على شكل المشكاة والقنديل. ويستشهد ببعض الروايات من قبيل ما في أُصول الكافي(3) عن الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر أجرد. فقلت: ما الأزهر؟ قال: فيه السراج، فأمّا المطبوع فقلب المنافق، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر، وإن ابتلاه صبر...».

أقول: انظر إلى هذا الجاهل ـ وحاشا أن يكون السيّد بحر العلوم(رحمه الله) ـ كيف يتخيّل كون نور قلب المؤمن على هيئة الأنوار المادّيّة، ولا أدري كيف يفسّر هذا الرجل الفقرة الواردة في دعاء الندبة بشأن الأئمّة(عليهم السلام): «أين الشموس الطالعة، أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزاهرة» فيا تُرى هل يعتقد أنّ أئمّتنا(عليهم السلام) كانوا على شكل الشموس والأقمار والأنجم بمعانيها المادّيّة؟!

ز ـ ويذكر ـ أيضاً ـ في تلك الرسالة(4): أنّ من آثار السلوك حدوث الصوت في القلب، ويكون في أوائل الأمر كصوت الطير، ثُمَّ كصوت وقوع حصاة في الطاس، ثُمّ على شكل همهمة كهمهمة الذباب الذي يجلس على خيط الأبريسم.


(1) السورة 39، الزمر، الآية: 3.

(2) ص 194، حسب الطبعة التي أشرنا إليها.

(3) أُصول الكافي 2/422 ـ 423.

(4) ص 197، حسب الطبعة المشار إليها سابقاً.

151

أقول: إنّ نسبة كلّ هذه الخرافات إلى هذا السيّد الجليل العظيم القدر، أمرٌ لا يحتمل صحّته، فإنّ السيّد مهدي بحر العلوم (رضوان الله عليه) من العلماء الأعلام العظام صاحب الزهد والتقوى والعرفان الصحيح، وقد ورد عنه كثير من الأُمور الدالّة على جلالة قدره، وأذكر منها هنا قصّتين:

الأُولى: ما رُوِيَ عن تلميذه المولى زين العابدين السلماسي(رحمه الله): أنّه قال: إنّ السيّد مهدي بحر العلوم كان يمشي في الليالي في أزقّة النجف، وكان يعطي لبيوت الفقراء الخبز ونحوه، ثُمّ ترك التدريس فترة من الأيّام، فشفّعني الطلبة لديه؛ كي يعود إلى التدريس، فأبلغته ذلك، فامتنع عن العودة إلى التدريس، ثُمَّ طلب منّي الطلبة مرّة أُخرى أن أسأله عن سبب ترك الدرس، فسألته عن ذلك؟ فقال: أنا لا أسمع من بيوت الطلبة حينما أمشي في أزقّة النجف في جوف الليل صوت المناجاة والتضرّع، وأنا لا أرى هكذا طلبة مستحقّين لإلقاء الدروس عليهم، فلمّا سمع الطلبة بذلك انشغلوا في جوف الليالي بالبكاء والمناجاة، فعاد السيّد إلى التدريس(1).

والثانية: ما رُوِيَ ـ أيضاً ـ عن السيّد بحر العلوم(رحمه الله)، قال ذات ليلة: إنّي لا أشتهي العشاء، ثُمَّ أمر بصبّ غذاء كثير في ظرف من الظروف، وأخذه وذهب به إلى أزقّة النجف حتّى انتهى إلى باب دار كان صاحبها حديث عهد بالعرس، وكان هو وزوجته في تلك الليلة لا يمتلكان طعاماً، وكانا يعيشان الجوع، فدقّ السيّد(رحمه الله)الباب، فخرج الزوج لفتح الباب، وقال السيّد (رحمه الله): الآن قد جعت أنا أيضاً، فقسموا الطعام إلى ثلاثة أقسام، واُعطيت قسمة للعروس، وأكل الباقي السيّد بحر العلوم مع الزوج(2).


(1) قصص العلماء: 173.

(2) المصدر السابق: 171.

152

ح ـ قال بعض: إنّ الجنّة والنار وجودان صوريّان نفسيّان، وليستا خارجيّتين(1)، وإنّ الجنّة وما فيها من حور وقصور وأنهار، والنار بكلّ ما فيها من غسلين وزمهرير ما هي إلاّ ذات من حلّ فيها، والخارج مقولة جوفاء(2).

وكنت أُريد أن أعترض على صاحب هذا الكلام: بأنّه لِمَ لم يلتزم بهذه المثاليّة في دار الدنيا؟! فلئن كان الثبات دليلاً على الواقع الخارجي، وبه يمتاز عالم اليقظة عن عالم النوم الذي لا ثبات في الأحلام التي تقع فيه، فهذا الثبات موجود في عالم الآخرة أيضاً، فيجب الالتزام بواقعيّتها، ورفض خياليّتها ومثاليّتها. ثمّ التفتّ إلى أنّ صاحب هذا الكلام قد التزم بالمثاليّة حتّى بلحاظ دار الدنيا، فهو يقول: وكلّ ما يتراءى لنا من الصور الطبيعيّة والدنيويّة ما هي إلاّ مظاهر نفسانيّة غير خارجة عن قوانا الإدراكيّة(3).

أقول: إنّ إبطال المثاليّة له مجال آخر غير هذا الكتاب، ولكنّي أُشير إلى أنّ اُستاذنا الشهيد(قدس سره) قد أوضح بطلانها عن طريق حساب الاحتمالات في كتابه القيّم: (الأُسس المنطقيّة للاستقراء)(4).

ط ـ رُوِيَ في كتاب الإسراء والمعراج(5) عمّن يسمّونه بالشيخ الأكبر، وهو ابن العربي: أنّه قال في كتاب الفتوحات(6): «إنّ أهل العذاب الذين يخلدون في النار بالنيّات يأخذ الألم جزاء العقوبة موازياً لمدّة العمر في الشرك في الدنيا، فإذا فرغ الأمد حصل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها، بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة


(1) راجع الإسراء والمعراج: 117.

(2) المصدر السابق: 121.

(3) راجع الإسراء والمعراج: 120.

(4) راجع كتاب الأُسس المنطقية للاستقراء: 452 ـ 470.

(5) الإسراء والمعراج: 126 ـ 127.

(6) 3/463.

153

تألّموا؛ لعدم موافقة الطبع الذي جُبلوا عليه، فهم يتلذذون بما فيها من نار وزمهرير، وما فيها من لدغ الحيّات والعقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنور ولثم الحسان من الحور؛ لأنّ طبائعهم تقتضي ذلك... ومن الشاهد أنّ الواحد منّا إذا لامس بدنه الماء الساخن نفر منه ولم يستسمجه، ثمّ بعد ذلك يلائمه ويستعذبه...

إلى أن قال: وبقي أهل هذه الدار الأُخرى فيها، فغلِّقت الأبواب واُطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعمّ الراحة أهلها؛ لأنّهم قد يأسوا من الخروج منها، فإنّهم كانوا يخافون الخروج منها لما رأوا إخراج أرحم الراحمين... فيستعذبون العذاب... ولهذا سمّي عذاباً؛ لأنّ المئآل استعذابه لمن قام به كمن يستحلي للجرب من يحكه».

أقول: ما أجرأهم على تأويل كلمات الله ورسوله(صلى الله عليه وآله).

5 ـ حالة الاعتزال عن العمل السياسي الاجتماعي بتخيّل أو بدعوى توقّف تهذيب النفس على ذلك، في حين أنّه عن طريق العمل الاجتماعي يتمّ علاج ضيق النفس، ويتحقّق ذبح النفس بيد صاحبها لا بيد شخص آخر. وقد مرّ تفصيل ذلك في النقطة الرابعة فلا نعيد.

6 ـ معرفة أصل هؤلاء وسندهم ونسبهم. ونذكر هنا ترجمة نصّ الكلام الوارد في كتاب لبّ اللّباب حيث قال(1):

«حقيقة العرفان مأخوذة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، والطرق التي


(1) لبّ اللباب: 154 ـ 158.

ولا يخفى أن صاحب لب اللباب قد نسب في مقدّمة كتابه صفحة 20 ـ 21 مطالب الكتاب إلى المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله) صاحب كتاب الميزان بعنوان كونه تقريراً لدرسه مع تنقيحات وإضافات.

أقول: مجرّد اعترافه بوجود تنقيحات وإضافات من قبله كاف في أن لا تجوز لنا نسبة ما فيه من بعض الأخطاء إلى المرحوم العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله).

154

نشرت هذه الحقيقة وإن جاوزت المئة أخيراً، ولكن أُصول طوائف التصوّف لا تزيد على خمس وعشرين سلسلة، وهذه السلاسل تنتهي جميعاً بعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفرقتان أو ثلاث فرق منهم شيعة وباقي الفرق جميعاً سنّة، وبعضهم تنتهي سلسلته إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا(عليه السلام)، ولكن طريقتنا وهي نفس طريقة المرحوم الآخوند لا تنتهي إلى شيء من هذه السلاسل.

وإجمال المطلب: أنّه قبل حوالي أكثر من مئة سنة كان في تُستر عالِم جليل القدر، وكان مصدراً للقضاء ومراجعات عامّة الناس، وكان يسمّى بالسيد عليّ التُستري، وكان كسائر العلماء متصدّياً للأُمور العامة والتدريس والقضاء والمرجعية، وإذا بيوم من الأيّام دقّ أحد باب بيته، فقال له: من أنت؟ فيقول: افتح الباب، فإنّ شخصاً مّا يطلبك في شغل له معك، فحينما فتح السيّد عليّ الباب رأى رجلاً حائكاً على الباب، وقال له: ماذا تريد؟ فقال له: ما أصدرته من الحكم وفق شهادة الشهود بأنّ فلاناً مالِكٌ للشيء الفلاني غير صحيح، وإنّما ذاك ملك طفل صغير يتيم، وسنده مدفون في المحلّ الفلاني، وهذا الطريق الذي أنت تسلكه غير صحيح، وطريقك سبيلٌ آخر غير هذا.

فقال آية الله التُستري: أفأخطأت أنا؟ فقال له الحائك: الحقيقة ما بيّنته لك. ثمّ ينصرف الحائك ويبقى آية الله التُستري حائراً في فكره من هو هذا الرجل؟! وماذا قال؟! ثُمّ يحقّق عن مسألة سند الملك، فيحصل عليه مدفوناً في نفس المكان الذي أشار إليه ذاك الرجل، فيغور في الخوف والخشية، ويقول: أخشى أن يكون كثير ممّا أصدرته من الأحكام من هذا القبيل(1). وفي الليلة الآتية يأتيه في نفس


(1) كأنّ ناقل القِصّة يتعقّل فرضيّة أنّ عالماً جليلاً من علماء الشيعة حينما يظهر له الخطأ الواقعي في قضاء له كان تامّاً على وفق مقاييس البيّنات والأيمان لا يفهم أنّ هذا كان هو شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينما قال في الخبر الصحيح السند: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار».. الوسائل 27 / 232، الباب 2 من كيفيّة الحكم، الحديث 1.

أفهل يفترض أنّ العالم الجليل الشيعي يغور في الخوف خشية أن يكون كثير من أحكامه ـ برغم موافقته للمقاييس التي يجب اتِّباعها ـ على خلاف الواقع، وهو يعلم أنّ هذا ما حذّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)المترافع الذي يعلم بنفسه أنّه ليس على الحقِّ، ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)يحكم لصالحه على وفق المقاييس الظاهريّة، أم كان هذا العالم الجليل يريد القضاء على وفق الواقع بينما لم يكن ذلك لرسول الله رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله).

155

الساعة الرجل الحائك ويقول له: أيّها السيّد عليّ التُستري ليس الطريق ما تسلكه . وفي الليلة الثالثة تتكرر نفس الواقعة، ويقول له الحائك: بيعوا البيت، واجمعوا فوراً أثاث البيت، وانتقلوا إلى النجف الأشرف، وبعد ستة أشهر انتظروني في وادي السلام. وعلى هذا الأساس انشغل المرحوم التُستري فوراً بتنفيذ ما قاله له هذا الحائك، وباع البيت وجمع الأثاث، وجهّز للسفر إلى النجف الأشرف، وبمجرد وروده إلى النجف الأشرف رأى في وقت طلوع الشمس الرجل الحائك في وداي السلام وكأنه نبت من الأرض، وحضر أمامه، وأعطاه الأوامر اللازمة واختفى(1). ودخل المرحوم التُستري النجف الأشرف، وعمل بأوامر الحائك إلى أن وصل إلى المرتبة والمقام الذي لا يوصف ولا يذكر رضوان الله عليه وسلام الله عليه، وأخذ يحضر المرحوم السيّد عليّ التُستري بحث المرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري احتراماً له فقهاً وأُصولاً، وكان يحضر الشيخ بالأُسبوع مرّة بحث السيّد في الأخلاق، وبعد أن توفّي الشيخ(رحمه الله) جلس السيّد التُستري(قدس سره) في مسند تدريس الشيخ، وأخذ يدرّس من النقطة التي انتهى إليها الشيخ، ولكن لم يطل عمره بعد


(1) كأنّ ناقل القِصّة يفترض أنّ عالماً جليلاً شيعيّاً ينفّذ أوامر شخص مجهول، بل شخص لم يعرف أنّه إنس أو جنّ، أو ملك أو شيطان.

156

ذلك أكثر من ستّة أشهر، وارتحل بعد ذلك إلى رحمة الله الأبديّة. وفي خلال هذه الأشهر الستّة كتب المرحوم التُستري رسالة إلى أحد مبرّزي طلاّب المرحوم الشيخ الأنصاري، وهو: الآخوند المولى حسين قلي الدرجزيني الهمداني، وقد كانت منذ سنين عديدة في زمان حياة المرحوم الشيخ الأنصاري رابطة الأُلفة قائمة بين الآخوند والسيّد التُستري، وكان الآخوند يستفيد الأخلاق والعرفان من السيّد التُستري، وكان الآخوند بعد وفاة الشيخ الأنصاري مصمّماً على التدريس، وكان بانياً على تكميل بحث الشيخ الذي كان قد كتبه هو ـ أيضاً ـ بعنوان التقريرات، وإذا برسالة السيّد التُستري تصل إلى الآخوند الهمداني ويقول له فيها:

هذا الطريق غير صحيح لك، ولابدّ لك أن تدرك مقامات عالية أُخرى... إلى أن يؤثّر السيّد في الآخوند، ويقلبه إلى وادي الحقّ والحقيقة، وأخيراً أصبح الآخوند في المعارف الإلهيّة فوق الأقران، وكان من عجائب الدهر وهو ـ أيضاً ـ ربّى تلاميذ على هذا الخط أصبح كلّ واحد منهم أُسطوانة للمعرفة والتوحيد وآية عظيمة. ومن أبرزهم: المرحوم الحاج ميرزا جواد آقا الملكي التبريزي، والمرحوم السيّد أحمد الكربلائي الطهراني، والمرحوم السيّد محمّد سعيد الحبوبي، والمرحوم الحاج الشيخ محمّد البهاري.

وكان الأُستاذ الكبير والعارف بلا بديل المرحوم الحاج عليّ آقا القاضي التبريزي رضوان الله عليه من تلاميذ مدرسة السيّد أحمد الكربلائي. هذه هي سلسلة اساتيذنا المنتهية إلى المرحوم التُستري ومن ثمّ إلى ذاك الشخص الحائك، ولم يُعلم من هو هذا الرجل الحائك، وبمن كان مرتبطاً، ومن أين أتى بهذه المعارف، وبأيّ وسيلة حصل عليها؟» انتهى.

أقول: إنّني لا اُريد أن أتّهم الأفاضل الأعلام الموجودة أسماءهم في القِصّة التي قصّها صاحب كتاب لبّ اللباب إلى ارتباطهم برجل حائك لم يعرف هل هو إنس

157

أو مَلَك أو جنّ، ولا أعرف مدى صدق القِصّة، وإنّما أُريد مناقشة أصل الكلام الوارد في هذا الكتاب.

فأقول: لا شكّ أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) هو سيّد العارفين وكهفهم وملاذهم وإمامهم وإمام المؤمنين، وأقصد بذلك العرفان بالمعنى الوارد في قوله (عليه السلام)في دعاء كميل: «يا غاية آمال العارفين» لا بالمعنى الذي ناقشناه حتّى الآن، وأتساءل أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)لو كان على رأس نحو من خمس وعشرين سلسلة للصوفيّة على ما ورد في لبّ اللباب فلماذا انتخب(عليه السلام) أكثرهم من السُنّة حسب ما مضى من قوله في لبّ اللباب: (أن فرقتين أو ثلاثاً منهم شيعة والباقي سنّة) وهلاّ علّم(عليه السلام) هذا الطريق ميثم التمار وصعصعة بن صوحان العبدي ورشيد الهجري(1) وكميل بن زياد وأصبغ بن نباتة والحجر بن عديّ الكندي(2) وأمثالهم من أعاظم أصحابه رحمهم الله.

إنّ الحقيقة ليست هكذا، بل الحقيقة: أنّ التصوّف دكّان فتحه أعداء عليّ وأعداء الأئمّة(عليهم السلام) في مقابل أئمّتنا المعصومين؛ ذلك أنّ الشيطان لا يستطيع أن يُغري ـ ابتداءً ـ كلَّ أحد عن طريق الخمور أو النساء أو الملاهي أو ما إلى ذلك، فلربّ إنسان لا يأنس إلاّ بالمسجد، فطريق حرفه عن الحقِّ هو بناء مسجد ضرار، ولربّ إنسان لا يستذوق إلاّ العرفان، فطريق حرفه عن جادّة الحقِّ هو اختلاق العرفان الكاذب. ومن نقاط القوّة في أئمّتنا(عليهم السلام) الجاذبة للنفوس الطيّبة كان هو العرفان الإلهيّ الشامخ المضيء الذي يشعّ شيء يسير منه فيما وصلنا من اليسير من


(1) روى الكشي: أنّه كان أُلقي إليه علم المنايا والبلايا. راجع معجم رجال الحديث 7/192.

(2) روى الشيخ الطوسي(رحمه الله): أنّه كان من الأبدال، راجع معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي(رحمه الله): 4 / 237.

158

أدعيتهم وكلماتهم المضيئة والتي أشرنا إلى نزر منها في النقطة الرابعة، فكان لا بدّ للشيطان أن يفتح دكّاناً في مقابل الأئمّة(عليهم السلام) باسم التصوّف، وكان خير مناخ لتأسيس هذا الدكّان هو مناخ غير الشيعة؛ لأنّ الشيعة غالباً كانوا مكتفين بالأضواء الحقيقيّة التي تشع من أئمّتهم(عليهم السلام)، ولهذا لا ترى أثراً من هذا الدكّان لدى الشيعة في أوائل الأمر، وإنّما انحدر هذا الطريق إليهم واستهوى بعضهم بعد ما تمّ تأسيسه وتشييد بناءه لدى غيرهم.

وبودّي أن اُشير إلى أنّ ما فرضه صاحب كتاب لبّ اللباب من انتهاء بعض سلسلة الصوفيّة إلى معروف الكرخي صاحب الإِمام الرضا(عليه السلام) لم نرَ عليه شاهداً في ترجمته إلاّ ادّعاء الصوفيّة أنفسهم لذلك من دون ذكر سند ودليل.

فقد ادّعوا أنّ بعض سلاسلهم تنتهي إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا (عليه السلام)، ومنه إلى آبائه(عليهم السلام) إلى عليّ(عليه السلام)، ويسمّون هذه السلسلة بالسلسلة الذهبيّة، ونحن لا نعلم هل حقّاً كان معروف الكرخي من الصوفيّة أو لا ؟

نعم، رُوِيَ عنه: أنّه قال للإِمام الصادق(عليه السلام): «أوصني يابن رسول الله، فقال: أقلل معارفك، قال: زدني قال: انكر من عرفت منهم»(1).

وهذا الحديث يناسب ذوق المتصوّفة، إلاّ أنّ ذلك لا ينسجم مع ما ورد في ترجمته: من أنّه أسلم في صباه على يد الإِمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام).

فقد روى السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه(2) عن ابن شهرآشوب في المناقب الجزء الرابع باب إمامة أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّه قال: ذكر ابن الشهرزوري في مناقب الأبرار: أنّ معروف الكرخي كان من موالي عليّ ابن موسى الرضا(عليه السلام)، وكان أبواه نصرانيين، فسلّما معروفاً إلى المعلّم وهو صبيّ، وكان


(1) مجمع البحرين في ذيل مادة (عرف).

(2) في معجم الرجال 18/231. راجع ـ أيضاً ـ تنقيح المقال 3/228.

159

المعلم يقول له: قل ثالث ثلاثة، وهو يقول: بل هو الواحد، فضربه المعلم ضرباً مبرحاً، فهرب ومضى إلى الرضا(عليه السلام)، وأسلم على يده، ثُمّ إنّه أتى داره فدقّ الباب، فقال أبوه: مَنْ بالباب؟ فقال: معروف، فقال: على أيّ دين؟ قال: على ديني الحنيفي، فأسلم أبوه(1) ببركات الرضا(عليه السلام). قال معروف: فعشت زماناً. ثمّ تركت كلما كنت فيه إلاّ خدمة مولاي عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام). وعن ابن خلكان وغيره نظير ذلك.

وعلى أيّة حال، فتصوّف معروف الكرخي غير ثابت لدينا، كما أنّ كونه من خدّام الإِمام الرضا(عليه السلام) ليس قطعيّاً عندنا، فإنّ خلوّ كتبنا الرجاليّة طرّاً عن ذكره وعلى الخصوص خلوّ كتاب عيون أخبار الرضا(عليه السلام) عن نقل رواية عنه(عليه السلام)بواسطته ممّا يريب الفطن في اختصاصه بالرضا(عليه السلام).

وقبره في عصرنا الحاضر في بغداد لا يزوره عادة إلاّ السُنّة، وهم يمجّدون به. وتفترض الصوفيّة أنّه كان من أكابرهم، ويقول الشيخ المامقاني(رحمه الله): لم يُنقَل عنه ما يقضي بالتصوّف، وإنّما نسب المتصوّفون إليه التصوّف رواجاً لطريقتهم الفاسدة، وهذه عادة أهل المذاهب الفاسدة ينسبون إلى مؤمن تقيّ مذهبهم كذباً وبهتاناً؛ لترويج مذهبهم الفاسد، أليس ينسبون التصوّف إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)البريء منهم ومن مسلكهم؟!(2).

ثُمّ إنّنا لا نستبعد أن يكون انتماء كثير من السُنّة إلى سلك التصوّف نتيجةً لتعطّشهم إلى الجانب الروحي، وعدم إمتلاكهم المعين الصافي للقضايا الروحيّة الذي كانت الشيعة تمتلكه، وهو: معين أئمّتهم سلام الله عليهم؛ ولذا ربّما لا ترى


(1) هكذا ورد فيما عندي من نسخة معجم رجال الحديث، ولكن ورد في تنقيح المقال: أسلم أبواه.

(2) تنقيح المقال 3/229.

160

بلحاظ عصر حضور الأئمّة(عليهم السلام)؛ أيَّ رواج لسلك التصوّف لدى الشيعة، وإنّما بدأ ذلك ببداية عصر الغيبة. وأظنّ أنّ أوّل شيعي أو متشيّع أظهر هذا الأمر وبدأ يدعو الناس إليه هو: حسين بن منصور الحلاّج. ويعدّه المتصوّفون من أنفسهم، وكان إضافة إلى هذه الحالة يدّعي البابيّة للإمام صاحب الزمان ـ عجَّل الله فرجه ـ على ما رواه الشيخ الطوسي(رحمه الله) في كتاب الغيبة بسنده إلى الحسين بن عليّ بن الحسين أخي الشيخ الصدوق(رحمه الله): من أنّ حسين بن منصور الحلاّج كتب رسالة إلى قرابة أبي الحسن ـ والد الصدوق ـ يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً، ويقول: أنا رسول الإِمام ووكيله، قال: فلمّا وقعت المكاتبة في يد أبي(رضي الله عنه) خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات ! ...(1).

ولعلّ أوّل من سُمِّي باسم التصوّف أو من أوائلهم الحسن البصري المتولّد سنة (22)، والمتوفّى سنة (110) هجريّة.

وقال الشيخ المطهّري(رحمه الله): إنّ الحسن البصري لم يكن يُسمّى في عصره صوفيّاً، وإنّما سُمِّيَ بعد ذلك بهذا الاسم؛ أوّلاً: بسبب كتاب أ لّفه باسم (رعاية حقوق الله) والذي يمكن أن يُفترَض أوّل كتاب للتصوّف؛ وثانياً: بسبب أنّ العرفاء ينهون بعض سلاسل طريقتهم إِليه، ومنه إلى أمير المؤمنين(عليه السلام)، من قبيل سلسلة مشايخ أبي سعيد أبي الخير...(2).

أقول: وبهذه المناسبة أذكر بعض ما ورد في رواياتنا عن أهل البيت(عليهم السلام)بشأن الحسن البصري:


(1) راجع البحار: 51/370.

(2) خدمات متقابل اسلام وايران: 644 ـ 645 بحسب طبعة انتشارات صدرا التي هي الطبعة الثامنة.

161

1 ـ ورد في الوسائل(1) عن عبدالله بن سليمان قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام)وعنده رجل من أهل البصرة، وهو يقول: إنّ الحسن البصري يزعم أنّ الذين يكتمون العلم تُؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر(عليه السلام): فهلك إذن مؤمن آل فرعون، مازال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً فوالله ما يوجد العلم إلاّ هاهنا».

2 ـ رُوِيَ أنّ عليّ بن الحسين(عليه السلام) رأى يوماً الحسن البصري وهو يقصّ عند الحجر الأسود، فقال له(عليه السلام): «أترضى يا حسن نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فثمّ دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فلله في أرضه معاذٌ غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فلِمَ تشغل الناس عن الطواف»(2).

3 ـ وقيل لعليّ بن الحسين(عليه السلام) يوماً: «إنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممّن هلك كيف هلك؟ وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا.

فقال(عليه السلام): أنا أقول: ليس العجب ممّن نجا كيف نجا، وأمّا العجب ممّن هلك كيف هلك مع سِعة رحمة الله»(3).

وقد يقال: إنّ أوّل من سُمّي باسم الصوفي أو بذر مسلك التصوّف بين المسلمين هو: أبو هاشم الكوفي(4).

وقد رُوِيَ عن الإمام العسكري(عليه السلام) عن الصادق(عليه السلام): بشأن أبي هاشم الكوفي: إنّه كان فاسد العقيدة جدّاً، وهو الذي ابتدع مذهباً يقال له: التصوّف(5).

وممّن اشتهر بكونه من الصوفيّة: سفيان الثوري. وقيل: إنّه تلميذ لأبي هاشم


(1) الوسائل 27/18 ـ 19، الباب 3 من صفات القاضي، الحديث 6.

(2) البحار 78 / 153.

(3) المصدر السابق.

(4) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 643، وجلوه حقّ لآية الله مكارم: 19.

(5) سفينة البحار 5/198.

162

الصوفي(1).

وكذلك ممّن اشتهر بذلك امرأة اسمها رابعة العدويّة، ويبالغون فيها وفي قداستها وعظمتها وكشفها وشهودها وما إلى ذلك: وقيل إنّ سفيان الثوري كان يطرح عليها مسائله، وكان يتعظ بمواعظها.

وقيل ـ أيضاً ـ: إنّه حينما توفّي عنها زوجها أراد الحسن البصري أن يتزوج بها، فطرحت رابعة اسئلة على حسن البصري، وعجز الحسن عن الجواب، فحينما رأت رابعة خلوَّ الحسن البصري عن تلك المعارف امتنعت من قبول طلبه، وأرسلت إِليه الأبيات التالية:

راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجده عن هواه عوضاً
وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنتُ أُشاهدْ حسنه
فهو محرابي إليه قبلتي
إنْ أمتْ وجداً وما ثمّ رضا
واعَنائي في الورى واشقوتي
يا طبيبَ القلبِ يا كلَّ المنى
جدْ بوصل منكَ يشفي مُهْجتي
يا سُروري وحياتي دائماً
نشأتي منكَ وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلقَ جَمْعاً أرتجي
منكَ وصْلاً فهو أقصى مُنيتي

وقيل ـ أيضاً ـ: إنّه قال لها ذات يوم سفيان الثوري: صفي لي درجة إيمانك واعتقادك بالله جلَّ وعلا، فقالت رابعة: إنّي لا أعبد الله شوقاً إلى الجنّة، ولا خوفاً من جهنم، وإنّما أعبده لكمال شوقي إليه، ولأداء شرائط العبوديّة. وبعد ذلك أنشأت هذه المناجاة:

 

اُحبّك حبّين حبَّ الهوى
وحبّاً لأنّك أهلٌ لذاك
فأمّا الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذكراك عمّن سواك


(1) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 646.

163

وأمّا الذي أنت أهلٌ له
فحبٌّ شُغِلتُ به عن سواك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاك(1)

ولنعم ما قال الشيخ ذبيح الله المحلاّتي في كتاب (رياحين الشريعة)(2) تعليقاً على هذه المطالب المنقولة عن رابعة العدويّة، وهو: أنّ هذه الامرأة عاصرت ثلاثة أئمّة: الإمام زين العابدين(عليه السلام) والإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام)، ولا يوجد ـ برغم هذا ـ في كلماتها اسم ولا رسم عن أهل البيت(عليهم السلام) الذين هم أحد الثقلين. والوليّ الحقيقي لله سبحانه هو الذي يتراود مع آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله) لا مع سفيان الثوري وحسن البصري.

وهذا الاستغراب من قبل الشيخ المحلاّتي واكتشافه لعدم واقعيّة وضع رابعة العدويّة صحيح. فلئن كانت رابعة العدويّة سيّدة زمانها في تزكية النفس وتصفية الباطن أفلم تكن سامعةً بوضع الإمام زين العابدين(عليه السلام)وكذلك الإمامين الآخَرين؟! فهب أنّها لم تكن تؤمن بإمامتهم ولكن ألم تكن سامعة بصفاء باطنهم وعرفانهم الإلهي المشتهر بين الناس حتّى ملأ الخافقين، فهلاّ اهتمّت بالتشرّف بخدمة أحدهم والاستضاءة بروحانيّته في أقلّ تقدير؟!

ومن الذين ترى الصوفيّة أنّه من أركانهم عبدالقادر الجيلاني. وسلسلة القادريّة تُنهي نفسها إليه. وقد نقلت عنه دعاوى كبيرة في مراتب العرفان والكشوف. وقد مات في سنة (560) أو سنة (561)(3).

وعلى أيّة حال، فلا شكّ لدى الشيعة في أنّ عبدالقادر الجيلاني أحد أئمّة الضلال وأركانهم. وكان منصوباً في مقابل أئمّتنا المعصومين(عليهم السلام).


(1) رياحين الشريعة 4/250 ـ 252.

(2) المصدر السابق 4/252.

(3) خدمات متقابل اسلام وايران: 654 بحسب الطبعة المذكورة آنفاً.

164

ويعجبني أن أذكر هنا عن عبد القادر الجيلاني قِصَّتين مع شيء ممّا علّق عليهما الشيخ العلاّمة الأميني(رحمه الله)(1):

الاُولى: ما ورد في مرآة الجنان(2) كالتالي:

روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقري أبو الحسن عليّ بن يوسف بن جرير بن معاضد الشافعي اللخمي في مناقب الشيخ عبدالقادر بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلّة أعلام الهدى العارفين المقتنين للاقتداء، قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشيخ عبدالقادر، فقالت له: يا سيّدي إنّي رأيت قلب ابني هذا شديد التعلّق بك، وقد خرجتُ عن حقّي فيه لله عزّ وجلّ ولك، فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق. فدخلت أُمّه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفرّاً من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قُرْصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناءً فيه عِظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيّدي، تأكل لحم الدجاج، ويأكل ابني خبز الشعير؟! فوضع يده على تلك العِظام، وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيي العِظام وهي رميم، فقامت الدجاجة سويّة وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.

قال الشيخ العلامة الأميني(رحمه الله) فيما قال تعليقاً على هذه القِصّة: هل لأكل خبز الشعير وما جَشِبَ من الطعام بمحضه أن يوصل السالك إلى مرتبة يحيي الموتى، وإن كان المولى ـ سبحانه ـ يعلم أنّه متى بلغ هذه المرتبة ألهاه أكل الدجاجة المسلوقة أكلاً لمّا؟! وهل الرياضة شرط في حدوث القوّة في النفس والملكات الفاضلة، وليست شرطاً في بقائها...؟!


(1) راجع الغدير 11/170 ـ 172.

(2) مرآة الجنان 3 / 356 بحسب تخريجة الغدير 11/170.

165

الثانية: ذكر الشعراني في الطبقات الكبرى(1) قال: كان الشيخ عبدالقادر الجيلاني(رضي الله عنه) يقول: أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرّداً سائحاً لا أعرف الخَلْق ولا يعرفوني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجانّ أُعلّمهم الطريق إلى الله عزّ وجلّ، ورافقني الخضر(عليه السلام) في أوّل دخولي العراق، وما كنت عرفته، وشرط أن لا أُخالفه، وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كلّ سنّة مرّة، ويقول لي: مكانك حتّى آتيك، قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات، فآكل المنبوذ ولا أشرب الماء، ومكثت فيها سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا آكل ولا أشرب ولا أنام، ونمت مرّة بإيوان كِسرى في ليلة باردة، فاحتلمت، فقمت وذهبت إلى الشطّ، واغتسلت، ثُمّ نمت فاحتلمت، فذهبت إلى الشط، واغتسلت، فوقع لي ذلك في تلك الليلة أربعين مرّة وأنا أغتسل، ثُمّ صعدت إلى الإيوان خوف النوم.

قال الشيخ الأميني(رحمه الله)تعليقاً على هذه القِصّة: اقرأه بإمعان وتبصّر في شأن هذا العارف معلّم طوائف من رجال الغيب والجانّ الذي اتَّخذوه الطريق إلى الله، وكان رفيق الخضر(عليه السلام)، وأعجب من إنسان لم يأكل سنة، ولم يشرب أُخرى، ويتركهما ثالثة، ولم تخرّ قواه حتّى يحتلم في ليلة شاتية أربعين مرّة، ويعبث به الشيطان بهذا العدد الجمّ وهو فان في الله، ولو كان اتَّفق له ذلك خلال تلكم الأيّام التي كان يأكل فيها الدجاجة المسلوقة، ويحيي عِظامها كما مرّ لكان يُعدّ بعيداً عن الطبيعة البشريّة، وما أطول تلك الليلة حتّى وسعت أربعين نومة ذات احتلام وأغسالاً بعدها على عدد الأحلام المتخلّلة بالذهاب إلى الشط والإياب إلى مقرّه ومنامه، وبعد ذلك كلّه تبقى منها برهة يصعد الشيخ إلى الإيوان خوفاً من النوم، ولعلَّه لو نام بعد نومته المتمّمة للأربعين لبلغ العدد الأربع مئة أو أكثر، ولم يكن الشيطان يفارق


(1) الطبقات الكبرى 1 / 110 بحسب تخريجة كتاب الغدير 11 / 171.

166

ذلك الهيكل القدسي واللعب به مهما امتدّت ليلته، وليس إحياؤه عظام الدجاجة بأعظم من هذه الكرامة، وإن هي إلاّ أحلام نائم نسجتها أيدي العرونة(1) غلوّاً في الفضائل. انتهى كلام الشيخ الأميني(رحمه الله).

وعلى أيّة حال، فنحن لا نهدف هنا إلى ذكر أعمدتهم وأركانهم، وإنّما كان هدفنا الإشارة إلى أنّ مدرسةً فُتِحت في أحضان أبناء العامّة، ثمّ سرت في وقت متأخّر ـ وفي أغلب الظنّ بعد غيبة الإمام(عليه السلام) ـ إلى الشيعة يكون أمرها مُريباً لنا؛ لأنّه لا يتحقّق هذا الوضع إلاّ لسببين: فتح مدرسة في مقابل مدرسة الأئمّة(عليهم السلام)، وإرواء العطش الروحي لدى السُنّة الذي لم يكن يُحَسّ به لدى الشيعة؛ وذلك لارتوائهم من معين الأئمّة المعصومين(عليهم السلام).

وهذا شبيه تماماً بما وقع في علم الأُصول من حُجيّة القياس والاستحسان والمصالح المرسلة لدى السُنّة دون الشيعة فهي عبارة عن مدرسة الرأي ـ في مقابل مدرسة الأئمّة(عليهم السلام) التي هي مدرسة النص ـ التجأ إليها السُنّة لفقرهم في مدارك تحصيل الأحكام، بينما لم تكن الشيعة تحسّ بهذا الفقر؛ وذلك لامتداد عصر النصّ عندهم بامتداد الأئمّة(عليهم السلام).

وأُؤكّد ـ هنا أيضاً ـ أ نّني لا أثِق بأنّ كلَّ من طرحته الصوفيّة بعنوان أنّه منهم أو من اركانهم فهو كذلك.

وختاماً أُشير إلى أنّ هناك نمطاً آخر ممّن تفترضهم الصوفيّة من أركانهم ودعائمهم يختلف عن نمط الأسماء التي مضى ذكرها، وهو عبارة عن أُناس سجَّل لهم التأريخ نوعاً من الورع والتقوى، ونوعَ تعاطف مع أئمّتنا(عليهم السلام) ممّا يشهد على أنّهم لم يكونوا أعداءً للأئمّة برغم عدم اعترافهم بإمامتهم(عليهم السلام)، ولا ندري هل كانوا حقّاً منتمين إلى مدرسة التصوّف ولو إرواءً لعطشهم الروحي، بعد عدم اعترافهم


(1) لعلّ الصحيح: الرعونة.

167

بإمامة الأئمّة، أو إنّ الصوفيّة لمّا رأوا أنّ التأريخ سجّل لهم الورع والتقوى اشتهوا أن ينتحلوهم؛ لكي يقووا بهم، أو لكي ينهوا سلاسلهم اِلى أُناس متقين. وأذكر هنا على سبيل المثال ثلاثة أسماء:

الأوّل: شقيق البلخي الذي يقال عنه: إنّه كان صوفيّاً، وكان تلميذاً لإبراهيم الأدهم(1). وقد سجّل له التأريخ(2) أنّه كان في بداية أمره صاحب ثروة ومكنة كبيرة، وكان يُكثر الأسفار للتجارة، فسافر في بعض السنين إلى بلاد الترك إلى بلد كان أهله وثنيين، فقال لأحد أكابرهم: إنّ عبادتكم لهذه الأصنام باطلة، فهي ليست بآلهة، وللمخلوق خالق سميع عليم لا يشبهه شيء، وهو الرازق لكلّ حيّ، فقال له ذاك الوثني:

إنّ قولك يخالف فعلك، قال شقيق: وكيف ذلك؟ فقال له الوثني: أنت ترى أنّ لك خالقاً يرزق المخلوقين وبرغم هذا الاعتقاد تتحمل عناء ومشقة السفر إلى هذه البلاد لطلب الرزق. فتنبّه شقيق على أثر هذه الكلمة، ورجع إلى بلده، وتصدّق بكلِّ ما يملك، ولازم العلماء والزهّاد إلى آخر حياته.

وهو وإن لم يذكر بشأنه الاهتداء إلى خطّ الإمامة الثابت لدى الشيعة، ولكن رُويت عنه قِصَّة طريفة مع الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، وهي القِصّة المرويّة في كتاب كشف الغُمّة لعليّ بن عيسى الإرْبِليِّ: من أنّ شقيقاً قال: «خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومئة، فنزلت القادسيّة، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتىً حسن الوجه، شديد السُمرة، ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفيّة يريد أن يكون كَلاًّ على الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه،


(1) خدمات متقابل اسلام وايران: ص 646.

(2) راجع منتهى الآمال: 2/207.

168

ولأُوبّخنّه، فدنوت منه فلمّا رآني مقبلاً قال:

يا شقيق، اجتنبوا كثيراً من الظنّ؛ إنّ بعض الظنّ إثم، ثمّ تركني ومضى. فقلت في نفسي: إنّ هذا الأمر عظيم، قد تكلّم بما في نفسي، ونطق باسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنّه ولأسألنّه أن يحلّلني، فأسرعت في أَثَره، فلم ألحقه، وغاب عن عيني. فلمّا نزلنا واقصة وإذا به يصلّي، واعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري، قلت: هذا صاحبي أمضي إليه واستحلّه، فصبرت حتّى جلس، وأقبلت نحوه، فلمّا رآني مقبلاً قال: يا شقيق، اتل ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾(1)ثمّ تركني ومضى. فقلت: إنّ هذا الفتى لمن الأبدال، لقد تكلّم على سرّي مرتين، فلمّا نزلنا زُبالة إذا بالفتى قائم على البئر، وبيده رَكوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الرَّكوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء، وسمعته يقول:

أنْتَ ربّيْ إذا ظمئتُ إلى الماءِ
وقوتيْ إذا أردتُ الطعاما

اللهمّ سيّدي مالي غيرها فلا تعدمنيها.

قال شقيق: فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها، فمدّ يده، وأخذ الرَّكوة وملأها ماءً، فتوضّأ وصلّى أربع ركعات، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الرَّكوة، ويحرّكه ويشرب، فأقبلت إليه، وسلّمت عليه، فردّ عليّ، فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك؟

فقال: يا شقيق، لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنّك بربّك، ثُمّ ناولني الرَّكوة، فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ما شَرِبت قطّ ألذّ منه، وأطيب ريحاً، فشَبِعت ورَوِيت، وأقمت أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً، ثُمّ لم أرَه حتّى دخلنا مكّة، فرأيته ليلةً إلى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل، فلمّا رأى الفجر جلس في


(1) السورة 20، طه، الآية: 82.

169

مصلاّه يسبّح، ثمّ قام فصلى الغداة، وطاف بالبيت أُسبوعاً، وخرج، فتبعته وإذا له غاشيةٌ وأموال، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام) فقلت: قد عجبت أن يكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيّد».

وقد قيل بهذا الصدد:

سلْ شقيقَ البلخي عنه وماعا
ينَ منه وما الذي كان أبصر
قالَ لمّا حججتُ عاينتُ شخصاً
شاحبَ اللونِ ناحلَ الجسمِ أسمر
سائراً وحدَه وليس له زا
دٌ فما زلتُ دائماً أتفكر
وتوهمّت أنّه يسأل الناسَ
ولم أدرِ أنّه الحج الأكبر
ثمّ عاينته ونحن نزولٌ
دونَ قيد على الكثيب الأحمر
يضع الرملَ في الإناء ويشرَ
به فناديته وعقلي محيّر
أسقني شربة فناولني منه
فعاينته سويقاً وسكّر
فسألت الحجيج مَنْ يكْ هذا
قيل هذا الإمام موسى بن جعفر(1)

ولنعم ما قيل باللغة الفارسيّة:

به راه كعبه شخصى را بديدم
نزار و زرد رنگ و ناتوان بود
به تنهائى بدون توشه مى رفت
كه از تنهائيش دل بدگمان بود
گمانم آمد از اهل سؤال است
ندانستم كه جان كعبه آن بود
چو بنشستيم در نزديك چاهى
در آنجا تلّ سرخى هم عيان بود
به من از آب وخاكش شربتى داد
كه شهد سكّرم در كام جان بود
چو پرسيدم ز حالش قائلى گفت
امام هفتمين شيعيان بود
 


(1) البحار 48/80 ـ 82، وراجع أيضاً منتهى الآمال: 2/205 ـ 206.

170

ومن الروايات الطريفة ما ورد في روضات الجنّات(1) من أنّ شقيق البلخي سأله(2) جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) يوماً عن الفتوّة؟ فقال: «ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أُعطينا شكرنا، وإن مُنِعنا صبرنا. فقال الصادق(عليه السلام): الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: يابن رسول الله ما الفتوّة عندكم؟ فقال: إن أُعطينا آثرنا، وإن مُنِعنا شكرنا».

والثاني: الفضيل بن عياض، وقد مضى فيما سبق في حديثنا عن النقطة الثانية ذكر قِصّة توبته لدى سماعه لقارئ يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾(3). فقال ياربّ قد آن. وقد ذكر النجاشي(رحمه الله) عنه أنّه عاميّ ثقة، وأنّ له نسخة يرويها عن الإمام الصادق(عليه السلام)(4).

وقد نقل المحدّث القمّي(رحمه الله) عن المحدّث النوري(رحمه الله) أنّه ذكر في المستدرك في شرح حال كتاب مصباح الشريعة: لا أستبعد أن يكون المصباح هو النسخة التي رواها الفضيل، وهو على مذاقه ومسلكه، والذي أعتقده أنّه جمعه من ملتقطات كلماته(عليه السلام) في مجالس وعظه ونصيحته، ولو فُرِضَ فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره وتعذّر تأويله، فهو منه على حسب مذهبه، لا من فريته وكذبه، فإنّه ينافي وثاقته انتهى(5).

ومن الحكايات التي لها صلة بالفضيل بن عياض ما ورد في عيون أخبار


(1) روضات الجنّات 4/108.

(2) هكذا ورد فيما عندي من نسخة روضات الجنّات، وأظنّ أنّ الصحيح: سأل (يعني شقيق) جعفر بن محمّد(عليه السلام).

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 16.

(4) راجع معجم رجال الحديث 13/331.

(5) راجع سفينة البحار 7/103.

171

الرضا(1) في الاحتجاج بين الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) وهارون الرشيد حيث وضّح الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لهارون الرشيد: أنّهم(عليهم السلام) هم ورثة النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون بني العبّاس؛ وذلك أنّه ادَّعى هارون الرشيد أنّ بني العبّاس أولى بالإرث؛ لأنّ أبا طالب(عليه السلام) كان قد مات في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)والعبّاس بقي حيّاً إلى ما بعد الرسول، فحجب عليّاً(عليه السلام) عن الإرث؛ لأنّ العمّ يحجب ابن العمّ عن الإرث. فأجابه الإمام(عليه السلام) بأنّه قال عليّ(عليه السلام): «إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعمّ مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب إذن ففاطمة(عليها السلام) حجبت العبّاس عن الميراث» إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أُميّة قالوا: العمّ والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثَر عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، ومن قال بقول عليّ(عليه السلام) من العلماء فقضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول عليّ(عليه السلام)، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين (يعني هارون الرشيد) المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به ... فأمر هارون الرشيد بإحضار نوح بن دراج، وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أنّه قول عليّ(عليه السلام)في هذه المسألة، فقال لهم: فيما أبلغني بعض العلماء من الحجاز (يعني موسى بن جعفر(عليه السلام)) فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن دراج؟! فقالوا جسر نوح وجبنّا.

والثالث: بشر الحافي وقد جعلوه ـ أيضاً ـ من مشاهير العرفاء(2) وقد ثبّت التأريخ عنه توبته عن معاصيه على يد الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)، وإن لم يثبّت له رجوعه إلى التشيّع وإلى إمامة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)وقصته ما يلي:

روى العلاّمة الحلّي(رحمه الله) في منهاج الكرامة أنّه مرّ الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)ذات


(1) عيون أخبار الرضا 1/82 ـ 83 .

(2) راجع خدمات متقابل اسلام وايران: 647.