الهدف العظيم، ويجب أن يعملوا جميعاً في سبيل تحقيق ما يرضي الله على وجه الأرض. وهذا هو معنى خلافة البشريّة لله على وجه الأرض، وهذا لا علاقة له بمسألة أن يقوموا بحكم أنفسهم بأنفسهم، أو يكون لهم جميعاً حقّ أو يد في تعيين مَن يقودهم.
أمّا حينما تستعمل الخلافة في القرآن بمعنى القيادة، وبالذات بمعنى الحكم، فإنّنا نرى أنّها لا تُنسَب إلى البشريّة، وإنّما تنسب إلى شخص معيَّن، من قبيل قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(1).
فالخلافة هنا بمعنى الحكم؛ بدليل قوله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾، فنرى هنا أنّ الخلافة عندما استعملت بمعنى الحكم فإنّها لم تنسب إلى الناس جميعاً أو إلى البشريّة كما نُسبت في الآيات السابقة، وإنّما نُسبت إلى شخص داود(عليه السلام) الذي هو معيّن من قبل الله تبارك وتعالى، ولم يكن للناس أيّ دخل في تعيينه.
رواية إجماع المسلمين:
أمّا ما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) من قوله: « لا يجمع الله اُمّتي على الضلالة أبداً »(2)، فإنّه يستحقّ البحث ولو على سبيل الإجمال من ثلاثة جوانب:
1 ـ جانب السند، وهل صدرت هذه الرواية حقّاً عن الرسول(صلى الله عليه وآله)؟
2 ـ جانب التطبيق، وهل طبّق هذا الذي يُدّعى ـ من قبل أبناء العامّة ـ على مَن عُيّنَ كخليفة للمسلمين بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟
3 ـ جانب الدلالة، فلو افترضنا أنّ هذه الرواية تامّة السند، فهل تثبت المدَّعى والمقصود؟ وهل تدلّ على أنّ الاُمّة تستطيع أن تنتخب القائد ولو عن طريق الإجماع لا عن طريق الأكثريّة؟!
1 ـ جانب السند:
وهنا نشير إشارةً عابرةً إلى سند هذه الرواية، ولا نريد أن نبحث ذلك وفق نظر الشيعة؛ لأنّهم لا يؤمنون بها، ولا يرون أنّها وردت بسند تامٍّ وصحيح، فرواتها ليسوا من الذين وثّقوا لدى الشيعة، ولكنّنا نريد الكلام فيها وفق اُسس إخواننا السنّة.
فهذه الرواية لم ترد في أيٍّ من الصحاح الستّ، وإنّما وردت في مستدرك الحاكم النيسابوري الذي كتبه كمستدرك على الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقد التزم الحاكم في أوّل كتابه بأن لا يذكر في كتابه هذا إلّا الأحاديث الصحيحة على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما، وهذا يعني أنّه التزم أن لا يذكر من الأحاديث إلّا ما كان منها بمستوى ما ورد في صحيح البخاري أو صحيح مسلم من حيث السند.
ولكن حينما نصل إلى هذه الرواية بالذات ـ رواية: «لا يجمع الله
اُمّتي على الضلالة أبداً» ـ نراه يعترف بشكل وبآخر بعدم نقاء سندها، ثُمّ يعتذر عن ذلك ويسعى في سبيل تغطية هذا النقص، وخلاصة الكلام فيها هو مايلي:
إنّ الحاكم يروي هذه الرواية عن ثلاثة أشخاص(1)، وهم:
1 ـ عبد الله بن عمر.
2 ـ ابن عباس.
3 ـ أنس بن مالك.
وقبل البحث في أسانيد هذه الرواية نشير إلى أنّ الادِّعاء القائل بعدم الحاجة إلى النظر إلى أحوال رواة هذه الرواية، والبحث عن وثاقتهم؛ إذ إنّها رواية مستفيضة أو متواترة أو مشهورة ومرويّة بطرق كثيرة، فهي إذن تامّة السند مع غضّ النظر عن رواتها، فيجب الأخذ بها، هو إدّعاء غير صحيح؛ إذ إنّ طرق رواية هذه الرواية تنتهي كلّها إلى أحد هؤلاء الثلاثة، وعلى هذا فهي ليست مستفيضة أو متواترة. وقد قال العلماء بأنّ الرواية المتواترة يجب أن تكون متواترة في كلّ الطبقات، ولمّا كانت هذه الرواية من أصلها منتهية إلى ثلاثة رواة فقط، فإنّها ليست متواترة ولا مستفيضة.
أمّا بالنسبة إلى سند الرواية المنتهي إلى ابن عمر: فحينما يرويها عن ابن عمر، فإنّه يذكر لها سبعة أسانيد تنتهي كلّها إلى المعتمر بن
(1) راجع المستدرك على الصحيحين 1: 115 ـ 117.
سليمان الذي يرويها بسند له إلى ابن عمر.
وأحد الأسانيد من تلك السبعة ينتهي إلى خالد بن يزيد القرني، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ويقول الحاكم النيسابوري بشأن خالد بن يزيد القرني: إنّه لو حفظ هذا الحديث عنه لحكمنا له بالصحّة. يعني: أنّه لو ثبت لدينا أنّ هذا الحديث هو من خالد بن يزيد القرني حقّاً لحكمنا بصحّته؛ لأنّ المعتمر وأباه وعبدالله بن دينار وعبدالله بن عمر كلّهم ثقاة عند الحاكم. ولكن ـ مع الأسف ـ لم يحفظ هذا الحديث عنه، أي: أنّ الوسائط بين خالد بن يزيد وبين الحاكم غير موثوقين عند الحاكم نفسه.
ثمّ يتسلسل الحاكم بذكر الأسانيد إلى أن يصل إلى خامس الأسانيد، فيذكر أنّ المعتمر بن سليمان يروي الحديث عن سلم بن أبي الذيال، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، ويقول أيضاً: «لو كان محفوظاً عن الراوي ـ يعني خالد بن يزيد القرني عن المعتمر ـ لكان من شرط الصحيح»، وهذا يعني أنّه غير محفوظ عن الراوي، وأنّ وثاقة الوسائط بين الحاكم وخالد غير ثابتة.
أمّا الأسانيد الاُخرى الخمسة، فربّما يفترض أنّ الرواة (الوسائط) الواقعين بين الحاكم النيسابوري والمعتمر بن سليمان كلّهم ثقاة، ولكنّ نقطة الضعف في هذه الروايات ـ بحسب مايراه الحاكم نفسه ـ هي: أنّ هناك وسيطاً بين المعتمر وبين عبدالله بن
دينار(1)، وهذا الوسيط رجل مجهول عُبّر عنه تارةً بأبي سفيان المديني، واُخرى بسفيان أو أبي سفيان، وثالثةً بأبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، ورابعةً بسليمان المدني، وخامسةً بسليمان أبي عبدالله المدني، وقد قال الحاكم في تقويمه لهذا الرجل الوسيط: « قال الإمام أبو بكر محمّد بن إسحاق: لست أعرف سفيان أو أباسفيان هذا ».
ومن هنا سجّل الحاكم نقطة الضعف على سند هذه الرواية، ولكنّه حاول التغطية على هذا النقص وعلاجه، وقال: لمّا كان المعتمر بن سليمان أحد أئمّة الحديث، وكان من أركان الحديث، فليس من حقّنا إذن أن نناقش في روايته هذه. ومن هنا، فإنّ الحديث عند الحاكم صحيح؛ لأنّه مرويّ عن المعتمر الثقة!
وإذا قبلنا من الحاكم أنّ المعتمر بن سليمان ثقة وعظيم وجليل وأنّه من أركان الحديث، فعلينا أن نعرف أنّ هذا لا يتنافى مع نقله لرواية عن إنسان لم تثبت وثاقته، وأنّ الوثاقة والعظمة لا تمنع عن نقل الحديث عن غير الثقة؛ إذ إنّ هذا النوع من النقل ليس بحرام ولا يؤثِّر سلباً في وثاقة الناقل، حيث إنّ الذي يهمّ الراوي هو نقل الرواية وإعطاء السند، وهو غير مسؤول بعد ذلك عن كون الرواة
(1) جاء في السند السادس للحديث ـ بحسب الطبعة الموجودة لدينا ـ عمرو بن دينار بدلاً عن عبدالله بن دينار.
الذين نقل عنهم ثقاة أم لا.
فوثاقة المعتمر إذن لا يمكن أن تعالج النقص الموجود في هذه الرواية التي يرويها الحاكم عن ابن عمر، وبهذا يتبيّن حال سندها.
وأمّا الرواية التي يرويها الحاكم عن ابن عباس، فيذكر سندين إلى ابن عباس، ويذكر الرواية مع شيء من الاختلاف في المتن، ولكن الجامع هو مفاد: « لا يجمع الله اُمّتي على ضلالة أبداً ».
ويعلّق الحاكم على هذين السندين وعلى سنده إلى أنس بن مالك قائلاً: « لا أدّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها »، وهذا يعني أنّ لديه توقّفاً بشأن هذه الأسانيد، وأنّ صحّتها لم تثبت عنده.
فهذا هو حال سند الرواية التي ينقلها عن ابن عباس وأنس.
ومتن الرواية التي ينقلها الحاكم عن أنس بن مالك، عن الرسول(صلى الله عليه وآله) مايلي: «إنّه سأل ربّه أربعاً: سأل ربّه أن لا يموت جوعاً، فاُعطي ذلك ـ أي: أنّ الله سبحانه وتعالى قد استجاب دعاءه ـ وسأل ربّه أن لا يجتمعوا على ضلالة، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يرتدّوا كفّاراً، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يغلبهم عدوّ لهم فيستبيح نساءهم(1)، فاُعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يكون بأسهم بينهم، فلم يُعطَ ذلك».
وقد علّق الحاكم على هذه الرواية قائلاً بأنّ في سندها شخصاً
(1) في المصدر فيستبيح بأسهم.
باسم مبارك بن سحيم، وهذا الإنسان لا يمشي في مثل هذا الكتاب ( يعني: أنّه لا يستطيع أن يغطّي شرطاً؛ لأ نّا اشترطنا في هذا الكتاب أن يكون على شرط الشيخين، وشرطُ الشيخين غير موجود في هذا الرجل )، لكن ذكرته اضطراراً.
فهذه الرواية إذن غير ثابتة أيضاً.
ومن هنا يتّضح أنّ أسانيد هذه الرواية كلّها مخدوشة وغير ثابتة الصحّة.
2 ـ جانب التطبيق الخارجي:
وأمّا من جانب تطبيق هذه الرواية، فنتساءل: هل كان هناك إجماع حقّاً على مَن انتخب كخليفة للمسلمين بعد الرسول(صلى الله عليه وآله)؟
وهذا بحث تأريخي مذكور في الكتب التأريخيّة التي ذكرت الخلافة أو الإمامة، أو ذكرت تأريخ عصر السقيفة، فلتراجع.
ومن المعروف أنّه لم يكن هناك إجماع.
3 ـ جانب الدلالة:
ولو تمّت الرواية سنداً، وفرضنا أنّها قد طبِّقت في وقتها، وانتخب مَن انتخب بالإجماع، فهل يؤدِّي هذا إلى القول بأنّ الإمامة تثبت بالإجماع، أو لا؟
وهنا يوجد تعليق للشيخ الآصفي ـ حفظه الله ـ رأيته في كتاب له غير مطبوع بعد، وقد جلب انتباهي، وأرغب ذكره هنا:
يقول الشيخ الآصفي: «إنّ قوله: ( اُمّتي لا تجتمع على ضلالة )
يعني: أنّ الاُمّة حينما تجتمع على شيء فإنّ إجماعها هذا يكون حجّةً لمن تأخّر عن زمن الإجماع؛ وذلك لأنّ إجماعها على ذلك الشيء يكشف عن وجود أساس صحيح قد اعتمدت عليه الاُمّة في إجماعها هذا، وإلّا لَما كان هناك إجماع واتّفاق تامّ، ولَما كان لإجماعها ـ لو اتّفق ـ أيّ قيمة؛ إذ لا يحقّ للاُمّة أن تجمع على شيء مالم يرد دليل صحيح بشأنه، ومن هنا فإنّ الاُمّة إذا أجمعت على شيء، فإنّنا نعرف أنّ ذلك الشيء صحيح تماماً، فيكون حجّةً لنا.
ولكن من حقِّنا أن نتساءَل هنا: ما هو الأساس الذي اعتمدته الاُمّة في إجماعها ـ لو قلنا بوقوعه ـ على خلافة أبي بكر؟
وهنا نقول: إنّ إجماعها على انتخابه لا يمكن أن يكون مستنداً على نفس إجماعها عليه، ولا يمكن أن يكون الإجماع على انتخابه هو الأساس في الإجماع على انتخابه؛ لأنّ هذا دور واضح.
كما أنّ إجماعها هذا على انتخابه لا يمكن أن يكون مستنداً على إجماع سابق قد حصل من قِبَل الاُمّة، حيث إنّه لم يكن هناك إجماع سابق ـ أي: في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ على انتخابه».
وبناءً على هذا الاستظهار نقول: إنّ أساس إجماع الاُمّة المدّعى إذن: إمّا أن يكون راجعاً ومستنداً إلى نصٍّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) بإمامة إنسان ما، أو يكون راجعاً إلى مبدأ الشورى.
فإن قلنا بالأوّل ( بالنصّ )، رجعنا إلى مسلك أنّ الإمام يعيَّن بالنصّ، وهذا ما نؤمن به نحن. وإن قلنا بالثاني ( مبدأ الشورى )، فهذا ما سنناقشه الآن.
آيتا الشورى:
أمّا آيتا الشورى(1): ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾(2) و ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾(3)، فمن الواضح أنّ الآية الاُولى ليست بصدد افتراض أنّ الشورى تعطي حجّيّةً وولايةً وإلزاماً للنبيّ(صلى الله عليه وآله)؛ ذلك لأنّها تقول: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، فكأنّ الله سبحانه قد خاطب رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) قائلاً: يا رسول الله، شاور الاُمّة في الأمر، ولكنّ العزم والقرار بعد ذلك يكون بيدك أنت وليس بيد الاُمّة، والمشورة لا تعني أكثر من الاستضاءة بآراء الآخرين.
والمشورة هنا لم تكن بسبب حاجة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى الاستضاءة بآراء الآخرين، كما لم تكن حجّةً عليه(صلى الله عليه وآله)، وإنّما كانت بهدف إشراك الآخرين في حمل المسؤوليّة.
وأمّا بالنسبة إلى الآية الثانية: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾، فإنّ تفسيرها بما تعارف عليه اليوم في بعض البلاد من مسألة الانتخاب والإدلاء بالآراء خطأ فاضح؛ إذ إنّ تفسير أيّ عبارة يجب أن يكون على أساس ما كان يمكن أن يفهم منها في ظرف صدورها زماناًومكاناً، ولا يجوز أن تُؤوّل وتُفسَّر على أساس المصطلحات السائدة في
زمان تفسيرها، ولمّا كان قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾، قد ورد قبل أربعة عشر قرناً، فإنّ تفسيره يجب أن يكون على أساس ما كان يفهم منه في ذلك الوقت، ولا يصحّ لنا أن نفسِّره بما تعارف عندنا من مصطلحات اليوم، كالانتخاب، والديمقراطيّة، والإدلاء بالآراء، والأخذ برأي الأكثريّة، فهذا كلّه لا يمكن أن يفهم من الآية؛ لغرابته عن عرف ذلك الزمان، وعدم تعارف الناس عليه وقتذاك، ومن هنا فإنّ الذي يمكن أن يفهم من هذه الآية المباركة هو ما كان متعارفاً في تلك القرون، وهو: مسألة الاستضاءة بمشورة العقول، وهذا شيء يختلف عن أن تكون الشورى حجّة على مَن استشار، ويجب عليه أن يأخذ برأي الأكثريّة، فهذا شيء وذاك شيء آخر، وهذا هو الخطأ الجذري الوارد في هذا الاستدلال بهذه الآية المباركة.
على أنّ هناك لاُستاذنا الشهيد الصدر(قدس سره) بحثاً قيِّماً في الطبعة الأخيرة(1) من كتابه ( بحث حول الولاية )، حيث بحث هناك احتمال أن يكون الرسول(صلى الله عليه وآله)قد أوكل أمر القيادة والإمامة الفكريّة والسياسيّة إلى الشورى، وهذه هي خلاصة كلام اُستاذنا الشهيد(قدس سره):
إنّنا لا نحتمل أن يكون الرسول(صلى الله عليه وآله) قد اعتمد على مبدأ الشورى في تعيين الخليفة من بعده؛ وذلك لأنّه لو كان(صلى الله عليه وآله) اعتمد على هذا
(1) ففي أواخر أ يّام حياته(قدس سره) أدخل بعض الإضافات المهمّة والقيّمة في هذه الطبعة.
المبدأ، لكان عليه(صلى الله عليه وآله) أن يوضّح هذا المبدأ، ولا يمكن أن يكتفي بهذه الآية؛ إذ لابدّ له من إيضاح حدود الشورى وشرائطها، وماهو الحلّ فيما لو اختلف المتشاورون، فهل يؤخذ برأي الأكثريّة، أو برأي الثلّة الواعية ولو كانوا أقلّيّة؟ وما هي شرائط المشتركين في عمليّة الإدلاء بالآراء؟ وما إلى ذلك.
فهذه الاُمور وغيرها لم توضّح للاُمّة، بل إنّنا نرى أنّ فكرة الشورى لم تكن موجودةً حتّى عند أعمدة الخطّ السنّي وقتئذ ( أبي بكر، عمر ) أنفسهم، فحينما حضرت الوفاة أبا بكر نراه أوصى بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب، فلو كان الرسول(صلى الله عليه وآله) قد أوضح للاُمّة مبدأ الشورى، فمن الذي عمل به، هل السنّة أو الشيعة؟
فالشيعة طريقهم واضح، والمسألة عندهم مسألة نصّ.
وأمّا السنّة فهذا أبو بكر لم يعمل بشيء من هذا القبيل، فقد عيّن عمر بن الخطاب، وكذا عمر بن الخطاب الذي كان قد ناقش في بيعة أبي بكر نفسه؛ إذ وصفها بأنّها فلتة، لم يعمل بهذا المبدأ عندما حضرته الوفاة أيضاً؛ إذ حَصر الأمر في ستّة أشخاص وجعلها شورىً بينهم فقط، ولم يجعلها شورىً ضمن الاُمّة كلِّها.
إذن فمن الذي فهم فكرة الشورى وقتذاك؟ فالشيعة لم يقولوا بها، والسنّة لم يفهموها ولم يطبّقوها حتّى من قبل أئمّتهم.
ثم يشير اُستاذنا الشهيد(قدس سره) إلى أنّ الاُمّة وقتئذ لم تكن بمستوى استلام القيادة. والتفصيل مذكور في كتابه المشار إليه سابقاً، فراجع.
الأدلّة على ضرورة التنصيص
أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) بشأن الإمامة:
تؤكِّد أحاديث أهل البيت ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ بشأن الإمامة على مفهومين:
الأوّل: أصل ضرورة الإمامة وضرورة وجود الإمام؛ إذ تؤكِّد هذا بلسان يعطي للإمامة أهمّيتها وهيبتها الواقعيّة، فالإمامة لم تفسَّر في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)بأنّها مجرّد قيادة الحياة الدنيويّة، كما يقول به المادّيّون اليوم في الغرب، وقد ورد هذا المعنى في الروايات بتعبيرين أساسيَّين:
أحدهما: تعبير « لابدّ من وجود إمام لئلاّ تبطل حجّة الله »، ويعني هذا التعبير أنّ تماميّة الحجّة متوقّفة على وجود إمام.
ثانيهما: تعبير « لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها »، وقد ورد هذا التعبير كثيراً في الروايات، وبحسب هذا التعبير ينتهي العالم وينهدم لولا وجود الإمام.
والروايات الواردة بهذين التعبيرين كثيرة جدّاً وبالغة حدّ التواتر، وهي مذكورة في كتاب ( بحار الأنوار ) وغيره، وسنذكر هنا نموذجاً واحداً لكلّ قسم من هذين القسمين ( التعبيرين ):
1 ـ فعن أبي إسحاق الهمداني قال: حدّثني الثقة من أصحابنا أنّه سمع أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: «اللهمّ لا تخلو الأرض من حجّة لك
على خلقك، ظاهر أو خاف مغمور؛ لئلاّ تبطل حججك وبَيِّناتك»(1).
2 ـ وعن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: «لو بقيت الأرض بغير إمام ساعةًلساخت»(2).
وهناك رواية اُخرى تجمع بين التعبيرين معاً، وهي: رواية(3)سليمان الأعمش، عن الصادق(عليه السلام)، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين(عليهم السلام) أنّه قال: «ولولا ما في الأرض منّا (يعني منّا أهل البيت) لساخت بأهلها»، ثُمّ قال(عليه السلام): «ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولاتخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها»، ويقول: «ولولا ذلك ( يعني وجود الإمام ) لم يعبد الله»، قال سليمان الأعمش وهو يسأل الإمام الصادق(عليه السلام): فقلت للصادق(عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟ قال(عليه السلام): «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(4).
والذي أفهمه من هذه الروايات: أنّ الفائدتين من وجود الإمام تترتّبان بشكل وبآخر على وجود الإمام وإن كان مستوراً، فهو على الرغم من غيبته واختفائه وراء الستار يعطي كلتا الفائدتين السابقتين، وهما: ( ارتباط العالم به ) و ( تبيين الحجّة )، فقوام العالم
(1) البحار 23: 20، الحديث 17.
(2) المصدر السابق: 21، الحديث 20.
(3) وهي رواية مفصّلة، أكتفيتُ بنقل محلّ الشاهد منها.
(4) البحار 23: 5 ـ 6، الحديث 10.
إذن وقوام الدين يكونان بالإمام(عليه السلام)، سواء كان حاضراً أم مستوراً، ولولاه لساخت الأرض بأهلها، ولَما حفظ الدين.
فيبدو من هذه الروايات أنّ الإمام المستور يتدخّل في الاُمور بشكل لا نعرفه ولا ندركه؛ إذ إنّ الإمام(عليه السلام) في زمن الغيبة لا يُرى رؤية معرفة، وإنّ تدخّله بالاُمور ليس كتدخّله عندما يكون ظاهراً ومعروفاً، فهو حين غيابه ينبّه أو يشير ـ عن طريق بعض أصحابه المرتبطين به ( ونحن لا نعلمهم ) أو عن أيّ طريق آخر ـ إلى النقاط الحسّاسة التي تنقذ الموقف، وهذا ليس ببعيد.
الثاني: أنّ أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) تؤكّد على أنّ الإمام يجب أن يُعَيَّن بالنصّ.
وهنا روايات كثيرة تدلّ على هذا المعنى، أذكر منها روايةً واحدة، فعن سعد بن عبدالله القميّ قال: سألت القائم(عليه السلام) في حجر أبيه ( يعني: سأله وهو(عليه السلام) طفل في حجر أبيه(عليه السلام) )، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم، قال (الإمام(عليه السلام)): «مصلح أو مفسد؟» (أي: هل يختار القوم مصلحاً أو يختارون مفسداً؟). قلت: مصلح. قال: «هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟»، ( يعني: صحيح أنّ هؤلاء سوف يعملون على اختيار المصلح ويحاولون ذلك، ولكن أليس من المحتمل أنّهم سوف يخطؤون في اختيارهم فينتخبون مفسداً معتقدين أنّه مصلح؟ ). قلت: بلى. قال: «فهي العلّة أيّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك».
قلت: نعم. قال: «أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتب وأيّدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الاُمم وأهدى، أن لو ثبت الاختيار ومنهم موسى وعيسى(عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنّه مؤمن؟». قلت: لا. قال: «فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلاً ممّن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا...﴾(1)، فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد، علمنا أ ن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكنّ الضمائر وتنصرف عنه السرائر، وأن لاخطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا أرادوا أهل الصلاح »(2).
حَديث الغَدير:
لقد نقل الشيعة قصّة الغدير، وادّعوا أنّ هناك نصّاً صريحاً من قبل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) في نصب إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) بالإمامة. وقد
خالفهم آخرون؛ إذ أنكروا هذا النصّ.
ولكنّ القرآن الكريم ـ وهو مورد وفاق بين كلّ المسلمين ـ يدلّنا بوضوح على صحّة النصّ وتماميّته، وأنّ نصّ الغدير صادر عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، وذلك في آيتين اثنتين:
الآية الاُولى: قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾(1).
والمناقشة الوحيدة التي تُذكر بصدد الاستدلال بهذه الآية المباركة، هي: أنّ هذه الآية وردت في جوِّ آية تحريم الميتة وتحريم بعض أقسام اللحوم، وعندئذ لا تكون لهذه الآية ـ كما يقول المناقش ـ أيّ علاقة بقصّة الغدير، وإنّما لها علاقة بجوّ الآية المباركة، وهو: تحريم بعض اللحوم؛ وذلك لأنّ الآيات كما يلي:
قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لاِِثْم فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2).
فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ...﴾ ورد ضمن آية أوّلها وآخرها يرجعان إلى قضيّة تحريم الميتة وتحريم بعض
أقسام اللحوم، وعليه فإنّ هذه الآية ـ كما يقول المناقش ـ لا علاقة لها بقصّة الغدير.
إنّ هناك لفتة في كلام العلامة الطباطبائي(رحمه الله) في كتابه ( الميزان في تفسير القرآن )، حيث يلفت النظر إلى أنّ هذا المقطع بالذات: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ حين نقتطعه من وسط هذه الآية المباركة نرى أنّ صدر الآية وذيلها يلتئمان تمام الالتئام، وكأنّما لم يرفع منهما شيء، وهذا قليلاً ما يتّفق؛ إذ لا يكون إلّا فيما يسمّى بحسب مصطلح علماء العربيّة بالجمل الاعتراضيّة ـ وهي الجمل التي تقحم في الأثناء إقحاماً ـ وإذا ما حذفت مثل هذه الجمل من الفقرة التي تتضمّنها، فإنّ ما قبلها وما بعدها يلتئم تمام الالتئام.
وهذه الظاهرة موجودة بشكل لافت للنظر في هذه الآية المباركة، فإذا ما رفعنا قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ من الآية المباركة، فإنّها تُصبح هكذا: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لاِِثْم فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وعندئذ نرى أنّ الآية متكاملة، وأنّ الارتباط قائم بشكل كامل بين الصدر والذيل.
وممّا يلفت النظر أيضاً هو: أنّ مضمون هذه الآية المباركة ـ آية تحريم بعض اللحوم ـ قد تكرّر في القرآن الكريم عدّة مرّات، وفي تلك المواطن التي جاء فيها هذا المضمون جاء الصدر والذيل فحسب، وأمّا المقطع الوسط ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ...﴾، فلم يجئ، وإليك مايلي:
أ ـ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).
فهذه الآية عين تلك الآية من حيث مضمون صدرها وذيلها؛ إذ إنّ صدرها التحريم، وإنّ ذيلها الترخيص لمن يضطرّ، وأمّا الجملة الوسطيّة وهي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾، فغير موجودة.
ب ـ قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2).
فمضمون هذه الآية هو نفس مضمون صدر وذيل آية: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ...﴾، وأمّا الوسط ـ وهو قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ ـ فلم يرد في هذه الآية المباركة.
ج ـ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا
(1) سورة البقرة، الآية: 173.
(2) سورة الأنعام، الآية: 145.
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).
فمضمون صدر وذيل تلك الآية قد ورد هنا أيضاً، وأمّا الوسط فغير موجود.
وهذا ممّا يسترعي الانتباه إلى أنّ جملة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ كأنّما كانت جملة معترضة اُقحِمت إقحاماً في أثناء آية تحريم الميتة، ولم يكن لها علاقة بهذه الآية المباركة.
أمّا لو درسنا نفس مقطع ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾، وهل يمكن ربطه بقضيّة تحريم الميتة أو لا؟ فخلاصة الكلام في ذلك: أنّه ما المقصود بكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾؟ فهل تشير هذه الكلمة إلى عصر الإسلام كلّه ـ أي: منذ بعثة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) إلى النهاية ـ أو تُشير إلى يوم مُعيّن ومحدّد من عصر الإسلام قد نزل فيه حكم خاصّ فكمل به الدين؟
فعلى التفسير الأوّل لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ يكون معنى الآية المباركة هو: أنّ الإسلام هو المكمّل للدين السماوي، فإلى ما قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يكن ذاك الدين السماوي كاملاً (2)، وقد كمل ببعثة
الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وفي عصر رسالته ودينه، ولذلك قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾.
وعلى ضوء هذا التفسير فإنّ كلَّ الأديان السابقة كانت إسلاماً ولا يوجد عندنا غير الإسلام من دين، فدين موسى إسلام، ودين عيسى إسلام، ودين إبراهيم إسلام...، فيكون معنى كلمة ﴿الإِسْلاَم﴾الواردة في قوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ هو نفس معناها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَم﴾(1)، فلا يوجد عندنا إلّا دين واحد وهو الإسلام، وعندئذ يكون معنى قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾ هو: أنّ الإسلام الذي كان ديناً منذ آدم(عليه السلام) وإلى اليوم أصبح كاملاً وتامّاً بمجيء رسول الله محمّد(صلى الله عليه وآله)، ورضيتُ أن تكون شريعته ( الشريعة الإسلاميّة ) ديناً لكم.
وهذا التفسير يُناسب فرض القائل بأنّ هذا المقطع، أي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ هو ضمن آية تحريم الميتة، فضمن بيان الله لأحكام الإسلام التي من جملتها تحريم الميتة، وتحريم الدم، وتحريم لحم الخنزير، وتحريم ما اُهلَّ لغير الله به، وضمن بيانه تعالى لمسألة الاضطرار يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...﴾؛ ليبيّنَ أنّ هذا العصر ـ عصر الشريعة الإسلاميّة ـ هو عصر تكميل الدين، ولذا فإ نّي رضيت لكم الآن أن يكون دينكم الإسلام. وعندئذ يُصبح ارتباط
(1) سورة آل عمران، الآية: 19.
هذا المقطع بصدر الآية وذيلها ارتباطاً منطقيّاً.
وأمّا على التفسير الثاني لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ الواردة في ذلك المقطع من الآية المباركة، والقائل بأنّنا لا نُعيد ( لام العهد ) فيه إلى عصر الإسلام كلِّه وإلى عصر بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله)، وإنّما نُعيدها إلى جزء من ذلك العصر، أي: إلى يوم معيّن قد نزل فيه حكم معيّن من الأحكام التي بعث بها النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، بحيث كان ذلك الحكم مكمّلاً للدين، فإنّ معنى الآية المباركة يكون هو: أنّ الشريعة الإسلاميّة التي جاء بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قد كملت اليوم بإنزال آخر حكم من أحكامها، ومن هنا فقد رضيت أن تكون لكم ديناً.
أمّا الاحتمال الأوّل القائل بافتراض أنّ اللام في قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ﴾ تعود إلى كلِّ عصر الرسالة وليس إلى يوم معيّن ومحدّد، وأ نّ النظر ليس إلى حكم خاصٍّ من أحكام الإسلام، فإنّه غير معقول وغير متصور؛ وذلك لأنّ هذا الاحتمال لمعنى كلمة ﴿الْيَوْمَ﴾لا ينسجم مع قوله تعالى في العبارة السابقة: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾؛ إذ لابدّ وأن يكون معنى كلمة ﴿الْيَوْمَ﴾ في العبارتين واحداً، فلو كان النظر إلى الإسلام كلِّه وإلى عصر بعثة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لكان معنى قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ هو: أنّ الكفّار قد يئسوا من الأديان السماويّة ببعثة الرسول(صلى الله عليه وآله)، ولكن كيف يكون الكفّار غير يائسين قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله)مع وجود الدين السماوي، ثُمّ ييأسون بمجرّد بعثة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، ومع هذا يبقون على محاربتهم للمسلمين؟!
فهذا الدين ( الدين الإسلاميّ ) لم يكن موجوداً، والأديان السابقة كانت تُحارَب من قبل الكفّار، وحينما جاء دين الإسلام فإنّه حورب أيضاً من قبل الكفّار، ولم ييأسوا بمحض مجيء الرسول(صلى الله عليه وآله)، فقد حاربوا سنين كثيرة وعديدة، ولم يكونوا يائسين من دحض الإسلام؛ إذ لو كانوا كذلك لما حاربوه، فجملة ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ...﴾ تبقى لا مورد لها بناءً على هذا التفسير ( الأوّل ) لكلمة ﴿الْيَوْمَ﴾.
وإذا أبعدنا التفسير الأوّل وأسقطناه، تعيّن التفسير الثاني، فقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ إشارة إلى يوم معيّن من أ يّام الإسلام، وليس إشارةً إلى عصر الإسلام كلّه.
ففي ذلك اليوم المعيّن يئس الذين كفروا من الإسلام بعدما كانوا ـ قبل ذلك اليوم المعيّن ـ يحتملون أن يغلبوا المسلمين، وكان لهم أمل بأن يهزموا الإسلام ويلغوه بموت رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ إذ كانوا يقولون: إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله)يحاربنا مادام حيّاً، وأمّا حينما يموت، فإنّ كلّ شيء ينتهي، وسننتصر على المسلمين.
فيكون إذن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾ إشارة إلى يوم معيّن كان فيه حادث معيّن أوجب يأس الكفّار، فما هو ذلك الحادث؟!
إنّ ملامح ذلك الحادث بارزة في الآية المباركة، وهي:
1 ـ إنّ ذلك الحادث هو سنخ حادث أوجب يأس الكفّار.
2 ـ إنّه أكمل الدين، فهو إذن آخر حكم من أحكام الإسلام التي
نزلت بحيث إنّ الدين قد كمل به ولم ينزل بعده أيّ حكم آخر.
3 ـ إنّه سنخ حكم بحيث يكون أهمّ أحكام الإسلام على الإطلاق، أو من أهمِّها بحيث حينما جاء الحكم رضي الله تعالى لنا الإسلام ديناً.
ولا توجد في التأريخ قصّة تنطبق عليها هذه المواصفات إلّا قصّة تعيين الخليفة، وتنصيب مَن يخلف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهذه القصّة هي الوحيدة الواردة في التأريخ التي تنطبق عليها هكذا مواصفات.
فتعيين الخليفة هو الذي أوجب يأس الكفّار الذين كانوا حتّى ذلك اليوم يتربّصون بالمسلمين، ويعتقدون بأنّهم سوف يتمكّنون من الإجهاز على الإسلام وإنهائه بعد موت الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم يئسوا من ذلك بعدما تبيّن لهم أنّ هناك من يحفظه بعده(صلى الله عليه وآله).
وتعيين الخليفة هو آخر حكم نزل، فبعد أن بيّن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كلّ أحكام الإسلام لم يبقَ له إلّا أن يعيّن خليفته.
ومعلوم أنّ قضيّة تعيين الخليفة في غاية الأهمّيّة بحيث يصحّ أن يقال بسببها: « رضيت لكم الإسلام ديناً ».
وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه:
أوّلاً: أنّ هذا المقطع ـ أي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ...﴾ ـ سنخ مقطع بحيث لو رفعناه لرأينا الآية ـ بصدرها وذيلها ـ متناسقة ومتكاملة، وهذا شاهد على أنّ هذه الجملة معترضة لا علاقة لها بقصّة تحريم بعض الاُمور.
وثانياً: أنّ هذا المقطع لا ينسجم ـ أصلاً ـ مع المورد وهو قضيّة
تحريم بعض اللحوم.
ولكن يبقى هنا سؤال واحد، وهو: لماذا اُقحمت هذه الجملة ضمن هذه الآية؟
ففي أغلب الظنِّ أنّ هذا العمل هو عمل رسول الله(صلى الله عليه وآله)؛ إذ إنّه (صلى الله عليه وآله)هو الذي كان يعيّن موطن الآيات ومحلّها، أو لعلّه كان من عمل جبرائيل، وبالتالي فهو عمل الله تعالى، فلماذا جعل هذا المقطع هنا؟ ولمَاذا ذلك الإقحام؟
هنا احتمالان:
الأوّل: دفع التحريف عن القرآن؛ إذ إنّ جعل هذا المقطع هنا وفي غير موضعه يمكن أن يكون من أجل الحفاظ عليه ومنع تحريف القرآن(1)، فلو وقع هذا النصّ في غير مثل هذا المورد، لجلب الانتباه، ولفت أنظار الأعداء، وعندئذ كان من المحتمل أن تمتدَّ يد الطغيان إلى اقتطاع هذه العبارة ورفعها، فُيحرّف القرآن، ولذا صُمِّمت الآية بشكل لا يجلب الانتباه، فالقارئ حينما يقرأ وقبل أن يلتفت إلى هذه التدقيقات التي شرحناها يظنُّ بأنّ هذا المقطع له علاقة بأكل الميتة وحرمة الدم والخنزير، وهذا الظنُّ يوجب الأمن من التحريف أو الإسقاط.
ويوجد شيء متعارف لدى الناس، وهو: أنّه لو كانت هناك
جوهرة ثمينة في البيت، فإنّهم لا يضعونها في مكان يجلب الانتباه لئلاّ تُسرق.
الثاني: دفع الارتداد، فلو أنّ هذا المقطع وضع في موضعه الطبيعي، لكانت هناك خشية الارتداد عن أصل الإسلام.
فالسياسة التي صُمِّمت على رفض مضمون هذه الآية المباركة لو عرفت أنّ هذه الآية وهذا المضمون هو صريح القرآن، فربما ترفع يدها عن أصل القرآن بالنكتة التي دعتها لرفع يدها عن هذا المضمون، فحفاظاً على أصل الإسلام جعل هذا المقطع هنا بشكل لا يلفت الانتباه في أوّل وهلة، وهذه هي عين النكتة التي من أجلها امتنع رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن كتابة ما أراد أن يكتب ـ وهو محتضر ـ حينما قال: «ائتوني بدواة وكَتف»(1)؛ إذ إنّه(صلى الله عليه وآله) لمّا رأى الأصحاب قد اختلفوا وتعارضوا في الموضوع، عرف أنّ هذا الأمر لن يُطاع، وأ نّ كتابته بشكل صريح على ورقة من المحتمل أن تؤدِّي إلى ترك أصل الإسلام، ولهذا امتنع الرسول(صلى الله عليه وآله) عنها.
وأقول هنا كلاماً عامّاً يشمل هذا وغيره: إنّ الوحي حينما كان ينزل على الرسول(صلى الله عليه وآله) فإنّه كان ينزل بما يفهمه الرسول(صلى الله عليه وآله)، وهذا ممّا لاشكّ فيه، أمّا بالنسبة إلينا، فلم يكن الأمر هكذا، ولم يكن الوحي ينزل دائماً بالآيات الواضحات بحيث يمكننا أن نفهمها؛ إذ لم يكن ينزل بالآيات المحكمات؛ إذ كان ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله)على مستويات عديدة، وهي: