225

الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار»(1).

هذه قصّة واحدة من عشرات القصص التي تروى من عبادات الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) والتي تستبطن توجيهاً أخلاقيّاً فريداً للمجتمع.

 

ج ـ دعم ومساندة الحركات الثوريّة الشيعيّة:

لقد حفل تأريخ الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام) بمواقف مؤيّدة ومناصرة للحركات الثوريّة الشيعيّة التي ظهرت في أعقاب شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) ترفع لواء الثأر من قتلة الإمام الشهيد، وكان الإمام زين العابدين(عليه السلام) يستهدف من وراء دعمه لهذه الثورات والحركات استثمار الحالة التي خلقتها واقعة كربلاء في نفوس الاُمّة، وتوجيهها نحو الأهداف التي استشهد من أجلها الإمام الحسين(عليه السلام)، والشواهد على دعم الإمام لهذه الثورات كثيرة نختار منها قصّة دعمه لثورة المختار الثقفي:

فقد ورد: إنّ اُناساً من أنصار المختار اجتمعوا عند عبد الرحمن بن شريح، فقالوا له: «إنّ المختار يريد الخروج بنا للأخذ بالثأر، وقد بايعناه ولا نعلم أرسله إلينا محمّد بن الحنفية أم لا (يظهر أنّ الأمر كان ملتبساً على الشيعة آنذاك، ولم يكن واضحاً لديهم مَن هو الإمام بعد الحسين(عليه السلام)، أهو محمّد بن الحنفية أم عليّ بن الحسين(عليه السلام))،


(1) البحار 95: 186 ـ 188.
226

فانهضوا بنا إليه نخبره بما قَدِمَ به علينا، فإن رخّص لنا اتّبعناه، وإن نهانا تركناه»، فخرجوا وجاؤوا إلى ابن الحنفية، فسألهم عن الناس، فخبّروه وقالوا: «لنا إليك حاجة»، قال: «سرّ أم علانية؟»، قلنا: «بل سرّ»، قال: «رويداً إذن»، ثمّ مكث قليلاً وتنحّى ودعانا، فبدأ عبد الرحمن بن شريح بحمد الله والثناء، وقال: «أمّا بعد، فإنّكم أهل بيت خصّكم الله بالفضيلة وشرّفكم بالنبوّة وعظّم حقّكم على هذه الاُمّة، وقد اُصبتم بحسين مصيبة عمّت المسلمين، وقد قدم المختار يزعم أنّه جاء من قبلكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه والطلب بدماء أهل البيت، فبايعناه على ذلك، فإن أمرتنا باتّباعه اتّبعناه، وإن نهيتنا اجتنبناه».

فلمّا سمع كلامه وكلام غيره حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وقال: «أمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله، فإنّ الفضل لله ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، وأمّا مصيبتنا بالحسين، فذلك في الذكر الحكيم، وأمّا الطلب بدمائنا قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم عليّ بن الحسين». فلمّا دخل ودخلوا عليه أخبر خبرهم الذي جاؤوا لأجله، قال: «يا عمّ، لو أنّ عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت»، فخرجوا وقد سمعوا كلامه وهم يقولون: «أذن لنا زين العابدين(عليه السلام)ومحمّد بن الحنفية»(1). وخرجوا مع المختار إلى آخر القصّة.

 



(1) البحار 45: 364 ـ 365.

227

ويظهر من هذه القصّة كيف أنّ الإمام يدعم الحركات المناوئة لبني اُميّة والمطالبة بالحقّ لأهل البيت(عليهم السلام)؟

 

تقييم الثورات الشيعيّة:

إنّ الحديث عن الثورات الشيعيّة وموقف الأئمّة منها لابدّ وأن يجرّ إلى الحديث عن اتجاهات هذه الثورات وولائها للأئمّة؛ إذ إنّ الروايات تتضارب بشأن الأهداف التي تبنّتها هذه الثورات الشيعيّة المعارضة للحكّام، وهل حقّاً تنطبق هي مع الشعار الذي رفعته بعض هذه الثورات وهو تسليم الأمر إلى الرضا من آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، أو أنّ هذا مجرّد ادعاء استفادت منه القيادات في تحريض الناس وتعبئتهم لغرض استلام السلطة، كما في بعض الثورات التي قادها بعض أحفاد الإمام الحسن(عليه السلام) وكانوا في حقيقة الأمر يطلبون الأمر لأنفسهم؟

وعلى أيّة حال فإنّ تفسير ظاهرة الثورات في ذلك العصر يقبل ثلاثة احتمالات:

أحدها: ـ وقد مال إليه اُستاذنا الشهيد(قدس سره)، ويستشفّ من بعض محاضراته ـ أنّ هذه الثورات كانت مرضيّة من قبل أئمّتنا(عليهم السلام)، وأنّ الأئمّة كانوا يشجّعون على أعمال من هذا القبيل، كما يستفاد من قول الإمام الصادق(عليه السلام): « لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليّ نفقة عياله»(1).

 


(1) البحار 46: 172، الحديث 21.
228

وهذا الاحتمال وارد جدّاً، فسياسة الأئمّة(عليهم السلام) كانت تناسب تبنّي هذه الثورات سرّاً وتوجيهها بشكل غير مباشر، لتفادي المواجهة المباشرة مع السلطات، وبهذا الاُسلوب أمكن للأئمّة(عليهم السلام) المحافظة على روح الثورة في الاُمّة، وفي نفس الوقت أمكن لهم الاحتفاظ بمكانتهم الشخصيّة في المجتمع من أجل المحافظة على مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) كمدرسة حيّة ومعطاءة.

ثانيها: أنّ قيادات هذه الثورات كانوا يخرجون ـ باستثناء زيد بن عليّ، وحسين بن عليّ صاحب الفخّ ـ بغير رضا أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) إمّا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بإمامتهم(عليهم السلام)، وإمّا لأنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يكونوا يرون أنّ الأوضاع تناسب الثورة آنذاك.

ثالثها: أنّ الأئمّة(عليهم السلام) كانوا يؤيّدون أصل حدوث هذه الثورات، أي: يؤيّدونها مبدئيّاً، لكنّهم في الوقت ذاته كانوا يعارضون قياداتها التي تدّعي الإمامة لأنفسها.

أمّا بالنسبة إلى الروايات الواردة بشأن الثورات الشيعيّة وهي تمدح بعض هذه الثورات وتذمّ وتقدح ببعضها الاُخرى، فتوجد عدّة روايات ذامّة بشأن عبد الله وابنه محمّد، وإبراهيم ويحيى، وتوجد روايات مادحة بشأن الحسين بن عليّ صاحب الفخّ، إلّا أنّ هذه الروايات وردت في مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني، وأبو الفرج الإصفهاني متّهم بالزيديّة، فتكون رواياته كذلك متّهمة.

أمّا بالنسبة إلى زيد بن عليٍّ(رحمه الله)، فتوجد روايات مادحة له كثيرة، بيدَ أنّ ثمّة روايات اُخرى تشير إلى عدم رضا أئمّتنا(عليهم السلام) بثورته

229

وبالثورات الاُخرى التي هي مثل ثورة زيد بن عليّ. ولهذا سوف نقتصر على ذكر روايتين من الروايات المادحة لثورة زيد بن عليّ(رحمه الله)، ثمّ نشير إلى الروايات التي تذمّها، لنستنتج أخيراً الموقف الصحيح من مجموع هذه الروايات المتضاربة:

الرواية الاُولى: ما وردت في قصّة ولادة زيد(رحمه الله) وهي: «عن الثمالي قال: كنت أزور عليّ بن الحسين في كلّ سنة مرّة في وقت الحجّ، فأتيته سنةً من ذاك وإذا على فخذيه صبيٌّ، فقعدت إليه، وجاء الصبيّ فوقع على عتبة الباب فانشجّ، فوثب إليه عليّ بن الحسين(عليهما السلام)مهرولاً، فجعل ينشّف دمه بثوبه ويقول له: يا بني، اُعيذك بالله أن تكون المصلوب في الكُناسة. قُلت: بأبي أنت واُمّي أيّ كُناسة؟ قال: كناسة الكوفة. قلت: جُعلت فداك، ويكون ذلك؟ قال: إي والذي بعث محمّداً بالحقّ إن عشتَ بعدي لترينّ هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً في الكُناسة، ثمّ يُنزّل فيحرق ويُدقّ ويُذرّى في البرّ. قلت: جُعلت فداك، وما اسم هذا الغلام؟ قال: هذا ابني زيد، ثمّ دمعت عيناه، ثمّ قال: ألا اُحدّثك بحدث ابني هذا؟ بينا أنا ليلة ساجد وراكع إذ ذهب بيَ النوم من بعض حالاتي، فرأيت كأنّي في الجنّة، وكأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين قد زوّجوني جاريةً من حور العين فواقعتها، فاغتسلت عند سدرة المنتهى وولّيت وهاتف بي يهتف ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، ليهنئك زيد، فاستيقظت فأصبت جنابة، فقمت فتطهّرت للصلاة وصلّيت صلاة الفجر، فُدقّ الباب وقيل لي: على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه

230

جارية ملفوف كمّها على يده، مخمّرة بخمار، فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أردت عليّ بن الحسين(عليه السلام). قلت: أنا عليّ بن الحسين. فقال: أنا رسول المختار بن أبي عبيد الثقفي يُقرئك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها بستّ مئة دينار، وهذه ستّ مئة دينار فاستعِن بها على دهرك. ودفع إليّ كتاباً، فأدخلت الرجل والجارية وكتبت له جواب كتابه، وتثبّت الرجل، ثمّ قلت للجارية: ما اسمك؟ قالت: حوراء. فهيّؤوها لي وبِتّ بها عروساً، فعلقت بهذا الغلام فسميّته زيداً، وهو هذا، سترى ما قلت لك.

قال أبو حمزة: فوالله ما لبثت إلّا برهةً حتّى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق، فأتيته فسلّمت عليه ثمّ قلت: جُعلت فداك، ما أقدمك هذا البلد؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلف إليه، فجئت إليه ليلة النصف من شعبان، فسلّمت عليه ـ وكان ينتقل في دور بارق وبني هلال ـ فلمّا جلست عنده قال: يا أبا حمزة، تقوم حتّى نزور قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام). قلت: نعم جُعلت فداك. ثمّ ساق أبو حمزة الحديث حتّى قال: أتينا الذكوات البيض فقال: هذا قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). ثمّ رجعنا فكان من أمره ما كان، فوالله لقد رأيته مقتولاً مدفوناً، منبوشاً مسلوباً، مسحوباً مصلوباً قد اُحرق ودقّ في الهواوين وذُرّي في العريض من أسفل العاقول»(1).

الرواية الثانية: قصّة وقعت بين المأمون وبين الإمام الرضا(عليه السلام)


(1) البحار 46: 183 ـ 184، الحديث 48.
231

حول زيد بن موسى بن جعفر الذي خرج على المأمون واعتقل من قبله. وتقول الرواية: «لمّا حُمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون ـ وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس ـ وهب المأمون جرمه لأخيه عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن،لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن عليّ فقتل، ولولا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا(عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن عليّ(عليه السلام)؛ فإنّه كان (يعني زيد بن عليّ) من علماء آل محمّد، غضب لله عزّ وجلّ، فجاهد أعداءه حتّى قُتل في سبيله، ولقد حدّثني أبي موسى بن جعفر(عليه السلام): أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد يقول: رحم الله عمّي زيداً، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد، ولو ظفر لَوفى بما دعا إليه، وقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عمّ، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكُناسة فشأنك. فلمّا ولّى قال جعفر بن محمّد: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقّها ما جاء؟! فقال الرضا (عليه السلام): إنّ زيد بن عليّ(عليه السلام) لم يدّعِ ما ليس له بحقّ، وإنّه كان أتقى لله من ذاك، إنّه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدّعي أنّ الله نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين الله، ويضلّ عن سبيله بغير علم، وكان زيد والله ممّن خوطب بهذه الآية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾»(1).

 



(1) المصدر السابق: 174 ـ 175، الحديث 27.

232

وتوجد في قبال هاتين الروايتين اللتين وردتا بشأن زيد بن عليّ(رحمه الله) تمدحانه، روايات تذمّ زيد بن عليّ، وتذمّ ثورات اُخرى حصلت بعد زيد بن عليّ. وحينما نستقرئ الروايات الذامّة نجدها على قسمين، ويمكن تفسير كلّ قسم بتفسير معيّن:

أمّا القسم الأوّل من الروايات الذامّة، فقد وردت تذمّ أصل الثورات بغضّ النظر عن قياداتها والأشخاص القائمين بها. نذكر منها رواية واحدة، وهي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «اتقوا الله (خطاب موجّه لاُناس عزموا الخروج على السلطة وقتئذ) وانظروا لأنفسكم، فإنّ أحقّ من نظر لها أنتم (أي: لا يصلح خروجكم قبل التثبّت من شرعيّة الخروج)، لو كان لأحدكم نفسان فقدّم إحداهما وجرّب بها استقبل التوبة بالاُخرى كان، ولكنّها نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة. إن أتاكم منّا آت يدعوكم إلى الرضا منّا، فنحن نستشهدكم أ نّا لا نرضى، إنّه لا يطيعنا اليوم وهو وحده، فكيف يطيعنا إذا ارتفعت الرايات والأعلام؟!»(1).

إنّ تفسير هذا النوع من الروايات يمكن من خلال الجمع بينها وبين الروايات المادحة للثورات، فمن المستبعد أ ن تكون الروايات الواردة في تأييد الثورات الشيعيّة كاذبة، سواء افترضنا صدورها عن محبّ لأهل البيت(عليهم السلام) ومن ثقاتهم، أم افترضنا أنّها صدرت عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) وهي من مفترياتهم؛ لأنّ شيعة أهل البيت(عليهم السلام)


(1) المصدر السابق: 178، الحديث 35.
233

لا يُحتمل منهم الافتراء والكذب على الأئمّة(عليهم السلام) بما يورّطهم في الهلاك، وذلك بأن ينسبوا إليهم كذباً تأييد الثورات؛ ولأنّ أعداء أهل البيت لا يؤمنون بالثورة عادة، بل ويتعاونون مع السلطة الظالمة، وحينما يريدون الكذب والافتراء على الأئمّة(عليهم السلام) فلا بُدّ أن يكون كذبهم في صالح السلطة وليس ضدّها، فمدح هذه الثورات المناهضة للسلطات الظالمة لا يحتمل صدورها عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، كما أنّ هذه الروايات غير مرويّة عن طريق الزيديّة كروايات مقاتل الطالبيين حتّى نقول: إنّ الزيديّة كذبوا واخترعوها.

وإذن ففي أغلب الظنّ أنّ الروايات المادحة هي صادقة، أمّا الروايات الذامّة ـ كالرواية السابقة ـ فعلى كلا التقديرين ـ أي: سواء افترضنا وصولها عن طريق اُناس غير ثقات، أو عن طريق اُناس ثقات ـ فإنّ تفسيرها واضح، فلو كانت صادرة عن غير الثقات، فهي من مفترياتهم على الأئمّة(عليهم السلام)، وتصبّ في صالح السلطة، وهذا أمر مألوف وقتئذ؛ إذ كانت السلطات الظالمة تجنّد الكاذبين لخدمة مصالحها.

وأمّا إذا كانت هذه الروايات صادرةً عن الأئمّة(عليهم السلام) حقّاً، فإنّه من الطبيعي أن يمارس الإمام المعصوم معها اُسلوب التقيّة لكي لا تُنسب إليه ولا يكون مسؤولاً عنها، ولو تصوّرنا أ نّ الإمام المعصوم يرضى بنسبة الثورات الشيعيّة إلى شخصه، لكان من الأولى عليه أن يثور هو كما ثار الإمام الحسين (عليه السلام)، لكن حينما لا يريد المعصوم أن تنسب هذه الثورات إليه فمن الطبيعي أن يقول: أنا غير راض عن

234

الذين يدعون إلى الرضا من آل محمّد (صلى الله عليه وآله). فالإمام الذي يريد أن يفصل بينه وبين هذه الثورات ـ كي يجمع بين شيئين في آن واحد، بين سلامة نفسه وإيفاء دوره في قيادة الاُمّة وهدايتها، وبين الثورات ضدّ الظلم ـ يكون من المتوقّع صدور مثل هذه الروايات عنه، على العكس من الروايات المادحة لهذه الثورات، فمن المتوقّع عدم وصولها إلينا بسبب ظروف التقيّة حيث يمتنع الإمام من التصريح أمام الناس، وقد يكتفي بالتصريح أمام الخواصّ من أصحابه لكي يمنحها الشرعيّة على خلاف الروايات الذامّة، فظرف التقيّة يجعل الإمام يصرّح بذمّها أمام عموم الناس، وهذا هو الذي أفهمه واُقدّره من مجمل هذه الروايات المتعارضة.

وأمّا القسم الثاني من الروايات الذامّة ـ بحسب تقسيمنا الثنائي لها ـ فهي التي تحكي خلافاً فكريّاً بين أئمّتنا(عليهم السلام) وبين الثائرين حول مبدأ الإمامة ومصداقها، فأئمّتنا كانوا يعتقدون أنّهم الأئمّة المنصوص عليهم والمنصَّبون من قبل الله تعالى، فيما كان قادة الثورات الشيعيّة يرون أنّهم هم الأئمّة؛ لاعتقادهم أنّ الإمام إنّما هو القائم الثائر، والجالس في بيته لا يمكن أن يكون إماماً للناس!

وفي هذا الاتجاه نذكر بعض الروايات التي تحكي وجود الخلاف الفكري حول مسألة الإمامة بين الأئمّة(عليهم السلام) وبين الثائرين:

منها: رواية نأخذ منها محلّ الشاهد، وهو نقاش دار بين زيد بن عليّ وبين أخيه الإمام الباقر(عليه السلام)، يقول زيد ـ بعدما رفض الإمام الباقر تأييد ثورته والالتحاق بها وقد غضب زيد بحسب ما تقول

235

الرواية ـ: «ليس الإمام منّا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبّط عن الجهاد، ولكنّ الإمام منّا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حقّ جهاده، ودفع عن رعيّته وذبّ عن حريمه»(1).

ومنها: رواية اُخرى تحكي قصّة طريفة حول مُحاججة وقعت بين زيد بن عليّ وبين مؤمن الطاق(2): «قال (أبان بن تغلب): أخبرني الأحول أبو جعفر محمّد بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق: أنّ زيد بن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) بعث إليه... فقال لي: يا أبا جعفر، ما تقول إن طرقك طارق منّا أتخرج معه؟ قال: قلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه. قال: فقال لي: فأنا اُريد أن أخرج اُجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي. قال: قلت: لا أفعل جُعلت فداك. قال: فقال لي: أترغب بنفسك عنّي؟ قال: فقلت له: إنّما هي نفس واحدة، فإن كان لله عزّ وجلّ في الأرض معك حجّة (أي إمام معصوم)، فالمتخلّف عنك ناج، والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله معك حجّة، فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء. قال: فقال لي: يا أبا جعفر، كُنت أجلس مع أبي على الخوان (أي: على مائدة الطعام)، فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرّد لي اللقمة الحارّة حتّى تبرد من شفقته عليّ ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به.



(1) البحار 46: 203 ـ 204.

(2) وسمّي أيضاً شيطان الطاق، والأحول، والشيعة يسمّونه مؤمن الطاق، ونسبة الطاق إليه لأنّ دكّانه كان تحت الطاق، وكان معروفاً بقوّة المحاجّة، وله باع طويل فيها مع أبي حنيفة وغيره.

236

قال: فقلت له: من شفقته عليك من حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني فإن قبلته نجوت، وإن لم أقبل لم يبالِ إن أدخل النار، ثمّ قلت له: جُعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء. قلت: يقول يعقوب ليوسف: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾، ثمّ لم يخبرهم حتّى لا يكيدونه ولكن كتمهم، وكذا أبوك كتمك؛ لأنّه خاف عليك. قال: فقال: أما والله لئن قلت ذاك لقد حدّثني صاحبك (يعني الإمام الباقر) بالمدينة: أ نّي اُقتل واُصلب بالكُناسة، وإنّ عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي. فحججت (أي: مؤمن الطاق)، فحدّثت أبا عبد الله(عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال (أي: الإمام الصادق(عليه السلام)) لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن يساره، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، ولم تترك له مسلكاً يسلكه»(1).

هذه من الروايات التي تحكي عدم إيمان زيد بن عليّ بإمامة أخيه الإمام الباقر(عليه السلام) واعتقاده بإمامة نفسه، لكن ثمّة روايات اُخرى تحكي العكس، أي: إيمان زيد بإمامة الأئمّة، نذكر منها هذه الرواية: «عن عمرو بن خالد قال: قال زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام): في كلّ زمان رجل منّا أهل البيت يحتجّ الله به على خلقه، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمّد لا يضلّ من تبعه ولا يهتدي من خالفه»(2).

 



(1) البحار 46: 180 ـ 181.

(2) المصدر السابق: 173.

237

فهذه الرواية تدلّ صراحةً على إيمان زيد بإمامة ابن أخيه، وهناك رواية تدلّ على إيمان زيد بإمامة جميع الأئمّة(عليهم السلام): «عن يحيى بن زيد قال: سألت أبي عن الأئمّة، فقال: الأئمّة اثنا عشر، أربعة من الماضين، وثمانية من الباقين. قلت: فسمِّهم يا أبة. قال: أمّا الماضين فعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وعليّ بن الحسين، ومن الباقين أخي الباقر وبعده جعفر الصادق ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده محمّد ابنه، وبعده عليّ ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده المهديّ ابنه. فقلت له: يا أبة، ألست منهم؟ قال: لا، ولكنّي من العترة. قلت: فمن أين عرفت أساميهم؟ قال: عهد معهود عهده إلينا رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(1).

وعلى أيّة حال، فالذي أفهمه من القسم الثاني من الروايات الذامّة للثورات والتي تحكي خلافاً فكريّاً بين الأئمّة(عليهم السلام) والثوار ـ سواء افترضنا أنّ زيداً كان أحدهم أم لم يكن ـ أنّ هذه الروايات لا تريد أن ترفض أصل الثورة على الظالمين أو معارضتها، وإنّما هي ترفض وتعارض أمرين:

الأمر الأوّل: هو الخطأ العقائدي الذي ارتكبه قادة بعض الثورات الشيعيّة، وهو تصوّرهم أنّ الإمام هو الخارج بالسيف فقط، بينما الإمام إمام قائماً كان أم قاعداً، فالرسول(صلى الله عليه وآله) قال: «الحسن


(1) المصدر السابق: 198.
238

والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، وعلى هذا فالإمام هو وحده الذي يقدّر المصلحة في العمل بإحدى الصيغتين: القيام بالسيف أو التقيّة، ولا يقدح ذلك بمنصبه كإمام معصوم مفترض الطاعة.

الأمر الثاني: التحاق ومشاركة أكبر عدد من شيعة الأئمّة(عليهم السلام) في هذه الثورات؛ إذ إنّ الإمام لو كان يمنح تأييداً تامّاً لهذه الثورات عندئذ كانت تتّسع المشاركة فيها من قبل الشيعة، وهذا ما لا يريده الأئمّة(عليهم السلام) حقناً لدماء شيعتهم وحفظاً لهم من الفناء.

وللشاهد على ما ذكرناه من أنّ الهدف لم يكن رفض أصل الثورات نذكر روايةً مرويةً عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: «لا أزال وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله»(2).

وبهذا يتأكّد لنا أنّ الأئمّة(عليهم السلام) وبسبب ظروف التقيّة ومهمّات قيادة الاُمّة وقفوا من هذه الثورات موقفاً هو بمنزلة أمر بين أمرين؛ إذ لم يعارضوا الثورات الشيعيّة المناهضة للسلطات الظالمة؛ لأنّها بنظرهم تعبّر عن جزء من أهدافهم، وكذلك لم يساندوها كلّيّاً؛ لأنّها لم تكن نقيّة وصحيحة من الناحية العقائديّة والمذهبيّة، أو لمراعاتهم لمتطلّبات قيادة الاُمّة التي لم تكن ظروفها تسمح بإعلان الثورة الشاملة وتعبئة جميع الشيعة لها؛ لضعفهم وقوّة السلطات، وهذا هو


(1) البحار 43: 291، الحديث 54.
(2) البحار 46: 172، الحديث 21.
239

الذي دعا الأئمّة(عليهم السلام) للتظاهر بمعارضة الثورات، وبهذا أمكن لهم من ضبط المسافة الفاصلة بين شيعتهم وبين هذه الثورات من جهة، وبين السلطات الظالمة من جهة اُخرى، فاحتفظت الاُمّه بروحها الثوريّة، فيما أمكن للثورات أن تؤدّي واجبها في الوقت نفسه، وبهذا يثبت لدينا أنّ الأئمّة(عليهم السلام) لم يعترضوا على الثورات الشيعيّة المناهضة للسلطات الظالمة بما هي حركات ثائرة، وإنّما اعترضوا على الأخطاء العقائديّة والمذهبيّة التي وقع فيها قادة بعض هذه الثورات، ولو كان الأئمّة(عليهم السلام) قد شجبوا أهل هذه الثورات، لكان يعني هذا اعترافهم الضمني بالسلطات الظالمة، ولأدركت السلطات هذا المعنى ولقيّمته على نحو التقرّب من الأئمّة(عليهم السلام) أو تكريمهم، أو على أقلّ تقدير كانت تعدّل من سلوكها وتلين معهم، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل، ولم يصل إلينا ما يؤكّده، بينما الذي وصل إلينا هو العكس تماماً، حيث العداء المستحكم بين السلطات والأئمّة(عليهم السلام)، والمطاردة والسجون والقتل، فلم يبق إمام معصوم إلّا وهو محبوس في بيته أو في طامورة مظلمة، ولم يمت منهم أحد إلّا مسوماً أو مقتولاً.

241

الفصل السادس

 

 

لمحة عن مبدأ ولاية الفقيه

 

 

 

 

 

 

 

243

 

 

 

 

ثمّة رواية وردت في القضاء، إلّا أنّها تعطي مفهوماً عن المنهج الإسلاميّ في العمل السياسيّ والاجتماعي، فعن عمر بن حنظلة: «قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة (يقصد السلطان والقضاة الجائرين) أيحلّ ذلك؟ قال(عليه السلام): من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المنهيّ عنه، وما حكم له به فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله عزّوجلّ أن يكفر به، قال الله عزّ وجلّ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾. قلت: فكيف يصنعان وقد اختلفا؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا وعرف حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه، فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله»(1).

 



(1) البحار 101: 261 ـ 262، الحديث 1.

244

من هذه الرواية الواردة بشأن القضاء يمكن أن نستنتج بعض قواعد المنهج الإسلاميّ في العمل السياسيّ والاجتماعي؛ ذلك لأنّ هذه الرواية قد دلّتنا على قاعدتين:

الاُولى: عدم الاحتكام إلى الطاغوت ومعاداته.

الثانية: الاحتكام إلى الفقهاء والتزام توجيهاتهم.

إنّ النهي الذي ورد على الاحتكام إلى الطاغوت يشمل حتّى المورد الذي يدخل تحت عنوان استرداد الحقوق، فليس للمؤمن أن يطلب حقّاً له مضيّعاً من حكم طاغوت؛ ذلك لأنّ مثل هذا الاحتكام والطلب يؤدّي إلى إعلاء كلمة الطاغوت وسطوته على المجتمع، بينما الذي يريده الإسلام هو محاربة الطاغوت وإضعافه وصولاً إلى نفي سلطته عن المجتمع. وإنّ هذه القاعدة من شأنها أن تربّي الاُمّة على روح التمرّد والعصيان والثورة على كلّ طاغوت كما هو شأن شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، خلافاً لمنهج تربوي آخر يقرّر طاعة وليّ الأمر حتّى إذا كان فاسقاً!

وعلى الرغم من أنّ هذه الرواية في القضاء لكنّنا نستطيع أن نرى فيها نَفَس الشريعة الإسلاميّة في توجيه الاُمّة والمجتمع إلى الفقهاء، لاسيّما أنّ القضاء ليس سوى شعبة من شعب الاُمور الاجتماعيّة التي اُوكلت إلى الفقيه، فالوليّ الفقيه هو الذي يعطي المواقف السياسيّة والاجتماعيّة طبقاً للمصلحة التي يراها في ضوء الضوابط

245

والمقرّرات الشرعيّة، والاُمّة مكلّفة بطاعة الوليّ الفقيه طبقاً لتكليفها الشرعيّ.

إنّ إعطاء المواقف الشرعيّة للقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة بيد الوليّ الفقيه يعني الإرجاع إليه في المسائل التالية:

المسألة الاُولى: تحديد المواقف الصحيحة إزاء الأحداث والقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة؛ ذلك لأنّ القرار السياسيّ والاجتماعي ليس من الصحيح أن يُترك من غير رعاية أو يكون بيد الناس جميعاً، فمؤدّى ذلك هو وقوع المجتمع في الفوضى؛ ولهذا لا بُدّ أن يكون القرار السياسيّ والاجتماعي بيد جهة مختصّة، وهذه الجهة بنظر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) هي الفقهاء طبقاً لقولهم (عليهم السلام): «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(1) و«فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(2).

المسألة الثانية: تقديم المصلحة الاجتماعيّة على المصالح الفرديّة؛ ذلك لأنّ المصالح الفرديّة في المجتمع غالباً ما تتعارض مع مصلحة المجتمع العامّة، ولو تركت مصالح الأفراد تتقاطع وتتعارض مع مصلحة المجتمع لعمّت الفوضى واضطرب الاجتماع. وهنا يأتي


(1) الوسائل 27، الباب 11 من صفاة القاضي: 140، الحديث 9، وكمال الدين، الباب 45، التوقيعات الواردة عن الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، التوقيع الرابع: 484، والغيبة: 291.
(2) البحار 101: 262.
246

دور الوليّ الفقيه لحسم هذا التعارض لصالح المجتمع. فمثلاً: لو أنّ شخصاً ارتأى أن يبيع سلعته بسعر فاحش استناداً إلى قاعدة: «الناس مسلّطون على أموالهم»، فمن الذي يمنع هذا الشخص من البيع بأسعار غالية مُضِرّة بالمجتمع، لاسيّما أنّ القاعدة الفقهيّة المذكورة آنفاً تجيز له البيع بالسعر الذي يراه؟ فالوليّ الفقيه هو الذي خوّل صلاحيّة تنظيم المصالح الاجتماعيّة وتقديمها على مصلحة الأفراد، ويدخل ضمنها ضبط الأسعار وتحديدها.

المسألة الثالثة: حسم الخلافات والمواقف المتباينة في المجتمع، وبالخصوص المواقف التي لها مساس بأمن المجتمع والدولة، كالموقف من الحرب والسلم، فلو أنّ موقف المجتمع تجزّأ إزاء مسألتي الحرب والسلم، وكان لقرار الحرب أنصار، ولقرار السلم أنصار، فمن أجل تماسك المجتمع وتوجيهه وجهة معيّنة يحكم الوليّ الفقيه بإحدى المسألتين: الحرب أو السلم، وينفذ أمر الوليّ على المولّى عليه بحكم كونه أمراً ولائيّاً.

وتجدر الإشارة إلى أنّ أوامر الوليّ الفقيه إذا ما صدرت عن مقام الولاية البحت تسمّى عندئذ بــ (الأحكام الولائيّة)، وهي ملزمة الطاعة وليس للمكلّف عصيانها حتّى لو كان للمكلّف رأي مخالف، وتصدر هذه الأحكام غالباً في الاُمور السياسيّة والاجتماعيّة، أمّا

247

آراء الوليّ الفقيه التي تصدر عنه لا من مقام الولاية البحت بل بعنوان الكشف عن حقيقة ما، فإنّ للمكلّف مخالفتها إذا علم بخطئها، مثال ذلك: رأي الوليّ الفقيه بثبوت هلال العيد، الذي يُلزم المكلّفين بالإفطار استناداً إلى كاشفيّته عن العيد وحسب. فإذا ما علم المكلّف بخطأ رأي الفقيه هذا، لم يجب عليه العمل به، خلافاً للمسألة السابقة المتعلّقة بالأحكام الولائيّة الصادرة عن مقام الولاية البحت.

 

اختلاف ولاية الفقيه عن الإمامة:

ولاية الفقيه هي امتداد لفكرة الإمامة كما ثبت بالدليل، وبالخصوص الرواية التي نقلها الصدوق(رحمه الله) والتي وردت عن إسحاق بن يعقوب الذي سأل محمّد بن عثمان العمري رضوان الله تعالى عليه (أحد النوّاب الأربعة للإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه ) أن يوصل إليه كتاباً سأل فيه عن عدّة مسائل أشكَلَت عليه، فورد التوقيع بخطّ مولانا الإمام صاحب الزمان(عليه السلام): «أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك... وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(1)، ولكن بحسب ما نفهمه من مجموع الأدلّة أنّ ولاية الفقيه تختلف عن إمامة الإمام


(1) الوسائل 27، الباب 11 من صفات القاضي: 140، الحديث 9، وكمال الدين: 484، والغيبة: 290 ـ 291.
248

المعصوم في عدّة جوانب، وهذه الجوانب هي:

1 ـ الإمام المنصوص عليه معصوم عن الزلل والخطأ، وهو قدوة للمؤمنين، ويجب عليهم اتّباعه بشكل عامٍّ ومطلق وبلا استثناء، بينما الشرط اللازم للوليّ الفقيه هو العدالة وليست العصمة، وقد يتّفق أن يزلّ أو ينحرف ـ لا سمح الله ـ فتسقط عندئذ عنه الولاية.

2 ـ الإمام تستمرّ ولايته لما بعد موته، فله أن يحكم بحكم ما في حال حياته ويستمرّ حتّى بلحاظ ما بعد وفاته، بينما الفقيه تنتهي ولايته بمجرّد موته. والسبب في ذلك واضح نستظهره من دليل الولاية الذي منح الولاية للفقيه على أساس كفاءته العلميّة وقدرته على إدارة الاُمور، وهذه الكفاءة والمقدرة متوقّفة على بقاء الفقيه حيّاً، فإذا مات انقطعت عنه؛ لانقطاع زمن حياته الذي فيه تظهر العلمية والكفاءة، وتتجسّد بهيئة استيعاب الاُمور ووضع الحلول للمشاكل. أمّا الإمام المعصوم، فولايته غير مخصوصة بأيّام حياته؛ لأنّها مستمدّة من إلهام الله الذي لا يخطأ، والذي يستوعب حتّى زمان المستقبل الذي قد لا يفي به عمر الإمام (عليه السلام)، ونفهم ذلك من قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾(1)، ومن قول الرسول (صلى الله عليه وآله): «من كُنت مولاه فهذا عليّ مولاه»(2)، فالولاية هنا غير مخصوصة بفترة الحياة، وهذا بخلاف ولاية الفقيه.

 



(1) سورة الأحزاب، الآية: 6.

(2) البحار 28: 187.

249

3 ـ إنّ الولاية الثابتة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) وللإمام تعني الأولويّة على نفوس المؤمنين من أنفسهم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، بينما هذا المعنى غير ثابت بالنسبة إلى الفقيه، بمعنى أنّ الفقيه الذي ورد الدليل على ولايته لا يعدو أن يكون من سنخ سائر أدلّة الولايات الاعتياديّة، كولاية الأب على الأطفال وما شابه ذلك، وولاية الأب على طفله لا تجعله أولى بالطفل من نفسه، وإنّما هي رعاية مصلحة الطفل، وسدّ نقصه باعتباره طفلاً. وهذا المعنى هو نفسه الذي نفهمه من ولاية الفقيه؛ إذ لا نفهم أنّ الفقيه يصبح أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما هي ولاية النبيّ والمعصوم، وإنّما نفهم ـ على حدّ تعبير الاُصوليين بـ «مناسبات الحكم والموضوع» ـ أنّ المقصود بولاية الفقيه على الناس والمجتمع هو سدّ النقص والقصور الحاصل لديهما، ويكون أمره نافذاً. وتفصيل ذلك موكول إلى كُتبنا الفقهيّة الاستدلاليّة.

والواقع أنّنا لو لاحظنا الأمر بغضّ النظر عن البحث الفقهيّ في ولاية الفقيه، وركّزنا على الناحية الاجتماعيّة، لوجدنا أنّ الشيعة وفي طول تأريخهم امتلكوا عنصراً مهمّاً امتازوا به ممّن سواهم، وهو الذي منحهم القدرة على الانتصار والعزّة وجعلهم مرفوعي الرأس دائماً، وهو عنصر احترامهم وإطاعتهم للعلماء الذي تحوّل مع مرور الزمن إلى سُنّة جارية لدى الشيعة، وقد أعطى لهم وحدة