544

الأصحاب على حمل الأمر على الاستحباب بورود الرخصة، مع أنّهم كانوا يرونقبل المحقّق النائينيّ(قدس سره) أنّ الوجوب والاستحباب حكمان متغايران.

المقام الثاني: في المجمل بالذات، وهذا على قسمين:

القسم الأوّل: ما إذا كان الدليل متكفّلاً لذكر الجامع فقط من دون نظر إلى أحد القسمين كما لو ورد: (صلاة الليل مطلوبة). والإجمال في هذا القسم في الحقيقة إنّما يكون في الواقع، بمعنى أ نّا لا نفهم من الدليل ما هو الواقع من الوجوب أو الاستحباب، لا في نفس الدليل فإنّه ظاهر في نفس الجامع. وفي هذا القسم لا إشكال في أنّه مع قيام الدليل على انتفاء أحد الأمرين يثبت الآخر تارة بالمطابقة واُخرى بالالتزام، فلو قام الدليل في هذا المثال على عدم وجوب صلاة الليل ثبت استحبابها:

أمّا فرض الدلالة بالمطابقة: فكما لو قلنا بمبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الأحكام ثلاثة: الطلب والزجر والإباحة، غاية الأمر أنّ الطلب إذا وردت معه الرخصة في الترك سمّي بالاستحباب وإلّا سميّ بالوجوب، ونحوه الفرق بين الحرمة والكراهة، وعلى هذا فالوجوب مركّب من الطلب وعدم ورود الرخصة، والاستحباب مركّب من الطلب وورود الرخصة، وعندئذ فإذا ورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في الترك فقد ثبت الاستحباب بالدليلين بالمطابقة؛ إذ هو مركّب من الطلب الثابت بالدليل الأوّل والرخصة في الترك الثابتة بالدليل الثاني.

وأمّا فرض الدلالة بالالتزام: فكما لو قلنا بأنّ الوجوب والاستحباب حصّتان من الطلب متغايرتان بأنفسهما، وورد: (صلاة الليل مطلوبة) ووردت الرخصة في

545

الترك، فدليل الرخصة يدلّ في الحقيقة على قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو كانت صلاة الليل مطلوبة فإنّما هي مطلوبة بالطلب الاستحبابيّ، ودليل مطلوبيّة صلاة الليل يدلّ بالمطابقة على شرط تلك القضيّة فيدلّ بالالتزام على جزائها؛ لمكان التلازم بين الشرط والجزاء.

القسم الثاني: ما إذا كان الدليل متكفّلاً لأحد الأمرين بالخصوص ووقع لنا الشكّ في أنّ أيّهما المراد ـ لإجمال الكلام ـ وقام الدليل على بطلان واحد منهما بالخصوص، وعندئذ: فتارة: تكون الجهة قطعيّة كما في القرآن الكريم، فلا إشكال عند ذاك في تعيّن المجمل في إرادة ذلك الأمر الآخر؛ للقطع بذلك؛ إذ المفروض أ نّا لا نحتمل في القرآن الكريم التقيّة ولا نحتمل فيه الخطأ أيضاً، فلا محالة يحصل القطع بكون المراد ذاك الأمر الآخر.

واُخرى: لا تكون الجهة قطعيّة كما ورد من أنّ الكرّ ستمئة رطل وفرضنا أ نّا نحتمل فيه التقيّة وأنّ أمره دائر بين الرطل العراقيّ والرطل المكّيّ ـ الذي هو ضعف الرطل العراقيّ ـ وفرضنا أنّه قام الدليل على أنّ الكرّ ليس ستمئة رطل عراقيّ، ودار الأمر بين كون المراد من ذاك الحديث الرطل المكّيّ وكون المراد منه الرطل العراقيّ لكن تقيّةً، فيمكن أن يتخيّل تعيّن الأوّل؛ لنفي الثاني بأصالة الجدّ فيثبت الأوّل بالملازمة. لكن التحقيق: أنّه لا يمكن أن يثبت بذلك كون الكرّ ستمئة رطل مكّيّ؛ إذ أصالة الجدّ إنّما تثبت مدلولها وما يلازم مدلولها، وليس كون الكرّ ستمئة رطل مكّيّ على جميع التقادير مدلولاً لأصالة الجدّ أو من لوازم مدلولها، فإنّه وإن كان ذلك مدلولاً لها على تقدير كون المراد الاستعماليّ لذاك الحديث هو المكّيّ، لكن على تقدير كونه العراقيّ ليس ذلك مدلولاً لها ولا من لوازمها كما هو

546

واضح، فلا يمكن في هذا الفرض حمل المجمل على المعنى الآخر لقيام الدليلعلى بطلان أحد المعنيين(1).

نعم، لو أمكن استنباط الحكم مع إبقاء المجمل على إجماله لم يكن به بأس، وذلك كما ورد من أنّ الكرّ ستمئة رطل وورد أيضاً أنّه ألف ومئتا رطل، فنقول: إنّه وإن كان جمعُ الأصحاب بينهما ـ بحمل الأوّل على المكّيّ والثاني على العراقيّ؛ لأنّه بذلك يحصل التوفيق بينهما ـ غير صحيح كما عرفت، لكنّا نستفيد الحكم منهما مع إبقائهما على الإجمال؛ وذلك لأنّ الأوّل يدلّ بالملازمة على جميع تقاديره على عدم كون الكرّ أزيد من ألف ومئتي رطل عراقيّ، والثاني يدلّ بالملازمة على جميع تقاديره على عدم كون الكرّ أقلّ من ألف ومئتي رطل عراقيّ، فالمدلول المطابقيّ لكلّ منهما وإن كان مجملاً لكنّا نأخذ بالمدلولين الالتزاميّين المبيّنين، ويثبت بذلك كون الكرّ عبارة عن ألف ومئتي رطل عراقيّ.

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.



(1) هذا في الحقيقة توسيع للإشكال الذي مضى في القسم السابق، وقد عرفت تعليقنا عليه وعرفت عدول اُستاذنا الشهيد عنه في الدورة المتأخّرة. فالصحيح في المقام هو حمل المجمل على المعنى الآخر ببركة إجراء أصالة الجدّ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.