191

إليه من وجود الظهور المقتضي لعدم التداخل على الإطلاق، بل هو ثابت فيخصوص فرض التعاقب وكون الجزاء فعلا، فما ادّعاه المشهور من أنّ مقتضى القاعدة عدم التداخل مطلقاً، وكذا ما ادّعاه غيرهم من أنّ مقتضى القاعدة التداخل مطلقاً غير صحيح، بل الصحيح هو التفصيل كما عرفت.

وفي نهاية المطاف ننبّه على أنّ ذكرنا لمثال (توضّأ) أو (اغتسل) إنّما هو من باب المثال، كأن يفرض أنّ الوضوء أو الغسل بنفسه حكم تكليفيّ يثبت عند النوم أو الجنابة.

وفي الحقيقة ليس مثال الوضوء أو الغسل دالّاً على الحدوث عند الحدوث؛ لأنّ قوله: (توضّأ) أو (اغتسل) إرشاد إلى ثبوت الحدث لا أمر مولويّ، فحاله في هذه الجهة حال مثال: (إذا خفي الأذان فقصّر) والذي قلنا فيه: إنّه بمنزلة غير الجملة الفعليّة ولا يدلّ على الحدوث.

وعلى أيّة حال فقد تحصّل: أنّ الصحيح في مورد اجتماع الظهور الذي ينفي التداخل والظهور الذي يقتضي التداخل هو أنّ القضيّتين تدلاّن على عدم التداخل.

هذا كلّه بحسب القاعدة. وأمّا فرض قيام دليل خاصّ على التداخل ـ كما في الوضوء أو الأغسال ـ أو على عدمه ـ كما في كفّارات الإحرام ـ فهو مطلب آخر.

 

تحقيق المطلب في تداخل المسبّبات:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو تداخل المسبّبات وعدمه الذي هو في الحقيقة عبارة عن التداخل في عالم الامتثال وعدمه بعد الفراغ عن فرض تعدّد الحكم ـ: فهنا يمكن استظهار عدم التداخل؛ لأنّ الوجوبين بما أنّهما متماثلان ولا يجتمعان على شيء واحد لابدّ أن يقيّد أحدهما أو كلاهما بكون متعلّقه غير ما يمتثل به الآخر،

192

وإذا قيّد أحدهما أو كلاهما بذلك كان من الواضح عدم إمكان امتثالهما بفرد واحد؛ لاستحالة كون ذلك الفرد هو وفرداً آخر، والمفروض أنّ أحد المتعلّقين أو كليهما مقيّد بعنوان (الآخر)، فأحدهما المقيّد بذلك لا ينطبق على هذا الفرد، وإنّما ينطبق عليه أحدهما غير المقيّد، وإذا فرض تقيّد كليهما فشيء منهما لا ينطبق عليه وإن كان يسقط به أحد الحكمين لا محالة؛ لحصول غرض واحد ويبقى حكم واحد على الإجمال.

والوجه فيما ذكرناه: من أنّه إذا كان أحدهما مقيّداً والآخر غير مقيّد تعيّن هذا الفرد مصداقاً لغير المقيّد دون المقيّد واضح، وهو: أنّ انطباق غير المقيّد عليه خال عن المانع، وبانطباقه عليه يثبت خروجه عن تحت متعلّق الحكم الآخر؛ لفرض تقيّده بكونه غير ما يمتثل به الأوّل، وهذا الفرد هو الذي يمتثل به الأوّل. وعلى أيّة حال فالنتيجة: أنّه بمقتضى تقيّد أحدهما أو كليهما بعنوان (الآخر) يستحيل تداخل المسبّبات. هذا.

ولكن في قبال هذا التقريب يقال: إنّه ليس رفع غائلة اجتماع المثلين منحصراً بفرض أحد الحكمين مقيّداً بعنوان (الآخر)، بل يمكن رفعه بفرض أنّ الوجوبين للوضوء مثلا يكون كلّ واحد منهما متعلّقاً بعنوان غير متعلّق الآخر، بحيث أنّ هذين العنوانين وإن اتّحدا في لوح الوجود الخارجيّ لكنّهما علاوة على تعدّدهما في لوح الاعتبار والتشريع متعدّدان في حقيقتهما الواقعيّة، بأن يفرض مثلا أنّ الواجب بالنوم عنوان رفع حالة نفسانيّة خاصّة حاصلة من النوم، والواجب بالبول عنوان رفع حالة نفسانيّة خاصّة اُخرى غير الحالة الاُولى حاصلة بالبول، فترتفع بذلك غائلة اجتماع المثلين بدون لزوم ارتكاب التحصيص ورفع اليد عن إطلاق المادّة، ويتحقّق امتثال كلا الحكمين بوضوء واحد؛ لتصادق العنوانين في الخارج

193

على فرد واحد.

وهذا الوجه إمكانه ثبوتاً متوقّف على القول بجواز الاجتماع بمجرّد تعدّد العنوان في لوح الواقع وفي الحقيقة وإن تصادقا في لوح الوجود الخارجيّ على فرد واحد، فإن لم نقل بذلك استحال هذا الوجه وتعيّن الوجه الأوّل.

اللّهمّ إلّا أن يلتزم بما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ امتناع اجتماع الأمر والنهي ليس بالتضادّ بين نفس الحكمين، بل لأجل التضادّ بين النهي والترخيص في التطبيق المستفاد من الأمر، وأمّا نفس الحكمين فلا تضادّ بينهما ولا استحالة في اجتماعهما لولا هذه الجهة، وعلى هذا فبما أنّه فيما نحن فيه يكون كلا الحكمين وجوباً وليس في البين نهي لا محذور في الاجتماع؛ لأنّ الترخيص في التطبيق إنّما يضادّ النهي لا الأمر.

وعلى أيّ حال فتحقيق إمكان هذا الوجه ـ أعني: فرض كون كلّ من الحكمين متعلّقاً بعنوان غير ما تعلّق به الآخر ـ وعدمه مربوط بمبحث جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه. هذا كلّه بحسب الثبوت.

وأمّا بحسب الإثبات: فالتحقيق هو الوجه الأوّل ـ أعني: الالتزام بالتقييد بعنوان (الآخر) ـ فيثبت عدم التداخل؛ وذلك لأنّه وإن كان للوجه الثاني مزيّة على الوجه الأوّل من حيث عدم استلزامه لرفع اليد عن إطلاق المادّة، لكنّه في نفسه خلاف الظاهر؛ إذ ظاهر قوله مثلا: (توضّأ) تعلّق الوجوب بنفس الوضوء؛ لأنّ مقتضى أصالة تطابق عالم الثبوت والإثبات أنّ المذكور في عالم الإثبات وهو الوضوء ثابت في عالم الثبوت أيضاً، فللوجه الأوّل أيضاً مزيّة على الوجه الثاني وهو عدم مخالفته لهذا الظهور، بخلاف الوجه الثاني، ففي الحقيقة يقع التعارض بين هذا الظهور وظهور المادّة في الإطلاق، وهذان الظهوران وإن كان كلاهما

194

مستفاداً من أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت، لكنّ الظهور في تعلّق الوجوب بنفس الوضوء مقدّم على ظهور المادّة في عدم التحصيص؛ لأنّ الأوّل مستفاد من أصالة تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت، بمعنى أنّ ما هو موجود فيه موجود في عالم الثبوت أيضاً، والثاني مستفاد من أصالة تطابقهما، بمعنى أنّ ما هو غير موجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت أيضاً، وأصالة تطابق الوجود مع الوجود أقوى من أصالة تطابق العدم مع العدم، كما هو ثابت ارتكازيّاً عند العلماء، ولذا يقدّمون المقيّد على المطلق عند تعارضهما، ولا يتصرّفون في ظهور المقيّد بحمله على بيان بعض الأفراد لنكتة.

وفي نهاية هذا التنبيه نشير إلى أنّ التعارض في ناحية تداخل السبب وعدمه، والتعارض في ناحية تداخل المسبّب وعدمه كلاهما معاً في الحقيقة تعارض واحد ذو أطراف ثلاثة: الأوّل: الظهور المقتضي لعدم التداخل في الأسباب. الثاني: ظهور القضيّة في كون متعلّق الحكم نفس الوضوء مثلا. الثالث: إطلاق المادّة. فإن رفعنا اليد عن الأوّل ثبت التداخل في الأسباب، وإن رفعنا اليد عن الثاني ثبت التداخل في المسبّبات، وإن رفعنا اليد عن الثالث لم يتحقّق التداخل لا في الأسباب ولا في المسبّبات.

وقد ظهر ممّا مضى: أنّ الظهور الثاني والثالث ثابتان في حدّ أنفسهما دائماً، وأمّا الظهور الأوّل ففي بعض الموارد غير ثابت في نفسه، فيثبت التداخل في الأسباب، وفي بعض الموارد ثابت في نفسه، وعندئذ نرفع اليد عن الظهور الثالث؛ لأقوائيّة الظهور الأوّل منه بكونه ظهوراً وضعيّاً، والظهور الثاني منه بكونه مستفاداً من أصالة تطابق الوجود مع الوجود، بخلاف الظهور الثالث، فإنّه مستفاد من أصالة تطابق العدم مع العدم، فيثبت عدم التداخل في كلتا الجهتين.

195

 

هل يسقط المفهوم عن الحجّيّة بعد العلم بخروج مورد من حكمه؟

الأمر السابع: لو علمنا بتقييد المفهوم، كما لو قال: (إن جاءك زيد فأكرمه)، وعلمنا من الخارج بوجوب إكرامه عند مرضه، فهل يسقط المفهوم بذلك رأساً فلا يؤخذ به حتّى في غير مورد التقييد، أو يؤخذ بالمفهوم في غير مورد التقييد، كما هو الحال في تقييد إطلاق المنطوقات؟

التحقيق: أنّ ذلك يختلف باختلاف المباني في اقتناص المفهوم.

فعلى كلّ مبنى استفدنا فيه لاقتناص المفهوم من الإطلاق أو من تجميع ظهورات عديدة جارية في قبال كلّ تقييد تقييد فالمفهوم لا يسقط رأساً بتقييده، بل نأخذ به في غير مورد التقييد.

وعلى كلّ مبنى استفدنا فيه من ظهور يخلفه ـ بعد سقوطه ـ ظهور طوليّ، كما لو قلنا باستفادة المفهوم من انصراف المطلق إلى الأكمل فالأكمل، فعلى هذا أيضاً لا يسقط المفهوم بالتقييد رأساً وإنّما يتقيّد.

وعلى كلّ مبنى اتّكأ فقط على دليل عقليّ أو ظهور لفظيّ لا يخلفه ـ بعد فرض سقوطه ـ ظهور طوليّ يعمل عمله يسقط المفهوم نهائيّاً بالعلم بخروج مورد مّا من حكم المفهوم.

 

الكلام في ثبوت المفهوم للروايات الواردة بلسان الإخبار عن الجعل:

الأمر الثامن: قد مضى عدم ثبوت المفهوم للقضايا الإخباريّة وثبوته للقضايا المتكفّلة لبيان الجعل. والكلام هنا يقع في أنّه هل يكون للروايات الواردة بلسان الإخبار عن الجعل مفهوم، من قبيل: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) أو لا؟

196

ولو لم يكن لها مفهوم قلّت فائدة مفهوم الشرط، فإنّ كثيراً من رواياتنا تكون من هذا القبيل.

والظاهر عرفاً عدم الفرق بين تلك الأخبار والأخبار الواردة بنحو الإنشاء، فإن ثبت عدم المفهوم لتلك الأخبار كان ذلك نقضاً لأصل ثبوت المفهوم للشرط.

وهذا النقض غير قابل للدفع عن السيّد الاُستاذ دامت بركاته؛ لأنّ الذي دعاه إلى القول بعدم ثبوت المفهوم للقضايا الإخباريّة هو مبنى أنّ الوضع عنده عبارة عن التعهّد، وأنّ الدلالة التصديقيّة للكلام بنفسها هي المعنى الموضوع له، والتعليق في القضيّة الشرطيّة راجع إلى المعنى الموضوع له، وغاية ما يلزم من ذلك انتفاء الحكاية بانتفاء الشرط، دون انتفاء المحكيّ بانتفائه، وهذا الوجه ـ كما ترى ـ بعينه جار في القضيّة الشرطيّة التي سيقت للإخبار عن الجعل، فيلزم عدم ثبوت المفهوم لها.

وأمّا نحن فلا نرى الدلالة التصديقيّة إلّا ظهوراً حاليّاً ناشئاً من الغلبة، والغالب في المشرّع الحاكي عن تشريعه هو إرادة إبراز نفس تشريعه، فلا توصف عادةً حكايته هذه بالصدق والكذب، فحينما ربط الحكاية عن الجعل بالشرط فكأنّه ربط الجعل بالشرط وحاله حاله عرفاً على الإطلاق(1).



(1) أقول هنا ـ حفظاً للأمانة ـ: إنّ بيانه(رحمه الله) للمطلب لم يكن بهذا الشكل، بل كان بشكل يناسب مبناه في الدورة السابقة لتفسير مفهوم الشرط والتي على أساسها قرّرنا بحثه(رحمه الله) لمفهوم الشرط، ولكنّا في آخر البحث وضّحنا التغييرات التي تحقّقت بحسب نقل بعض الناقلين عن الدورة المتأخّرة، فراجع ما مضى من بحث أصل مفهوم الشرط، وصُغنا هنا الكلام بصياغة تنسجم حتّى مع تلك التغييرات، فجاءت الصياغة غير مطابقة تماماً لما في كتاباتنا الخطّيّة والتي تحكي كلام اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بشكل دقيق.

197

 

مفهوم الوصف

التحقيق: عدم ثبوت المفهوم للوصف؛ وذلك لأنّ اقتناص المفهوم ـ كما عرفت ـ يتوقّف على جريان الإطلاق في الحكم، ولا إشكال في جريانه في القضايا الشرطيّة كما مرّ، وأمّا في القضايا الوصفيّة كقولنا: (أكرم العالم العادل) فلا مجال لجريانه؛ إذ العادل قيد لـ (العالم)، والعالم قيد لـ (أكرم)، وقيد القيد قيد، فلا محالة يكون الحكم مقيّداً.

وبتعبير فنّيّ نقول: إنّ الفرق بين القضيّة الشرطيّة والوصفيّة هو أنّ في قولنا مثلا: (إن كان العالم عادلا فأكرمه) تكون النسبة الطلبيّة أو البعثيّة بين الإكرام والمخاطب غير مقيّدة في حدّ ذاتها بالعدالة؛ إذ التقييد بذلك نشأ من ناحية تعليق هذه النسبة التامّة على ذلك، فلا يعقل كون ذات المعلّق مقيّداً بذلك، وتعليق وجوب إكرام العالم العادل على العدالة ممّا لا معنى له كما هو واضح. وهذا بخلاف قولنا: (أكرم العالم العادل)؛ إذ في هذا الكلام توجد نسبتان: نسبة تامّة بين الإكرام والمخاطب وهي النسبة البعثيّة أو الطلبيّة، ونسبة ناقصة بين الإكرام والعالم العادل، ومهما اجتمعت النسبة التامّة والناقصة على شيء، بأن كان شيء واحد طرفاً لكلتا النسبتين فلا محالة تندكّ النسبة الناقصة في جنب النسبة التامّة وتقع طرفاً لها، ولذا ترى عدم وجود نقصان في الكلام، وإذا كان كذلك فأحد طرفي النسبة البعثيّة أو الطلبيّة في هذا المثال هو إكرام العالم العادل والطرف الآخر هو المخاطب، وغاية ما يلزم من انتفاء الوصف هو انتفاء هذا الوجوب الخاصّ، وأيّ مجال لإجراء الإطلاق بعد أن كان الحكم مقيّداً بخصوص العالم العادل بمعنى دخوله في أحد طرفيه؟ هذا هو الذي ينبغي أن يقال فيما نحن فيه وقد مضى ذلك في خلال مباحث مفهوم الشرط.

198

وممّا ذكرنا يظهر وجه النظر في الكلمات التي أفادها الأعلام في هذا المقام:

فمنها: ما أفاده المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وهو: أنّ الوجه في عدم ثبوت المفهوم للوصف هو أنّ الحكم يلحظ بمقتضى نظر العرف مهملاً بالنسبة إلى الوصف لا مطلقاً ولا مقيّداً، وهذا بخلاف الشرط، فإنّه يلحظ بالنسبة إليه مطلقاً(1).

وفيه: ما عرفت من أنّ الحكم في القضيّة الوصفيّة مقيّد ـ لا محالة ـ ولا يمكن إطلاقه ولا إهماله.

ومنها: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)، وهو: أنّه يمكن توجيه مفهوم الوصف بأنّ ظاهر القضيّة كون الوصف المذكور بعنوانه دخيلا في الحكم، وفرض كون الدخيل في الحكم هو الجامع بينه وبين شيء آخر حتّى يثبت الحكم عند ثبوت ذلك الشيء الآخر وإن لم يثبت هذا الوصف خلاف الظاهر(2).

ثُمّ حاول(قدس سره) الجواب عن ذلك بالمناقشة الصغرويّة في المقام(3).

ويرد عليه: أنّ ما حصل هو حصّة خاصّة من الحكم، فغاية الأمر أنّه بانتفاء الوصف تنتفي هذه الحصّة؛ لأنّه بعنوانه دخيل لا بعنوان أعمّ، ولكن انتفاء الحصّة لا يفيد شيئاً؛ إذ من الممكن ثبوت حصّة اُخرى لو لم يعلّق مطلق الحكم على الوصف.

وهذا الإيراد إنّما يرد عليه لو اقتصرنا على مجرّد ما هو وارد في منطوق كلامه من استظهار دخل الوصف بعنوانه؛ إذ نقول عندئذ كما عرفت: إنّ دخل الوصف كان في شخص هذا الحكم المتقوّم في أحد طرفيه بهذا الوصف، أمّا لو ضممنا إليه



(1) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 26، ص 411 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 435 ـ 436 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(3) لعلّ المقصود المناقشة في استظهار دخل الوصف بعنوانه.

199

ما ضممناه إليه في بحث مفهوم الشرط ـ توجيهاً لكلامه ـ من قاعدة (استحالةصدور الواحد بالنوع عن الكثير بالنوع) فلا يرد عليه الإشكال الذي ذكرناه.

وهو(رحمه الله) في بحث مفهوم الشرط أيضاً لم يذكر هذه القاعدة في عبارته في مقام الاستدلال على مفهوم الشرط، وإنّما نحن ذكرناه لتوجيه كلامه، أمّا هو فقد اقتصر في عبارته على ذكر أنّ ظاهر الكلام هو دخل الشرط بعنوانه في الحكم لا بعنوان أعمّ.

وعلى أيّ حال فهنا أيضاً لو ضممنا تلك القاعدة إلى عبارته ارتفع الإشكال الذي ذكرناه؛ لأنّه وإن كانت القضيّة الوصفيّة دلّت في منطوق العبارة على دخل الوصف بعنوانه في هذا الشخص من الحكم، ولكن لو فرضنا دخل شيء آخر بدلا عن هذا الوصف في شخص آخر من الحكم قلنا: إنّ شخصين من الحكم متّحدان في النوع، فلو اختلف ما هو المؤثّر فيه من الأوصاف من حصّة إلى حصّة لزم صدور الواحد بالنوع عن المتعدّد بالنوع وهو مستحيل.

نعم، يرد عليه ما أوردناه في بحث مفهوم الشرط في مقام توضيح بطلان هذا الوجه من وجوه اقتناص المفهوم.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المقام: من أنّ الوصف يدلّ على المفهوم لو تمّ أحد أمرين:

الأوّل: أن يثبت كون الوصف علّة، وأضاف السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ قيد الانحصار.

والثاني: أن يثبت كون الوصف ـ وهو كلمة (العادل) مثلا ـ قيداً للحكم لا للموضوع أو المتعلّق، وعندئذ يدلّ الوصف على المفهوم لا محالة؛ لأنّ المقيّد عدمٌ عند عدم قيده(1).



(1) راجع أجود التقريرات المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ، ج 1، ص 435.

200

ويرد عليه: عدم إمكان اقتناص المفهوم حتّى مع فرض ثبوت أحد الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو كون الوصف علّة للحكم ولنضف إلى ذلك قيد الانحصار ـ فثبوته إنّما يوجب انتفاء الحكم المذكور بانتفائه كما هو واضح، وقد عرفت أنّ الوصف قد حصّص الحكم، فبانتفائه تنتفي هذه الحصّة.

وأمّا الأمر الثاني: فلأنّه لو ثبت كون كلمة (العادل) مثلا قيداً للحكم لم يثبت بذلك المفهوم؛ لأنّ تقييد النسبة بغير أدوات الشرط لا يوجب تحقّق المفهوم، كما مضى الاستدلال على ذلك في الأمر الخامس من الاُمور التي نبّهنا عليها في ذيل مبحث مفهوم الشرط. هذا.

ولا يخفى أنّ أصل كون كلمة (العادل) مثلا قيداً للحكم بالمعنى المقابل لتقييد الموضوع والمتعلّق ـ أعني: تقييد الحكم به بلا واسطة ـ غير ممكن؛ وذلك لأنّ الشيء إنّما يتقيّد بما يلائمه ويكون من حالاته، وعنوان (العادل) مثلا إنّما يلائم كلمة (العالم) بصيرورته وصفاً له، فإنّ العدالة من حالات العالم لا من حالات الحكم، ويقيّد العالم به لا الحكم. نعم، يعقل تقييد الحكم بكونه في زمان العدالة مثلا، وهذا العنوان غير عنوان نفس العدالة.

إلّا أن يكون المقصود بفرض كون (العادل) قيداً للحكم هو هذا المعنى، أعني: كون الحكم مقيّداً بزمان العدالة ولكن عُبّر بتعبير (أكرم العالم العادل) الظاهر في تقييد الموضوع بعنوان العدالة مسامحةً.

 

201

 

مفهوم اللقب والعدد

وقد ظهر بما ذكرناه الكلام في اللقب والعدد ونحوهما أيضاً؛ لأنّهما مشتركان في ثبوت المفهوم وعدمه مع الوصف ملاكاً، والنكتة الفنّيّة في الجميع واحد.

فهنا أيضاً نقول: إنّ اللقب مثلا دخل في طرف النسبة التامّة، والحكم محدّد بين طرفيه ومشخّص بهما، فبزواله ينتفي شخص هذا الحكم، ولا يمانع ذلك عن قيام حكم آخر مماثل له مكانه.

بل إنّ الأمر هنا أشدّ من الوصف من ناحية أنّ الوصف له ظهور في كونه قيداً احترازيّاً، فيدلّ على انتفاء الحكم بانتفائه بنحو السالبة الجزئيّة، بخلاف العدد واللقب.

وتوضيح ذلك: أنّه لو قال مثلا: (أكرم العالم العادل) مع فرض وجوب إكرام جميع العلماء لزم أحد اُمور ثلاثة كلّ منها خلاف الظاهر:

الأوّل: أن يكون الموضوع للجعل في عالم الثبوت خصوص العالم بدون دخل العدالة في الحكم أصلا، وهذا خلاف مقتضى أصالة تطابق عالم الإثبات والثبوت.

الثاني: أن يكون وجوب إكرام مطلق العلماء مجعولا بجعل آخر غير جعل وجوب إكرام العالم العادل، ويلزم من ذلك لغويّة جعل وجوب إكرام العالم العادل؛ لحصول الغرض ـ وهو التوصّل إلى ملاك المتعلّق ـ بذلك الجعل المطلق، إلّا أن تفرض نكتة في نفس جعل وجوب إكرام العالم العادل، بأن يكون الملاك ثابتاً في الجعل لا في المتعلّق، وهذا خلاف الظاهر لولا القرينة، فإنّ ظاهر الحكم بوجوب شيء أو حرمته مثلا هو إيجابه أو تحريمه لملاك في نفس المتعلّق.

الثالث: أن يكون جميع العلماء واجبي الإكرام بجعول متعدّدة تشمل بمجموعها جميع العلماء، كأن يجب إكرام العالم العادل ويجب أيضاً إكرام العالم الفاسق، ويلزم من ذلك لغويّة التقييد والتحصيص في الجعل، إلّا أن يفرض ثبوت نكتة في

202

القيد بأن يقال: إنّ ما صدر من المولى من جعل إكرام العالم العادل ليس بتمامهـ من القيد والمقيّد ـ متمحّضاً في التوصّل إلى الملاك الثابت في المتعلّق، بل هناك ملاك في نفس التقييد، وهذا خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر الحكم بحصّة خاصّة من وجوب شيء أو حرمته مثلا هو أنّ الداعي إلى جعل هذه الحصّة الخاصّة إنّما هو ملاك المتعلّق، من دون دخل ملاك ثابت في نفس الجعل أو تحصيصه، ويكون تعدّد الجعل وتحصيصه مع فرض ثبوت الحكم لجميع الأفراد لغواً، إلّا إذا كان ملاك في نفس تعدّد الجعل وتحصيصه وهذا خلاف ذلك الظهور.

وما ادّعيناه من ذلك الظهور ـ أعني: ظهور عدم كون التعدّد والتحصيص لملاك في نفس ذلك ـ إنّما هو في فرض(1) كون التحصيص بعنوان زائد كقوله: (أكرم العالم العادل)، لا في فرض كون التحصيص بما يؤوّل بعد التحليل إلى عنوان زائد، كقوله: (أكرم الرجل) الراجع بعد التحليل إلى قولنا: (أكرم الإنسان المذكّر)، فقوله: (أكرم الرجل) لا يدلّ على عدم وجوب إكرام كلّ إنسان على نحو السالبة الجزئيّة، وهذا هو الوجه في الفرق بين الوصف وغيره من اللقب والعدد.

هذا كلّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن الجعل والاعتبار ـ كما هو المختار ـ وهو فعل اختياريّ للمولى.

أمّا بناءً على كون الحكم الشرعيّ عبارة عن نفس الحبّ والبغض وإنكار وجود حلقة وسطى بين الإرادة والإبراز ـ وهي الحلقة المسمّاة بالجعل والاعتبار ـ فالوصف أيضاً يكون حاله حال اللقب؛ إذ من الممكن ثبوت إرادات متعدّدة، أو قل: ثبوت الشوق والكره المتعدّد بتعدّد العناوين التي يتّصف بها العالم، بأن يكون في كلّ من تلك العناوين ملاك يخصّه يوجب الحكم عليه بالإكرام، ولا مجال هنا لإشكال اللغويّة كما لا يخفى.



(1) بل هذا الظهور ثابت مطلقاً. نعم، هو في اللقب أضعف منه في الوصف، وفي الوصف أضعف منه في العدد.

203

 

مفهوم الغاية

ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ومن تبعه إلى أنّ الغاية إن كانت قيداً للموضوع، كقولنا: (سر في الأرض من هنا إلى الكوفة)، أو للمتعلّق، كقولنا: (صم صياماً مستمرّاً إلى الليل) لم يكن لها مفهوم؛ لأنّها راجعة إلى الوصف للموضوع أو المتعلّق ولا مفهوم للوصف، وأمّا إن كانت قيداً للحكم من قبيل: ﴿أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل﴾ ثبت لها المفهوم؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم مغيّى بالأمر الكذائيّ ومقيّد به، ولا محالة ينتهي المحدود بانتهاء حدّه(1).

والتحقيق: أنّه وإن كان الحكم مقيّداً بالغاية ومحدّداً بها فلا محالة ينتفي الحكم بحصولها، لكنّ الشأن ـ كما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته ـ في أنّه هل المحدّد هو شخص الحكم أو سنخه؟ وقد ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إلى أنّ المرجع في ذلك هو أن نرى أنّ العرف هل يرى الحكم الكذائيّ مهملاً من ناحية غايته أو مطلقاً من تلك الناحية(2).

أقول: مقتضى التحقيق هو: ما برهنّا عليه في الأمر الخامس من الاُمور التي نبّهنا عليها في نهاية بحث مفهوم الشرط: من الفرق بين تقييد النسبة التامّة بنسبة تامّة اُخرى وتعليقها عليها فيثبت المفهوم، وتقييدها بنسبة ناقصة فلا يثبت المفهوم بذلك، وبما أنّه فيما نحن فيه قيّدت النسبة التامّة بنسبة ناقصة غائيّة لا مجال



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 505 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع المقالات، ج 1، المقالة: 27، ص 415 ـ 417 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

204

لاقتناص المفهوم؛ إذ النسبة الناقصة اندمجت في النسبة التامّة وحصّصتها، فالحاصل إنّما هي حصّة خاصّة من النسبة التامّة، فغاية ما يلزم من تحقّق الغاية انتفاء تلك الحصّة، ولم تعلّق النسبة التامّة على نسبة تامّة اُخرى حتّى يقال ـ بمقتضى الإطلاق ـ: إنّها علّقت بما هي مطلقة.

ثُمّ إنّنا لو كنّا نؤمن بمفهوم الغاية لكان معنى ذلك في مثل قوله: ﴿أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل﴾ انقطاع الصوم بحلول الليل، وعدم وجود موضوع آخر يحلّ أحياناً محلّ النهار المنصرم فيوجب استمرار الصوم رغم حلول الليل، أمّا أنّ هذا الانتفاء لوجوب الصوم بمجرّد حلول الليل هل سيدوم إلى الأبد أو لا فهذا أمر آخر متفرّع على تحقّق الإطلاق في ذلك وعدمه.

أمّا مادمنا لم نؤمن بمفهوم الغاية فانتفاء الحكم مطلقاً بحلول الغاية غير مستفاد، ولكن انتفاؤه في الجملة وأحياناً بحلول الغاية مستفاد بلا إشكال، والسبب في الإيمان بالانتهاء أحياناً بنحو السلب الجزئيّ هو عين السبب لإيماننا في الوصف بالمفهوم بمقدار السلب الجزئيّ.

فنقول: لولا انقطاع الصوم مثلا بحصول الغاية ولو في بعض الموارد لكانت هذه الغاية لغواً، إلّا أن تفرض نكتة وملاك في نفس القيد، وقد مضى أنّ ذلك خلاف الظاهر، فقوله: (صم إلى الليل) يدلّ في الجملة على انتهاء أمد الصوم بحصول الليل، وإنّما قلنا: إنّه يدلّ على ذلك (في الجملة) لانتفاء اللغويّة بانتفاء الحكم في الجملة، فلو ورد مثلا دليل على أنّ مجيء زيد يوجب وجوب الصوم من أوّل الليل أيضاً ـ مع أنّه كان واجباً في النهار ـ لم يكن ذلك معارضاً لقوله: (صم إلى الليل)؛ لعدم دلالته على الانتفاء مطلقاً.

205

 

مفهوم الاستثناء

إنّ أداة الاستثناء تارةً تقع وصفاً للموضوع، كما في كلمة (غير) وكذلك كلمة (إلّا) في بعض استعمالاتها، كقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، واُخرى لا تقع وصفاً له، بل تستعمل لإخراج بعض الأفراد عن الموضوع، وذلك إخراج لها عنه بوصف أنّه موضوع ويترتّب عليه الحكم، لا إخراج عن ذات الموضوع بأن يقيّد المراد الاستعماليّ، وإلّا لرجع إلى القسم الأوّل وليس الأمر كذلك، ولذا ترى أنّه لا مجازيّة في مثل قولك: (أكلت الدجاجة إلّا رأسها)، مع أنّ شمول الدجاجة للرأس مستفاد من نفس وضع كلمة (الدجاجة)، فلو كانت كلمة (إلّا) استعملت لإخراج الرأس عن ذات المعنى الاستعماليّ لـ (الدجاجة) لزم المجاز، ولم يقل أحد بكون الاستثناء مجازاً ولا مجال لتوهّم المجازيّة.

والخلاصة: أنّه تارةً: يقيّد الموضوع في حدّ ذاته بأداة الاستثناء فيحكم على ما يتحصّل من ذلك بحكم، واُخرى: يحكم على الموضوع بحكم ثمّ يخرج بأداة الاستثناء بعض الأفراد عن الموضوع بوصف أنّه موضوع كما هو الغالب في كلمة (إلّا):

أمّا القسم الأوّل: فلا يزيد عن الوصف وليست فيه نكتة زائدة، فالكلام فيه عين الكلام في مفهوم الوصف.

وأمّا القسم الثاني: فيظهر حاله ممّا عرفت من أنّ أداة الاستثناء المستعملة على النحو الثاني تخرج المستثنى عن الموضوع المستثنى منه لا بما هو، بل بما هو موضوع وحكم عليه الحكم، فلا محالة تدلّ على ارتفاع الحكم السابق عنه، فلا محالة يكون الاستثناء عن الإيجاب سلباً وعن السلب إيجاباً فيثبت المفهوم:

أمّا في الاستثناء عن السلب: فواضح مثل: (لا يجب إكرام العلماء إلّا الفقيه)،

206

فإنّه من الواضح أنّ قوله: (لا يجب إكرام العلماء) نفي لطبيعة وجوب إكرام العلماء، وأنّ قوله: (إلّا الفقيه) رفع لذلك، فهو إثبات لوجوب الإكرام بالنسبة للفقيه.

وأمّا في الاستثناء عن الإيجاب ـ مثل: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق) ـ: فيقع الكلام من جهتين:

الاُولى: ما قد يقال: من أنّه وإن كان الاستثناء من الإيجاب سلباً لما مضى، لكن يمكن مع ذلك إنكار أصل دلالته على المفهوم؛ وذلك لأنّ قوله: (يجب إكرام العلماء) في نفسه لا يجري فيه مقدّمات الحكمة لإثبات كون المراد طبيعة الوجوب من حيث هي بلا لحاظ خصوصيّة، وقوله: (إلّا الفسّاق) ليس إلّا نفياً لما ثبت في جملة المستثنى منه، ولم يثبت كون المراد الاستعماليّ في جملة المستثنى منه طبيعيّ الوجوب على الإطلاق حتّى يثبت انتفاء مطلق الوجوب بالنسبة للفسّاق منهم، بل من المحتمل كون الوجوب الخاصّ منتفياً بالنسبة لهم، ولا ينافي ذلك ثبوت وجوب آخر بالنسبة لهم.

وحلّ هذا الإشكال: أنّ الإطلاق إنّما لا يجري في النسبة الثابتة في جملة المستثنى منه في حدّ نفسها ومع قطع النظر عن الاستثناء؛ لعدم نتيجة لجريان الإطلاق فيها، لكن بما أنّها تكون جملة مستثنى منها ووقع الاستثناء بقوله مثلا: (إلّا الفسّاق) يجري الإطلاق لكونه منتجاً، فنقول: إنّ قوله: (يجب إكرام العلماء) بحسب عالم اللفظ لا يدلّ إلّا على ماهيّة الوجوب الجامعة بين المطلق والمقيّد، وقوله: (إلّا الفسّاق) استثناء من المراد الاستعماليّ في جملة المستثنى منه، فبحسب عالم اللفظ يكون (الفسّاق) مستثنى من ماهيّة الوجوب الجامعة بين المطلق والمقيّد، فلو كان مراده الاستعماليّ استثناء ذلك من وجوب خاصّ، والمفروض عدم ذكر تلك الخصوصيّة في اللفظ يلزم عدم تطابق عالم الإثبات

207

لعالم الثبوت، ومقتضى تطابقهما كون المراد الاستعماليّ للمولى نفس الماهيّة الجامعة بين المطلق والمقيّد بلا دخل أيّ خصوصيّة في ذلك، وإن كانت الخصوصيّة دخيلة في المراد الجدّيّ يقيناً؛ فإنّ وجوب إكرام العلماء ناش من ملاك خاصّ بلا إشكال.

وبكلمة اُخرى: إنّ قوله: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق) في جريان الإطلاق كقوله: (أستثني الفسّاق من وجوب الإكرام)، ولا ينبغي أن يقاس بمثل: (يجب إكرام العلماء) بدون ضمّ الاستثناء إليه.

فتحصّل: أنّه كما يكون الاستثناء من النفي دالّاً على المفهوم كذلك يكون الاستثناء من الإيجاب أيضاً دالّاً على المفهوم(1)، فلو ورد: (إن جاءك زيد وجب إكرام جميع العلماء) كان ذلك معارضاً لقوله: (يجب إكرام العلماء إلّا الفسّاق).

الثانية: أنّه لا إشكال في أنّ الحكم في قوله: (يجب إكرام العالم إلّا الفاسق) مقيّد بالإكرام المقيّد بالعالم، فهل الثابت في جانب المفهوم انتفاء طبيعة وجوب إكرام العالم بما هو عالم بالنسبة للفاسق، أو انتفاء طبيعة وجوب إكرام العالم



(1) يبقى الإشكال بأنّ الاستثناء لعلّه يحصّص النسبة في المستثنى منه، فلا يبقى له مفهوم كما مضى شرحه بالنسبة لأيّ نسبة ناقصة تندكّ في جنب النسبة التامّة.

وجواب ذلك وارد في تقرير السيّد الهاشميّ (حفظه الله) لبحث اُستاذنا الشهيد (الجزء الثالث، بحث مفهوم الاستثناء، ص 213 ـ 214) وهو: أنّ الاستثناء من شؤون النسب التامّة الحقيقيّة في الذهن، وأمّا في الخارج فلا اقتطاع ولا حكم، فهي كالعطف والإضراب ونحو ذلك من النسب الثانويّة الذهنيّة، وليست أوّليّة خارجيّة كي تكون ناقصة، ويشهد لذلك الوجدان القاضي بأنّ كلام المتكلّم إذا خالف الواقع في جملة المستثنى والمستثنى منه معاً كما إذا قال: (كلّ إنسان أسود إلّا الزنجيّ) كان المتكلّم قد كذب بذلك كذبتين.

208

بالنسبة له وإن لم يكن بما هو عالم؟ وبكلمة اُخرى: لو دلّ دليل على وجوب إكرام الهاشميّ وإن كان عالماً فاسقاً، لكن بما هو هاشميّ لا بما هو عالم هل يكون ذلك معارضاً لمفهوم الكلام الأوّل أو لا؟

الإنصاف: أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو عدم المعارضة، وأنّ المنتفي بالنسبة إلى الفاسق إنّما هو وجوب إكرام العالم بما هو عالم، كما أنّ مقتضى الفنّ أيضاً ذلك؛ لأنّ الاستثناء إخراج عمّا ثبت في المستثنى منه، والثابت في المستثنى منه ـ بحسب ظاهر الكلام ـ وجوب إكرام العالم بما هو عالم؛ لأنّ مقتضى أصالة تطابق عالم الإثبات لعالم الثبوت دخل عنوان العالم في الحكم.

هذا آخر ما أردنا ذكره في المفاهيم.

 

209

مباحث الألفاظ

5

 

 

 

 

المقصد الرابع: في العامّ والخاصّ

 

○ العموم.

○ التخصيص.

 

211

 

 

 

 

 

 

 

العموم

ويقع البحث فيه من جهات:

 

تعريف العموم

الجهة الاُولى: في تعريف العموم.

قد عرّفه صاحب الكفاية(رحمه الله) بأنّه شمول المفهوم واستيعابه لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه من أفراده(1).

في حين أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) جعل العموم في مقالاته عبارة عن استيعاب المفهوم لجميع أفراد مدخوله يعني مدخول أداة العموم، ولم يفترضه استيعاباً لجميع أفراد نفسه(2) كما فعله في الكفاية.

والواقع: أنّ استيعاب الأفراد في المعنى اللفظيّ يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يكون نتيجة إدخال أداة حرفيّ يعطي للّفظ معنى النسبة الاستيعابيّة،



(1) الكفاية، ج 1، ص 232 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) المقالات، ج 1، المقالة: 30، ص 429 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

212

من قبيل صيغة الجمع المحلاّة بالأداة ـ لو آمنّا بكونها من صيغ العموم ـ كقوله:(أكرم العلماء)، أو من قبيل اسم الجنس الذي دخل عليه اللام، كـ (العالم)، لو قلنا بدلالة ذلك على العموم.

الثاني: أن تكون أداة العموم اسماً ويكون مفاده مفهوماً مستوعباً لأفراد مدخوله، من قبيل كلمة: (كلّ) و(جميع) ونحوهما.

ولا إشكال في أنّ تعريف المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) شامل للقسم الأوّل؛ لأنّ اسم الجنس مثلا أصبح مفهومه ـ ببركة تطعيمه بمفاد النسبة الشموليّة بواسطة اللام ـ مستوعباً لأفراده، ولكنّه ليس شاملا للقسم الثاني؛ لمباينة المفهوم المستوعب وهو مفهوم (كلّ) مثلا للمفهوم المستوعب أفراده وهو مفهوم (العالم) مثلا، فلا يمكن أن يقال: إنّ مفهوم كلمة (عالم) أصبح بواسطة كلمة (كلّ) في: (أكرم كلّ عالم) مستوعباً لجميع أفراده؛ إذ ليست كلمة (كلّ) أداة تفيد نسبة الاستيعاب وتجعل (العالم) مستوعباً لجميع أفراده من قبيل اللام لو قيل بدلالتها على العموم، بل هو بنفسه اسمٌ مفاده مفهوم مستوعب لأفراد مفهوم آخر وهو مدخوله، فلا ينطبق تعريف صاحب الكفاية على هذا القسم، بخلاف تعريف المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

ويشهد لما قلناه: من أنّ كلمة (كلّ) تختلف عن مثل حرف اللام أو لام الجمع، ما نراه: من أنّه يعامل مع تلك الكلمة معاملة الأسماء كالابتداء به مثلا، فيعلم أنّها ليست حرفاً توجب استيعاب مدخولها لأفراده، فالمستوعِب هو مفهوم اسميّ والمستوعَب هو أفراد مفهوم آخر.

وأمّا الاستيعاب بالمعنى الحرفيّ فقد أصبح مندكّاً في مفهوم كلمة (كلّ) أي: أنّ كلمة (كلّ) تدلّ على مفهوم مستوعب بما هو مستوعب.

213

وممّا ذكرناه ظهر جواب إشكال ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته مع جوابه:

أمّا الإشكال فهو: أنّ العموم لو كان هو الاستيعاب ـ وهو نسبة بين المستوعِب بالكسر والمستوعَب بالفتح ـ فأداة العموم لابدّ أن تكون حرفاً، مع أ نّا نرى أنّه يعامل مع بعضها ـ كـ (كلّ) و(جميع) ـ معاملة الأسماء كالابتداء به.

وأمّا جوابه فهو ـ كما أفاده في المقالات ـ: أنّه لا يلزم أن تكون أداة العموم دائماً متمحّضة في إفادة الاستيعاب بالمعنى الحرفيّ، بل يمكن أن يكون مفادها بنفسه مفهوماً مستوعِباً فيستفاد منها الاستيعاب لا محالة(1).

الثالث: أن يكون استيعاب حكم لأفراد موضوعه، وذلك كما في وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادته للعموم، فإنّ هذا ليس داخلا في القسم الأوّل بأن يكون المستوعَب أفراد نفس المستوعِب، بأن تكون النكرة مستوعِبة لأفرادها، فإنّ النكرة لا تستوعب أفرادها إلّا بدليّاً، ووقوع النكرة في سياق النفي أو النهي بناءً على إفادته للعموم يفيد العموم الاستغراقيّ لا البدليّ. وليس داخلا في القسم الثاني، فإنّه ليس هنا مفهوم آخر غير النكرة يستوعب أفراد النكرة، فلم يبق في البين إلّا أنّ الحكم مستوعب لأفراد موضوعه.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ تعريف صاحب الكفاية لا يشمل إلّا القسم الأوّل من هذه الأقسام الثلاثة، وتعريف صاحب المقالات لا يشمل إلّا الأوّلين منها.



(1) راجع المصدر السابق، وراجع أيضاً نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 504 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

214

والتعريف الصحيح أن يقال: «إنّ العموم هو الاستيعاب المفهوميّ»(1) بلا فرق بين أن يكون المستوعِب مفهوماً والمستوعَب أفراد ذلك المفهوم أو مفهوم آخر، أو يكون المستوعِب حكماً والمستوعَب أفراد موضوعه(2).



(1) يعني: في قبال الاستيعاب الخارجيّ، أو يعني: في قبال الاستيعاب في مرحلة تطبيق العمل المحفوظ في باب المطلق.

(2) أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هناك قسماً رابعاً للاستيعاب وهو استيعاب معاني لفظ واحد، كما لو قال المولى: (أكرم كلّ زيد)، ولم يُرد بكلمة (زيد) معنى كلّيّاً ذا أفراد، بل أراد لفظه. أو قال: (أكرم كلّ زيد له ولد)، وأراد وجوب إكرام كلّ معاني هذه العبارة، ولم يكن هناك مضاف محذوف بأن تقدّر كلمة (معاني) مثلا.

وطبعاً هذا التفسير وهو إرادة استيعاب كلّ معاني اللفظ خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من مثل هذا الكلام استعمال المدخول في معنىً كلّيّ انتزاعيّ مجازاً لا عدم استعماله في معنىً وإرادة لفظه. انتهى ما أفاده(رحمه الله).

215

 

أقسام العموم

الجهة الثانية: في أقسام العموم.

يقسّم العموم على ثلاثة أقسام: استغراقيّ ومجموعيّ وبدليّ.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) في الكفاية أنّه ليس المائز بين هذه الأقسام في نفس العموم والاستيعاب، بل هي في الحقيقة أقسام لتعلّق الحكم بالأفراد المستوعبة، فإنّ نفس العموم ليس إلّا عبارة عن الاستيعاب والانبساط، وبعد فرض تماميّة الاستيعاب لجميع الأفراد تارةً يكون الحكم متعلّقاً بكلّ فرد فرد منها، واُخرى يكون متعلّقاً بالمجموع من حيث المجموع، وثالثة يكون متعلّقاً بواحد منها على سبيل البدل، فعلى الأوّل يسمّى العموم استغراقيّاً، وعلى الثاني مجموعيّاً، وعلى الثالث بدليّاً، فهذه أقسام للعموم باعتبار تعلّق الحكم(1). هذا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

ويحتمل أن يكون مراده من ذلك التنبيه على نكتة، وهي: أنّه لا مجال للبحث في أنّ الأداة الفلانيّة للعموم هل تدلّ على ذات العموم فقط الذي هو الجامع بين الأقسام الثلاثة، أو تدلّ أيضاً على كونه استغراقيّاً أو مجموعيّاً أو بدليّاً؛ وذلك لأنّ العموم في الحقيقة قسم واحد، وليست هذه الأقسام لأجل وجود مائز في ماهيّة العموم، بل هذه أقسام لتعلّق الحكم بالعامّ.

أقول: لو كان حقّاً مراده(رحمه الله) هو التنبيه على ذلك ورد عليه: أنّ هذا الكلام غير صحيح، توضيحه: أنّه بعد أن كان للعامّ في الخارج ثلاثة أفراد مثلا، فمن الممكن



(1) راجع الكفاية ج 1، ص 332 بحسب طبعة المشكينيّ.