52

 

ثمرة بحث الضدّ

البحث الثالث: في ثمرة البحث. وقد ذكر فرعان لإبراز ثمرته:

1 ـ لو تزاحم عباديّ موسّع مع واجب مضيّق، فلو كان الأمر بالمضيّق يقتضي النهي عن ضدّه بطلت العبادة؛ لأنّ النهي في العبادات يوجب البطلان، وإلاّ صحّت.

2 ـ لو تزاحم عباديّ مع واجب أهمّ، فعلى الاقتضاء تبطل العبادة بالنهي، وعلى عدم الاقتضاء تصحّ.

وقد اُورد على هذه الثمرة بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ العبادة باطلة على كلّ حال؛ لأنّ الأمر بالشيء إن لم يقتض النهي عن ضدّه، فلا أقلّ من اقتضائه لعدم الأمر بضدّه؛ لأنّ الأمر بالضدّين غير معقول، فتبطل العبادة بعدم الأمر، من قبيل صلاة الحائض(1).

وقد اُجيب عن ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: ما عن المحقّق الثاني(رحمه الله)(2)، وهو يختصّ بالفرع الأوّل، وهو: أنّه يكفي في صحّة العبادة الأمر بالجامع، والجامع بين أفراد الموسّع لا يضادّ المضيّق، وإنّما الذي يضادّه خصوص الفرد المزاحم له، فيأتي بهذا الفرد امتثالا لأمر الجامع.


(1) هذا منقول عن الشيخ البهائيّ(رحمه الله)، نقله في فوائد الاُصول للشيخ الكاظميّ، ج 1، ص 312 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأخرجه تحت الخطّ عن كتاب الزبدة للشيخ البهائيّ(رحمه الله)، المطلب الأوّل من المنهج الثالث، بحث الضدّ، ص 82.

(2) أخرجه في فوائد الاُصول، ج 1، ص 312 بحسب الطبعة الماضية تحت الخطّ، عن جامع المقاصد للمحقّق الثاني، كتاب الدين وتوابعه، المطلب الأوّل من المقصد الأوّل.

53

وقد أورد على ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان ملاك اشتراط القدرة في التكليف قبح تكليف العاجز، فيقال هنا: لا قبح بالتكليف بالجامع بين الفرد غير المقدور والفرد المقدور؛ لأنّ ذلك لا يُحرِج المكلّف؛ إذ بإمكانه الإتيان بالفرد المقدور. ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ الخطاب بذاته يقتضي الاختصاص بالمقدور، وحتّى لو أنكرنا الحسن والقبح العقليّين كان التكليف مشروطاً بالقدرة؛ لأنّ قوام التكليف بالداعويّة وقابليّة التحريك، وهي لا تكون إلاّ بالنسبة للمقدور؛ لاستحالة التحرّك نحو غير المقدور. وعليه فنفس توجّه الوجوب إلى الجامع يحصّص الجامع ويخرج منه الفرد غير المقدور؛ لأنّ الداعويّة وقابليّة التحريك لا تكون إلاّ بالقياس إلى باقي الحصص، فليس هذا الفرد داخلا في الجامع المأمور به(1).

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا الكلام بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) سلّم بكلام المحقّق الثاني(رحمه الله) بناءً على كون ملاك اشتراط القدرة في التكليف عبارة عن حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور، بينما لم يكن ينبغي له التسليم بذلك حتّى على هذا الفرض، بناءً على مذهبه من استحالة الواجب المعلّق؛ وذلك لأنّه في زمان الفرد المزاحم غير قادر على ذلك الواجب أصلا؛ إذ لا هو قادر على فرده الأوّل؛ لأنّه مزاحمٌ بحسب الفرض، ولا على باقي الأفراد؛ لأنّها استقباليّة وتكون القدرة عليها في المستقبل دون الآن، فالواجب استقباليّ، فإذا كان الوجوب حاليّاً كان من الواجب المعلّق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 262 ـ 264 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 314 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

54

المستحيل عنده(1).

أقول: إنّ بإمكان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) الجواب عن هذا الإيراد وفقاً لمبانيه. ونوضّح ذلك بعد تقديم أمرين:

1 ـ إنّ استحالة الواجب المعلّق يذكر لها وجهان:

الوجه الأوّل: ما يستفاد ممّا نقله صاحب الكفاية(2) عن بعض معاصريه، مع تعميقه من قِبَل المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(3)، وهو أنّ التكليف متقوّم بإمكانيّة البعث، وإمكانيّة البعث لا تكون إلاّ مع إمكانيّة الانبعاث، وفي الواجب المعلّق لا يمكن الانبعاث قبل وقت الواجب.

والوجه الثاني: ما يقوله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ الواجب المعلّق يستلزم الشرط المتأخّر، فإذا وجب من الغروب الصوم عند الفجر، كان هذا الوجوب مشروطاً بشرط متأخّر وهو طلوع الفجر(4)، والشرط المتأخّر محال.

2 ـ إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) القائل باستحالة الشرط المتأخّر يقول: إنّه إذا دلّ


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 263، تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، والمحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 3، ص 59 ـ 61 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 161 ـ 162 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 76 ـ 77 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، وبحوث في الاُصول، ص 59 ـ 60 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(4) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 186 ـ 191 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 136 ـ 142 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

55

دليل خاصّ في مورد على شرطيّة المتأخّر، أوّلناه بكون الشرط هو التعقّب، ويقول: إنّه بذلك يرجع إلى الشرط المقارن(1).

أقول: إنّ هذا الكلام له تطبيقان:

1 ـ أن يرد دليل خاصّ بمضمون شرطيّة أمر متأخّر، كما لو دلّ الدليل على أنّ بيع الفضوليّ يكون صحيحاً بشرط أن تأتي الإجازة من قِبَل المالك.

2 ـ أن يرد دليل عامّ على الحكم خال من الشرط المتأخّر، ويرد إجماع ـ ونحوه من دليل لبّيّ ـ يخرج من الدليل العامّ الحصّة غير المتعقّبة بذلك الشرط، فيبقى المتعقّب به داخلا تحت العامّ، فيثبت إمّا الشرط المتأخّر، أو كون التعقّب شرطاً، وبما أنّ الأوّل مستحيل بحسب الفرض، فالمتعيّن هو الثاني.

إذا عرفت هذين الأمرين قلنا:

لو كان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يقول باستحالة الواجب المعلّق على أساس عدم إمكانيّة الانبعاث، وعدم صدق إمكانيّة البعث، فقد يقال بأنّه يُسجّل عليه إشكال السيّد الاُستاذ دامت بركاته؛ وذلك لأنّه في زمان الفرد المزاحم لا يمكنه الانبعاث نحو الصلاة.

ولكنّه لا يقول بالاستحالة من هذه الناحية، وإنّما يقول بالاستحالة من ناحية كون الواجب المعلّق مستلزماً للشرط المتأخّر، وما يتوهّم كونه شرطاً متأخّراً في المقام هو القدرة على الواجب المتأخّرة عن زمان الفرد المزاحم، إلاّ أنّ اشتراط القدرة قد فرض أنّه إنّما يكون على أساس حكم العقل بقبح تكليف العاجز.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 281 ـ 282 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 146 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

56

فالدليل بمقتضى إطلاقه يقتضي وجوب الصلاة مطلقاً، وقد خرج منه بالمخصّص اللبّيّ العاجز؛ لقبح تكليفه، ولكن ليس تكليف العاجز بالجامع قبيحاً إلاّ ذلك العاجز الذي سيعقب عجزه العجز عن باقي الأفراد الطوليّة. إذن تخرج هذه الحصّة من الإطلاق، ويبقى الباقي ويصبح الشرط تعقّب القدرة.

الإيراد الثاني: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لم يكن ينبغي له أن يسلِّم بكلام المحقّق الثاني على تقدير كون ملاك اشتراط القدرة هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز؛ وذلك بناءً على مبناه من أنّ امتناع التقييد يوجب امتناع الإطلاق؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فإنّه يقال ـ مبنيّاً عليه ـ: إنّ تقييد الوجوب بالفرد المزاحم غير ممكن، فشمول إطلاقه للفرد المزاحم أيضاً غير ممكن(1).

أقول: إنّ هذا الإيراد أيضاً غير وارد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله)؛ فإنّ الإطلاق تارةً يقصد به: شمول الحكم لفرد في مقابل اختصاصه به أو بغيره. واُخرى يقصد به: عدم التقييد. وما فرضه المحقّق النائينيّ مقابلاً للتقييد ـ تقابل العدم والملكة ـ إنّما هو الثاني، لا الأوّل؛ فإنّ الأوّل أمرٌ وجوديّ.

والسيّد الاُستاذ قد طبّق في المقام قانون: أنّ استحالة التقييد توجب استحالة الإطلاق على الأوّل؛ حيث ذكر أنّه إذا امتنع التقييد بالفرد المزاحم، امتنع إطلاقه للفرد المزاحم، بينما هذا غير مرتبط بمبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

وإذا أردنا أن نتكلّم في المقام وفقاً لمبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) قلنا: إنّ التقييد بالفرد المزاحم غير ممكن. إذن، فالإطلاق بمعنى عدم هذا القيد ـ المستوجب لشمول الحكم لباقي الأفراد ـ غير ممكن، وهذا وإن كان نتيجة غريبة، إلاّ أنّه


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 64 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

57

لا يضرّ بمقالة المحقّق الثاني، والتقييد بالفرد غير المزاحم ممكن، إذن فالإطلاق بمعنى: عدم هذا القيد ـ المستوجب لشمول الحكم للفرد المزاحم ـ ممكن. وهذا هو الذي ينفع المحقّق الثاني.

نعم، تلك النتيجة الغريبة إشكالٌ على أصل مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في الإطلاق والتقييد؛ إذ لازمها سقوط الصلاة رأساً، وبمثل ذلك يمكننا أن نتخلّص من الشريعة(1).

ولا يمكن علاج الموقف بمتمّم الجعل سنخ ما يقوله(رحمه الله) في قصد القربة، فإنّه في باب قصد القربة أمكن فرض أمر ثان يأمر بقصد الأمر الأوّل، لكن في المقام مهما فرض من أمر جديد يستحيل تقييده بالفرد المزاحم.

الإيراد الثالث: أنّ كون الخطاب بنفسه يتطلّب شرط القدرة؛ لأنّ قوام التكليف بإمكانيّة البعث غير صحيح؛ فإنّ هذا إنّما يتمّ بناءً على ما اشتهر من أنّ الأمر وُضع لإنشاء البعث والنسبة الإرساليّة ونحو ذلك، وأمّا على ما هو المختار ـ أي: للسيّد الاُستاذ دامت بركاته ـ من أنّ صيغة الأمر وضعت لاعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، فليس قوام التكليف بإمكانيّة البعث(2).

أقول: إنّ هذا الكلام أجنبيٌّ عن نكتة البحث في المقام؛ فإنّ النزاع في كون مفاد


(1) بأن نقول مثلا: إنّ تقييد كلّ تكليف لصورة العجز غير ممكن، فإطلاقه لصورة القدرة أيضاً غير ممكن، فبذلك نتخلّص من كلّ تكاليف الشريعة.

ولكن لا يخفى أنّه سيأتي الجواب على هذا الإشكال في بحث الترتّب في الجواب على الشبهة الجانبيّة الثانية من الشبهات الواردة على الترتّب.

(2) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 66 ـ 68 بحسب طبعة مطبعة النجف في النجف الأشرف.

58

صيغة الأمر هل هو: البعث والتحريك والنسبة الإرساليّة والطلبيّة ونحو ذلك، أو هو: اعتبار الفعل في ذمّة المكلّف، إنّما هو نزاعٌ في المدلول التصوّريّ لصيغة الأمر، أو قل: المدلول التصديقيّ بالدرجة الاُولى على ما يدّعيه السيّد الاُستاذ من كونه هو المدلول الوضعيّ للّفظ، في حين أنّ نكتة البحث في المقام هي معرفة المدلول التصديقيّ الأقصى لصيغة الأمر، فلو فرض أنّ المدلول الوضعيّ لصيغة الأمر هو اعتبار الفعل في الذمّة، لكن كان يستكشف من الأمر بالدلالة التصديقيّة أنّ المولى قد أمر بداعي البعث والتحريك، كفى ذلك في اشتراط القدرة على الانبعاث ولو فرض أنّ المدلول الوضعيّ لصيغة الأمر هو البعث والتحريك. لكنّنا لم نقبل أنّ الأمر يكشف عن داعي البعث والتحريك تصديقاً، إذن لم يكن الخطاب متطلّباً لثبوت القدرة.

والذي ينبغي أن يقال(1) ـ في مقام التعليق على كلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ هو: أنّه حتّى بناءً على ما يقوله: من كون الخطاب بنفسه متطلّباً للقدرة على المتعلّق ـ لأنّ قوام التكليف بالبعث ـ لابدّ من التسليم لما ذكره المحقّق الثاني(رحمه الله): من تعلّق الأمر بالجامع؛ وذلك لأنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، فالبعث وإن كان يقتضي إمكانيّة الانبعاث التي هي بالقدرة على المتعلّق، لكنّ القدرة على المتعلّق حاصلة في المقام بلا حاجة إلى تحصيص الجامع وإخراج الفرد غير المقدور منه، فلا مبرّر لكون تعلّق التكليف بالجامع محصّصاً له. إذن، فالوجه الأوّل للجواب على الإيراد ـ وهو ما ذكره المحقّق الثاني(رحمه الله) ـ صحيح، إلاّ أنّه مختصٌّ بالفرع الأوّل.


(1) وقد بيّن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) هذا الجواب أيضاً، راجع المحاضرات للفيّاض، الطبعة الماضي ذكرها، ص 62 ـ 63، وص 65.

59

الوجه الثاني: دعوى ثبوت الأمر بالضدّ العباديّ بنحو الترتّب. وهذا الوجه يأتي في الفرع الثاني، وكذلك يأتي في الفرع الأوّل بعد فرض التنزّل عن إمكانيّة الأمر العرضي بالنحو الذي جاء في مقالة المحقّق الثاني(رحمه الله). وهذا الوجه تامٌّ على ما نحن نذهب إليه من إمكان الترتّب. وسنبحث عن إمكان الترتّب وعدمه بعد الانتهاء من الإيرادين الذين اُوردا على ثمرة البحث مع أجوبتهما.

الوجه الثالث:هو أنّه حتّى لو فُرض عدم الأمر عرضيّاً ولا بنحو الترتّب، يكفي في صحّة العبادة وجود الملاك، بناءً على كفاية التقرّب بالملاك، فلا تبطل إلاّ إذا كان الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه، فتبطل العبادة عندئذ بالنهي. والضدّ في المقام إنّما لم يؤمر به لا لعدم الملاك، بل لضيق الخناق من باب استحالة الأمر بالضدّين.

وهذا التقريب ـ بهذا المقدار ـ يورد عليه: أنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر، والمفروض أنّه انتفى في فرض التزاحم، فلعلّه لا ملاك في المقام؟!

وفي مقام إثبات الملاك عمدة ما يذكر كاشفاً عنه أحد أمرين:

الأمر الأوّل: هو الدلالة الالتزاميّة لصيغة الأمر، فإنّها تدلّ بالمطابقة على الإلزام، وبالالتزام على الملاك، ففي المقام نأخذ بالدلالة الالتزاميّة للأمر.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ هذا مبنيّ على القول بأنّ الدلالة الالتزاميّة لا تتبع المطابقيّة في الحجّيّة، وإنّما تتبعها في الوجود. ففي المقام وإن سقطت المطابقيّة عن الحجّيّة، لكنّنا نتمسّك بالالتزاميّة، فيثبت بذلك الملاك. والصحيح تبعيّتها لها حتّى في الحجّيّة(1).

ولنا حول هذا المطلب ثلاث كلمات:

الاُولى: أنّ هذا الكلام لا يناسب مبناه، حيث قد صرّح في المقام بأنّ التكليف


(1) راجع المحاضرات، ج 3، ص 75 ـ 79.

60

ليس مشروطاً بالقدرة، لا بلحاظ اقتضاء ذات الخطاب له، ولا بلحاظ حكم العقل بقبح تكليف العاجز، وإنّما القدرة شرطٌ في حكم العقل بوجوب التحرّك وفْق الأمر وامتثاله، فبناءً على هذا ليست الدلالة المطابقيّة ساقطة عن الحجّيّة في المقام حتّى تسقط الدلالة الالتزاميّة أيضاً بتبع سقوطها، فعلى هذا المبنى يكون التمسّك بالملاك في مقام تصحيح العبادة جواباً متيناً على الإيراد.

الثانية: أنّ المختار لنا هو: أنّ التكليف مشروط بالقدرة، وأنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للمطابقيّة في الحجّيّة، وإثبات كلّ واحد من الأمرين موكول إلى محلّه. فالدلالة المطابقيّة في المقام ساقطة عن الحجّيّة، فمن يقول بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة لا ينبغي له التمسّك بالدلالة الالتزاميّة في المقام.

الثالثة: أنّ الدلالة الالتزاميّة في المقام ساقطة حتّى لو لم نقل بتبعيّتها للمطابقيّة في الحجّيّة؛ وذلك لأنّ تبعيّتها لها في الوجود ممّا لا شكّ فيه، وهنا الدلالة المطابقيّة غير موجودة؛ فإنّ اشتراط القدرة ليس بمخصّص منفصل هادم لحجّيّة الظهور مع انحفاظ أصل الظهور، وإنّما هو مخصّص متّصل هادم لأصل الظهور؛ فإنّ المدرك في اشتراط القدرة هو تطلّب الخطاب للقدرة؛ لبداهة عدم إمكان البعث عند عدم إمكان الانبعاث، والبعث هو قوام التكليف؛ أو وضوح قبح تكليف العاجز الذي هو أمر إرتكازيّ بديهيّ كالمتّصل.

الأمر الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من التمسّك بإطلاق المادّة. والذي يظهر(1) من تقرير بحثه أنّه يقول: إنّ المولى في أمره بالصلاة ـ مثلا ـ يكون بصدد


(1) ما ظهر لي من عبارة أجود التقريرات ليس هو هذا، ولكن هذا أكثر فنّيّةً ممّا ظهر لي من تلك العبارة.

61

بيان شيئين في عرض واحد ـ وموضوعهما شيء واحد، وهو المادّة ـ أحدهما: الوجوب، والآخر: الملاك. فهناك موضوع واحد دلّ الأمر على ثبوت محمولين له، فالمحمول الأوّل ـ وهو الحكم والوجوب ـ ثبت بدلالة وضعيّة، والمحمول الثاني ـ وهو الملاك ـ ثبت بدلالة سياقيّة؛ فإنّ ظاهر حال المولى أنّه بصدد بيان الحكم مع بيان روحه ـ وهو الملاك ـ لا بصدد بيان الحكم فقط. وهاتان الدلالتان عرضيّتان، أي: كلتاهما دلالة مطابقيّة، وليست الثانية التزاميّة كما فرض في الأمر الأوّل.

والمقيّد الذي قيّد الخطاب بالقدرة مفاده واضحٌ في اختصاصه بجانب الحكم، ولا يمسّ جانب الملاك بصلة؛ فإنّ اقتضاء البعث لإمكانيّة الانبعاث، أو حكم العقل بقبح تكليف العاجز كلاهما مرتبطان بالحكم. أمّا ثبوت الملاك في حقّ العاجز فلا يوجد فيه قبحٌ ولا فيه جنبة بعث وتحريك، فهذا المقيّد لا هو قرينة على تقييد الملاك، ولا هو صالحٌ للقرينيّة على ذلك حتّى يوجب الاجمال، فبلحاظ الملاك نتمسّك بإطلاق المادّة.

نعم، حينما تؤخذ القدرة قيداً في الموضوع بواسطة نفس الدليل اللفظيّ للحكم، لا بالقرينة اللبّيّة المفروضة في المقام، يكون الظاهر من ذلك تقيّد المادّة بلحاظ كلا المحمولين.

وهذا التقريب بهذا النحو يعني: أنّ تمام نكتة المطلب هو فرض الدلالة على الملاك مع الدلالة على الحكم عرضيّتين، وكون المقيّد مرتبطاً بجانب الحكم فقط.

وليست نكتة المطلب هي: أنّ قرينة التقييد تكون في الرتبة المتأخّرة عن الخطاب؛ لأنّها عبارة عن حكم العقل بقبح توجيه الخطاب إلى العاجز، أو تطلّب نفس الخطاب القدرة، فلا يمكن أن تمتدّ إلى المرتبة المتقدّمة على الخطاب، وتقيّد الملاك، حتّى يرد عليه إشكال السيّد الاُستاذ دامت بركاته: من أنّ القرينة المتأخّرة قد تنظر إلى مدلول متقدّم.

62

فإنّ المقصود ـ بناءً على ما ذكرناه من التقريب ـ هو: أنّ القرينة بذاتها قاصرة عن تقييد الملاك، ولا تصلح لأكثر من تقييد الحكم، لا أنّها باعتبارها في مرتبة متأخّرة أصبحت عاجزة عن تقييد الملاك.

والصحيح ـ في ردّ ذلك التقريب ـ هو: إنكار أصله الموضوعيّ، وهوكون الدلالة على الملاك في عرض الدلالة على الحكم؛ فإنّ الصحيح: أنّالأمر يدلّ على الحكم، والحكم يدلّ على الملاك، فالدلالة على الملاكدلالة التزاميّة، فرجعنا إلى الطريق الأوّل لاستكشاف الملاك الذي عرفت الجواب عنه.

وقد تحصّل: أنّ الوجه الثالث للتخلّص عن الإيراد الأوّل، وهو التشبّث بالملاك غير تامٍّ، وأنّ الوجهين الأوّلين الراجعين إلى التشبّث بالأمر تامّان، فالإيراد الأوّل غير وارد.

الإيراد الثاني: أنّ العبادة صحيحة على كلّ حال؛ لأنّ النهي الغيريّ لا يوجب البطلان، وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1)بدعوى: أنّ النهي الغيريّ حيث إنّه ينشأ من ملاك في غيره لا في نفسه، إذن لا ينافي الملاك النفسيّ، فيمكن التقرّب بالملاك.


(1) الموجود ممّا نقل عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تقرير الفيّاض يختلف عن هذا، فإنّه يقول بعدم مضرّيّة النهي الغيريّ، وتصحيح العبادة بالأمر بالجامع في الموسّع، ولا يقول بتصحيحها بالملاك فيما يشمل المضيّق.

ويرد عليه: أنّ النهي الغيريّ لئن أمكن اجتماعه مع الملاك، فمن الواضح عدم إمكان اجتماعه مع الأمر بالجامع؛ فإنّ النهي ـ ولو فرض غيريّاً ـ يساوق المبغوضيّة، وينافي المحبوبيّة، ولو بمعنى كونه فرداً من الجامع المحبوب.

63

إلاّ أنّ هذا الإيراد أيضاً لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ يرد عليه:

أوّلا: أنّه إن قُصد بالملاك المحبوبيّة النفسيّة، لم نُسلّم كون النهي الغيريّ غير مناف له؛ فإنّ المحبوبيّة والمبغوضيّة متضادّتان، سواءً كانتا نفسيّتين أو غيريّتين أو مختلفتين.

وإن قُصد به المصلحة، فمجرّد قصد المصلحة ـ من دون إضافتها إلى المولى، بأن يأتي بها بما هي محبوبة للمولى ـ لا يوجب التقرّب إلى المولى، فلا تصحّ به العبادة.

وثانياً: أنّ عدم منافاة النهي الغيريّ للملاك لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّه بعد أن كان منافياً للأمر أصبحت العبادة بلا أمر. وقد اتّضح ـ في مناقشة الوجه الثالث للجواب على الإيراد الأوّل ـ: أنّه لا يمكن تصحيح العبادة بمجرّد الملاك من دون أمر؛ إذ بعد فرض سقوط الأمر لا كاشف عن الملاك.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ الثمرة التي ذُكرت للبحث في المقام صحيحة، ويمكن صياغتها بهذه الصياغة، وهي: أنّه لو لم يقتض الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، فضدّه العباديّ لو أتى به كان صحيحاً؛ لتعلّق الأمر به عرضيّاً أو بنحو الترتّب، ولو اقتضى النهي عن ضدّه كان باطلا.

كما اتّضح أيضاً ـ بما ذكرناه ـ: أنّ الثمرة لا تختصّ بالضدّ العباديّ، بل تجري في التوصّليّ أيضاً؛ لأنّك قد عرفت: أنّ إحراز الملاك من دون ثبوت الأمر غير ممكن، وعليه فالضدّ يبطل ولو لم يكن عبادة.

ويمكن بيان الثمرة بصياغة اُخرى أوسع وأشمل، وذلك بأن يقال: إنّه بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه يرجع باب التزاحم دائماً إلى باب التعارض؛ لأنّ الأمر بكلّ ضدّ يوجب النهي عن ضدّه الآخر، فيتكاذب الأمران لا محالة. وبناءً على عدم الاقتضاء قد لا يرجع التزاحم إلى التعارض؛ لأنّه مع فرض

64

الإيمان بالترتّب لا يتكاذبان، فيكون كلّ منهما واجباً من دون أن ينفي وجوب الآخر. نعم، بناءً على إنكار الترتّب يتكاذبان أيضاً، كما سيتّضح شرح ذلك إن شاء الله تعالى. فإذا بيّنّا الثمرة بهذه الصياغة كان من جملة آثار هذه الثمرة، الثمرة بالصياغة الاُولى، أعني: بطلان الضدّ بناءً على الاقتضاء، إذا قدّم جانب الأمر بضدّه بقواعد باب التعارض.

بقي الكلام في الترتّب والتزاحم:

 

65

 

الترتّب

أمّا الكلام في الترتّب، فيقع في جهات:

 

ثمرة الترتّب:

الجهة الاُولى: في ثمرة بحث الترتّب. وهي: أنّ الترتّب إن كان صحيحاً أصبح باب التزاحم باباً مستقلاًّ برأسه في مقابل باب التعارض، ويعالَج التزاحم بقوانينه الخاصّة التي سوف تأتي إن شاء الله، لا بقوانين باب التعارض. وإن لم يكن صحيحاً دخل التزاحم في باب التعارض، ويعالَج بقوانين باب التعارض.

ونوضّح ذلك الآن ببيان بدائيّ سوف يتعمّق خلال البحث إن شاء الله فنقول:

إنّه إذا تزاحم واجبان مضيّقان، ولنفرضهما الصلاة والإزالة مثلا، فبناءً على صحّة الترتّب لا تعارض بين دليل الأمر بالصلاة ودليل الأمر بالإزالة؛ لأنّ كلاًّ منهما مخصوص بحال القدرة، ولا تكاذب بين وجوب الصلاة عند القدرة، ووجوب الإزالة عند القدرة، فإن ترك الإزالة أصبح قادراً على الصلاة ووجبت عليه الصلاة، وإن ترك الصلاة أصبح قادراً على الإزالة ووجبت عليه الإزالة.

نعم، يقع الضيق في عالم القدرة، فالمكلّف إمّا أن يُعمل قدرته في هذا الجانب ويخرج عن موضوع ذاك الدليل، أو يُعمل قدرته في ذاك الجانب ويخرج عن موضوع هذا الدليل؛ لأنّه لا يملك إلاّ قدرة واحدة.

أمّا لماذا يكون كلّ من الحكمين مخصوصاً بحال القدرة؟ فلأنّ التكليف والأمر حتّى لو فُرض وضعه لمجرّد اعتبار الفعل في الذمّة، يدلّ ـ بدلالة سياقيّة يفهمها كلّ إنسان عرفيّ ـ على أنّ المولى في مقام الجدّ، لا في مقام الهزل، أي: إنّه في مقام

66

البعث والتحريك، ولا يمكن البعث والتحريك عند عدم القدرة وعدم إمكانيّة الانبعاث(1).

هذا إذا قبلنا الترتّب، وأمّا إذا لم نقبل الترتّب فلا يمكننا أن نقول: إنّه تجب عليه الصلاة عند القدرة، وتجب عليه الإزالة عند القدرة أيضاً، فمتى ما ترك أحدهما قدر على الآخر فوجب عليه؛ إذ هذا مرجعه إلى الأمر بكلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، وهذا هو الترتّب الذي فرضنا إنكاره. إذن، فلابدّ من سقوط أحدهما عند التزاحم، وطبعاً إطلاق دليل كلّ واحد منهما يقتضي بقاءه، ويتطلّب سقوط الآخر، فيتكاذبان فيقع التعارض. ومن هنا نقول: إنّ القول بالترتّب من مبادئ مبحث التزاحم. هذا.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في مقام بيان ثمرة بحث الترتّب: أنّ ثمرته تظهر في فرعين. وذكر الفرعين الماضيين:

الأوّل: إذا تزاحم الواجب العباديّ المضيّق مع واجب مضيّق أهمّ، فبناءً على الترتّب يُصحَّح المهمّ بالأمر، بينما لو أنكرنا الترتّب لم يمكن تصحيحه، لا بالأمر؛ لعدمه بحسب الفرض، ولا بالملاك؛ لعدم طريق إلى إحرازه.

الثاني: إذا تزاحم بعض أفراد الواجب العباديّ الموسّع مع واجب مضيّق، فإن


(1) أمّا الاستدلال على اشتراط القدرة بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، فغير صحيح؛ فإنّه لا وجه للقبح؛ إذ لو كان وجه القبح هو أنّه إحراجٌ للمكلّف، قلنا: إنّ الإحراج إنّما يكون لو حكم العقل بالتنجّز، والعقل لا يحكم بالتنجّز إلاّ إذا كان للمولى حقّ تكليف من هذا القبيل، وفَرض حقّ تكليف من هذا القبيل للمولى خلف فرض القبح العقليّ. ولو كان وجه القبح اللغويّة، فقد يكون شمول التكليف للعاجز بالإطلاق وعدم التقييد، ولا يشترط فيه الفائدة؛ فإنّ التقييد هو الأمر الوجوديّ الذي يحتاج إلى داع عقلائيّ، لا الإطلاق.

67

قلنا بثبوت الأمر عرضيّاً على الجامع بين الفرد المزاحم وغيره، صحّ العمل من دون أن تصل النوبة إلى الترتّب وثمرته. وأمّا إن قلنا بعدم إمكان ذلك ـ لما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق ـ فهنا تظهر ثمرة الترتّب، فبناء عليه صحّ العمل بالأمر، وبناءً على عدم الترتّب لم يصحّ العمل؛ لعدم إحراز الأمر وعدم إحراز الملاك.

أقول: إنّ لنا حول هذا الكلام ثلاث نقاط:

1 ـ إنّ الأولى إبراز الثمرة بصيغتها الأوسع والأشمل، وهي التي نحن ذكرناها، فإنّ صحّة العمل بالأمر وعدم صحّته مظهر من مظاهر التعارض وعدمه، فإنّه لو فرض التعارض وسقط الأمر بطل العمل؛ إذ لم يثبت أمر ولا ملاك. ولو فُرض عدم التعارض ووجوب الصلاة على القادر، فهو إذا ترك الإزالة فقد حصلت له القدرة على الصلاة، فثبت عليه الأمر بالصلاة، فصحّت صلاته.

وببيان آخر: إنّ الثمرة التي اخترناها تمتاز على الثمرة التي اختارها السيّد الاُستاذ بنكتتين:

الاُولى: أنّ الثمرة التي ذكرناها هي الأصل للثمرة التي ذكرها السيّد الاُستاذ، وتلك الثمرة تتفرّع على الثمرة المختارة. ففي الفرع الأوّل إنّما تبطل العبادة ـ بعدم الأمر ـ بناءً على بطلان الترتّب؛ لأنّه بناءً على بطلان الترتّب يقع التعارض بين الأمرين، فبعد فرض تقديم الأمر الآخر، وسقوط هذا الأمر تبطل العبادة. وفي الفرع الثاني إن قلنا بثبوت الأمر على الجامع عرضيّاً فلا ثمرة، بلا فرق بين مختارنا ومختاره؛ إذ لا تعارض بين الأمرين، وتصحّ العبادة بالأمر، سواءً قلنا بالترتّب أو لا.

الثانية: أنّه على بعض المباني والفروض تظهر الثمرة بالصياغة التي نحن بيّنّاها، ولا تظهر الثمرة بالصياغة التي ذكرها السيّد الاُستاذ؛ وذلك لأنّنا لو قلنا بإحراز

68

الملاك حتّى مع عدم الأمر، وصحّحنا العمل بذلك، فالثمرة بالنحو الذي ذكره السيّد الاُستاذ لا تظهر؛ لأنّه يصحّ العمل على كلّ حال. ولكنّ الثمرة بالنحو الذي ذكرناه تظهر؛ إذ نتكلّم في أنّ دليل الأمرين هل يتعارضان وتطبّق عليهما قوانين باب التعارض، أو يتزاحمان وتطبّق عليهما قوانين باب التزاحم؟

ثُمّ إنّ قيد كون الواجب عباديّاً ـ الذي جاء على لسان السيّد الاُستاذ ـ في غير محلّه؛ فإنّه لو كان المفروض إمكان إحراز الملاك ـ بمعنى المصلحة ـ مع فرض سقوط الأمر، أمكن تخصيص الثمرة بالواجب العباديّ؛ لأنّ الملاك ـ بمعنى المصلحة ـ لا يصحّح العبادة؛ لعدم إمكان التقرّب بالمصلحة بغضّ النظر عن المحبوبيّة، ولكنّه يصحّح الواجب التوصّليّ، لكنّه قد فرغنا وفرغ ـ دامت بركاته ـ عن عدم إمكان إحراز الملاك، لولا الأمر، ومعه فالواجب التوصّليّ أيضاً يبطل باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه؛ إذ لم يثبت أمرٌ به ولا ملاك فيه.

2 ـ إنّ السيّد الاُستاذ ـ الذي قد صرّح بأنّ القدرة ليست شرطاً في التكليف، وإنّما هي شرط في التنجيز؛ لأنّ التكليف ليس إلاّ مجرّد اعتبار وفرض، وفرض المحال ليس بمحال ـ لم يكن من حقّه أن يفترض كون صحّة العمل من آثار الترتّب؛ فإنّه لا حاجة إلى الترتّب، بل يثبت كلّ من الأمرين عرضاً؛ فإنّه إذا أمكن تعلّق أمر واحد ابتداءً بما هو محال، فكذلك يمكن تعلّق أمرين بشيئين يكون الجمع بينهما محالا.

ومن هنا كان اشتراط القدرة في التكليف من المبادئ التصديقيّة للترتّب. وقد عرفت أنّ القدرة شرط في التكليف حتّى ولو فرضنا أنّ التكليف والأمر مجرّد اعتبار؛ فإنّه على أيّ حال يدلّ بدلالة سياقيّة على أنّ المولى بصدد البعث والتحريك، لا بصدد مجرّد الفرض والخيال حتّى يقال: إنّ فرض المحال ليس بمحال، ولا يعقل البعث عند عدم القدرة وعدم إمكانيّة الانبعاث.

69

3 ـ إنّ ما ذكره في الفرع الثاني ـ من أنّه بناءً على تعلّق الأمر بالجامع لا مورد للترتّب ـ صحيح، ولكنّ ما ذكره من أنّه بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ من استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد ـ لا يمكن شمول الجامع المأمور به للفرد المزاحم، غير صحيح؛ لما مضى من أنّ الإطلاق الذي يفرضه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)عدم الملكة بالنسبة للتقييد، هو إطلاق الحكم للطرف المقابل لذاك التقييد، على ما مضى شرحه. كما أنّ الصحيح هو تعلّق الأمر بالجامع حتّى بناءً على أنّ ملاك اشتراط القدرة هو كون الخطاب ـ بحسب روحه ـ عبارة عن البعث الذي لا يُعقل إلاّ مع إمكانيّة الانبعاث والقدرة، فإنّ الجامع مقدور. إذن، فثمرة الترتّب لا تظهر في الفرع الثاني.

ثُمّ إنّ الثمرة ـ سواءً بُيّنت بالصياغة التي نحن اخترناها، أو بصياغة السيّد الاُستاذ ـ موقوفةٌ على أصلين موضوعيّين، لو لم يتحفّظ عليهما معاً لم تظهر أيّ ثمرة للترتّب، لا بصياغتنا للثمرة، ولا بصياغة السيّد الاُستاذ لها:

أحدهما: أن يقال بأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ، أمّا على تقدير الاقتضاء فلا إشكال في وقوع التعارض على كلّ حال، كما لا إشكال في عدم إمكان تصحيح العبادة بالأمر على كلّ حال؛ لأنّه بعد أن فُرض تقديم جانب الأمر بالإزالة ـ مثلا ـ فالواجب الآخر المزاحم له منهيٌّ عنه، فكيف يكون مأموراً به؟!

هذا إذا كان الواجبان مضيّقين، أمّا إذا كان الضدّ واجباً موسّعاً زاحم بعض أفراده مع الواجب الآخر، فلو آمنّا بمقالة المحقّق الثاني ـ من تعلّق الأمر العرضيّ بالجامع الشامل للفرد المزاحم ـ لم يكن هناك تعارضٌ بين الأمرين على كلّ حال، وصحّت العبادة على كلّ حال. ولو قلنا بعدم إمكان تعلّق الأمر بالجامع عرضيّاً على إطلاقه الشامل للفرد المزاحم، فبناءً على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ـ كما هو المفروض ـ لا تظهر الثمرة أيضاً؛ إذ على هذا الفرض يصبح إطلاق

70

تعلّق الأمر بالجامع ـ بنحو يشمل الفرد المزاحم ولو بنحو الترتّب ـ معارضاً لدليل الأمر بالإزالة المقتضي للنهي عن الضدّ المستحيل اجتماعه مع الأمر بجامع يشمل ذلك الضدّ، ولو قدّم الأمر بالإزالة لم يبق أمرٌ بالعبادة، فتبطل.

ثانيهما: أن يقال باشتراط القدرة في التكليف، فلو أنكرنا ذلك لم تبق ثمرة للترتّب، لا بصياغتنا؛ لأنّه لا يقع التعارض على كلّ حال، أي: حتّى لو أنكرنا الترتّب؛ فإنّ غاية ما يلزم من ذلك الأمر بضدّين، ولا بأس به، ولا بصياغة السيّد الاُستاذ؛ لأنّه على كلّ حال يكون الأمر بالعبادة موجوداً، فتصحّ بذلك العبادة.

 

ما يرجع إليه تقديم أحد المتزاحمين على الآخر من أقسام رافعيّة أحد الحكمين لموضوع الآخر:

الجهة الثانية: أنّ كلّ حكمين قد يكون أحدهما غير رافع لموضوع الآخر، سواءً كانا غير متنافيين، كـ (صلّ) و(صم)، أو كانا متنافيين، كـ (صلّ) و(لا تصلّ). وقد يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر، وهذا على خمسة أقسام؛ فإنّ الرافع للحكم الآخر: إمّا هو جعل الحكم الأوّل، أو فعليّة المجعول، أو وصول المجعول، أو تنجّز الواصل، أو امتثال المنجّز.

مثال الأوّل: ما قد يقال في مسألة الزكاة: من أنّه لو ملك نصاباً كعشرين إبلاً، وعلى رأس نهاية ستّة أشهر ـ مثلا ـ اُضيف إليه ما أدخله في نصاب آخر، كما لو صار خمساً وعشرين إبلاً، وقلنا: إنّ سنة الزكاة بلحاظ النصاب الأوّل تبدأ من الشهر الأوّل، وبلحاظ النصاب الثاني تبدأ من الشهر السابع، وقلنا بأنّ عيناً واحدة لا يصحّ أن تشترك في تكوين نصابين، وقلنا بأنّ النصاب السابق زماناً هو الذي يحكم على النصاب اللاحق، فإن صحّ كلّ هذا فالحكم بالزكاة في النصاب الأوّل بجعله يرفع موضوع الحكم بالزكاة الثانية، برغم أنّ فعليّة الحكم بالزكاة لا تكون إلاّ بعد الحول.

71

ومثال الثاني: الحكم بحرمة ما وقع متعلّقاً للشرط، والمفروض وجوب الوفاء بالشرط إلاّ ما خالف الكتاب والسنّة، فلو اشترط ـ مثلا ـ في ضمن العقد المشي في مكان معيّن، فالحكم بحرمة الغصب بجعله لا يرفع موضوع وجوب الوفاء بالشرط، ولكن إذا صار فعليّاً، بأن ملك شخص ذلك المكان ولم يرض بالمشي فيه، ارتفع بذلك موضوع وجوب الوفاء بالشرط؛ لأنّه أصبح شرطاً مخالفاً للكتاب والسنّة.

ومثال الثالث: ارتفاع موضوع الاُصول العمليّة، كـ (رفع ما لا يعلمون) بالعلم بالحكم، بناءً على أنّ العلم اُخذ غاية لها بما هو طريق، لا بما هو منجّز.

ومثالٌ آخر: أنّ حرمة الإفتاء بغير علم يرتفع موضوعها بالعلم بالحكم.

ومثال الرابع: ارتفاع موضوع الاُصول العمليّة بالعلم بالحكم، بناءً على أنّ العلم اُخذ غايةً لها بما هو منجّز.

ومثالٌ آخر: ما يقال في باب الزكاة: من أنّها مشروطة بأن يكون قادراً في أثناء الحول على التصرّف في العين الزكويّة، بمعنى عدم كونه عاجزاً عن ذلك، لا تكويناً ولا تشريعاً ومن باب تقيّده بالشرع وأداء حقّ المولويّة، فإذا حرم عليه التصرّف بحجر ـ مثلا ـ وتنجّزت عليه الحرمة، أصبح بتنجّزها عاجزاً شرعاً عن التصرّف، وبذلك ارتفع موضوع وجوب الزكاة.

ومثالٌ آخر: ما يقال في باب الوضوء أو الحجّ من اشتراطه بالقدرة الشرعيّة، بناءً على تفسيرها بأن لا يكون عاجزاً عقلا ولا مولويّاً ومن ناحية التزامه بالشرع، فحينئذ لو تنجّز عليه حفظ الماء تحفّظاً على نفس محترمة ـ مثلا ـ أو تنجّزت عليه زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة ارتفع موضوع الوضوء أو الحجّ.

والنقاش في بعض هذه الأمثلة أو كلّها لا يضرّنا؛ فإنّ المقصود فعلا مجرّد المثال لتوضيح المقصود.

72

ومثال الخامس: وجوب الكفّارة على من أفطر شهر رمضان، الذي يرتفع موضوعه بامتثال وجوب الصوم في شهر رمضان.

إذا عرفت ذلك جئنا إلى ما نحن فيه، لنرى أنّ وجوب الإزالة ـ مثلا ـ الذي فُرض مقدّماً بوجه من الوجوه على وجوب الصلاة ورافعاً لموضوعه، داخل في أيّ قسم من هذه الأقسام الخمسة؟

فنقول: بناءً على القول بالترتّب يدخل في القسم الأخير، كما هو واضح؛ إذ قد فُرض أنّ المولى أوجب الصلاة على تقدير تركه للإزالة، فوجوب الإزالة يكون بامتثاله رافعاً لوجوب الصلاة.

وأمّا بناءً على القول ببطلان الترتّب ووقوع التعارض، فالصحيح أنّه يدخل في القسم الرابع، أي: أنّ وجوب الإزالة بتنجّزه يرفع موضوع وجوب الصلاة؛ فإنّ اشتراط القدرة لا يقتضي تقييد وجوب الصلاة بقيد غير قيد عدم تنجّز الإزالة؛ فإنّ من لم تتنجّز عليه الإزالة يكون قادراً على الصلاة، ولا يقبح ـ مثلا ـ تكليفه بالصلاة؛ لعدم كون ذلك إحراجاً له وإيقاعاً له فيما يوجب استحاق العقاب. هذا بلحاظ اشتراط القدرة بملاك قبح تكليف العاجز، وكذلك الأمر بلحاظ كون البعث بنفسه متطلّباً للقدرة على الانبعاث وشأنيّته؛ فإنّه لا يتطلّب أكثر من هذه الشأنيّة.

فإن قلت: إذا فُرض رجوع الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة إلى باب التعارض، فكيف يُعقل كون مجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر موجباً لرفع التعارض؟ بينما في سائر موارد التعارض لو قُيّد أحدهما بعدم تنجّز الآخر لم يرتفع التعارض، مثلا: لو ورد دليلٌ على الأمر بالصلاة، ودليلٌ على النهي عن الصلاة في الحمّام، فتعارضا في الصلاة في الحمّام، فحتّى لو قيّد الأمر بالصلاة بعدم تنجّز النهي عن الصلاة في الحمّام يبقى التعارض ثابتاً بينهما في مادّة الاجتماع في فرض عدم تنجّز النهي. وكذلك الحال في مثل (صلّ) و(لا تغصب) في مادّة

73

الاجتماع، بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي، ولذا يقال ـ بناءً على الامتناع ـ ببطلان الصلاة في المكان المغصوب، ولو مع الجهل والعذر.

فليكن ما نحن فيه أيضاً كذلك، فبمجرّد تقييد وجوب الصلاة بعدم تنجّز وجوب الإزالة لا يرتفع التعارض، حتّى يُفرض أنّ القيد المأخوذ فيه هو عدم تنجّز وجوب الإزالة، وأنّ وجوب الإزالة بتنجّزه يرفع موضوع وجوب الصلاة، فحتّى لو فرض وجوب الإزالة غير منجّز يبقى التعارض ثابتاً بين الأمرين؛ لأنّهما أمران بضدّين، والمفروض عدم قدرة المكلّف على الجمع بين الضدّين، في حين أنّ الخطاب يتطلّب القدرة على الانبعاث، فمحذور عدم القدرة على الجمع بين الضدّين ـ الذي أوجب التعارض بين الأمرين ـ لم يرتفع بمجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر.

قلت: إنّه في مثل (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) يكون التعارض بينهما ثابتاً في مادّة الاجتماع، حتّى مع فرض تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر؛ وذلك لأنّ كلاًّ من الأمرين يكشف عن ثبوت مبادئ الحكم في متعلّقه، ومتعلّقهما في مادّة الاجتماع واحد، ويستحيل اجتماع الحبّ والبغض، أو اجتماع المصلحة والمفسدة ـ الغالب كلّ منهما في التأثير ـ في متعلّق واحد، ولو في فرض عدم تنجّز أحدهما؛ إذ من الواضح أنّ عدم تنجّز أحدهما لا يوجب إمكان اجتماع الحبّ والبغض الفعليّين في مورد واحد.

وأمّا في مثل المقام وهو (صلّ) و(أزِل) فإن فرض أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه كان معنى ذلك اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد، فصار حالُه عيناً حال (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام) ويقع التعارض بلحاظ مبادئ الأمر ومبادئ النهي، ولا ينحلّ التعارض بمجرّد تقييد أحد الأمرين بعدم تنجّز الآخر.

وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه

74

الخاصّ، فمع فرض تقيّد أحدهما بعدم تنجّز الآخر لا معنى للتعارض بينهما، فإذا كان وجوب الصلاة مقيّداً بعدم تنجّز وجوب الإزالة لم يبق أيّ تعارض بينهما؛ إذ ما هي النقطة التي يتمركز فيها التعارض؟ هل هي عبارة عن مبادئ الحكم، أو عبارة عن نفس الحكم، أي: ما هو مدلول الخطاب، أو عبارة عمّا لكلّ واحد منهما من استحقاق الامتثال؟

أمّا النقطة الاُولى ـ وهي مبادئ الحكم ـ: فمن الواضح عدم أيّ تعارض بينهما بلحاظ المبادئ؛ لتباين متعلّقهما، فأحدهما تعلّق بالصلاة، والآخر تعلّق بالإزالة، وليس أحد الأمرين متعلّقاً بنقيض ما تعلّق به الأمر الآخر، وأيّ منافاة بين افتراض كون الشخص الواحد محبّاً بالفعل لعمل حبّاً شديداً جدّاً، ومحبّاً لما يضادّه أيضاً بنفس الدرجة؟! غاية الأمر أنّه عاجز عن تحصيلهما معاً لما بينهما من التضادّ.

وأمّا النقطة الثالثة ـ وهي اقتضاء كلّ منهما للامتثال لو فُرض أنّ تزاحمهما في ذلك يوجب التعارض بينهما ـ: فمن الواضح أنّه لا تعارض بينهما بلحاظها أيضاً؛ إذ لو تنجّز وجوب الإزالة لم تجب الصلاة بحسب الفرض، ولو لم يتنجّز وجوب الإزالة لم يكن وجوب الإزالة مستحقّاً للامتثال حتّى يقع التعارض بينهما بلحاظ استحقاق الامتثال.

وأمّا النقطة الثانية ـ وهي نفس الحكم ومفاد الخطاب ـ: فإن قلنا: إنّ مفاد الخطاب ليس إلاّ مجرّد الاعتبار والخيال، فمن الواضح عدم التعارض بين مجرّد خيال وخيال، أو اعتبار واعتبار.

وإن قلنا: إنّ الخطاب يدلّ بدلالة سياقيّة على كونه بداعي الجدّ، أي: يكشف عن داعي البعث والتحريك، وعلى أساسه يتطلّب الخطاب اشتراط القدرة، فكشف الخطاب ـ بدلالة سياقيّة ـ عن داعي البعث والتحريك يتصوّر بأحد أنحاء عديدة لابدّ من تمحيصها:

الأوّل: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ على الإطلاق.

75

وهذا أقلّ ما يرد عليه: أنّه يلزم منه عدم شمول الخطاب للعاصين، أوتخيّل المولى أنّ المكلّفين مطيعون، وإلاّ فالمولى المطّلع على وجود عاصين لخطابه لا يعقل أن يخاطب بداعي التحريك الفعليّ لكلّ المكلّفين علىالإطلاق.

الثاني: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ على الإطلاق لكلّ مكلّف على تقدير انقياده.

وهذا أيضاً غير صحيح، وإلاّ لزم عدم شمول الخطاب للمنقاد الذي لم يصل إليه الخطاب بل وصل إليه عدمه، فالمنقاد على الإطلاق لا يمكن أن يتحرّك بهذا الخطاب، وإنّما يتحرّك به المنقاد الذي وصله الحكم وتنجّز عليه مثلا.

الثالث: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ لكلّ مكلّف على تقدير انقياده ووصول الخطاب إليه وصولا منجّزاً، ولهذا لا يكون العاجز تكويناً مشمولاً للخطاب؛ لعدم معقوليّة التحريك بالنسبة إليه.

وفيما نحن فيه يكون الأمر بالإزالة مع الأمر بالصلاة مقيّداً بعدم تنجّز وجوب الإزالة معقولا بلا تعارض بينهما؛ لأنّ كلاًّ منهما يكشف عن الداعي للتحريك الفعليّ للمكلّف على تقدير انقياده ووصول الخطاب إليه وصولا منجّزاً، وهذا الداعي في كلا الخطابين معقول؛ فإنّ فرض وصول وجوب الإزالة وصولا منجّزاً مساوقٌ لعدم فعليّة وجوب الصلاة، وفرض فعليّة وجوب الصلاة ووصوله وصولا منجّزاً مساوقٌ لعدم تنجّز وجوب الإزالة؛ إذ بتنجّزه ترتفع فعليّة وجوب الصلاة بحسب الفرض، بلا تناف بينهما؛ إذ مع فرض تنجّز وجوب الإزالة لا تجب عليه الصلاة، ومع فرض عدم تنجيزه تجب عليه الصلاة، ولكن داعي التحريك الكامن في الأمر بالإزالة لا ينافيه؛ إذ ذلك داع للتحريك الفعليّ على تقدير الانقياد

76

والتنجّز بحسب الفرض؛ إذن لم يبق أيّ تناف بين داعيي التحريك.

الرابع: أن يُفرض أنّ الخطاب لا يكشف عن ثبوت داعي التحريك الفعليّ ـ كما هو الحال في الاحتمالات الثلاثة الماضية ـ وإنّما يكشف عن داعي إيجاد المقتضي للتحريك الذي قد يقترن صدفةً بمانع ـ من خبث أو غيره ـ ولا يحرّك، وقد لا يقترن صدفةً بمانع فيحرّك. ومبنيّاً عليه أيضاً لا يكون العاجز تكويناً مشمولا للخطاب؛ لعدم اقتضاء الخطاب لتحريكه.

ولا يبقى تعارضٌ بين الخطابين فيما نحن فيه من ناحية داعيي التحريك حتّى لو فرض عدم تقيّد أحدهما بفرض عدم تنجّز الآخر؛ إذ كلّ منهما فيه اقتضاء التحريك حينما يصبح فعليّاً، وهو كاف فيما يكشف عنه الخطاب من داعي التحريك ولو فرض الخطاب الآخر مانعاً عن تأثير هذا المقتضي. فلو فُرض تعارضٌ بين الخطابين العرضيّين فإنّما هو من ناحية استحقاق كلّ منهما للامتثال لو فُرض أنّ مثل ذلك يوجب التعارض، وهذا التعارض يرتفع بتقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر كما مضى. إلاّ أنّ هذا الاحتمال الرابع لا يساعد عليه الفهم العرفيّ للمدلول السياقيّ للخطاب.

الخامس: أن يُفرض أنّ الخطاب يكشف عن داعي تحريك كلّ منقاد بقدر انقياده وفقاً لدرجات الوصول، أي: أنّه اُنشئ الخطاب لكي يحرّك بوصوله التنجيزيّ مَن فيه طبع الانقياد بالوصول التنجيزيّ، ولكي يحرّك بوصوله الظنّيّ غير التنجيزيّ مَن فيه طبع الانقياد حتّى بالوصول الظنّي غير المنجّز، ولكي يحرّك بوصوله الاحتماليّ مَن فيه طبع الانقياد حتّى بالوصول الاحتماليّ وهكذا.

وبناءً على هذا لا يرتفع التعارض بين الأمرين في المقام بمجرّد تقييد أحدهما بعدم تنجّز الآخر؛ إذ المفروض أنّ الأمر بالإزالة يكشف عن داعي التحريك بوصوله الاحتماليّ أيضاً على تقدير بعض درجات الانقياد، في حين أنّه لا يمكن