261

 

الوجوه في تصوير المقصود من عنوان المسألة:

الوجه الأوّل: ما ذكره بعض من أنّ المقصود هو إنكار التخيير العقليّ وعدمه. ويُقصد بالتخيير العقليّ في المقام: كون الشارع قد أوجب الجامع والعقل هو الذي يخيّر بين الأفراد. أمّا التخيير الشرعيّ فيقصد به هنا: كون الشارع هو الذي نظر إلى الترديد بين العِدلين الراجع إلى أمرين مشروطين.

فمعنى تعلّق الأمر بالطبائع أنّه كثيراً مّا يكون الأمر متعلّقاً بالجامع بين الأفراد من دون نظر للشارع مباشرةً إلى الأفراد، والعقل هو الذي يخيّر بينها. ومعنى تعلّق الأمر بالأفراد هو تخيير الشارع مباشرةً بين الأفراد.

وقد استبعد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) هذا التفسير بدعوى: أنّه لم يُعهد من أحد النقاش في التخيير العقليّ وإنكاره، وإنّما القسم المتنازع فيه هو التخيير الشرعيّ.

أقول مضافاً إلى هذا: إنّ تعلّق الأمر بالفرد بمعنى الجزئيّ الحقيقيّ غير معقول؛ إذ المفهوم لا يصبح جزئيّاً حقيقيّاً إلاّ بالإشارة به إلى ما فرغ عن وجوده خارجاً، وتعلّق الأمر بذلك يكون طلباً للحاصل. أمّا مجرّد تقييد المفهوم بمفهوم آخر فلا يُخرجه عن الكلّيّة إلى الجزئيّة مهما زاد التقييد، وليست نتيجته إلاّ تضييق دائرة الجامع.

إذن فالتخيير العقليّ ممّا لابدّ منه ولا يتصوّر التخيير الشرعيّ بين الأفراد الجزئيّة. نعم، دائرة التخيير العقليّ قد تكون وسيعة واُخرى تكون ضيّقة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من ربط المسألة ببحث فلسفيّ، وهو: أنّه هل الوجود يعرض على الماهيّة في طول التشخّص، أو أنّ الوجود يعرض رأساً على الماهيّة، ومن شؤون الوجود وملازماته تشخّص الماهيّة؟ والثاني هو معنى وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج.

262

فإن فرض الثاني كان هذا أثره على الإرادة التكوينيّة أنّها تتعلّق بإيجاد الماهيّة.

وإن فرض الأوّل كان أثره على الإرادة التكوينيّة أنّها تتعلّق بإيجاد الأفراد؛ وذلك لأنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق لا محالة بإيجاد ما يوجَد خارجاً، فإن كان هو ذات الماهيّة فالإرادة تتعلّق بإيجادها، وإن كان هو الماهيّة المشخّصة فالإرادة تتعلّق بإيجاد الماهيّة المشخّصة.

وتعيين متعلّق الإرادة التكوينيّة يؤثّر في تعيين متعلّق الإرادة التشريعيّة؛ حيث إنّ الإرادة التشريعيّة علّة للإرادة التكوينيّة ولتحريك العبد، فلو كان العبد تحرُّكه وإرادته التكوينيّة نحو الماهيّة فالإرادة التشريعيّة أيضاً تتعلّق بالماهيّة والطبيعة. ولو كان نحو الماهيّة المتشخّصة فالإرادة التشريعيّة أيضاً تتعلّق بالماهيّة المشخّصة. والأوّل هو معنى تعلّق الأمر بالطبائع، والثاني هو معنى تعلّق الأمر بالأفراد.

وذكر(رحمه الله): أنّ ثمرة البحث تظهر في باب اجتماع الأمر والنهي بعنوانين، فبناءً على تعلّق الإرادة بالماهيّة المشخّصة لا يمكن اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ العنوانين ـ حتّى إذا فُرض تغايرهما ـ لا إشكال في أنّ كلّ واحد منهما من مشخّصات الآخر، فيتّحد متعلّق الأمر والنهي، وهذا بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الإرادة بمطلق الطبيعة، فيجوز حينئذ اجتماع الأمر والنهي.

أقول: إنّ في هذا الكلام مواقع للنظر أذكر أحدها، وهو: أنّ الإرادة التشريعيّة وإن كانت هي العلّة للإرادة التكوينيّة، إلاّ أنّه لو فُرض تعلّق الإرادة التكوينيّة بالماهيّة المشخّصة، فهذا لا يعيّن كون الإرادة التشريعيّة متعلّقة بها؛ فإنّ غاية الأمر أنّ الإرادة التشريعيّة ـ التي يكون المفروض فيها أن تكون محرّكة للإرادة التكوينيّة للعبد ـ لابدّ أن تتعلّق بما يكون داخلا في متعلّق الإرادة التكوينيّة ولو ضمناً، لكي لا يلزم التكليف بما لا يمكن التحرّك نحوه.

263

الوجه الثالث: ربط المطلب بوجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه، فعلى الأوّل يتعلّق الأمر بالطبيعة، أمّا على الثاني فلا يُعقل تعلّقه بالطبيعة، فيصرف إلى الفرد؛ إذ لو تعلّق بالطبيعة لكان تكليفاً بما لا يمكن إيجاده في الخارج.

إلاّ أنّه يرد على هذا الكلام: أنّ النزاع في وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه إنّما هو نزاع فيما هو الموجود بالذات، لا في مطلق الوجود ولو بالعرض والانتزاع، ولا إشكال في أنّ الكلّيّ الطبيعيّ له حظّ من الوجود في الخارج ولو بمعنى كونه منتزعاً من الخارج، وهذا المقدار يكفي لإمكان تعلّق التكليف به؛ فإنّ العبد يقدر على إيجاد العنوان الانتزاعيّ بإيجاد منشأ انتزاعه.

بل لا يُعقل تعلّق الأمر بالفرد الشخصيّ؛ لما مضى من أنّ المفهوم لا يصبح جزئيّاً شخصيّاً إلاّ بالإشارة إلى ما فرغ عن وجوده خارجاً، ومعه يصبح الأمر طلباً للحاصل.

الوجه الرابع: ما يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي: أنّ المشخّص الحقيقيّ للماهيّة هو الوجود، وهو يسبق المشخّصات العرضيّة والضمائم الخارجيّة، من قبيل الطول والعرض واللون والحجم والتكوّن في مكان معيّن أو زمان معيّن ونحو ذلك، إلاّ أنّ المشخّص عرفاً ومسامحة هو هذه الضمائم العرضيّة التي هي في الحقيقة ليست إلاّ مصاديق لماهيّات اُخرى. فحينما يُسئل أحدٌ: مَن هو زيد؟ يستعين بهذه المشخّصات لتعيينها ويضمّها إلى الوجود المحور لهذه المشخّصات، فيتكوّن بذلك ما نُطلق عليه اسم الفرد، ونُطلق على ذات ذاك الوجود اسم الحصّة. فالفرد عبارة عن ذاك الوجود المنضمّ إليه تلك المشخّصات العرفيّة، والحصّة عبارة عن ذات ذاك الوجود المتشخّص بالذات بغضّ النظر عن كلّ هذه الضمائم.

إذا عرفت ذلك فنقول:

يمكن أن يكون المقصود من مبحث تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد: أنّ الأمر

264

هل يسري بحسب جعله أو بحسب التطبيق إلى الأفراد، أي: إلى هذه الوجودات بما معها من ضمائم، أو لا؟

فمعنى تعلّق الأمر بالأفراد هو السريان والتوسّع في دائرة التطبيق بلحاظ هذه الضمائم، أو السريان والتوسّع بلحاظها بحسب عالم الجعل، أو ـ على الأقلّ ـ بحسب عالم الحبّ، فلن يقف الحبّ على ذات الصلاة، بل يسري إلى تلك الضمائم بجوامعها، أي: أن تكون الصلاة في مكان مّا أو زمان مّا ونحو ذلك؛ لاحتياج الصلاة إليها. ولئن كان لا يُعقل السريان بحسب التكليف ـ باعتبار قهريّة هذه المشخّصات وحتميّة وقوعها ـ فلا أقلّ من السريان بحسب روح التكليف وهو الحبّ.

وفي مقابل ذلك: القول بتعلّق الأمر بالطبيعة، أي: أنّه لا يسري إلى تلك الضمائم لا بحسب الجعل ولو بروحه، ولا بحسب التطبيق. أمّا الأوّل فلأنّ الجعل تابع لملاكه، والملاك إنّما هو في ذات الطبيعة ولو فُرضت لا في زمان أو مكان، ومجرّد الملازمة لا يوجب سريان الحبّ إلاّ بناءً على وحدة المتلازمين في الحكم. وأمّا الثاني فلأنّ مطبق الماهيّة إنّما هو الحصّة، وأمّا العوارض فكلّ واحد منها مطبق لماهيّة اُخرى لا لهذه الماهيّة، فلا معنى لسريان الأمر إليها بالتطبيق.

والأثر العمليّ لذلك هو: أنّه لو قلنا: إنّ الحرام هو الكون في المكان المغصوب، وقلنا: إنّ هذا الكون من العوارض لماهيّة الصلاة، فبناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة لا بأس باجتماع الأمر والنهي، ولا يلزم من ذلك اجتماع الضدّين على مصبّ واحد. أمّا بناءً على تعلّقه بالفرد فالكون في المكان صار مصداقاً للواجب أو للمحبوب على الأقلّ، فيلزم الاجتماع الباطل.

وقد اتّضح من خلال البيان أنّ الحقّ هو تعلّق الأمر بالطبائع.

265

الأوامر

الفصل الثامن

 

بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب وعدمه

 

 

○   مقتضى دليلي الناسخ والمنسوخ.

○   مقتضى الأصل العمليّ في المسألة.

 

 

267

 

 

 

 

 

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟

والكلام يقع في ذلك في مقامين: أحدهما فيما يقتضيه دليل الناسخ والمنسوخ. والثاني فيما هو مقتضى الأصل العمليّ لو لم يدلّ الدليلان على شيء:

 

مقتضى دليلي الناسخ والمنسوخ:

أمّا المقام الأوّل: فلا دلالة لدليل الناسخ بشكل عامّ على الجواز. نعم، قد يدلّ على ذلك صدفةً حينما يكون بلسان خاصّ كما لو كان بلسان التخفيف، وليس بنحو الضابط الكلّيّ.

وأمّا دليل المنسوخ فكأنّهم لم يستشكلوا في أنّه أيضاً لا يمكن أن يستفاد منه بقاء الجواز، وقالوا في تقريب ذلك: إنّ ما هو مفاد الدليل هو الوجوب وقد بطل، وما هو محتمل الثبوت فعلا وهو الجواز بالمعنى الأخصّ ـ مثلا ـ لم يكن مفاداً له.

ولكن التحقيق هو: التفصيل بحسب المباني والتقادير، فعلى بعضها يمكن استفادة ذلك. وتوضيح ذلك ببيان تقريبات استفادة بقاء الجواز مع الإشارة إلى مباني ذلك:

التقريب الأوّل: مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقال: إنّ الدليل كان يدلّ بالمطابقة على وجوب الصدقة ـ مثلا ـ في كلّ زمان، وبالالتزام على نفي حرمتها في كلّ زمان. والدلالة المطابقيّة سقطت عن الحجّيّة

268

بالنسخ، لكنّ الالتزاميّة تبقى حجّة بناءً على ما ذهب إليه المشهور ومدرسة صاحب الكفاية من عدم التبعيّة.

وقد يخطر على البال إشكالٌ على ذلك، وهو: أنّ دليل وجوب الصدقة كما كان يدلّ بالالتزام على عدم الحرمة، كذلك كان يدلّ بالالتزام على عدم الاستحباب، وعلى عدم الكراهة، وعلى عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ، وبعد نسخ الوجوب نعلم بانتقاض أحد الأعدام، فيقع التعارض بين الدلالات الالتزاميّة الأربع.

ويمكن الجواب على ذلك: بأنّ الإباحة بالمعنى الأخصّ ليست في الحقيقة إلاّ مجموع سلوب الأحكام الاقتضائيّة الأربعة، وليست أمراً وجوديّاً في مقابل تلك السلوب، فنفي الإباحة معناه نقيض مجموع هذه السلوب وهو إثبات واحد منها. ودليل الوجوب بالمطابقة يدلّ على ذلك؛ فإنّه يدلّ على الوجوب الذي هو واحد منها. وبتعبير آخر: أنّ الإباحة بالمعنى الأخصّ معنى مركّب من أربعة أعدام، ثلاثة منها لا ينفيها دليل الوجوب بل يثبتها، فلا يبقى إلاّ عدمٌ واحد وهو عدم الوجوب، وقد نفاه بالمطابقة لا بالالتزام، وقد سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجّيّة.

والمقصود: أنّه لا علم إجماليّ لنا ـ عند نسخ الوجوب ـ بجعل المولى لحكم وجوديٍّ مردّد بين الأحكام الأربعة؛ إذ من المحتمل أنّه اكتفى بعدم جعل حكم اقتضائيّ الذي نتيجته نتيجة جعل حكم وجوديّ باسم الإباحة، فإنّ المهمّ إنّما هو عدم جعل حكم اقتضائيّ من دون فرق بين جعل حكم وجوديّ وعدمه. فإذا رجعت الإباحة بالمعنى الأخصّ إلى مجموع أعدام الأحكام الاقتضائيّة الأربعة أمكن إثبات ذلك بمجموع دليل الناسخ ودليل المنسوخ؛ لأنّ ثلاثةً من هذه الأعدام قد ثبتت بالدلالة الالتزاميّة للمنسوخ، وهي عدم الحرمة وعدم الاستحباب وعدم الإباحة، وواحداً منها قد ثبت بدليل الناسخ، وهو عدم الوجوب.

269

التقريب الثاني:مبنيّ على عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقال بناءً على أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك: إنّ نسخ الوجوب إنّما هو نسخ لمجموع هذين الأمرين المنتج لتيقّن نسخ الأخصّ منهما وهو المنع عن الترك. أمّا نسخ طلب الفعل فغير معلوم، فنتمسّك بالدلالة التضمّنيّة لدليل المنسوخ لإثبات طلب الفعل. فهذا التقريب يثبت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الاستحباب، كما أنّ التقريب السابق كان يثبت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الإباحة.

ويمكن أن يُذكر أيضاً نفس التقريب بناءً على كون الفرق بين الوجوب والاستحباب هو الفارق في درجة الطلب، وذلك بناءً على تأتّي ما ذكرناه من عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الدلالات التضمّنيّة التحليليّة أيضاً، فيقال: إنّ القدر المتيقّن من نسخ الوجوب هو نسخ المرتبة الشديدة من الطلب، فتبقى المرتبة الضعيفة من الطلب ثابتةً بالدلالة التضمّنيّة التحليليّة لدليل المنسوخ.

التقريب الثالث:مبنيّ على ما اشتهر في مدرسة المحقّق النائينيّ؛ من أنّ الوجوب والاستحباب إنّما هما من حكم العقل، وأمّا مفاد الأمر الوجوبيّ والأمر الاستحبابيّ فهو شيء واحد وهو طلب الفعل، فإن ضُمّ الطلب إلى عدم الترخيص في الخلاف حكم العقل بالوجوب، وإن ضُمّ إلى الترخيص بالخلاف حكم العقل بالاستحباب.

وبالرغم من أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ وغيرهما من بعض الأصحاب ذهبوا إلى هذا المبنى، لا أدري لماذا لم يلتفتوا إلى أنّه مبنيّاً عليه يمكن أن يقال بدلالة دليل المنسوخ على ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ في ضمن الاستحباب، ولا حاجة في ذلك إلى القول بعدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة أو التضمّنيّة للمطابقيّة، فإنّه يمكن التمسّك على هذا المبنى بنفس الدلالة المطابقيّة للأمر؛ إذ الأمر لم يدلّ على أزيد من الطلب، والنسخ إنّما تعلّق بالوجوب، ومعنى ذلك نسخ المجموع المركّب من الطلب وعدم الترخيص، والمتيقّن منه هو نسخ عدم

270

الترخيص، أي: إثبات الترخيص في الخلاف، فالعقل إلى الآن كان يحكم بالوجوب لضمّ الطلب إلى عدم الترخيص، أمّا الآن فيحكم بالاستحباب لضمّ الطلب الذي لا دليل على نسخه إلى الترخيص.

نعم، لو فرضنا أنّ دليل الناسخ كان ناظراً إلى شخص ذلك الأمر ونسخه لم يتمّ هذا التقريب، وكان هذا في الحقيقة نسخاً للطلب لا لخصوص الوجوب، وكان هذا عناية زائدة على ما يُفرض في عنوان المسألة.

إلاّ أنّ هذه التقريبات كلّها غير تامّة عندنا:

أمّا التقريب الأوّل فلعدم صحّة مبناه، وهو عدم تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة.

وأمّا التقريب الثاني فلأنّنا وإن كنّا نقول بعدم تبعيّة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الجملة، ولكنّنا لا نؤمن بتركّب الوجوب من طلب الفعل مع المنع من الترك. وأمّا على مبنى كون الفارق بين الوجوب والاستحباب هو الفارق في درجة الطلب فلا نؤمن بعدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة في الدلالات التحليليّة.

وأمّا التقريب الثالث فلأنّنا لا نؤمن بكون الوجوب والاستحباب حكماً للعقل منتزعاً من انضمام الطلب إلى الترخيص في الخلاف أو عدمه، بل نقول: إنّ الوجوب والاستحباب من مفاد نفس الأمر.

فقد تحصّل: أنّه بلحاظ دليل الناسخ ودليل المنسوخ لا دلالة على بقاء الجواز ما لم تفرض عناية زائدة على عنوان البحث، ككون لسان دليل الناسخ لسان التخفيف ونحو ذلك ممّا ليس لها ضابط عامّ وإنّما ترجع إلى ذوق الفقيه.

ثُمّ إنّه قد اتّضح ممّا ذكرناه حال الكلام المعروف في المقام، وهو بناء المسألة على أنّ الجنس أو ما بمثابة الجنس هل يبقى بعد زوال الفصل أو لا؟ فالجواز ـ مثلا ـ في المقام جنس والإلزام بالفعل فصل، فإذا قلنا: إنّه بانتفاء الفصل ينتفي

271

الجنس لم يبق لدليل المنسوخ دلالة على بقاء الجواز. وإذا قلنا: إنّ الجنس لا ينتفي بانتفاء الفصل دلّ دليل المنسوخ على بقاء الجواز.

وقد أورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ ثلاثة اعتراضات:

الاعتراض الأوّل: أنّ الوجوب ليس أمراً مجعولا شرعيّاً حتّى يُفرض أنّه نسخ بعضه وبقي بعضه، وإنّما هو حكم عقليّ منتزع من طلب الشيء مع عدم ورود الترخيص في الخلاف.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن بطلان المبنى وكون الوجوب مجعولا شرعيّاً ابتداءً ـ: أنّنا لئن سلّمنا كون الوجوب من حكم العقل وعدم كونه مجعولا ابتداءً فلا إشكال في كونه منتزعاً من مجموع أمرين راجعين إلى المولى وثابتين تحت يد المولى، أحدهما أمر وجوديّ وهو طلب الفعل، والثاني أمر عدميّ وهو عدم الترخيص في الخلاف.

ونسخ العنوان الانتزاعيّ يكون بنسخ منشأ انتزاعه، وكما يمكن نسخه بنسخ الطلب الذي هو أمر مجعول وجوديّ، كذلك يمكن نسخه بنسخ الأمر العدميّ وذلك بإيجاد الترخيص في الخلاف، والتعبير عن ذلك بنسخ الوجوب تعبير صحيح عقلا وعرفاً، ولذا لو قال المولى مثلا: قد نسخت وجوب صلاة الليل ولم أرفع يدي عن أصل مطلوبيّتها لم يكن كلاماً مستنكراً. إذن فقد يُدّعى أنّ دليل النسخ بما أنّه لم يدلّ على أكثر من نسخ عدم الترخيص في الخلاف فبالإمكان التمسّك بدليل المنسوخ لإثبات الجواز.

الاعتراض الثاني: أنّ الوجوب لو سلّمنا كونه أمراً مجعولا شرعاً فهو أمر اعتباريّ وليس أمراً حقيقيّاً، والأمر الاعتباريّ ـ أعني: المعتبر لا نفس الاعتبار الذي هو كيفٌ نفسانيّ مركّب لا محالة من جنس وفصل ـ من أبسط الأشياء، وليس مركّباً من جنس وفصل أو مادّة وصورة، فإنّه لا ماهيّة له لكي تتركّب عن ذلك بل هو أمرٌ وهميّ صرف.

272

والجواب: أنّ من يدّعي ابتناء المسألة على زوال الجنس بزوال فصله وعدمه يدّعي تركّب الوجوب من اعتبارين: اعتبار الطلب، واعتبار عدم الترخيص بالخلاف، لا كون الاعتبار الواحد مركّباً من طلب الفعل وعدم الترخيص في الخلاف حتّى يقال: إنّ الاعتباريّات من أبسط الاُمور. فالمدّعى في المقام أنّ أحد الاعتبارين قد زال حتماً وهو اعتبار عدم الترخيص في الخلاف، فيبقى مجالٌ للبحث عن أنّ الاعتبار الآخر باق أو لا؟

الاعتراض الثالث: أنّ مسألة انعدام الجنس بانعدام فصله وعدمه مسألة ثبوتيّة، ومسألتنا مسألة إثباتيّة، ولا ترتبط إحداهما بالاُخرى، أي: إنّه لو فُرض أنّ الجنس يمكن بقاؤه بعد زوال الفصل فهذا معناه إمكان بقاء الجواز في المقام، أمّا ثبوت بقائه ـ وهو المقصود من البحث هنا ـ فلم يُعلم، وليس إمكان البقاء دليلا على البقاء.

ويرد عليه: أنّ مَن يبني المسألة في المقام على زوال الجنس بزوال فصله وعدمه، مقصوده هو بناء المسألة على ذلك بعد الفراغ عن عدم تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقول: إنّ دليل الوجوب دلّ ضمناً على الجنس وهو الجواز، فإن كان الجنس ينتفي بانتفاء فصله فقد علمنا بانتفاء شخص ذلك الجواز، فلا معنى للتمسّك بالدلالة التضمّنيّة؛ للقطع بخلافها أيضاً. وإن كان الجنس لا ينتفي بذلك إذن نتمسّك بالدلالة التضمّنيّة لإثبات الجواز؛ لعدم تبعيّتها للمطابقيّة.

فتحصّل: أنّ كلّ هذه الاعتراضات الثلاثة غير وارد.

والصحيح: أنّ هذا الكلام المعروف يرجع بالتحليل إلى ما ذكرناه من التقريب الثاني الذي ذكرناه نحن خالياً عن إدراج مصطلحات الجنس والفصل التي أوجبت تشويش الموقف، وينبغي تكميله بذكر التقريب الأوّل والثالث ليُعرف أنّ التمسّك بدليل المنسوخ لإثبات الجواز: تارةً يكون بدلالته الالتزاميّة، واُخرى التضمّنيّة، وثالثةً المطابقيّة بالشرح الذي عرفت.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

273

 

مقتضى الأصل العمليّ في المسألة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو مقتضى الأصل العمليّ في المسألة ـ: فمقتضى الأصل هو استصحاب الجواز بالمعنى الأعمّ.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بإيرادين(1):

الإيراد الأوّل: أنّ هذا من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث؛ لأنّ الجواز في ضمن الوجوب قد ارتفع، والجواز في ضمن الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة بالمعنى الأخصّ غير معلوم الحدوث.

ويرد عليه: أنّه لو أردنا استصحاب الجواز بمعنى وجوديّ جامع بين الوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخصّ، أمكن الإيراد عليه بأنّه من الاستصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، إلاّ أنّه ـ بغضّ النظر عن عدم جامع وجوديّ من هذا القبيل بين الوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة ـ نقول: إنّ الفائدة المستهدفة من استصحاب الجواز بالمعنى الأعمّ ـ وهي التأمين ـ لا تتوقّف على استصحاب هذا الأمر الوجوديّ المفترض، بل يكفي فيها استصحاب عدم الحرمة، وعدم الحرمة أمرٌ عدميّ يقترن بأحد أضداد الحرمة، وهو واحد شخصيّ وليس


(1) بل ثلاثة إيرادات على ما يظهر من تقرير الفيّاض، والثالث هو: أنّ الجواز ليس حكماً موجوداً في ضمن الوجوب ـ على حدّ وجود الكلّيّ في ضمن فرده ـ كي يستصحب، وإنّما كلٌّ من الوجوب والجواز أمرٌ انتزاعيّ عقليّ ينتزع من اعتبار مباين لاعتبار آخر، وقد ارتفع اعتبار الوجوب، ولو سلّم كون الوجوب شرعيّاً فهو بسيط وليس مركّباً من الجواز والمنع من الترك، وتفسيره بذلك تفسيرٌ بما هو لازم له.

أقول: يكفي في الجواب على كلّ ذلك أنّ كلّ هذا لا يمنع عن استصحاب عدم الحرمة.

274

كلّيّاً ذا أفراد بعدد أضداده؛ فإنّ عدم أحد الأضداد لا يتعدّد شخصه باقترانه بهذا الضدّ أو ذاك. إذن فالمستصحب هو شخص عدم الحرمة الذي كان مقترناً بالوجوب، وقد زال قرينه ولم نعلم بزواله هو، وليس ذلك من الاستصحاب الكلّيّ.

نعم، قد يتوهّم ورود إشكال على استصحاب عدم الحرمة، وهو تعارضه باستصحاب عدم الوجوب وعدم الاستحباب وعدم الإباحة بالمعنى الأخصّ؛ للعلم الإجماليّ بانتقاض أحد الأعدام الأربعة.

وأوضح ما يرد على ذلك: أنّ استصحاب عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ ـ لو فرض كونها أمراً وجوديّاًـ غير جار؛ لعدم ترتّب تنجيز أو تعذير عليه: أمّا عدم ترتّب التعذير عليه فواضح؛ فإنّ عدم الإباحة ينسجم مع الحرمة. وأمّا عدم ترتّب التنجيز عليه فلأنّ التنجيز فرع الإلزام من قِبَل المولى لا عدم جعل الترخيص، ولذا لو علمنا في مورد أنّ المولى لم يُلزم بالترك ولا جعل ترخيصاً في الفعل استقلّ العقل ببراءة الذمّة(1).

الإيراد الثاني: أنّ هذا استصحاب في الأحكام الكلّيّة والشبهات الحكميّة، بينما ثبت في محلّه ـ بناءً على مذاقه دامت بركاته ـ عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.


(1) وأيضاً يرد على ذلك منع العلم الإجماليّ بحصول الاستحباب أو الكراهة أو الوجوب أو الجواز بالمعنى الوجوديّ، بل يحتمل عدم الكلّ وثبوت الجواز بالمعنى العدميّ، أي: عدم المنع، وهذا ما أشار إليه(رحمه الله) بقوله: «لو فرض كونها أمراً وجوديّاً».

كما يرد عليه أيضاً: أنّه لو فُرض هذا العلم الإجماليّ وفُرض عدم اشتراط جريان الاستصحاب بترتّب التنجيز أو التعذير، لم يلزم تعارض الاستصحابات الأربعة؛ لأنّ هذه الاستصحابات ليست في مقابل العلم الإجماليّ بالإلزام، ولا يكون استصحاب عدم الجواز موجباً للتنجّز مع إيجاب استصحاب عدم الحرمة العذر حتّى يتعارض الاستصحابان ويتساقطا.

275

وهذا الكلام غير صحيح لا مبنىً ولا بناءً: أمّا مبنىً فلما يأتي ـ إن شاء الله ـفي محلّه من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة. وأمّا بناءً فلأنّ ما أثبته هو ـ دامت بركاته ـ في بحث الاستصحاب إنّما هو عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة حينما يكون المستصحب حكماً إلزاميّاً؛ لتعارض استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل. أمّا إذا كان حكماً ترخيصيّاً كاستصحاب عدم الحرمة فهو يقول بجريانه؛ لعدم ابتلائه بالمعارض، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ استصحاب الجواز وعدم الحرمة استصحاب للحكم الترخيصيّ لا الإلزاميّ.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّه لا بأس باستصحاب الجواز بالمعنى الأعمّ.

أمّا إجراء الاستصحاب بنحو يُثبت شيئاً من الطلب كَأن يقال: إنّ الوجوب وإن كان منسوخاً لكن الطلب يحتمل بقاؤه ولو على مستوى الاستحباب فيجري استصحابه، فهو غير صحيح بناءً على ما هو المشهور المنصور من كون الوجوب والاستحباب حصّتين متباينتين من مفاد الأمر؛ إذ يرد عليه كون هذا من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث؛ فإنّ الطلب في ضمن الوجوب قد ارتفع، والطلب في ضمن الاستحباب غير معلوم الحدوث(1).

أمّا بناءً على مسلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّ مفاد الأمر دائماً هو الطلب من دون انقسامه إلى قسمين، وأنّ الوجوب أو الاستحباب ينتزعه العقل من الطلب عند عدم اقترانه بالترخيص بالخلاف أو عند اقترانه بذلك، فلا بأس باستصحاب


(1) لا بأس بأن نجري استصحاب روح الحكم وهو الحبّ، سواءً قلنا بأنّ الفرق بين روح الحكم في الوجوب وروحه في الاستحباب بالشدّة والضعف، فالمتيقّن زوال الشدّة ونستصحب أصل الحبّ، أو قلنا بأنّ الفرق بينهما بحبّ الترخيص في الخلاف وعدمه، فالمتيقّن زوال عدم الترخيص ونستصحب أصل الحبّ.

276

الطلب؛ لأنّ القدر المتيقّن إنّما هو زوال عدم الترخيص في الخلاف، أمّا زوال أصل الطلب فغير معلوم. ولا بأس على هذا المسلك بافتراض شخص طلب واحد يكون وجوبيّاً حدوثاً واستحبابيّاً بقاءً؛ لعدم ورود الترخيص في الخلاف حدوثاً ووروده بقاءً، إذن يجري استصحاب شخص الطلب.

إلاّ أنّ هذا المسلك كما أشرنا إليه غير صحيح.

 

277

الأوامر

الفصل التاسع

 

 

الوجوب التخييريّ

 

○ النظريّات في تفسير الوجوب التخييريّ.

○ خلاصة الكلام في تصوير الوجوب التخييريّ.

○ التخيير بين الأقلّ والأكثر.

 

 

279

 

 

 

 

 

الواجب ينقسم إلى قسمين: تعيينيّ وتخييريّ، فالواجب التعيينيّ هو الواجب الذي ليس له بدل. والواجب التخييريّ هو الواجب الذي يجوز تركه إلى بدل.

ومن هنا يبدأ الإشكال، حيث إنّ افتراض واجب يجوز تركه إلى بدل قد يتراءى كونه مستبطناً للتهافت؛ إذ الوجوب المفترض فيه يمثّل عنصر الإلزام، وجواز الترك إلى بدل المفترض فيه يمثّل عنصر عدم الإلزام، وهما متهافتان.

ومن هنا جاءت عدّة محاولات ونظريّات للتكييف الفنّيّ للوجوب التخييريّ وتفسيره بنحو يتخلّص فيه من هذا التهافت:

 

النظريّات في تفسير الوجوب التخييريّ:

النظريّة الاُولى: أنّ الوجوب قد تعلّق بواحد معيّن وهو ما سوف يختاره المكلّف. وكأنّ هذه محاولة لإخفاء عنصر التخيير وإرجاعه إلى الوجوب التعيينيّ.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بعدّة إيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ هذا خلاف قانون اشتراك المكلّفين المتّحدين في الظروف والشرائط في الحكم؛ إذ معنى ذلك اختلافهم في الحكم، فأحدهم مثلا يجب عليه الصوم، والآخر العتق، والثالث الإطعام بالرغم من اتّحادهم في الظروف والشرائط.

الإيراد الثاني: أنّ إيجاب شيء على المكلّف على تقدير اختياره يكون بمثابة تحصيل الحاصل.

280

أقول: إنّ هذين الإيرادين متهافتان في طريقة فهم هذه النظريّة؛ وذلك لأنّ عنوان ما يختاره المكلّف إن اُخذ بنحو الموضوعيّة لم يكن مجال للإيراد الأوّل؛ إذ الكلّ يشتركون في الحكم، وهو وجوب ما يختارونه وإن اختلفوا في مصداق ذلك، نظير اشتراك الكلّ في وجوب الوفاء بالنذر أو وجوب العمل بأمر الوالد ـ مثلا ـ وإن اختلف المنذور أو المأمور به باختلاف الأشخاص.

وإن اُخذ بنحو المعرّفيّة إلى واقع ما يختارونه لم يكن مجالٌ للإيراد الثاني؛ إذ لم يؤخذ في موضوع الحكم عنوان الاختيار والفعل حتّى يكون بمثابة تحصيل الحاصل، بل قد اُمر بعضٌ بالعتق بعنوانه، وبعضٌ بالصوم بعنوانه، وبعضٌ بالإطعام بعنوانه مثلا.

الإيراد الثالث: أنّه لو عصى فلم يأت بشيء من الاُمور المخيّر بينها فهل الحكم قد توجّه إليه أو لا؟ فإن قيل: لا، لزم أن يكون هذا الحكم غير قابل للعصيان، والحكم الذي لا يقبل العصيان غير معقول. وإن قيل: نعم، لزم توجّه الحكم إليه بلا موضوع؛ فإنّ موضوعه ما يختاره وهو لم يختر شيئاً.

أقول: إنّ هذا الإيراد إنّما يرد لو قُصد باختيار المكلّف لأحد الأطراف اختياره بالفعل، فالعاصي بما أنّه لم يختر بالفعل أحد الأطراف يلزم أن لا يجب عليه شيء. أمّا لو اُريد من ذلك اختياره بنحو القضيّة الشرطيّة، بمعنى أنّه لو اضطرّ إلى عدم الخروج من دائرة هذه الأفعال العديدة أو أراد ذلك، فأيّ واحد منها كان يختاره فذاك هو الواجب عليه الآن، فهذه القضيّة الشرطيّة ثابتة حتّى في فرض العصيان، فلا مجال لهذا الإشكال؛ فإنّ العاصي أيضاً لو كان يريد الإتيان ببعض هذه الأفعال ـ ولو لاضطرار خارجيّ ـ لكان يختار أحدها، فذاك هو الواجب عليه.

وبهذا يظهر جوابٌ على الإيراد الثاني أيضاً، فإنّه لو قصد الاختيار على نحو القضيّة الشرطيّة بالنحو الذي ذكرناه لم يلزم طلب الحاصل؛ إذ لم يفرض الحصول الفعليّ.

281

فكلا هذين الإيرادين يمكن دفعهما بإرادة الاختيار بنحو القضيّة الشرطيّة، أي: اختيار أحد الأفعال على تقدير إرادته لعدم ترك الجميع. أو بتعبير آخر: يقصد بالاختيار كون أحد هذه الأفعال أقرب إلى ميله وظروفه من باقي الأفعال، ولو فرض أنّه بالفعل قد ترك الجميع.

نعم، لو فُرض كون الترجيح بلا مرجّح في الاختياريّات ـ كطريقي الهارب ورغيفي الجائع ـ ممكناً وواقعاً، إذن ففي فرض كون هذا العاصي نسبته ونسبة ظروفه إلى كلّ الأفعال على حدٍّ سواء، لم يُعقل تعيين متعلّق الوجوب فيما يختاره على تقدير إرادته لأحدها، أو فيما هو أقرب إلى ميله وظروفه؛ إذ ليس في الواقع تعيّنٌ من هذا القبيل، فيبطل هذا الجواب.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ هذا الفرض إن كان ممكناً فهو ليس فرضاً عمليّاً يقع في الخارج، وهذا كاف في رفع الإشكال.

الإيراد الرابع: أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل؛ فإنّ ظاهر دليل الوجوب التخييريّ كون نسبة الوجوب إلى جميع الأفعال على حدٍّ سواء(1)، وعدم كونه ألصق ببعضها دون بعض. بينما هذا الوجه يفترض تعلّق الوجوب بما سوف يختاره المكلّف، فهو أقرب إلى ذاك الفعل الذي سوف يختاره وليست نسبته إلى كلّ الأفعال على حدٍّ سواء.


(1) لو كان الاختيار مأخوذاً على نحو الموضوعيّة كانت نسبة الوجوب إلى جميع الأفعال على حدٍّ سواء، فلا يرد هذا الإشكال. ولعلّ المقصود هو أنّ ظاهر الدليل هو كون نسبة الوجوب إلى الكلّ حتّى بعد اختيار المكلّف على حدٍّ سواء، أو قل: إنّ ظاهر الدليل هو أنّ ما يختاره المكلّف هو مصداقٌ لما كان واجباً، أيّ: إنّ الاختيار وقع على مصداق الواجب، فلابدّ من تعيين الواجب في المرتبة السابقة على الاختيار. أو قل: إنّ ظاهر الدليل هو أنّ ما يختاره هو مصداق الواجب لا الواجب بعينه، وهذا التعبير الأخير هو المطابق لما في تقرير الفيّاض، ولكن ما قبل الأخير أدقّ وأعمق.

282

وهذا الإيراد يوجد ضعفٌ في منهجته وصياغته(1). وتوضيح ذلك: أنّ من يفسّر الوجوب التخييريّ بالتفسير الذي عرفت فهو في الحقيقة يفسّر ويحلّل المعنى الارتكازيّ العقلائيّ لذلك، حيث لا إشكال في عقلائيّة الوجوب التخييريّ ووجوده عند العرف والعقلاء وارتكازيّة معنى له، فلو كان هذا التفسير مطابقاً لذاك الارتكاز وجب إخضاع ظاهر الدليل له بقرينيّة هذا الارتكاز، ولو لم يكن مطابقاً له، إذن كان هذا هو الردّ على هذا التفسير وهو الردّ الصحيح.

وتوضيحه: أنّه إن فُرض كون عنوان اختيار المكلّف مأخوذاً بنحو المعرّفيّة، أي: إنّ الواجب هو واقع ما يختاره المكلّف، كان هذا معناه أنّ غرض المولى يكمن في ذلك الفعل المعيّن، وليست نسبته إلى كلّ هذه الأفعال والمكلّفين على حدٍّ سواء، بينما هذا خلاف الارتكاز الحاكم بكون غرض المولى نسبته إلى كلّ هذه الأفعال والمكلّفين على حدٍّ سواء.

وإن فُرض كونه مأخوذاً بنحو الموضوعيّة ففي الحقيقة هذا العنوان عنوان انتزاعيّ يختلف انطباقه في الخارج باختلاف المكلّفين، واختيار كلّ واحد منهم غير ما اختاره الآخر. وإذا صار القرار على تصوير العنوان الانتزاعيّ وافتراضه هو متعلّق الحكم، إذن فهناك عنوانٌ انتزاعيّ أقرب، وهو ما سوف يأتي بيانه من عنوان أحدها بلا حاجة إلى توسيط اختيار المكلّف في البين(2).


(1) ولو أبقيناه على صياغته فقد يقول من يوجّه الواجب التخييريّ بهذا التوجيه: إنّه حتّى لو كان خلاف ظاهر الدليل ابتداءً لابدّ من المصير إليه، لو لم يمكن توجيه الواجب التخييريّ بشكل آخر. أو يقول: بأنّ هذا الظهور بما أنّه لا ينتهي إلى تنجيز وتعذير لا حجّيّة فيه.

(2) على أنّنا نحسّ بالوجدان في الواجبات التخييريّة العقلائيّة أنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ هذا المولى العرفيّ أو أيّ إنسان طلب أحد الاُمور على سبيل التخيير، لا يكون اختيار المكلّف ـ بأيّ معنى من المعاني ـ دخيلا في مقصوده وموضوعاً مؤثّراً في طلبه.

283

النظريّة الثانية: ما ذكره صاحب الكفاية بالنسبة لبعض موارد الواجب التخييريّ: من أنّه إذا كان في كلّ واحد من العِدلين ملاك إلزاميّ مستقلّ إلاّ أنّه لم يمكن الجمع بين الملاكين ـ لتنافر بينهما ـ وإن أمكن الجمع بين الفعلين، فحينئذ يصبح وجوب كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر، فيرجع الوجوب التخييريّ في هذا المورد إلى وجوبين تعيينيّين مشروطين(1).

وقد أورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وغيره بعدّة إيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ هذا خلاف ظاهر الدليل، فإنّ مثل قوله: (صُمّ أو أطعم) ظاهرٌ في وجوب واحد لا وجوبين تعيينيّين. فكأنّ هذا إيراد إثباتيّ على هذه النظريّة.

ويرد عليه: أنّه ليس دائماً الوجوب التخييريّ مستفاداً من دليل واحد يكون من قبيل قوله: (صُم أو أطعم) حتّى يدّعى ظهوره في وجوب واحد، بل قد يصل الفقيه إلى الوجوب التخييريّ من الجمع بين دليلين، كأن يدلّ كلّ واحد منهما على الوجوب التعيينيّ لأحد الأمرين، مع افتراض عدم تماميّة الإطلاق في كلّ واحد منهما لصورة الإتيان بالآخر، كما لو كانا دليلين لبّيّين لا إطلاق لهما، أو كانادليلين لفظيّين مع عدم تماميّة مقدّمات الحكمة فيهما لوجود خلل في ذلك، أو مع افتراض تماميّة الإطلاق فيهما ولكن يُفرض أنّنا علمنا من الخارج بعدم وجوب الجمع بينهما، فيتعارضان بلحاظ الإطلاق، وقلنا في مثل ذلك بما قاله السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في بحث التعادل والتراجيح: من تقييد كلّ من الإطلاقين بالدليل


(1) كأنّ هذا توجيه لكلام صاحب الكفاية، وإلاّ فهو لم يصرّح برجوع الوجوب التخييريّ في هذا القسم إلى وجوبين مشروطين، وإنّما قال ما نصّه: «كان كلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب يستكشف عنه تبعاته: من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، وترتّب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما».

284

الآخر، أو قلنا بتساقط الإطلاقين، فما يثبت من الدليلين ليس إلاّ بمقدار وجوبين مشروط كلّ منهما بترك الآخر. ففي موارد من هذا القبيل ليس إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين تعيينيّين كلّ واحد منهما مشروط بعدم الآخر خلاف ظاهر الدليل.

الإيراد الثاني: أنّه هل يُفرض عدم إمكان اجتماع الملاكين حينما يؤتى بالفعلين مترتّباً؟ فالسابق لا يُبقي مجالا للاّحق، ولكن لا بأس باجتماعهما بشكل التقارن، أو يُفرض عدم إمكان اجتماعهما حتّى لو اُتي بالفعلين بنحو التقارن؟

فإن فُرض الأوّل لزم إيجاب الجمع بينهما بنحو التقارن تحفّظاً على الملاكين الإلزاميّين، وهو خلف الواجب التخييريّ، وإن فُرض الثاني لزم أنّه لو أتى بهما بنحو التقارن لم يمتثل ولم يحصل شيء من الملاكين، وهذا خلاف الضرورة الفقهيّة.

والجواب: أنّه لا أقلّ من وجود فرضيّتين لا يرد عليهما هذا الإشكال:

الفرضيّة الاُولى: هي التلفيق بين الفرضيّتين اللتين ذكرهما صاحب الإيراد، بأن يُفرض أنّ أحد الفعلين ـ وهو الصوم مثلا ـ يكون تحقيقه للملاك مشروطاً بعدم الفعل الآخر لا سابقاً ولا مقارناً، والفعل الآخرـ وهو الإطعام مثلا ـ يكون تحقيقه للملاك مشروطاً بعدم الفعل الآخر سابقاً، فلا يلزم إيجاب الجمع بنحو التقارن؛ إذ به لا يحصل المولى إلاّ على ملاك الفعل الثاني، ولا يلزم فوت كلا الملاكين عند الجمع بنحو التقارن؛ لأنّ ملاك الثاني لا يفوت إلاّ بتقديم الفعل الأوّل.

الفرضيّة الثانية: أن يُفرض أنّ كلّ واحد من الفعلين لو قُدِّم على الآخر لم يبق مجالا لملاك الآخر، ولو قُرن أحدهما بالآخر ضعف كلّ واحد من الملاكين إلى مرتبة النصف، فلا يلزم إيجاب الجمع بينهما بنحو التقارن؛ إذ لا يحصل المولى بذلك على أكثر من نصفي الملاكين، وهو يعادل ملاكاً واحداً. ولا يلزم الخسارة في الجمع؛ لأنّه في الجمع يحصل بحسب الفرض نصف من كلّ من الملاكين، وهو

285

في قوّة ملاك واحد. وفي الحقيقة يصبح الوجوب التخييريّ هنا ذا أطراف ثلاثة: الإتيان بهذا وحده، والإتيان بذاك وحده، والإتيان بهما مقترنين.

الإيراد الثالث: أنّ لازم إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين كلّ واحد منهما مشروط بترك الآخر: أنّه لو تركهما معاً كان عليه عقابان؛ لحصول شرط الوجوب لكلّ واحد منهما.

ولا يقال: كيف يعاقَب عقابين مع أنّه غير قادر على تحصيل كلا الفرضين؟

فإنّه يقال: إنّ هذا من قبيل التزامكم بتعدّد العقاب في باب الترتّب، مع أنّه غيرُ قادر على الجمع بين الفعلين. والحاصل: أنّ لازم إرجاع الوجوب التخييريّ إلى وجوبين مشروطين من هذا القبيل هو تعدّد العقاب بتركهما معاً، بينما لا يُلتزم بذلك في الواجبات التخييريّة.

أقول: إنّ الواجبين المشروط كلّ واحد منهما بترك الآخر لو كان ترك كلّ واحد منهما شرطاً لاتّصاف الآخر بالملاك لزم تعدّد العقاب؛ إذ بتركهما يخسر المولى كلا الملاكين، بينما كان بإمكان العبد أن يعمل عملا يوجب انتفاء كلتا الخسارتين، وذلك بأن يأتي بأحد الواجبين، فقد حصّل أحد الملاكين ورفع موضوع الآخر.

أمّا إذا كان كلّ منهما ذا ملاك فعليّ إلاّ أنّ تحصيل الملاكين معاً غير ممكن ـ وهو الذي فرضه صاحب هذه النظريّة ـ فهنا لو غضضنا النظر عن عالم الإنشاء والجعل فمن الواضح أنّه لا يتعدّد العقاب بتركهما معاً؛ لأنّ الملاك وإن كان متعدّداً لكن فوات أحدهما على المولى ممّا لابدّ منه، فالعبد لم يورد على المولى إلاّ خسارة واحدة. أمّا إذا لاحظنا عالم الإنشاء فنقول: إنّ الإنشاء والجعل وإن كان متعدّداً ولكن الإنشاء والجعل لا يضيف عقاباً على عقاب أو ملاكاً على ملاك، وإنّما يوجب العقاب لأجل كشفه عن الملاك، ولذا لا فرق في مقدار استحقاق العقاب بين إبراز الملاك والرغبة اللزوميّة بالإنشاء، وإبرازه بالإخبار. إذن فشبهة تعدّد العقاب غير واردة في المقام.