49

 

 

لمحة عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)

 

قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ﴾(1).

 

مدائحي وقفٌ على الكاظمِ
فما على العاذل واللائمِ
وكيف لا أمدحُ مولىً غدا
في عصرهِ خيرَ بني آدمِ
ومَن كموسى أو كآبائهِ
أو كعليّ وإلى القائمِ
إمامُ حقِّ يقتضي عدْلُه
لو سُلّم الحكمُ إلى الحاكمِ
إفاضةَ العدلِ وبذلَ الندى
والكفّ من عاديةِ الظالمِ


(1) سورة 3 آل عمران، الآية: 133 ـ 134.
50

يبسمُ للسائِل مستبشراً
أفديهِ من مستبشر باسِم
ليث وغىً في الحرب دامي الشبا(۱)
وغيث جود كالحيا الساجم(۲)
مَآثرٌ تعجزُ عن وصفِها
بلاغةُ الناثرِ والناظمِ(۳)

نقل المجلسيّ(رحمه الله)(4) عن مناقب ابن شهراشوب: أنّه سمّي الكاظم لما كظمه من الغيظ وغضّ بصره عمّا فعله الظالمون به حتّى مضى قتيلاً في حبسهم.

إنّ إمامنا موسى الكاظم(عليه السلام) له مواقف تقيّة أمام طاغوت زمانه هارون الرشيد كمواقف أبيه(عليه السلام) أمام طاغوت زمانه منصور الدوانيقي.

ولكن في الوقت نفسه له مواقف صريحة ضدّ هارون الرشيد وجهاً لوجه وبالمباشرة لم نرَ مثلها من أبيه(عليه السلام) في مواجهاته وجهاً لوجه وبالمباشرة مع الدوانيقي.


(1) الدامي: الذي يسيل دمه. والشبا: الخيول التي تقوم على رجليها. وكأنّ المقصود: أنّه(عليه السلام) ليثٌ لوغىً خيوله دامية.
(2) أي: كالمطر النازل.
(3) الأبيات للأربليّ(رحمه الله) في كشف الغمّة 3: 51.
(4) بحار الأنوار 48: 11.
51

وهذا هو الذي يفسّر لنا أنّ الإمام الكاظم(عليه السلام) برغم أنّه من أ ئمّة الدور الثاني من الأدوار الثلاثة يُوجد في حياته ما يشير إلى بدايات الدور الثالث.

ونشير هنا إلى عدد من مواقفه ومواجهاته المباشرة الصريحة ضدّ هارون:

فمنها: ما رواه في كشف الغمّة(1)، ولعلّه أوّل تلك المواقف أو من أوائلها، وهو ما يلي:

لمّا دخل الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن عمّ» مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم موسى(عليه السلام)إلى القبر وقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة»، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه.

أقول: وكأنّما بقيت هذه القصّة في نفس الرشيد، ولهذا فاتح الإمام(عليه السلام) حول اُبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لهم(عليهم السلام)بالبحث والنقاش حينما اُدخِل على الرشيد، والرواية مفصّلة(2)، وأنا أقتطع منها مقطعاً:

قال الرشيد: «لِمَ جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى


(1) كشف الغمّة 3:21.

(2) اُنظر: بحار الأنوار 48:127 ـ 129.

52

رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقولون لكم يا بني رسول الله وأنتم بنو عليّ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء، والنبيّ جدّكم من قبل اُمّكم؟

فقال(عليه السلام): يا أميرالمؤمنين، لو أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) نُشِر فخطب إليك كريمتك هل كنت تُجيبه؟ فقال: سبحان الله، ولِمَ لا اُجيبه؟؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال(عليه السلام): لكنّه لا يخطب إليّ ولا اُزوّجه. فقال: وَلِمَ؟ قال(عليه السلام): لأنّه ولدني ولم يلدك. فقال: أحسنت يا موسى(1).

ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذرّيّة النبيّ، والنبيّ لم يعقّب، وإنّما العقب للذكر لا للاُنثى، وأنتم وُلد الإبنة، ولا يكون لها عقب؟(2). فقال(عليه السلام): أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما أعفيتني عن هذه المسألة. فقال: لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا وُلدَ عليّ وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا اُنهي إليّ، ولست اُعفيك في كلّ ما أسألك عنه حتّى


(1) ولم يكن قادراً على ردّه; لأنّ عدم جواز زواج الجدّ الاُمّيّ من كريمة الابن متّفق عليه بين الشيعة والسنّة.

(2) هذا هو عين المنطق الجاهليّ القائِل:

«بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد»

وهذا هو المنطق الذي ردّه الله تعالى بقوله الكريم: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَر﴾، سورة 108 الكوثر، الآية: 3.

53

تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله، فأنتم تدّعون معشر وُلد عليّ أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلّا وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عزّ وجلّ: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء﴾(1)، وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. ]فقال: [تأذن لي في الجواب؟ قال: هات. ]فقال:[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسَى...)(2)، مَن أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب. ]فقال:[ إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم(عليها السلام) وكذلك اُلحقنا بذراري النبيّ(صلى الله عليه وآله)من قبل اُمّنا فاطمة(عليها السلام).

أزيدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: هات. ]قال:[ قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(3)، ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ(صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)،


(1) سورة 6، الأنعام، الآية: 38.

(2) سورة 6 الأنعام، الآية: 84 ـ 85.

(3) سورة 3 آل عمران، الآية: 61.

54

فكان تأويل قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين...».

أقول: ولم يكن بإمكانه ـ سلام الله عليه ـ أن يحتجّ على هارون بغير الكتاب وآياته; لأنّ هارون طالبه بأن يأتي بحجّة من كتاب الله. كما لم يكن بإمكانه ـ سلام الله عليه ـ أن يحتجّ على هارون بما هو ثابت في علم اليوم: من أنّ سهم الاُمّ في تكوّن الابن ليس بأقلّ من سهم الأب إن لم يكن أكثر; لأنّ هذا العلم لم يكن منكشفاً يومئذ، فلو كان(عليه السلام)يحتجّ بذلك لكان ينكره هارون.

ومنها: ما رواه في البحار(1): كان ممّا قال هارون لأبي الحسن(عليه السلام)حين اُدخل عليه: «ما هذه الدار؟»(2) فقال(عليه السلام): «هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾(3)».

فقال له هارون: «فدار مَن هي؟»، فقال(عليه السلام) «هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة»(4).

 


(1) بحار الأنوار: 48:156، الحديث 28 عن الاختصاص.

(2) إشارة إلى قصره المشيد، أو إلى مُلْكه أو إلى الدنيا.

(3) سورة 7 الأعراف، الآية: 146.

(4) هذا شاهد على أنّ هارون لم يكن يقصد بـ «هذه الدار» قصره، بل كان يقصد مُلْكه أو الدنيا.

55

«قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟»، فقال(عليه السلام): «اُخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلّا معمورة»(1).

قال: «فأين شيعتك؟»، فقرأ أبو الحسن(عليه السلام): ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾(2).

فقال له: «فنحن كفّار؟»، قال: «لا، ولكن كما قال الله: ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾(3)»، فغضب عند ذلك وغلظ عليه...

ومنها: ما رواه في البحار(4) نقلاً عن المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء: «أنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر(عليه السلام): خذ فدكاً حتّى أردّها إليك. فيأبى حتّى ألحّ عليه، فقال(عليه السلام): لا آخذها إلّا بحدودها. قال: وما حدودها؟ قال: إن حددتها لم تردّها. قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال: أمّا الحدّ الأوّل: فعدن. فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً. قال: والحدّ الثاني: سمرقند. فاربدّ(5) وجهه. قال: والحدّ الثالث:


(1) كأنّ المقصود أنّه لو صار القرار على أخذ المُلْك اليوم لأدّى ذلك إلى خراب الدنيا.

(2) سورة 98 البيّنة، الآية: 1.

(3) سورة 14 إبراهيم، الآية: 28.

(4) بحار الأنوار 48: 144، الحديث 20.

(5) أي: احمرّ احمراراً فيه سواد عند الغضب.

56

إفريقية. فاسودّ وجهه وقال: هيه. قال: والرابع: سِيف البحر(1) ممّا يليالجُزُر(2) وأرمينية. قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحوّل إلى مجلسي. قال موسى: قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله...».

وأطرف من ذلك ما رواه في البحار(3) نقلاً عن الكافي، ولكنّه احتجاج له(عليه السلام) مع المهديّ لا مع الرشيد. ونحن ننقل النصّ عن الكافي(4):

«عن عليّ بن أسباط قال: لمّا ورد أبوالحسن موسى(عليه السلام) على المهديّ رآه يردّ المظالم، فقال: يا أميرالمؤمنين، ما بال مظلمتنا لا تردّ؟! فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه(صلى الله عليه وآله)فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيّه(صلى الله عليه وآله)﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾(5)، فلم يدر رسول الله(صلى الله عليه وآله)من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل(عليه السلام) ربّه، فأوحى الله إليه: أن ادفع فدك إلى فاطمة(عليها السلام)، فدعاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال لها: يا


(1) أي: ساحل البحر.

(2) في المناقب: الخزر.

(3) بحار الأنوار 48: 156 ـ 157.

(4) الكافي 1: 543، الحديث 5.

(5) سورة 17 الإسراء، الآية: 26.

57

فاطمة، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

فلمّا وُلّي أبوبكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردّها عليها، فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأميرالمؤمنين(عليه السلام) واُمّ أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: ما هذا معكِ يا بنت محمّد؟ قالت: كتابٌ كتبه لي ابن أبي قحافة. قال: أرينيه، فأبت فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثمّ تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب؟ فضعي الحبال في رقابنا(1).

فقال له المهديّ: يا أبا الحسن، حدّها لي. فقال: حدّ منها جبل اُحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل. فقال له: كلّ هذا؟ قال: نعم يا أميرالمؤمنين، هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله(صلى الله عليه وآله) بخيل ولا ركاب. فقال: كثير وأنظرُ فيه».

أقول: وهذا يعني أنّه(عليه السلام) يستدلّ بالآية المباركة: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ


(1) أي: اُحكمي إذن على رقابنا أيضاً بالملكيّة، وضعي الحبال على أعناقنا. وفي بعض النسخ: «ضعي الجبال»، أي: إن قدرت أن تضعي الجبال على رقابنا فضعي. اُنظر: مرآة العقول 6: 269.

58

عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ﴾(1) على أنّ فدك وإن كان اسماً لقطعة أقطعها رسول الله(صلى الله عليه وآله) لفاطمة ولكن المقياس في الأنفال الراجع إلى المعصوم ليس هو إقطاع رسول الله(صلى الله عليه وآله) بحسب ما وقع في حياته من إقطاعاته، وإنّما المقياس هو عدم الإيجاف بخيل ولا ركاب، وهذا حدّه عبارة عن تلك الحدود التي أشار إليها الإمام سلام الله عليه.

وتمام الكلام في ذلك قد بحثناه في بعض أبحاثنا الفقهيّة.

ومنها: ما رواه في كشف الغمّة(2) نقلاً عن أحمد بن إسماعيل قال: بعث موسى بن جعفر(عليه السلام) إلى الرشيد من الحبس برسالة: «أنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نُفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون».

أختم الحديث بالإشارة إلى عِظَم المصيبة التي لاقاها إمامنا موسى الكاظم (سلام الله عليه) في سبيل ترويجه لدين جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فإنّي لا أعرف بعد وقعة كربلاء وقعةً واقعةً على أئمّتنا المقتولين بمستوى


(1) سورة 59 الحشر، الآية: 6.

(2) كشف الغمّة 3: 8 ـ 9.

59

ما وقع على إمامنا الكاظم(عليه السلام). وأستشهد لما أقول ببعض الشواهد:

1 ـ السيّد عليّ بن طاووس(رحمه الله) روى زيارة الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)(1) وفيها: «...حليف السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتّصلة الجميلة، ومقرّ النهى والعدل، والخير والفضل، والندى والبذل، ومألف البلوى والصبر، والمضطهد بالظلم، والمقبور بالجور، والمعذّب في قعر السجون وظُلَم المطامير، ذي الساق المرضوض بحِلَق القيود، والجَنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف، والوارد على جدّه المصطفى وأبيه المرتضى واُمّه سيّدة النساء بإرث مغصوب، ووِلاء مسلوب، وأمر مغلوب، ودم مطلوب، وسَمٍّ مشروب...».

2 ـ أنّه(عليه السلام) رغم شكره لله في بداية ابتلائه بالسجن على توفيقه للعبادة حيث كان يقول ـ على ما ورد في البحار(2) والمناقب(3)وكشف الغمّة(4): ـ «اللّهمّ إنَّكَ تَعلمُ أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فَعَلت، فَلَكَ الحمد»، انتهى حاله(عليه السلام) في أواخر أمره


(1) بحار الأنوار 99: 17.

(2) بحار الأنوار 48: 107 ـ 108.

(3) المناقب 3: 433.

(4) كشف الغمّة 3: 25.

60

إلى تبديل موجة الدعاء فقال ـ على ما ورد في البحار(1) ـ: «...يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون».

3 ـ ما رواه في البحار(2) عن عبدالله الصيرفي: «قال: تُوفّي موسى بن جعفر(عليه السلام) في يدي السندي بن شاهك، فحمل على نعش ونودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه، فلمّا اُتي به مجلس الشرطة أقام أربعة نفر فنادوا: ألا من أراد أن يرى...موسى بن جعفر(3) فليخرج.

وخرج سليمان بن أبي جعفر(4) من قصره إلى الشطّ فسمع الصياح والضوضاء، فقال لولده وغلمانه:...يوشك أن يفعل هذا به في الجانب الغربيّ، فإذا عُبر به فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرّقوا ما عليهم من السواد. فلمّا عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وضربوهم وخرّقوا عليهم سوادهم


(1) بحار الأنوار 48: 219.

(2) بحار الأنوار 48: 227.

(3) أي: من أراد أن يشهد جنازته(عليه السلام).

(4) يعني عمّ الرشيد.

61

ووضعوه في مفرق أربعة طرق، وأقام المنادين ينادون: ألا من أراد الطيّب ابن الطيّب موسى بن جعفر(1) فليخرج(2). وحضر الخلق...».

أقول: لم يكن مقصود عمّ الرشيد الخير، وإنّما فعل ذلك خشية ثوران الناس على حكومة هارون.

هذا تمام ما أردنا بيانه في أئمّة الدور الثاني (سلام الله عليهم) بحسب تقسيم السيّد الاُستاذ(قدس سره).

 

 


(1) يعني: من أراد أن يشهد جنازته.

(2) وهذا على نقيض النداء السابق.

62

 

 

لمحة عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)

 

اُحبّ أن أبتدأ الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام) بذكر الأبيات المنسوبة إلى أبي نواس.

روي في البحار(1) عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، عن عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي قال: إنّ المأمون لمّا جعل عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)وليّ عهده فالشعراء قصدوا المأمون، ووصلهم بأموال جمّة حين مدحوا الرضا(عليه السلام)، وصوّبوا رأي المأمون في الأشعار دون أبي نواس، فإنّه لم يقصده ولم يمدحه، ودخل إلى المأمون فقال له: يا أبا نواس، قد علمت مكان عليّ بن موسى الرضا منّي وما أكرمته به فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟! فأنشأ يقول:

قيلَ لي أنتَ أوحدُ الناسِ طرّاً
في فنون من الكلامِ النبيهِ
لكَ من جوهرِ الكلامِ بديعٌ
يثمرُ الدرّ في يدي مجتنيهِ
فعلى ما تركتَ مدح ابنِ موسى
والخصال التي تجمّعنَ فيهِ؟!
قلتُ لا أهتدي لمدحِ إمام
كانَ جبريلُ خادماً لأبيهِ(۲)!


(1) ج 49، ص 235.
(2) وروى المجلسي ـ المصدر السابق: 236 ـ عن إعلام الورى:
قلتُ لا أستطيعُ مدحَ إمام *** كان جبريلُ خادماً لأبيهِ
63

فقال له المأمون: أحسنت، ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافّة الشعراء وفضّله عليهم.

وقد ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)(1) أنّ الدور الثاني لأئمّتنا(عليهم السلام) انتهى بالإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لكي يبدأ الدور الثالث بالإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) الذي كان يعمل ـ بحسب بادئ الأمر والنظر(2) ـ لتسلّم زمام الحكم.

وأفاد (رضوان الله عليه): أنّ عصر الإمام الرضا(عليه السلام) سادته عدّة مناورات قام بها قادة من آل عليّ وطلاّب مدرسته وملأوا العالم الإسلاميّ من الكوفة إلى البصرة إلى مكّة والمدينة وإلى اليمن، وأين ما كنت تذهب كنت ترى هناك قائداً يحكم باسم الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، ويحمل شعارات الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بالرغم من أنّ بغداد بقيت تحت تبعيّة الخلافة العبّاسيّة، وكلّ هذا ببركة الزخم الذي حصلت عليه مدرسة الإمام عليّ(عليه السلام) نتيجة جهود أئمّة الدور الثاني، فهذه المناورات والثورات كثرت واتّسعت في زمان الرضا(عليه السلام)، وبغداد طوّقت بهذه الحركات.

 


(1) راجع (أئمّة أهل البيت) الذي هو تجميع محاضرات لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله): 382 ـ 398.

(2) يعني أنّه وإن كان بالدقّة يعلم(عليه السلام) أنّه لم يحن وقت تسلّم زمام الحكم بالعدل لكنّه كان يقترب في ظاهر الحال من ذلك.

64

وكان أهمّ هذه الحركات تحرّك ذاك الرجل العظيم محمّد بن إبراهيم طباطبا(1)، هذا الرجل الذي خرج من المدينة إلى الكوفة وأعلن عن نفسه بالكوفة، وطرح شعار البيعة للرضا من آل محمّد(عليهم السلام).

وهذا الشعار كان من خصائص ثوّار آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، حيث استبدلت البيعة بالشخص بعنوانه إلى البيعة بهذا العنوان الإجماليّ منذ أن ثار زيد بن عليّ(عليه السلام)(2) إلى أن تتابع الثوّار من آله ومن آل الإمام الحسن(عليه السلام)، وكان الشعار الذي يطرح هو «الرضا من آل محمّد» لكي يكون الشعار منسجماً مع مضمون القضيّة الإسلاميّة من دون إحراج للشخص الواقعيّ الذي يمثّل القضيّة في كلّ حين.

وهذا النموّ المتزايد نعرفه عن طريق ردود فعل هذه الثورات في العالم الإسلاميّ، وكان ردّ الفعل لثورة طباطبا أن وقفت الكوفة معه أربع سنين وقاوموا جيوش العبّاسيّين جيشاً بعد جيش فتنهزم الجيوش من أمامه.

 


(1) مقاتل الطالبيين: 344 ـ 354. وتأريخ الطبري 7: 117 ـ 118.

(2) إشارة إلى الرواية الصحيحة السند الواردة في الوسائل 15: ب 13 من جهاد العدوّ: 50، الحديث 1، وفيها: «ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه...».

65

هذه هي الكوفة التي خانت الحسين(عليه السلام) والتي تركت زيداً وحفنةً من الأصحاب، فهذه الكوفة بعد مئة وخمسين من وقعة الحسين(عليه السلام)وبعد أقلّ من مئة سنة من وقعة زيد وقفت تدافع أربع سنين عن شخص آخر سار في خطّ الإمام الحسين وخطّ زيد.

فهذه الاستجابة دليل على نموّ القاعدة الشعبيّة.

وترى أنّه حينما أرسل الفضل بن سهل رسله إلى الكوفة ليأخذ البيعة بولاية العهد لعليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) امتنعت الكوفة عن ذلك وقالوا: لا نبايع عليّ بن موسى الرضا بولاية العهد، بل نبايعه بالخلافة(1).

ويبدو أنّ الإمام الرضا(عليه السلام) حينما تسلّم زمام المسؤوليّة والإمامة في هذه المرحلة الثالثة قام بنشاط لم يكن اعتياديّاً على مستوى الشيعة، فتقول الرواية: إنّ الإمام الرضا(عليه السلام) لمّا تسلّم زمام المسؤوليّة بعد وفاة أبيه قام بجولة في العالم الإسلاميّ، وسافر من المدينة إلى البصرة بعد أن أرسل رسولاً إلى البصرة أنّه انتظروا خلال ثلاثة أيّام فسوف يأتي الإمام الرضا(عليه السلام)، فأتى الإمام الرضا(عليه السلام) بعد ثلاثة أيّام في وقت كانت الشيعة متهيّئين تهيّأً كاملاً


(1) تأريخ الطبري 7: 143 ـ 144.

66

لاستقباله والاجتماع حوله والاحتفاء به، فيجتمع بهم ويقيم الحجّة عليهم في إمامته، ثمّ يدير معهم الأسئلة والأجوبة عن مختلف جوانب المعرفة الإسلاميّة، ثمّ يطلب منهم جمع بقيّة الطوائف أيضاً، فيجمعون له بقيّة الطوائف وبقيّة العلماء من المجادلين الكلاميّين من علماء غير إسلاميّين، فيعقد عدّة اجتماعات مع هؤلاء في البصرة يفهّمهم ويسيطر على الموقف. ثمّ يرسل رسولاً إلى الكوفة ويقول: أخبروا أهل الكوفة بأنّه خلال أيّام سيأتي إلى الكوفة، وبعد هذا يسافر إلى الكوفة، وهناك يقيم عليهم الحجّة بصورة مباشرة على إمامته بعد أبيه، ثمّ بعد هذا يدير مناقشات واسعة النطاق وأسئلة وأجوبة متنوّعة ومتشكّلة(1).

وقد تعرّض عدد من الشيعة غير المطّلعين على تبدّل المرحلة للاعتراض على الإمام(عليه السلام) بأنّك فضحت نفسك وهارون الرشيد يقطر سيفه دماً، فيقول له أحدهم: ألا تخاف من سيف هارون الرشيد، ويقول الآخر: قد أقدمت على الهلكة، ويقول ثالث: لو سكتّ عمّا


(1) إشارة إلى رواية رواها في البحار عن الخرائج مفصّلة، راجع البحار 49، باب وروده(عليه السلام)البصرة والكوفة: ص 73 ـ 81، وفيها احتجاجه (سلام الله عليه) مع جاثليق عالِم النصارى، ورأس الجالوت عالِم اليهود في حقّانيّة الإسلام.

67

سكت أبوك وجدّك، إلى غير ذلك من المضامين(1).

 


(1) هذا إشارة إلى روايات وردت في البحار 49: 114 ـ 116:
منها: ما رواه عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) وفيه: «قال عليّ بن أبي حمزة له(عليه السلام): إنّك لتقول قولاً ما قاله أحد من آبائك عليّ بن أبي طالب فمن دونه. قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول الله(صلى الله عليه وآله). فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟ فقال(عليه السلام): لو خفت عليها كنت عليها معيناً، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)أتاه أبو لهب فتهدّدَه، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن خُدشت من قبلك خدشة فأنا كذّاب. فكانت أوّل آية نزع بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهي أوّل آية أنزع بها لكم، إن خدشت خدشاً من قبل هارون فأنا كذّاب...». قال المجلسي: نزع بها أي: نزع الشكّ بها، ولعلّه كانت النسخة الصحيحة «برع» أي: فاق.
ومنها: ما رواه عن المناقب عن صفوان بن يحيى: «قال: لمّا مضى أبوالحسن موسى(عليه السلام) وتكلّم الرضا خفنا عليه من ذلك وقلنا له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً وأنّا نخاف عليك من هذا الطاغي. فقال(عليه السلام): يجهد جهده فلا سبيل له عليّ».
ومنها: ما رواه عن الكافي عن محمّد بن سنان: «قال: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام) في أيّام هارون: إنّك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر الدم؟ قال(عليه السلام): جرّأني على هذا ما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بنبيّ.

68

وكلّ هذه الاعتراضات كانت ناتجة عن أنّ أصحاب الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام)لم يربطوا بين هذا التحوّل المظهريّ في تصرّفات الإمام الرضا(عليه السلام) عن خطّ آبائه وبين السلوك الموضوعيّ للمرحلة، ولهذا حاولوا الاعتراض عليه من هذه الناحية.

وأفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ في المصدر نفسه(1) ـ حول «ما هي الدوافع الحقيقيّة للمأمون في تنصيبه الإمام وليّاً للعهد»: أنّ موقف المأمون قد يفسّر على أساس إيمانه بخطّ الإمام عليّ(عليه السلام)، ولكن الواقع أنّ هذا ليس يعني أنّ هذا هو الدافع المطلق الحقيقيّ الذي تعيشه كلّ أبعاد نفس المأمون، فمن الممكن أنّه كانت هناك زاوية في خطّ المأمون تكشف بين حين وحين آخر عن تأثّره بخطّ الإمام عليّ(عليه السلام)، لكنّه



وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بإمام». راجع روضة الكافي: 257، الحديث 371.
ومنها: ما رواه أيضاً عن الكافي، عن يونس، عمّن ذكره: «قال: قيل للرضا(عليه السلام): إنّك متكلّم بهذا الكلام والسيف يقطر الدم. فقال: إنّ لله وادياً من ذهب حماه بأضعف خلقه النمل، فلو رامته البخاتي لم تصل إليه». الكافي 2: 59، الحديث 11.
(1) أعني: (أئمّة أهل البيت): 393 ـ 398.
69

كانت هناك زوايا اُخرى أكبر وأوسع في نفس المأمون، وهذه الزوايا تمثّل المصالح السياسيّة والأغراض الوقتيّة وبناء الصرح لدولته، ويمكن تلخيص تلك الزوايا في أربع نقاط:

النقطة الاُولى: أنّ المأمون كان يريد أن يُلبِس خلافته الثوب الشرعيّ، وكان يعتقد أنّ خلافته بحاجة إلى ثوب شرعيّ على أساس أنّ القواعد الشعبيّة المؤمنة بالخلافة العبّاسيّة كانت تنظر بريب إلى خلافة المأمون التي لم تنته إليه إلّا بقتل الخليفة الشرعيّ السابق الذي هو الأمين، فانتقال الخلافة عن طريق قتل الخليفة الشرعيّ كان فيه نوع من الريب والتردّد عند القواعد الشعبيّة المؤمنة ببني العبّاس وخلفائهم.

أمّا القواعد الشعبيّة الاُخرى فلم تكن تؤمن بشرعيّة الخلافة لا للمأمون ولا للأمين.

فخطّط المأمون إلباس الثوب الشرعيّ على خلافته عن طريق استدعاء الإمام الثامن(عليه السلام)الذي يؤمن كثير من جماهير العالم الإسلاميّ بأنّ الخلافة حقّ شرعيّ (ولو على مستوى أنّه أفضل أولاد الإمام عليّ(عليه السلام))، فبعث على الإمام وقال له: إنّي أنزع الخلافة واُعطيها لك، حتّى يردّها عليه الإمام فيكتسب بذلك ثوباً شرعيّاً للخلافة، والإمام الرضا(عليه السلام) أحبط هذه المؤامرة بقوله: إنّ الخلافة إن كانت هي ثوباً ألبسك الله إيّاه لم يكن بإمكانك أن تنزعه لي وتلبسني إيّاه، وإن

70

لم يكن شيئاً أعطاك الله إيّاه إذن فكيف تعطيني ما لا تملك؟

فأكّد في هذا النصّ الصريح الواضح أنّه هو لا يؤمن بشرعيّة الخلافة للمأمون، وأنّ رفض الخلافة ليس معناه إرجاع الخلافة إليه، وبهذا سجّل النصر الذي كان له أثره الكبير في الحاضر وقتئذ وفي المستقبل في نزع ثوب المشروعيّة عن خلافة المأمون(1).

 


(1) إشارة إلى ما رواه في البحار 49: 128 ـ 129 عن علل الشرايع وعيون أخبار الرضا(عليه السلام) وأمالي الصدوق عن أبي الصلت الهرويّ: «قال: إنّ المأمون قال للرضا عليّ بن موسى(عليه السلام): يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي. فقال الرضا(عليه السلام): بالعبوديّة لله عزّوجلّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّ وجلّ.

فقال المأمون: فإنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك واُبايعك. فقال له الرضا(عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك. فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، لابدّ لك من قبول هذا الأمر. فقال: لست أفعل ذلك طائعاً أبداً. فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي» إلى آخر ما سيأتي نقله إن شاء الله.

71

النقطة الثانية ـ من النقاط التي يمكن افتراض أنّها تمثّل زاويةً اُخرى من زوايا نفس المأمون ـ: هي أنّه كان يعيش مشاكل تلك القوى الشعبيّة للإمام الرضا(عليه السلام)ومدرسة الإمام عليّ(عليه السلام) في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ، فكان يريد أن يثبّت هذه القواعد الشعبيّة لنفسه، وكان يريد أن يشتري رضاها واستسلامها ومواكبتها للوضع الحاكم عن طريق ضمّ قائدها الأمثل وإمامها الفكريّ واُمثولتها العليا إلى جانبه ووضعه.

وهذا الموضوع أيضاً التفت إليه الإمام الرضا(عليه السلام) وأحبطه، وذلك أن سجّل منذ اليوم الأوّل أنّه لم ينضمّ إلى جهاز المأمون، وإنّما هو مجرّد قبول على أساس إصرار من قبل الخليفة مأمون لا أكثر ولا أقلّ، ولهذا اشترط في الوثيقة التأريخيّة التي كتبها الإمام الرضا(عليه السلام): أنّي لا اُمارس أيّ نوع من أنواع السلطة في جهاز الدولة الإسلاميّة(1).

 


(1) إشارة إلى ما ورد في البحار ـ ج 49: 129 ـ 130 ـ تكملةً للحديث السابق: «قال المأمون له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي، لتكون لك الخلافة بعدي»:

فقال الرضا(عليه السلام): «والله لقد حدّثني أبي عن آبائه، عن أميرالمؤمنين، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، واُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون

72



الرشيد»، فبكى المأمون ثمّ قال له: «يا ابن رسول الله، ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟»، فقال الرضا(عليه السلام): «أما إنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت». فقال المأمون: «يا ابن رسول الله، إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك; ليقول الناس: إنّك زاهد في الدنيا».

فقال الرضا(عليه السلام): «والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإنّي لأعلمُ ما تريد». فقال المأمون: «وما اُريد؟»، قال: «الأمان على الصدق ]يعني أعطني أماناً على الصدق[». قال: «لك الأمان». قال: «تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!»، فغضب المأمون ثمّ قال: «إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه وقد أمِنت سطوتي، فبالله اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك».

فقال الرضا(عليه السلام): «قد نهاني الله عزّ وجلّ أن اُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا اُولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً». فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهده على كراهة منه(عليه السلام)لذلك.

73

النقطة الثالثة: أنّ المأمون كان يشعر بأنّ مجيء الإمام الرضا(عليه السلام)إلى هذا الجهاز الحاكم سوف لن يغيّر هذا الجهاز; لأنّ هذا الجهاز الحاكم كان قدراً أكبر من هذا الفرد بالذات، وهذا الوضع الذي لا يؤمن به إمام الشيعة لن يتغيّر بيوم أو يومين، فحينما يأتي الإمام الرضا(عليه السلام) يمكن للمنطق الحاكم أن يقول وقتئذ بأنّ هؤلاء تجّار اُطروحة، لا أنّهم أصحاب اُطروحة حقيقيّة، فهم يتاجرون باُطروحة يهزّون بطرحها آمال المسلمين وآلامهم، ولهذا حينما فتحت أمامه



وأيضاً قول اُستاذنا(رحمه الله): «ولهذا اشترط في الوثيقة التأريخيّة التي كتبها الإمام الرضا(عليه السلام)...» إشارة إلى ما ورد في البحار ـ ج 49: 134 نقلاً عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام)... ـ: «فلمّا وافى مرو عرض عليه المأمون أن يتقلّد الإمرة والخلافة، فأبى الرضا(عليه السلام) في ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، وبقوا في ذلك نحواً من شهرين كلّ ذلك يأبى عليه أبو الحسن عليّ بن موسى(عليه السلام) أن يقبل ما يعرض عليه.

فلمّا أكثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون: فولاية العهد؟ فأجابه إلى ذلك وقال له: على شروط أسألكها. فقال المأمون: سل ما شئت. فكتب الرضا(عليه السلام): «إنّي أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي، ولا اُغيّر شيئاً ممّا هو قائم، وتعفيني عن ذلك كلّه». فأجابه المأمون إلى ذلك، وقبلها على كلّ هذه الشروط...».