المعارضة والثورة والعصيان، وهذا ما لم يحدث من قبل شهادة الإمام، كما أنّ ثمّة تأثيرات واستجابات حصلت لدى حكّام بني اُميّة نتيجة تصاعد هذه الروح، منها: استجابة الحاكم الاُموي عمر بن عبد العزيز وإصداره الأوامر برفع سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) من على منابر المسلمين، وكذلك الضعف الذي دبّ في أوصال حكم بني اُميّة، والذي أدّى تدريجيّاً إلى تقويضهم نهائيّاً.
أمّا ما ورد في ثنايا رأي الكاتب المذكور من أنّ علامة قوّة بني اُميّة بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) قد تمثّلت بالفتوحات الإسلاميّة في بخارى وسمرقند وأندونيسيا، فإنّ هذا الادّعاء غير صالح البتة؛ وذلك لأنّ فتح هذه البلدان وإن كان صحيحاً قد حصل في زمن حكم بني اُميّة، لكنّه لا يدلّ بحال على قوّة بني اُميّة، وإنّما يدلّ على قوّة الإسلام في نفوس المسلمين، وأنّ مسألة فتح البلدان تعدّ من الاُمور التي يتّفق عليها جميع المسلمين حتّى المعارضين لحكم بني اُميّة؛ لأنّه يدخل في إطار محاربة الكفّار ونصرة الإسلام وتوسيع رقعة الحقّ، حتّى أنّ بعض حكّام بني اُميّة كان ينال الدعم من قبل بعض أئمّتنا (عليهم السلام) في مقابل الحكومات الكافرة بالتخطيط لصالح الإسلام وضدّ الحكم الكافر، فهل يعدّ هذا قوّةً لبني اُميّة، أو دليلاً على قوّتهم، أو لا بل يدلّ على قوّة الإسلام في نفوسهم.
وأمّا ما يتعلّق بالنقطة الثانية، فإنّ الجواب عمّا ذكره الكاتب المذكور ـ من أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يعلم بأنّه سوف يقتل، بل كان يعمل لتحقيق الانتصار وإقامة الحكم الإسلامي، وكانت المؤشّرات دالّة على إمكانيّة تحقّق ذلك ـ يكمن في الجواب عن السؤال التالي: لماذا لم يتجنّب الإمام الحسين (عليه السلام) الشهادة ـ لما يترتّب عليها من مضرّة كما زعم هذا الكاتب ـ بعد أن تغيّرت علامات الانتصار واختلّ ميزان القوّة لصالح عدوّه؟ أ لم يكن مقتضى العمل بعلم الظاهر المكلّف به الأئمّة (عليهم السلام) هو أن يغيّر الإمام قناعاته بإمكانيّة الانتصار ويتجنّب القتل، وكان ظاهر الاُمور أنّ اُناساً طلبوا منه أن يأتي إلى العراق بعد أن بايعوه على النصرة ومجاهدة الظالمين، وبذلك تمّت الحجّة عليه بالمجيء إلى العراق، وقد جاء فعلاً، ولكن تبيّن له في ما بعد أنّ الاُمور قد تغيّرت، وأنّ الناس قد تبدّل موقفهم منه تحت تأثير سياسة ابن زياد القائمة على الترهيب والترغيب، فلماذا لم يتجنّب المواجهة التي فيها قتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه بعد أن تغيّر ظاهر الأمر؟
إنّ الحقيقة قاطعة على أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّه سوف يقتل وتُسبى نساؤه، وغير مرّة كان قد صارح أصحابه بعاقبة القتل والشهادة، وقد خيّرهم بالانصراف عنه أو البقاء معه واستقبال هذه النتيجة، وعلى هذا الأساس استمرّ بالمسير إلى العراق برغم علمه
بمقتل رسوله إلى الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وتغيّر الأوضاع في الكوفة، ألا يدلّ هذا على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يعلم بمصيره وكان يطلبه وقد سعى إليه حثيثاً، إلى أن نال مرتبة الشهادة العظيمة، فكان دمه الطاهر ثورةً للأجيال منذ استشهاده وإلى ظهور ولده الحجّة عجّل الله فرجه.
وأمّا ما يتعلّق بنقطة الخلاف الثالثة، فقد استدلّ الكاتب المذكور ـ على اعتقاده بأنّ ثمّة اُموراً استجدّت ولم يكن للإمام (عليه السلام) علم سابق بها، أعاقت حركة الثورة وأخلّت بميزان القوّة لصالح ابن زياد، فسبّبت خسارة المعركة ظاهريّاً للإمام (عليه السلام) ـ بذكر سببين:
الأوّل: ادّعاؤه بأنّ عبيد الله بن زياد أجبر مسلم بن عقيل (عليه السلام) على تزعّم الثورة عندما جابهه بالسيف في الوقت الذي لم يكن مسلم بن عقيل (عليه السلام) مكلّفاً بتزعّم الثورة والتخطيط لها، وإنّما كانت مهمّته ـ حصراً ـ هي استطلاع الأوضاع في الكوفة وإبلاغ الإمام (عليه السلام) بالنتائج التي يصل إليها ويشاهدها، لكن هذا التزعّم المفاجئ للثورة من قبل مسلم بن عقيل أدّى إلى تفجير الثورة قبل أوانها وكان ذلك سبباً لفشلها وتحمّل الإمام الحسين (عليه السلام) عبء هذا الفشل!
الثاني: قيام جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بمنع الإمام الحسين (عليه السلام) من الدخول إلى الكوفة والحيلولة دون تزعّمه الثورة، الأمر الذي أدّى إلى حصول انفصال بين القائد والقاعدة الجماهيريّة، فتبدّلت
عندئذ مقاييس القوّة والنصر لصالح عبيد الله بن زياد.
وهذا الأمر أيضاً لم يكن في حسبان الإمام الحسين (عليه السلام).
والجواب عن هذين السببين هو: أنّنا وإن كنّا نعتبر الواقعتين اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً صحيحتين، إلّا أنّنا نخالفه بادّعاء أنّهما حدثتا على حين غرّة وقد فوجئ الإمام بهما؛ إذ إنّ من أوّليّات قيادة الثورات توقّع القائد إمكانيّة اندلاع الثورة قبل أوانها أو قبل ساعة الصفر التي تقرّرت لها، وهذا احتمال وارد بنسبة كبيرة؛ لأنّ السلطات غالباً ما تحرص على مواجهة الثورات مبكّراً لجرّها للمواجهة قبل اكتمال شروطها، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بأنّ ما حدث لمسلم بن عقيل (عليه السلام) في الكوفة لم يكن صدفة وأمراً غير متوقّع، فالكوفة كانت تحت سلطان بني اُميّة، والإمام (عليه السلام) يعلم بذلك، وكان يتوقّع حدوث المواجهة بين السلطات وبين رسوله، ولهذا ما انفكّ الإمام (عليه السلام) يتابع أخبار ابن عمّه ويستبين اُموره إلى أن بلغه خبر قتله ـ في منطقة الثعلبيّة في طريقه إلى العراق ـ وانفضاض الناس من حوله، فحزن لذلك حزناً كبيراً، وواصل مسيره معتبراً أنّ ما حدث لم يكن صدفة وإنّما هو أمر متوقّع. وقد سأله بعض أصحابه عن موقفه بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وفي ما إذا كان ينوي الرجوع إلى مكّة أو الاستمرار بالمسير إلى العراق، فأجابهم الإمام بالاستمرار بالمسير إلى نهاية
المطاف. وحتّى عندما بلغه خبر مقتل رسوله الثاني إلى الكوفة بعد مسلم بن عقيل (قيس بن مسهّر الصيداوي) أو (عبدالله بن يقطر) على اختلاف في التأريخ، لم يثنه هذا الحادث أو يضعف في عزيمته، وواصل مسيره إلى العراق بالبقيّة المخلصة من أصحابه بعد انفضاض نفر قليل عنه وإجازته ذلك لهم.
إنّ هاتين الحادثتين، بالإضافة إلى حادثة منعه من دخول الكوفة بعد أن أحال جيش الحرّ بن يزيد الرياحي بينه وبينها ـ وقد شبّه الكاتب المذكور هذه الأخيرة بحادث رفع المصاحف في معركة صفّين الذي وقع صدفة ـ إنّما تدلّ على عزيمة الإمام (عليه السلام) وإصراره على بلوغ هدفه النهائي وهو الشهادة، وكذلك تدلّ على وضوح رؤية الإمام (عليه السلام) للمواجهة والتحدّيات والمصاعب. وقد أمكنه من تجاوزها جميعاً وعدم الاكتراث بها إلّا بمقدار ما أبداه من عواطف تجاه المحن التي لاقته.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة خطأ آخر وقع فيه هذا الكاتب عندما صوّر حادثة منع الإمام (عليه السلام) من الدخول إلى الكوفة بأنّها مصادفة بحت وتشبه إلى حدٍّ بعيد حادثة رفع المصاحف التي صادفت الإمام عليّ (عليه السلام) في معركة صفّين؛ إذ إنّ حادثة منع الإمام الحسين (عليه السلام) من الورود إلى الكوفة لا تشبه بأيّ حال من الأحوال حادثة رفع المصاحف؛ لأنّ الحادثة الاُولى هي من سنخ الحوادث المتوقّعة الواردة في احتمالات المواجهة
بين قوّة معارضة وبين سلطة تخشى من امتدادات التأثير في أوساط المجتمع والقواعد الشعبيّة، في ما تعتبر حادثة رفع المصاحف من الحوادث غير المتوقّعة في تاريخ الثورات والأحداث السياسيّة، وبالخصوص في التاريخ الإسلامي؛ لعدم وجود سابق لها في الإسلام، ولهذا فلا تشابه بين الحادثتين وبين حكميهما.
وفي النتيجة النهائيّة يتبيّن أنّ الكاتب المذكور كان مخطئاً في جميع آرائه التي سبقت الإشارة إليها والمتعلّقة بالثورة الحسينيّة، في ما تعتبر آراء اُستاذنا السيّد الشهيد (قدس سره) هي الصحيحة في تحليل الثورة الحسينيّة، والهدف الذي كانت تتوخّاه، والغاية التي ضحّى الإمام السبط (عليه السلام) من أجلها. وكانت هذه الغاية هي الدالّة الكبيرة على حكمة القائد وهدفيّته في سبيل إعادة الاُمّة إلى سابق عهدها وشجاعتها وأصالتها بعد أن غزا عقلها وروحها المرض نتيجة المؤامرات الكبيرة التي تعرّضت لها من قبل السلطات المنحرفة التي تسلّمت زمام التجربة الإسلاميّة بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فكانت شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) علاجاً ناجعاً في تخليص الاُمّة من مرض فقدان الإرادة وموت الضمير؛ إذ هبّت الاُمّة بعد حين تقارع الظالمين، وتنادي بتحكيم الإسلام المحمّدي، وظلّت هذه الروح سارية إلى يومنا هذا، وستبقى إلى أن يظهر المصلح من آل البيت (عليهم السلام) الإمام الحجّة عجّل الله فرجه.