454

ليس هو كون العبرة في جريان البراءة بعنوان كون القضيّة حقيقيّة، وإنّما العبرة في جريانها بكون القضيّة شرطيّة فعليّتها تتبع فعليّة شرطها على نهج الحال في القضايا الحقيقيّة، ولا يخفى الفرق الموجود بين الأمرين. نعم، هو(قدس سره)يرى أنّ الأحكام الكلّيّة الشرعيّة كلّها تكون من باب القضايا الحقيقيّة.

وعلى أيّ حال، فقد عرفت أنّ الضابط في جريان البراءة وعدمه في الشبهات الموضوعيّة هو كون الحكم بدليّاً أو شموليّاً.

وعندئذ نشرع في تطبيق هذا الضابط على موارد الحكم الوجوبيّ والحكم التحريميّ، فنقول: إنّ كلاًّ من الفعل والترك يصلح لأن يقع متعلّقاً للحكم الوجوبيّ تارةً وللحكم التحريميّ اُخرى، فيقع الكلام في مقامين:

 

حالة تعلّق الحكم بالفعل:

المقام الأوّل: في فرض أخذ الفعل متعلّقاً للحكم وجوباً أو تحريماً، وهذا يتصوّر على أقسام باعتبار أنّ الفعل يمكن لحاظه بأنحاء عديدة:

القسم الأوّل: أن يجعل الفعل متعلّقاً للحكم بنحو صرف الوجود، ومرادنا من صرف الوجود هو كون المتعلّق ذات الطبيعة بلا أيّ مؤونة زائدة. وفي هذا القسم أفادوا أنّ الأمر يقتضي الإتيان بفرد واحد والنهي يقتضي ترك جميع الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد.

واستنتج المحقّق العراقيّ(قدس سره) من ذلك:(1) أنّ الأمر يسقط بالامتثال بإتيان فرد



(1) إلاّ أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) سمّى ما سمّـاه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا بصرف الوجود بالطبيعة المبهمة، حيث حمل مصطلح صرف الوجود على ما يساوق أوّل الوجود. راجع المقالات، ج 1، ص 82 ـ 83، وص 121 ـ 122، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 403 ـ 406.

455

واحد والنهي لا يسقط بالعصيان بإتيان فرد واحد، بل يبقى النهي بلحاظ باقي الأفراد.

أقول: إنّ هذا خلط بين فرقين ثابتين في باب الأمر والنهي:

الفرق الأوّل: ما يكون مرتبطاً بعالم اقتضاء الأمر والنهي، وهو: أنّ الأمر والنهي لو فرض كلّ واحد منهما حكماً واحداً فالأمر بدليّ ـ أي: أنّه يقتضي إتيان فرد واحد ـ والنهي شموليّ ـ أي: أنّه يقتضي ترك تمام الأفراد ـ وما ذكر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام تمام الأفراد نكتة لهذا الفرق.

الفرق الثاني: ما يكون مرتبطاً بعالم الجعل، وهو أنّ الأمر إذا تعلّق بالطبيعة فليس هناك إلاّ حكم واحد، والنهي إذا تعلّق بالطبيعة استفيد من ذلك جعل أحكام عديدة، وسقوط الأمر بإتيان فرد واحد وعدم سقوط النهي بذلك مرتبط بهذا الفرق دون الفرق الأوّل. وعلى أيّة حال ـ أي: سواء فرض النهي شموليّاً بالمعنى الأوّل أو انحلاليّاً ـ فمهما حصل الشكّ في جانب النهي في فرد جرت البراءة؛ لأنّه شكّ في سعة دائرة التكليف، وهذا بخلاف جانب الأمر، فتجري فيه عند الشكّ في فرد قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الحكم بدليّ، فالشكّ إنّما يكون في عالم الامتثال.

هذا، ونحن نتكلّم هنا تارةً في الفرق الأوّل، واُخرى في الفرق الثاني، فنقول:

أمّا الفرق الأوّل: فقد ذكروا أنّ طبيعة الأمر تقتضي الإتيان بفرد واحد، وطبيعة النهي تقتضي ترك تمام الأفراد؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد. وقد ناقش في ذلك السيّد الاُستاذ والمحقّق الإصفهانيّ(قدس سره):

أمّا السيّد الاُستاذ فقد ذكر في المقام(1): أنّ مردّ الفرق في الحقيقة ليس إلى



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 328 ـ 329 فهو يقارب ما نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا عن اُستاذه، ولكن لم يذكر فيه التعبير بالفناء في فرد واحد وفي تمام الأفراد.

456

طبيعة الأمر والنهي، بل إلى كيفيّة لحاظ الطبيعة، فإنّ الطبيعة تارةً تلحظ فانية في تمام الأفراد، واُخرى تلحظ فانية في فرد واحد، فإن لوحظت فانية في تمام الأفراد كان الحكم المتعلّق به شموليّاً، سواء فرض أمراً أو نهياً. وإن لوحظت فانية في فرد واحد كان الحكم المتعلّق به بدليّاً سواء فرض أمراً أو نهياً.

ويرد على هذا: ما حقّقناه في بحث المطلق والمقيّد من أنّ معنى الفناء هو لحاظ العنوان بما هو خارجيّ لا بما هو هو، وأنّ أيّ عنوان من العناوين لا يفنى بهذا المعنى من الفناء إلاّ في معنونه، فعنوان الطبيعة لا يفنى إلاّ في واقع الطبيعة التي هي الجهة المشتركة بين الأفراد. وأمّا الذي يفنى في واقع أحد الأفراد أو تمام الأفراد، فإنّما هو عنوان أحد الأفراد أو تمام الأفراد.

وأمّا المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) فقد ذكر في المقام(1) أنّه يستحيل أن يفرض شيء


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 228، و ج 1، ص 260 ـ 261. وحاصل كلامه في المجلّد الأوّل في أوائل بحث النواهي هو: أنّه لا يوجد وجود للطبيعة يكون بوجود واحد، في حين أن يكون بديله عدم الطبيعة بكلّ الأعدام، فإنّ الوجود إن اُضيف إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر فيها مقصوراً على ذاتها وذاتيّاتها، فمقابله العدم المضاف إلى الطبيعة المهملة أيضاً، ونتيجة المهملة جزئيّة سواء في جانب الإيجاب أو جانب السلب. وإن اُضيف إلى الفرد فلكلّ وجود من وجودات الفرد عدم هو بديله، وإن لوحظ الوجود بنحو السعة حتّى لا يشذّ عنه وجود فيلحظ العدم أيضاً كذلك، فلا يشذّ عنه عدم ولا يعقل لحاظ وجود للطبيعة يكفيه وجود واحد مع كون بديله كلّ الأعدام. أمّا ما يتوهّم من أنّنا لو لاحظنا الوجود بمعنىً ناقض للعدم الكلّيّ، وطارد للعدم الأزليّ فهو ينطبق على أوّل الوجودات، ولكنّ نقيضه لا يكون إلاّ بتمام الأعدام؛ إذ لو وجد أيّ فرد لانتقض العدم الكلّيّ وانطرد العدم الأزليّ، فجوابه: أنّ طارد العدم الكلّيّ لا مطابق له في الخارج؛ لأنّكلّ

457

يكون وجوده بوجود فرد واحد وعدمه بعدم تمام الأفراد، فإنّ بديل كلّ وجود هو عدمه المطرود به، لا عدم شيء آخر، ووجود فرد لا يطرد إلاّ عدم نفسه لا عدم فرد آخر.

ثمّ أورد(قدس سره) على نفسه بأنّ هناك شيئاً يكون وجوده بوجود فرد واحد، وعدمه بعدم تمام الأفراد، وذلك هو الوجود الأوّل، فإنّ وجوده يكون بوجود واحد، وهو أوّل الوجودات، ولكنّ انعدامه إنّما يكون بانعدام تمام الأفراد؛ لأنّه بمجرّد أن يوجد فرد يتحقّق الوجود الأوّل فصار عدم تمام الأفراد بديلاً عن وجود فرد واحد.

وأجاب على ذلك بأنّ بديل الوجود الأوّل أيضاً ليس إلاّ عدمه المطرود به، ولا يطرد وجوده إلاّ عدم نفسه، غاية الأمر أنّ هناك ملازمة بين عدم الفرد وعدم سائر الأفراد؛ إذ لا يعقل ثان مثلاً بلا أوّل.

أقول: إنّ التقابل بين الوجود والعدم يكون في عوالم ثلاثة:

الأوّل: هو التقابل بلحاظ العالم الخارجيّ، و هنا يتمّ ما أفاده(قدس سره)فإنّهما بلحاظ العالم الخارجيّ متقابلان بملاك الطارديّة والمطروديّة، فالوجود بلحاظ العالم الخارجيّ يطرد العدم، وكلّ وجود طارد بالذات لعدم نفسه دون شيء آخر وإن كان قد يطرد شيئاً آخر بالعرض كطارديّة الشيء لضدّه.

 


وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم، ونقيضه عدم هذا الأوّل. نعم، لازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها، فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثاني والثالث...، لا أنّه عينها، فما اشتهر من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، وتنعدم بانعدام تمام الأفراد ممّا لا أساس له.

458

الثاني: هو التقابل بلحاظ المفاهيم الأفراديّة في الذهن، كمفهوم الإنسان ومفهوم اللا إنسان، فهما متقابلان لكن لا توجد طارديّة ومطروديّة في المقام، فإنّ نسبتهما إلى عالم الذهن على حدّ سواء، ولا يطرد أحدهما الآخر، و إنّما تقابلهما يكون على حدّ تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، كتقابل مفهوم الإنسان مع مفهوم الحجر مثلاً.

الثالث: التقابل بلحاظ عالم القضايا والأحكام، فمثلاً ما مضى من مفهوم الإنسان واللا إنسان تارةً نتصوّرهما بما هما مفهومان ذهنيّان، فهما يتقابلان تقابل كلّ مفهوم مع مفهوم آخر، وهذا ما مضى في لحاظ العالم الثاني، واُخرى نتصوّرهما بما هما مرآتان للخارج بعنوان حكايتهما عن الخارج، فيكونان حصيلتي قضيّتين وهما: الإنسان موجود، والإنسان ليس بموجود، والتقابل بين هذين الأمرين وهاتين القضيّتين أيضاً ليس بملاك الطارديّة والمطروديّة، فإنّ نسبتهما إلى الذهن وكذلك إلى الخارج على حدّ سواء، لكنّه يقع التقابل بينهما في الصدق أو في الصدق والكذب على اختلاف الموارد، فإنّه يختلف مثلاً تقابل الموجبة الكلّيّة مع السالبة الجزئيّة عن تقابلها مع السالبة الكلّيّة، فالأوّل بلحاظ الصدق والكذب، والثاني بلحاظ الصدق فقط.

وحينما يقول المولى: (صلِّ)، أو يقول: (لاتصلِّ) فكأنّه يقول: اجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، أو يقول: اجعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة، فتحقيق الحال هنا يرجع إلى أن نرى أنّ قضيّة (الصلاة موجودة) هل تصدق بوجود فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بوجود تمام الأفراد؟، وقضيّة (الصلاة ليست موجودة) هل تصدق بعدم فرد واحد أو لا تصدق إلاّ بعدم تمام الأفراد؟ وكلام المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) كما ترى غير مربوط بذلك، وإنّما هو مربوط بالتقابل في العالم الأوّل.

459

وبكلمة اُخرى: إنّ التقابل المؤثّر في المقام ليس بمعنى الطارديّة والمطروديّة حتّى يقال: إنّ كلّ وجود لا يطرد إلاّ عدم نفسه، فوجود الفرد الواحد للطبيعة لا يقابله كلّ الأعدام، وإنّما هو التقابل في الصدق والكذب، حيث إنّ الأمر بالصلاة في قوّة الأمر بجعل قضيّة (الصلاة موجودة) صادقة، والنهي عنها في قوّة طلب جعل قضيّة (الصلاة غير موجودة) صادقة لا في قوّة أن يحفظ عدم واحد عن شمول الطرد إيّاه.

ولا يصدق عدم وجود الصلاة بمجرّد إبقاء بعض الأعدام وعدم طرده، وإنّما يصدق بانتفاء تمام الأفراد، في حين أنّه يكفي في صدق وجود الصلاة وجود فرد واحد، أي: أنّ ما أفاده المشهور من أنّ الطبيعة توجد بوجود واحد ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها صحيح.

وتوضيح ذلك: أنّ الوجود والعدم لا يعرضان على أفراد الطبيعة؛ إذ لا أفراد للطبيعة إلاّ بلحاظ الوجود، وإنّما يعرضان ابتداءً على أصل الطبيعة، ففي المرتبة السابقة على الوجود والعدم لا يكون هناك أفراد، وإنّما تكون هناك الطبيعة وتكون أيضاً حصص الطبيعة، والوجود والعدم يعرضان على طبيعة الصلاة مثلاً، وعلى حصّة من حصصها كالصلاة في المسجد أو الصلاة في البيت ونحوهما، ونسبة الحصّة إلى أصل الطبيعة هي نسبة الكلّ إلى الجزء، فإنّ مفهوم الحصّة مركّب من مفهوم الصلاة ومفهوم تقيّدها بقيد، فمفهوم الصلاة في المسجد مثلاً التي هي حصّة من طبيعة الصلاة مركّب من أصل مفهوم الصلاة ومن مفهوم كون الصلاة في المسجد، والجزء الثاني أخصّ من الجزء الأوّل.

هذا، وهناك قضيّتان ضروريّتان متّفق عليهما بيننا وبين المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره): إحداهما: أنّ الوجود العارض على المجموع المركّب ينسحب على تمام أجزاء ذاك المركّب. والاُخرى: أنّ العدم العارض على المركّب لا ينسحب على تمام أجزاء المركّب، بل يكفي في عدم المجموع عدم جزء من أجزائه. وبهذا البيان

460

يتّضح أنّه يكفي في وجود طبيعة الصلاة وجود حصّة من حصصها؛ لأنّ طبيعة الصلاة جزء من تلك الحصّة، والوجود العارض على المركّب ينسحب على تمام الأجزاء التي منها طبيعة الصلاة، ولا يكفي في عدم طبيعة الصلاة عدم حصّة منها؛ لأنّ الصلاة هي الجزء الأعمّ من تلك الحصّة، وقد قلنا: إنّ عدم المجموع لا ينسحب على تمام أجزاء المجموع، فعدم الحصّة ليس مساوقاً لعدم الصلاة، وإنّما هو مساوق لعدم الجزء الآخر لأنّه أخصّ، فينتفي على كلّ حال.

فتحصّل: أنّ ما أنكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من كون الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام تمام الأفراد يكون في الحقيقة راجعاً إلى ما يوافقنا عليه، ويكون من الضروريّات من أنّ وجود المركّب لا يكون إلاّ بوجود تمام أجزائه، وأنّه يكفي في انتفاء المركّب انتفاء جزء منه.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أيضاً: أنّ ما يقال في علم المنطق من أنّ الموجبة المهملة مع السالبة المهملة ليس بينهما تناف وتناقض إنّما يتمّ في المحمولات التي هي بعد الوجود، فإذا كان شخص قائماً وشخص آخر غير قائم صحّ قولنا بنحوالإهمال: الإنسان قائم والإنسان غير قائم(1)؛ لأنّ هذا الفرد هو وجود لطبيعة الإنسان وهو قائم، فتكون طبيعة الإنسان قائمة، وذاك الفرد وجود آخر لطبيعة الإنسان وهو ليس قائماً، فطبيعة الإنسان ليست قائمة.

وأمّا إذا كان المحمول هو أصل الوجود والعدم، فلا يصّح هذا الكلام، ويقع التقابل بين قولنا: (الإنسان موجود) وقولنا: (الإنسان ليس موجوداً)، فإنّه و إن فرض أنّ الإنسان في قولنا: (الإنسان ليس موجوداً) غير مسوّر بسور يجعله كلّيّاً؛



(1) الفرق بين المحمولات التي هي بعد الوجود ونفس الوجود إنّما يظهر في المقام في الموجبة المحصّلة ومعدولة المحمول لا في الموجبة والسالبة.

461

لأنّ المفروض أنّ القضيّة مهملة لكنّ نفس السلب يولّد الكلّيّة، لما عرفت من أنّ الطبيعة لا تنتفي إلاّ بانتفاء تمام الأفراد.

وأمّا الفرق الثاني: فعدم انحلاليّة الأمر بلحاظ متعلّقه يكون على القاعدة، لما برهنّا عليه في باب المطلق والمقيّد من أنّ مقتضى القاعدة في المتعلّقات كون الإطلاق غير انحلاليّ، وفي الموضوعات كونه انحلاليّاً، فالذي يحتاج إلى نكتة زائدة هو الانحلاليّة في النهي بلحاظ متعلّقه، فنقول في بيان ذلك: إنّ وحدة النهي تكون بوحدة الملاك، ووحدة الملاك هنا تستلزم أن لا يكون متعلّق النهي هو الطبيعة على إطلاقها، بل يكون هناك قيد دخيل في متعلّق النهي؛ وذلك لأنّه إن فرضت هناك مفسدة واحدة، فهي إمّا أن يفرض كونها في أحد الأفراد على سبيل البدل، أو كونها في مجموع الأفراد، فإن فرض الأوّل، فالمفسدة إنّما تتحقّق ـ لا محالة ـفي الخارج بالفرد الأوّل؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق علله(1)، فمتعلّق المبغوضيّة



(1) صحيح أنّ المعلول يستند إلى أسبق علله، ولكن بما أنّ الفرد الأوّل لم يكن مؤثّراً إلاّ بمحض اشتماله على الطبيعة من دون دخل لباقي خصوصيّاته في التأثير، وإنّما اختصّ هو بالتأثير دون باقي الأفراد لمحض أنّه سبقها وملأ الفراغ، فلم يبق مجال لتأثير باقي الأفراد، كان جعل ذات الطبيعة متعلّقاً للنهي أمراً عرفيّاً لا يحسّ فيه بمؤونة، فلو كان الطعام الفلانيّ يورث العمى وكانت الأكلة الثانية لا تورث العمى لا من باب قصور فيها عن التأثير، بل من باب أنّ العمى قد حصل بالعلّة الاُولى، فلم يبق مجال لتأثير الأكلة الثانية، فجعل النهي متعلّقاً بطبيعيّ أكل ذاك الطعام لا بخصوص الأكلة الاُولى لا يحسّ فيه بأيّ مؤونة عرفيّة تنفى بالإطلاق، فالأولى في تعليل الانحلال في باب النواهي ما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الدورة المتأخّرة فيما كتبناه عنه في بحث النواهي من أنّ غلبة انحلاليّة المفسدة فيما فيه المفسدة أدّت إلى ظهور النهي في الانحلال.

462

والانزجار النفسيّ للمولى إنّما هو الفرد الأوّل. فالنهي يتعلّق به لا بالطبيعة. وإن فرض الثاني فالمفسدة إنّما تحصل في الخارج بتحقّق الفرد الأخير؛ لأنّه الجزء الأخير من العلّة، فمتعلّق المبغوضيّة والانزجار إنّما هو الفرد الأخير، فالنهي يتعلّق به لا بالطبيعة، فإذا تعلّق النهي بالطبيعة عرفنا أنّ المفسدة ثابتة في جميع الأفراد بنحو التعدّد لا بنحو المجموعيّة أو البدليّة، وإذا تعدّدت المفسدة تعدّدت الحرمة لا محالة.

هذا، وما ذكرناه من النكتة للانحلال لا توجد فيما لو فرض أنّ متعلّق النهي كانت له أفراد عرضيّة فقط دون أفراد طوليّة، فإن كانت كذلك وكان المتعلّق ممّا يعقل تعدّده بدون تعدّد الموضوع، أو لم يكن الموضوع ملحوظاً للشارع فلم يحصل الانحلال من ناحية الموضوع، ولم تكن هناك نكتة خاصّة للانحال لا يكون اللفظ ظاهراً في الانحلال(1)، فمثلاً لو قال المولى: (لا تضرب هذا الحجر في هذا الآن) ولم نستفد من ذلك بمناسبات المقام مثلاً أنّ هذا النهي ناشئ من كون هذا الحجر عزيزاً على المولى فيتحفّظ من ورود نقص أو تلف عليه حتّى يكون ذلك قرينة على أنّ تعدّد الضرب يوجب تعدّد المبغوض بالنسبة إليه، فضرب العبد الحجر في ذلك الآن بكلتا يديه، ولم تكن اليد ملحوظة للمولى من باب كونها موضوعاً لمتعلّق الحكم، فهنا لا يكون الكلام ظاهراً في الانحلال، ولا يثبت في المقام تعدّد العصيان(2).



(1) النكتة الاُخرى للانحلال التي أشرنا إليها في التعليق السابق والتي نقلناها عن الدورة المتأخّرة لبحث اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ إن تمّت ـ تأتي في هذا الفرض أيضاً.

(2) طبعاً هذا بعد فرض تعدّد الضرب في هذا المثال عرفاً بأن لا يحسب الضرب باليدين كالضرب بالإصبعين من يد واحدة ضرباً واحداً ذا جزءين عرفاً، بل يحسب كالضرب بعصاءين، أو يبدل مثال الضرب باليد بالضرب بالعصا، حيث لا إشكال في تعدّد الضرب عرفاً في ذلك.

463

بقي هنا شيء لا بأس بإلفات النظر إليه، وهو: أنّه إذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعة فنكتة الفرق الأوّل لا تظهر ثمرتها في المقام؛ إذ نكتة الفرق الثاني كما تقتضي الفرق الثاني وهو الانحلال تقتضي ـ لا محالة ـ الفرق الأوّل وهو اقتضاء النهي لترك تمام الأفراد، فلا تظهر هنا فعاليّة نكتة الفرق الأوّل(1)، ولكن يظهر تأثيرها


(1) لا يخفى أنّ نكتة الانحلال في باب النواهي لو كانت عبارة عمّا أفاده(رحمه الله) في المقام من أنّ المفسدة لو كانت في أحد الأفراد على سبيل البدل لكان المترقّب تعلّق النهي بالفرد الأوّل؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق العلل، ولو كانت في مجموعها لكان المترقّب تعلّق النهي بالفرد الأخير لأمكن ذكر هذه النكتة في باب الأوامر أيضاً بأن يقال: لو كانت المصلحة في أحد الأفراد على سبيل البدل لكان المترقّب أن يتعلّق الأمر بالفرد الأوّل؛ لأنّه هو العلّة لتلك المصلحة؛ لأنّ المعلول يستند إلى أسبق علله، ولو كانت في مجموع الأفراد لكان المترقّب تعلّق الأمر بالمجموع، إلاّ أن يجاب على ذلك بأنّ نكتة الفرق الأوّل وهي أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، هي التي تصحّح الفرق الثاني؛ وذلك لأنّ الطبيعة لمّا كانت توجد بوجود الفرد الأوّل كان الأمر بها في قوّة الأمر بالفرد الأوّل، فأصبح الأمر بالطبيعة مع الأمر بالفرد الأوّل سيّان عرفاً، فكون المصلحة في أحد الأفراد على سبيل البدل لا يعيّن تعلّق الأمر بالفرد الأوّل، بل يناسب أيضاً تعلّقه بالطبيعة، وهذا بخلاف باب النهي، حيث إنّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام كلّ الأفراد، وإن كان انعدام الفرد الأوّل ملازماً لذلك. فإن صحّ هذا الكلام قلنا: إذن أصبحت تماميّة الفرق الثاني متوقّفة على نكتة الفرق الأوّل، فليس من الصحيح القول بأنّ نكتة الفرق الثاني أغنتنا هنا عن نكتة الفرق الأوّل. هذا كلّه إذا جعلنا نكتة الانحلال في باب النواهي ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام.

أمّا إذا جعلنا نكتة الانحلال في باب النواهي ما أفاده(رحمه الله) في بحث النواهي فيالدورة المتأخّرة من غلبة انحلاليّة المفسدة، فإن اقتصرنا في ذلك على دعوى أنّ المفسدةحينما

464

في بعض الأقسام الآتية(1).

القسم الثاني: أن يجعل متعلّق الحكم أوّل الوجود، وهنا لا يوجد الفرق الثاني بين الأمر والنهي؛ لعدم تأتّي النكتة التي ذكرناها من أنّه لو كان الملاك واحداً لكان النهي إمّا مختصّاً بالوجود الأوّل، أو بالوجود الأخير، فإنّ المفروض أنّه مختصّ بالوجود الأوّل، وعندئذ يظهر هنا أثر الفرق الأوّل من البدليّة في الأمر والشموليّة في النهي، لا بمعنى تعدّد الحكم، بل بمعنى مجرّد الشموليّة المنسجمة حتّى مع وحدة الحكم، وفي الفرد المشكوك تجري البراءة في جانب النهي؛ لأنّ الشكّ في سعة دائرة اقتضاء التكليف المولويّ وضيقها، ولا تجري في جانب الأمر؛ لأنّ التكليف بحدوده معلوم ـ أي: أنّه لا شكّ في سعة دائرة التكليف وضيقه ـ ويتمحّض الشكّ في الامتثال، فيطبّق على ذلك ما مضى من ضابط موارد البراءة والاشتغال في الشبهات الموضوعيّة من أنّه إذا كان الحكم بدليّاً جرت أصالة


لا تكون مجموعيّة ـ أي: ليست في مجموع أفراد متعلّق النهي ـ فالغالب كونها ثابتة في الجميع بنحو الانحلال لا في أحد الأفراد على سبيل البدل، فهذا لا يغني عن النكتة الاُولى، فيجب أوّلاً إثبات شموليّة النهي بالنكتة الاُولى ثُمّ إثبات انحلاله بهذه النكتة. أمّا إذا قصد بذلك أنّ الغالب في المفسدة هو الانحلاليّة في مقابل المجموعيّة والبدليّة معاً، فهذا مغن عن النكتة الاُولى كما هو واضح.

(1) ويظهر أيضاً في المقام فيما مضى من مثال عرضيّة الأفراد إذا فرض أنّ نكتة الفرق الثاني لا تأتي فيه، أو في فرض أنّها تأتي بالصيغة التي ذكرها اُستاذنا في الدورة المتأخّرة في بحث النواهي، وفرض أنّها لا تغني عن نكتة الفرق الأوّل كما هو الحال على احتمال مضى بيانه في التعليق السابق.

465

الاشتغال، وإذا كان شموليّاً جرت أصالة البراءة(1).

القسم الثالث: أن يجعل متعلّق الحكم جميع الأفراد بنحو العامّ الاستغراقيّ، فينحلّ ـ لا محالة ـ كلّ من الأمر والنهي، وتجري البراءة في الفرد المشكوك في كلّ من جانبي الأمر والنهي.

القسم الرابع: أن يجعل متعلّق الحكم مجموع الأفراد بنحو العموم المجموعيّ، فلا ينحلّ الأمر ولا النهي، وإذا شكّ في فرد جرت البراءة بالنسبة إليه في جانب الأمر، وهذا شكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. والتحقيق فيه جريان البراءة، كما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله.

وأمّا في جانب النهي فيجوز ارتكاب الفرد المقطوع فضلاً عن الفرد المشكوك، فإنّ المحرّم إنّما هو إتيان مجموع الأفراد.

نعم، يقع الكلام في أنّه إذا حرم مثلاً عليه إكرام مجموع الفسّاق، ولنفترض أنّهم منحصرون في تسعة معلومي الفسق وعاشر مشكوك الفسق، فهل يجوز له إكرام التسعة مع ترك إكرام العاشر اعتماداً على أصالة البراءة؛ إذ لا يقطع بحرمة ذلك؛ لأنّه على تقدير كون العاشر فاسقاً يكون إكرام هؤلاء التسعة فقط جائزاً، أو لا؟ هذا أيضاً تحقيقه مرتبط بباب الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ الشكّ هنا أيضاً شكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، فإنّ إكرام التسعة حرام إمّا بحدّه التسعيّ، أو في ضمن العشرة، كما أنّ في باب الوجوب يقال: إنّ الأجزاء التسعة واجبة إمّا بحدّها، أو في ضمن العشرة، غاية الأمر أنّ ما فيه المؤونة الزائدة في



(1) قد يقال: إنّ أصالة البراءة عن الفرد المشكوك تعارض أصالة البراءة عمّا يأتي به بعد هذا الفرد المشكوك من فرد مقطوع به؛ للعلم الإجماليّ بحرمة أحدهما؛ إذ لو لم يكن الفرد المشكوك فرداً حقيقيّاً فسيكون ما بعده هو الوجود الأوّل الحرام.

466

جانب الوجوب هو فرض كون الوجوب على الأكثر، وفي جانب الحرمة هو فرض كون الحرمة على الأقلّ، ففي الوجوب تجري البراءة في جانب الأكثر، وفي جانب الحرمة لعلّه تجري البراءة في جانب الأقلّ. وتحقيق جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في طرف الحرمة كما تجري في طرف الوجوب وعدمه، وثبوت الملازمة بينهما وعدمه موكول إلى بحث الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

القسم الخامس: أن يجعل متعلّق الحكم شيء آخر يتحصّل من الطبيعة إمّا من مجموع أفرادها، أو من أحد أفرادها، وعندئذ إن فرض الأمر المتحصّل اعتباريّاً منطبقاً على نفس الأفراد رجع ذلك إلى حكم تعلّق الحكم بتلك الأفراد رأساً، على ما يأتي في باب الشكّ في المحصّل إن شاء الله، فرجع في النتيجة إلى الأقسام السابقة، وإلاّ فلا مجال للبراءة في المقام؛ لأنّ الشكّ شكّ في المحصّل مع معلوميّة أصل التكليف، وكما يصدق هذا الكلام في طرف الوجوب كذلك يصدق في طرف الحرمة، فلدى الشكّ في المحصّل في جانب الحرمة أيضاً لابدّ من الاحتياط. والسرّ في ذلك: أنّ الشكّ ليس في حرمة الموجود بهذا العمل حتّى تجري البراءة، بل الشكّ في وجود الحرام المعلوم بهذا العمل، وهذا عبارة اُخرى عن عدم الامتثال القطعيّ للحرمة المعلومة بحدودها، وهذا لا يكون مجرىً للبراءة ويكون ممّا يستقلّ العقل بقبحه والمنع عنه.

 

حالة تعلّق الحكم بالترك:

المقام الثاني: في فرض أخذ الترك متعلّقاً للحكم وجوباً أو تحريماً.

ولا يقال: إنّ الترك أمر عدميّ فلا يكون منشأً لأمر وجوديّ من مصلحة أو مفسدة حتّى يقع متعلّقاً للأمر أو النهي.

فإنّه يقال: إنّه قد يكون الفعل مانعاً عن حصول مصلحة، فلا محالة يكون الترك محبوباً؛ لكونه مقدّمة لحصول المصلحة على حدّ مقدّميّة عدم المانع للمعلول،

467

وليس الفعل عندئذ مبغوضاً إلاّ بنحو مبغوضيّة نقيض المطلوب، وقد يكون الفعل مانعاً عن حصول مفسدة، فيكون تركه مبغوضاً عند فرض وجود المقتضي، أو فرض احتياط المولى من جانب المقتضي ـ أي: العمل باحتمال وجوده احتياطاً ـ فيكون الترك مبغوضاً، لكونه موجباً للمفسدة على حدّ موجبيّة عدم المانع للمعلول، ولا يكون الفعل عندئذ محبوباً إلاّ بنحو محبوبيّة نقيض المبغوض.

هذا، وفي جانب الترك يأتي جميع ما ذكرناه من الأقسام، فقد يتعلّق الحكم بترك الطبيعة، واُخرى بترك الوجود الأوّل... وما إلى ذلك من الأقسام. والكلام فيها عين الكلام فيها في جانب الفعل، إلاّ في القسم الأوّل،فهنا نخصّ القسم الأوّل بالذكر فنقول:

إذا تعلّق الحكم بترك الطبيعة ثبت الفارق الأوّل بين الأمر والنهي، ولكنّه معاكس له في فرض تعلّق الحكم بالفعل، فالأمر هنا قائم مقام النهي هناك؛ لأنّه تعلّق بالترك، ولا تترك الطبيعة إلاّ بترك تمام أفرادها، والنهي هنا قائم مقام الأمر هناك؛ لأنّه تعلّق بالترك، وترك الترك مساوق للفعل وإيجاد الطبيعة، والطبيعة توجد بوجود فرد واحد منها.

وأمّا ما أبديناه من الفارق الثاني ـ وهو أنّ تعلّق النهي بالطبيعة يستلزم الانحلال بخلاف الأمر ـ فلا يجري هنا، فلا يقال: إنّ تعلّق الأمر بترك الطبيعة يستلزم الانحلال. والسرّ في ذلك: أنّ الأمر يكشف عن المصلحة، ومن المحتمل قيام المصلحة بمجموع التروك، وعندئذ ـ لا محالة ـ يطلب المولى مجموع التروك، وهذا بخلاف جانب المفسدة، فإنّها إذا تعلّقت بالمجموع لم يكن المبغوض للمولى إلاّ الفرد الأخير، وبكلمة اُخرى: إنّ وجود المصلحة يتوقّف على وجود جميع أجزاء علّته، فيتعلّق طلب المولى بجميع أجزاء علّته، وعدم المفسدة لا يتوقّف إلاّ على عدم الجزء الأخير من العلّة، فالجزء الأخير من العلّة هو الذي يتركّز فيه التحريك المولويّ نحو إعدامه ومبغوضيّة المولى إيّاه.

468

 

البراءة في المستحبّات

التنبيه الرابع: في البراءة في المستحبّات.

أمّا البراءة العقليّة: فلا معنى لجريانها فيها حتّى على القول بصحّتها في نفسها، فإنّها تنفي العقاب، ولا عقاب في المستحبّات.

وأمّا البراءة الشرعيّة: فذكر السيّد الاُستاذ(1) ناظراً في كلامه إلى حديث الرفع: أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في أصل الاستحباب الاستقلاليّ؛ إذ معنى جريان البراءة فيه هو نفي استحباب الاحتياط بالنسبة له، كما أنّ معنى جريان البراءة في الواجبات هو نفي وجوب الاحتياط بالنسبة لها، ومن المعلوم أنّه لا يمكن نفي استحباب الاحتياط بالبراءة، فإنّ جعل استحباب الاحتياط مقطوع به ومسلّم به عند الطائفتين، نعم، تجري البراءة عند الشكّ في الاستحباب الضمنيّ ـ أي: الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للمستحبّ ـ وذلك استطراقاً إلى جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بالعمل المطلق وعدم لزوم التشريع من ذلك، وبكلمة اُخرى: إنّ هذا الجزء وإن لم يكن متّصفاً بالوجوب النفسيّ لكنّه متّصف بالوجوب الشرطيّ، وهذا المقدار من الوجوب يصحّ رفعه ظاهراً.

أقول: يرد على الشقّ الأوّل من كلامه ـ وهو منع جريان البراءة عن الاستحباب الاستقلاليّ ـ: أنّه لا مانع من إجراء البراءة عنه ونفي استحباب الاحتياط، ولا نسلّم كون استحباب الاحتياط أمراً جزميّاً لا يمكن نفيه بذلك، فإنّ الوجه في جزميّة استحبابه إن كان هو أخبار الاحتياط فهي بقرائن في أنفسها لا تشمل المستحبّات، فمثلاً أخبار التثليث التي تقول: «حلال بيّن وحرام بيّن



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 270 ـ 271.

469

وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات، ومن ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات...» كيف يحتمل شمولها للمستحبّات؟ اللّهمّ إلاّ أن يستفاد ذلك ممّا نقله الشيخ الأعظم(قدس سره)عن كتاب الشهيد عن الإمام(عليه السلام) مرسلاً من أنّه: (ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط)، أو ممّا نقله ابن الشيخ الطوسيّ في أماليه عن والده(قدس سرهما) عن مجاهيل عن الإمام(عليه السلام)من أنّه: (أخوك دينك فاحتط لدينك) وهما ساقطان سنداً.

وإن كان هو أخبار (مَن بلغ) فمفادها احتمالاً عندنا وجزماً عند السيّد الاُستاذ هو الاستحباب النفسيّ الثابت للعنوان الثانويّ وهو البلاغ(1)،ولم يحتمل ما احتملناه من كونه استحباباً طريقيّاً من قبيل استحباب الاحتياط. ومن المعلوم أنّه لا منافاة بين الاستحباب النفسيّ بعنوان البلوغ وعدم استحباب الاحتياط.

ويرد على الشقّ الثاني من كلامه: أنّه بعد تسليم عدم جريان البراءة في الشكّ في الاستحباب الاستقلاليّ لابدّ من اختيار عدم جريانها أيضاً في الشكّ في الاستحباب الضمنيّ؛ لعدم تماميّة ما ذكره من التقريبين في مقام بيان الفرق.

أمّا التقريب الأوّل ـ وهو كون إجراء البراءة استطراقاً إلى الإتيان بالباقي بقصد الأمر ـ: فيرد عليه: أنّه إن اُريد بذلك إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر بواسطة إثبات الإطلاق بالبراءة عن القيد فسيأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه أنّ البراءة عن القيد لا تثبت الإطلاق إلاّ تعويلاً على الأصل المثبت، وإن اُريد بذلك إثبات جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر لا بواسطة إثبات الإطلاق، بل بإجزاء البراءة ابتداءً عن نفس احتمال حرمة الإتيان بقصد الأمر الناشئ من احتمال عدم



(1) مضى أنّ هذا هو مختار السيّد الخوئيّ(رحمه الله) بحسب ما في الدراسات، أمّا في المصباح فقد اختار دلالة الأخبار على الإرشاد.

470

الأمر، ففيه: أنّ الشكّ في الأمر كاف في القطع بالحرمة، فإنّ إسناد الشيء إلى المولى مع الشكّ قسم من التشريع المحرّم أيضاً.

وأمّا التقريب الثاني ـ وهو إجراء البراءة عن الوجوب الشرطيّ ـ: فيرد عليه: أنّه إن كان المقصود بذلك نفي الوجوب بواسطة إثبات الإطلاق، ففيه ما عرفت من أنّ إثبات الإطلاق بالبراءة عن القيد تعويل على الأصل المثبت. وإن كان المقصود بذلك إجراء البراءة ابتداءً عن الوجوب الشرطيّ ففيه: أنّ الوجوب الشرطيّ ليس عبارة عن بعث أو زجر حتّى تجري البراءة عن ذلك.

471

الاُصول العمليّة

3

 

 

أصالة التخيير

 

(دوران الأمر بين المحذورين)

 

○ فرض عدم تكرّر الواقعة في التوصّليّين.

○ فرض عدم تكرّر الواقعة في صورة التعبّديّة.

○ فرض تكرّر الواقعة في التوصّليّين.

○ فرض تكرّر الواقعة في صورة التعبّديّة.

 

 

473

 

 

 

 

 

 

 

إذا علمنا إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته فإمّا أن يفرض أنّهما توصّليّان، أو أنّ أحدهما تعبّديّ، وأيضاً إمّا أنّ الواقعة واقعة شخصيّةٌ لا تتكرّر، أو أنّها واقعة مكرّرة. فالكلام يقع في مقامات:

 

فرض عدم تكرّر الواقعة في التوصّليّين:

المقام الأوّل: في فرض عدم تكرار الواقعة مع كونهما توصّليّين.

والمفروض أنّنا نعلم إجمالاً بتكليف إلزاميّ ونحتمل احتمالين، احتمال الوجوب، واحتمال الحرمة. أمّا العلم فلا قصور فيه من ناحية البيانيّة؛ إذ من الواضح أنّ العلم أرقى البيانات، ولكنّه قام برهان على استحالة تأثير هذا العلم في التنجيز ـ أي: في إدخال شيء في دائرة حقّ المولويّة ـ وذلك البرهان عبارة عن أنّه هل يفرض تنجيزه لوجوب الموافقة القطعيّة، أو يفرض تنجيزه لحرمة المخالفة القطعيّة، أو يفرض تنجيزه لأحد الطرفين معيّناً؟

فإن فرض الأوّل قلنا: إنّ الموافقة القطعيّة هنا مستحيلة، فكيف تتنجّز على العبد؟

وإن فرض الثاني قلنا: إنّ المخالفة القطعيّة مستحيلة، فكيف يتنجّز تركها على العبد؟

474

وإن فرض الثالث قلنا: إنّ نسبة العلم إلى الطرفين على حدّ سواء، فتأثيره في تنجيز أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وهذا البرهان ـ في الحقيقة ـ مركّب من حكمين عقليّين: أحدهما استحالة التنجّز وثبوت حقّ المولويّة فيما هو خارج عن القدرة، وهذا يبطل الاحتمال الأوّل والثاني، والآخر استحالة الترجيح بلا مرجّح، وهذا يبطل الاحتمال الثالث. هذا هو حال العلم، وحاصله: أنّه لا يعقل فيه اقتضاء التنجيز بأيّ وجه من الوجوه.

وأمّا كلّ واحد من الاحتمالين فتارةً يلحظ بما هو طرف من أطراف العلم الإجماليّ ـ أي: بما هو يستمدّ تنجيزه من تنجيز العلم الإجماليّ ـ واُخرى يلحظ بما هو هو:

فإن لوحظ ما هو طرف للعلم الإجماليّ فقد عرفت الحال فيه، فإنّ هذا العلم لم يكن يقتضي التنجيز حتّى يستمدّ هذا الاحتمال تنجيزهُ منه. وإن لوحظ مستقلاًّ، فإن أنكرنا مبدأ البراءة العقليّة، وقلنا بمبدأ منجّزيّة الاحتمال، فهنا كلّ واحد من الاحتمالين لو خلّي ونفسه يقتضي التنجيز؛ لعدم لزوم الترجيح بلا مرجّح؛ إذ كلّ احتمال إنّما ينجّز متعلّقه، لكن هنا يقع التزاحم بين المقتضيين للتنجيز، وتأثيرهما معاً مستحيل، وتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وإن قلنا بمبدأ البراءة العقليّة فعندئذ يثبت عدم التنجّز بوجهين طوليّين:

أحدهما: أنّ الاحتمال في نفسه لا يقتضي التنجيز.

ثانيهما: أنّه لو سلّمنا اقتضاءه للتنجيز فهنا يتزاحم المقتضيان، ويستحيل تأثيرهما معاً، وتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

وممّا ذكرناه ظهر ما في كلام الأصحاب حيث ذكر بعضهم: أنّه تجري البراءة العقليّة في الطرفين، وذكر بعض آخر: أنّه لا تجري البراءة العقليّة، وإنّما الثابت هنا التخيير العقليّ، فلعلّ الأوّل كان مقصوده النظر إلى الاحتمال بما هو احتمال فأثبت البراءة العقليّة، والثاني كان مقصوده النظر إلى الاحتمال بما هو طرف للعلم

475

الإجماليّ فأنكر البراءة العقليّة وذكر التخيير العقليّ، هذا كلّه في البراءة العقليّة.

وأمّا البراءة الشرعيّة فالصحيح ـ وفاقاً للمحقّق العراقيّ والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)وخلافاً للسيّد الاُستاذ ـ عدم جريانها فيما نحن فيه.

وقد أفاد المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في وجه عدم جريان البراءة(1): أنّه لا يمكن أن تجري إلاّ في المرتبة المتأخّرة عن سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز؛ إذ تنجيزه يمنع عن البراءة، وسقوطه عن التنجيز إنّما يكون بملاك مرخّصيّة المضطرّ ومعذوريّة المُلجَأ واستحالة وجوب غير المقدور، ولا معنى للبراءة في طول المرخّصيّة والعذر.

وهذا الكلام ممّا لا يمكن المساعدة عليه، فإنّ البراءة الجارية في المرتبة المتأخّرة عن سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز ـ سواء أراد بها البراءة العقليّة، أو أراد بها البراءة الشرعيّة ـ تنفي غير ما نفيناه في المرتبة السابقة بإبطال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فإنّه بعد أن أبطلنا منجّزيّة العلم الإجماليّ باستحالة التنجيز لغير المقدور والترجيح بلا مرجّح بقي احتمال منجّزيّة كلّ واحد من الاحتمالين في نفسه، إمّا ذاتاً، وهذا ما تنفيه البراءة العقليّة، وإمّا من باب جعل الشارع الاحتياط، وهذا ما تنفيه البراءة الشرعيّة. وقد ظهر بذلك أنّه لا مانع ثبوتاً من جريان البراءة الشرعيّة فيما نحن فيه.

نعم، أدلّة البراءة قاصرة إثباتاً عن إفادة البراءة فيما نحن فيه؛ لأنّ صورة جريان البراءة المستفادة من أدلّة البراءة تغاير صورة جريان البراءة المتصوّرة في المقام، كما يتّضح ذلك بالالتفات إلى هاتين الصورتين:

أمّا صورة البراءة الممكن جريانها في المقام فتتّضح بالالتفات إلى ما مضى منّا



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 293. وراجع المقالات، ج 2، ص 83.

476

في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، من أنّ حقيقة الحكم الظاهريّ عبارةعن تقديم جانب أحد الغرضين المتزاحمين في عالم المحرّكيّة على الآخر، وبيان نتيجة التزاحم، فإذا اشتبه الواجب أو الحرام بالمباح مثلاً، فقد يحكم ظاهراً بالوجوب أو الحرمة، تقديماً لمصلحة الحكم الإلزاميّ، وقد يحكم ظاهراً بالإباحة تقديماً لمصلحة التسهيل وجعل العبد مطلق العنان، وبعد الالتفات إلى ذلك نقول: إنّه فيما نحن فيه ليس التزاحم بين مصلحة الإلزام ومصلحة الترخيص، وإنّما التزاحم بين مصلحتين إلزاميّتين، فإن فرض رجحان جانب الوجوب عند التزاحم ـ فلا محالة ـ يجعل الحكم الظاهريّ في صالح الوجوب، وإن فرض رجحان جانب الحرمة جعل الحكم الظاهريّ في صالح الحرمة، وإن فرض تساويهما لم يلزم المولى في عالم الظاهر عبده بأحد الجانبين، بل يرخّصه ويطلق عنانه، فظهر أنّ البراءة المتصوّرة في المقام قائمة على أساس تساوي المتزاحمين الإلزاميّين، لا على أساس مصلحة التسهيل، وتقديم جانب التسهيل في الشريعة على جانب الإلزام.

وأمّا صورة البراءة المستفادة من أدلّة البراءة فالظاهر من أدلّتها جعل البراءة بملاك التسهيل، وتقديم جانب التسهيل في الشريعة على جانب الإلزام، ففي حديث الرفع ـ الذي هو أهمّ أدلّة البراءة ـ امتُنّ على العباد بجعل هذا التسهيل، وقد عرفت أنّ البراءة المتصوّرة في المقام ليست قائمة على هذا الأساس، فأدلّة البراءة قاصرة عن إثباتها.

إن قلت: إنّ أدلّة البراءة وإن كانت لا تدلّ بمدلولها الحرفيّ على البراءة فيما نحن فيه إلاّ أنّها تدلّ بالدلالة الالتزاميّة على البراءة هنا؛ إذ لو فرض أنّ الحرمة عند تزاحمها مع مجرّد الترخيص والإباحة لا يتحفّظ المولى عليها، ويجعل البراءة

477

عنها، فكيف يحتمل أنّه عند تزاحمها مع الوجوب يتحفّظ المولى عليها؟ وكذلك إذا فرض أنّ الوجوب عند تزاحمه مع مجرّد الترخيص والإباحة لا يتحفّظ المولى عليه، ويجعل البراءة عنه، فكيف يحتمل إنّه عند تزاحمه مع الحرمة يتحفّظ المولى عليه؟ فظهر من ذلك أنّ المولى فيما نحن فيه لا يتحفّظ لا على جانب الوجوب ولا على جانب الحرمة، بل يجعل البراءة والترخيص.

قلت: ظهر ممّا مضى أنّ جعل المولى للبراءة في قبال الشبهات الوجوبيّة والشبهات التحريميّة دليل على أنّ مصلحة الترخيص في المباحات أهمّ من المصلحة الإلزاميّة في الواجب والحرام، فاندكاك كلّ من الوجوب أو الحرمة في قبال هذا الأمر الأهمّ لا يستلزم اندكاك كلّ واحد منهما في قبال الآخر، فقد يندكّ الشيء في قبال الأهمّ ولا يندكّ في قبال المهمّ(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا البيان بطوله مبتن على القول بأنّ التزاحم بين الملاكات الواقعيّة الإلزاميّة والترخيصيّة الذي أوجب البراءة لتقديم جانب التسهيل إنّما هو عبارة عن التزاحم بين ملاك الإلزام في الإلزاميّات وملاك الترخيص في الترخيصيّات، الذي هو غير مفروض الوجود في الإلزاميّات.

أمّا إذا قلنا: إنّ ملاك التسهيل موجود في تمام الاُمور حتّى فيما قطع فيه بالإلزام، إلاّ أنّ هذا الملاك في مورد القطع بالإلزام مزاحم بملاك الإلزام، ويكون ملاك الإلزام أقوى منه، ولذا نرى أنّ الشارع جعل الحكم الواقعيّ فيه عبارة عن الإلزام لا الترخيص، وفي مورد الشكّ في الإلزام تضعف محرّكيّة ملاك الإلزام، باعتباره ملاكاً احتماليّاً ومزاحماً بملاك قطعيّ، وهو ملاك التسهيل، ولهذا جعل الشارع في المقام البراءة، فهذا البيان بعينه يأتي في مورد دوران الأمر بين المحذورين، بل يتمّ في المقام بطريق أولى؛ إذ لو كانت مصلحة التسهيل مقدّمة على مصلحة الإلزام الاحتماليّة غير المبتلاة بالمزاحمة ـ لاحتمال الإلزام بالنقيض ـ فكيف لا تتقدّم على ما هو مبتلىً بذلك؟

478

فتحصّل: أنّ البراءة الشرعيّة غير جارية في المقام، لمحذور إثباتيّ.

وفصّل السيّد الاُستاذ(1) بين حديث الرفع وحديث (كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام)، فاختار أنّ الأوّل وإن كان شاملاً لما نحن فيه إلاّ أنّ الثاني غير شامل له؛ لمحذور ثبوتيّ وهو عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهريّ الذي هو الشكّ؛ إذ الحلّيّة ـ التي هي عنوان يستخلص من الترخيص في جانب الترك والترخيص في جانب الفعل ـ ممّا نقطع بخلافها، للعلم بأنّ هذا الأمر إمّا واجب أو حرام. وعلى أيّ حال لا يكون حلالاً، ومع العلم بعدم الحلّيّة كيف يعقل جعل الحلّيّة ظاهراً؟ وهذا بخلاف حديث الرفع فإنّه ينفي كلاًّ من الوجوب والحرمة مستقلاًّ، ونفي كلّ واحد منهم محتمل الصدق، غاية الأمر أنّنا نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، وهذا العلم الإجماليّ لا يوجب تعارض البراءتين وعدم جريانهما؛ إذ المفروض أنّه غير منجّز.

أقول: إنّ هذا الكلام مبنيّ على أنّ موضوع الحكم الظاهريّ عبارة عن الشكّ في حكم واقعيّ مماثل للحكم الظاهريّ، وهذا غير صحيح، كما يظهر بالتأمّل فيما نقّحناه في حقيقة الحكم الظاهريّ. وبيان ذلك: أنّنا يجب أن نرجع إلى نكتة موضوعيّة الشكّ للحكم الظاهريّ، ويظهر من الالتفات إلى حقيقة الحكم الظاهريّ بالنحو الذي بيّنّاه: أنّ نكتة ذلك هي أنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن إعمال الترجيح عند مزاحمة الغرضين في عالم المحرّكيّة، ومع عدم الشكّ لا تعقل مزاحمتهما في عالم المحرّكيّة، وبهذا تعرف أنّ موضوع الحكم الظاهريّ ليس هو الشكّ في حكم واقعيّ مماثل له، وإنّما موضوعه الشكّ بنحو يوجب تزاحم الغرضين في المحرّكيّة، ومن المعلوم أنّ هذا ثابت فيما نحن فيه، فليس في المقام إشكال ثبوتيّ.



(1) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 332.