390

في حال الشكّ وعدمه، فيبرز عدم مطلوبيّة الاحتياط ولو استحباباً، وثالثة يفرض اهتمامه به بدرجة استحباب الاحتياط، وعندئذ يبرز استحباب الاحتياط. وفائدة هذا الإبراز هي المنع عن أن يصل إلى العبد عدم مطلوبيّة الاحتياط وصولاً جزميّاً من باب الاشتباه فلا يبقى له محرّك بالنسبة للاحتياط، أو وصولاً احتماليّاً فيضعف تحريكه بالنسبة للاحتياط.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: عدم محذور في جعل استحباب الاحتياط، وقد مضى استظهار الاستحباب الطريقيّ للاحتياط من الأخبار. نعم، يظهر من بعض الأخبار الاستحباب النفسيّ كقوله: «مَن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومَن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك»، فإنّ هذا يدلّ على أنّ ملاك ترك شرب التتن المحتمل حرمته مثلاً، هو حصول ترك المحرّمات وأن لا يقع بالتدريج في ارتكاب المحرّمات القطعيّة، لا التحرّز عن الحرمة الواقعيّة لشرب التتن، ولا بأس بالالتزام بكلا الاستحبابين لكلتا الطائفتين من الأخبار لو صحّت أسانيد تلك الأخبار.

 

2 ـ تصوير الاحتياط في العبادات

وأمّا المقام الثاني ـ وهو البحث الصغرويّ ـ: فقد وقع الإشكال في تصوير الاحتياط في العبادات بعد الفراغ عن تصويره في المعاملات من ناحية أنّ الاحتياط لابدّ فيه من حصول الغرض المقصود من الواقع المحتاط لأجله، والغرض في باب العبادات لا يحصل إلاّ مع قصد الأمر، وقصد الأمر مع الشكّ فيه لا يمكن إلاّ بالتشريع الفعليّ، ولا فرق في حرمة التشريع الذي هو إسناد ما لا يعلم أنّه من المولى إلى المولى بين التشريع القولي بأن يسند بالقول شيئاً إلى المولى لا يعلم أنّه منه والتشريع الفعليّ بأن يعمل عملاً بقصد أنّه مأمور به من قِبل المولى وهو لا يعلم بذلك، وبهذه الحرمة تبطل العبادة. هذا هو التصوير الابتدائيّ للإشكال.

391

وتحقيق الحال: أنّه تتصوّر فقهيّاً في المقام فروض ثلاثة:

1 ـ أن يكفي في صحّة العبادة مطلق الداعي القربي بما فيه داعي الأمر الاحتماليّ.

2 ـ أن يشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزميّ المتعلّق بذات العمل ابتداءً.

3 ـ أن يشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزميّ، سواء كان متعلّقاً بذات العمل ابتداءً، أو بعنوان الاحتياط.

أمّا على الفرض الأوّل: فلا مجال لتوهّم الإشكال في المقام؛ إذ إتيان العمل بداعي احتمال الأمر بمكان من الإمكان من دون تشريع، ولا يشترط القصد الجزميّ للأمر حتّى يلزم التشريع عند عدم العلم به، فلا مورد لتوهّم الإشكال هنا أصلاً بلا فرق في ذلك بين فرض كون الحاكم بلزوم قصد الأمر هو العقل، لاستحالة أخذه في المتعلّق وفرض كونه مأخوداً في المتعلّق، فإنّ قصد الأمر الاحتماليّ ممكن من دون أثر لسنخ الحاكم بلزوم ذلك في المقام. وهذا الفرض الأوّل هو الصحيح كبرىً وصغرىً:

أمّا الكبرى: فتنقيحها موكول إلى الفقه، وهي أنّه لا يحتمل فقهيّاً اشتراط أزيد من مطلق الداعي القربيّ في باب العبادات.

وأمّا الصغرى: فلما مضى في محلّه من أنّ الانبعاث من الصورة الاحتماليّة لأمر المولى أيضاً تقرّب إلى المولى؛ وذلك لأنّ الانبعاث من ذلك مظهر للإخلاص ذاتاً لا جعلاً حتّى نحتاج إلى دليل على الجعل، وكلّ ما هو مظهر للإخلاص للمولى يوجب التقرّب إلى المولى ذاتاً أيضاً، ولم ينازع أحد في كون الانبعاث من الأمر الاحتماليّ تقرّباً إليه تعالى. نعم، ذهب بعض كالمحقّق النائينيّ(قدس سره) إلى أنّ هذا التقرّب في طول التقرّب بالأمر الجزميّ، أي: أنّه مع التمكّن من التقرّب بقصد الأمر الجزميّ لا يمكن التقرّب بقصد الأمر الاحتماليّ، وبعض آخر كالشيخ

392

الأعظم(رحمه الله)إلى عدم كفاية هذا التقرّب مع التمكّن من التقرّب بالأمر الجزميّ. وعلى أيّ حال فلا إشكال فيما نحن فيه؛ إذ المفروض عدم إمكان قصد الأمر الجزميّ.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا إشكال في الاحتياط في العبادات أصلاً، والإنصاف أنّه لولا جريان الإشكال على قلم الشيخ الأعظم(قدس سره)لم يكن داع للتكلّم في هذا البحث أصلاً، إلاّ أنّه جرى على قلمه(رحمه الله)فبقي هذا البحث في علم الاُصول.

وأمّا على الفرض الثاني: فلا مجال لتوهّم عدم الإشكال في الاحتياط في العبادات؛ إذ المفروض اشتراط قصد الأمر الجزميّ في المقام، ولا أمر جزميّ هنا، ولا يكفي الأمر الجزميّ بالاحتياط؛ لأنّ المفروض اشتراط قصد الأمر الجزميّ بذات العمل ابتداءً، وعليه فيتقيّد ـ لا محالة ـ دليل وجوب تلك العبادة بغير صورة الشكّ؛ إذ تشترط في التكليف القدرة، والشكّ هنا مساوق لعدم القدرة، ولا يفرّق أيضاً على هذا الفرض بين القول بأخذ قصد الأمر في متعلّقه، والقول بكون الحاكم به هو العقل، فإنّه لا أمر جزميّ هنا متعلّق بذات العمل ابتداءً حتّى يمكن قصده بلا أثر لاختلاف طبيعة الحاكم بلزوم هذا القصد في ذلك.

وأمّا على الفرض الثالث: فيمكن أن يقال بإمكان الاحتياط نظراً إلى وجود الأمر الجزميّ بالاحتياط، والمفروض كفاية قصد طبيعيّ الأمر الجزميّ، فيقصد الأمر الجزميّ المتعلّق بالاحتياط.

ولكن قد يقال ببطلان الاحتياط في المقام، وأنّ الأمر الجزميّ المتعلّق بالاحتياط لا يصحّح الاحتياط؛ إذ هو عارض على الاحتياط، فتقوّم الاحتياط به يوجب الدور أو ما يشبه الدور، وبكلمة اُخرى يجب تصحيح الاحتياط في الرتبة السابقة على الأمر كي يعرض عليه الأمر.

393

والتحقيق في المقام: أنّ الأمر بالاحتياط تارةً يفرض نفسيّاً، واُخرى يفرض طريقيّاً:

فإن فرض الأمر بالاحتياط نفسيّاً: قلنا: إنّ المبنى في بحث التعبّديّ والتوصّليّ إمّا هو استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، وأنّ الحاكم بلزوم قصد الأمر إنّما هو العقل، أو عدم استحالته، وأنّ قصد الأمر داخل تحت الخطاب.

فإن كان المبنى هو الأوّل: فقد يقال في المقام: إنّ الأمر بالاحتياط هنا غير معقول؛ إذ هذا الأمر إمّا أن يفرض تعلّقه بذات العمل، أو يفرض تعلّقه بالعمل بقصد الأمر. فإن فرض الأوّل كان خلفاً؛ إذ ذات العمل بلا قصد الأمر لا يترتّب عليه الغرض حتّى يتحقّق الاحتياط. وإن فرض الثاني لزم أخذ قصد الأمر في متعلّقه، وبكلمة اُخرى: إنّ الاحتياط أصبح مقيّداً بقصد الأمر، فهو ينحلّ إلى ذات العمل وتقيّده بقصد الأمر، فالأمر به يكون محالاً؛ لأنّه يلزم من ذلك أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

ولكنّ هذا مدفوع بأنّنا نختار الشق الأوّل، ولا يرد عليه إشكال. وتوضيحه: أنّ قصد الأمر بالاحتياط وإن كان المفروض استحالة أخذه في متعلّقه لكنّ ذلك الأمر الواقعيّ الذي يحتاط لأجله أيضاً يستحيل أخذ قصده في متعلّقه، فمتعلّق الأمر العباديّ الواقعيّ هو ذات العمل، وحيث إنّ الاحتياط يكون بلحاظ متعلّق الأمر الواقعيّ يكون متعلّق الأمر به أيضاً ذات العمل المحتمل وجوبه، وكما أنّه في الأمر الأوّل بالرغم من تعلّقه بذات العمل عرفنا لزوم قصد الأمر في العمل بحكم العقل من باب تحصيل الغرض، كذلك في الأمر الثاني عرفنا لزوم قصد الأمر بالاحتياط في الاحتياط بحكم العقل من باب تحصيل الغرض. وبهذا يبطل أيضاً التعبير عن الإشكال بأنّ الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فلا يتقوّم الاحتياط به، فإنّ متعلّقه الذي عرض هذا الأمر عليه عبارة عن نفس العمل، لا العمل بقصد الأمر حتّى يلزم تقوّمه بهذا الأمر.

394

وإن كان المبنى في بحث التعبّديّ والتوصّليّ هو الثاني ـ أعني: كون قصد الأمر تحت الخطاب مأخوذاً في متعلّق الأمر ـ: فلا إشكال أيضاً في الاحتياط فيما نحن فيه؛ إذ ليس فيه محذور وراء الإشكالات التي تورد على قصد الأمر في متعلّقه من أنّه يلزم تقوّم المتعلّق الذي هو معروض للأمر بذلك الأمر ونحو ذلك، والمفروض حلّ الإشكالات والبناء على جواز أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

هذا، والصحيح في بحث التعبّديّ والتوصّليّ هو إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّقه(1)، وما مضى هنا من أنّ الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فكيف يتقوّم الاحتياط به؟ هو بنفسه إشكال يتكلّم عنه في بحث التعبّديّ والتوصّليّ، حيث يقال: إنّ قصد الأمر إن اُخذ في متعلّق الأمر الذي هو معروض للأمر ومتقدّم عليه لزم تقوّم هذا المتعلّق بعارضه وتأخّره عنه رتبة، وهذا الإشكال لا محصّل له؛ إذ نقول فيما نحن فيه مثلاً: إنّه إذا توقّفت صحّة الاحتياط على الأمر به فهل يدّعى أنّه يلزم من ذلك تأخّر الوجود الذهنيّ للاحتياط في اُفق التشريع رتبة من الأمر به، أو يدّعى أنّه يلزم من ذلك تأخّر الوجود الخارجيّ للاحتياط رتبة من الأمر به، أو يدّعى أنّه يلزم تأخّر إمكان الاحتياط رتبة من الأمر به؟

فإن ادّعي الأوّل: فذلك واضح البطلان؛ إذ الوجود الذهنيّ للاحتياط غير متوقّف على تحقّق الأمر وغير متأخّر عنه، والأمر يتعلّق به بحسب اُفق النفس، فيكون مقدّماً على ذلك الأمر في اُفق النفس رتبة من دون أن يلزم تأخّر في المقام أصلاً.



(1) ولو إثباتاً.

395

وإن ادّعي الثاني: فلا مانع من أن يتأخّر الاحتياط الخارجيّ رتبة من الأمر به، بل كلّما أوجب بشيء تحرّك العبد نحو ذلك الشيء وإتيانه به، كان ذلك العمل الخارجيّ متأخّراً عن الأمر به ومسبّباً عنه.

وإن ادّعي الثالث: فعليه تكون للدور صورة في المقام؛ إذ يقال: إنّ القدرة على الاحتياط متوقّفة على فعليّة الأمر؛ لأنّ المفروض أنّه يشترط فيه قصد الأمر، وفعليّة الأمر متوقّفة على القدرة على الاحتياط توقّف المشروط على شرطه وفعليّة الحكم على موضوعه، فيلزم الدور، وهذا بنفسه أحد ألوان الإشكال في مبحث أخذ قصد الأمر في متعلّقه.

والجواب: أنّ اشتراط الأمر بالقدرة على المتعلّق إنّما هو بحكم العقل، وحكم العقل في المقام يكون بملاك أنّه مع عدم القدرة يستحيل التحريك، فيكون الأمر لغواً حينئذ، وبحسب الحقيقة يكون الأمر مشروطاً بقابليّته للتحريك، وقابليّته للتحريك إنّما هي موقوفة على القدرة من غير ناحية الأمر ـ أي: أنّ المانع من الأمر ليس هو طبيعيّ العجز، بل تلك الحصّة من العجز التي لا ترتفع بالأمر ـ ولذا لو كان نفس توجّه الأمر بالمشي إلى المشلول مؤثّراً تكويناً في برء شلله لم يكن مجال لتوهّم بطلان هذا الأمر أصلاً.

وإن فرض الأمر بالاحتياط طريقيّاً: فصحّة الاحتياط هنا وعدمها تتوقّف على فهم ما هو المراد من لزوم قصد الأمر الجزميّ. فإن كان المقصود الأمر الحقيقيّ الجزميّ فهنا ليس لنا أمر جزميّ؛ إذ أمر ذات العبادة مشكوك، والأمر بالاحتياط طريقيّ روحه وجوهره هو الأمر بذات العبادة المفروض كونه مشكوكاً. وإن كان المقصود مطلق الأمر الجزميّ ـ ولو كان طريقيّاً ـ لا يوجد له مبادئ في متعلّقه، فهذا الأمر ثابت هنا فيصحّ الاحتياط بلحاظه.

هذا ما يقتضيه تحقيق الكلام في المقام الثاني.

396

 

مفاد أخبار (مَن بلغ)

وفي نهاية هذا التنبيه وتعقيباً على ما عرفته من المقامين نبحث هنا عن مفاد أخبار (مَن بلغ)، حيث إنّها تنظر إلى العمل برجاء موافقة الواقع في فرض الشكّ في الحكم، فيناسب البحث عنها في هذا التنبيه، فنقول:

قد وردت روايات عديدة بمضمون: (إنّ من بلغه شيء من الخير والثواب فعمله كان له ذلك الثواب وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).

 

1 ـ تصوير مفادها ثبوتاً:

ونذكر بدواً في تصوير مفاد هذه الروايات احتمالات أربعة:

1 ـ كون المقصود منها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط والانبعاث من المطلوبيّة الاحتماليّة، حيث إنّ مفروض الأخبار هو العمل برجاء المطابقة. أمّا فيما صرّح منها برجاء الثواب فواضح، وأمّا فيما لم يصرّح منها بذلك فيستفاد ذلك من (الفاء) في قوله: (فعمله).

2 ـ كون المقصود جعل استحباب نفسيّ موضوعه البلوغ.

3 ـ كون المقصود منها جعل الحجّيّة للخبر الضعيف في المستحبّات، وهذا هو المناسب لتعبير التسامح في أدلّة السنن.

4 ـ كون المقصود مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد بإعطاء ذلك الثواب، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء لا محالة.

والفرق بين هذه الاحتمالات الأربعة واضح، فعلى الأخير تشتمل الأخبار على مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد، في حين أنّه على باقي الاحتمالات تكون تلك الأخبار بداعي الحثّ والترغيب الناشئ من ملاك في نفس العمل.

397

ويفترق الاحتمال الأوّل عن الثاني والثالث بأنّه على الأوّل يكون الترغيب صادراً من الشارع بما هو عاقل لا بما هو مولىً، وعلى الثاني والثالث يكون صادراً عنه بما هو مولىً. وأمّا الفرق بين الثاني والثالث فهو أنّ الترغيب في الثاني يكون بملاك نفسيّ بعنوان البلوغ في نفس هذا العمل وإن كان الخبر مخالفاً للواقع، وفي الثالث يكون طريقيّاً وبملاك العمل بالواقع. وبكلمة اُخرى: أنّ الحكم في الثاني حكم واقعيّ لعنوان ثانويّ، وفي الثالث حكم ظاهريّ لعنوان أوّليّ.

ولكن يوجد في رسالة منسوبة إلى الشيخ الأعظم(قدس سره) مؤلّفة في بحث قاعدة التسامح في أدلّة السنن الإشكال في تصوير الفرق بين الوجه الثاني والثالث، وذلك باعتبار أنّ الحكم الظاهريّ لمّا كان عبارة عن جعل الحكم المماثل فمرجع الوجه الثالث إلى قضيّة شرطيّة شرطها بلوغ الثواب وجزاؤها حكم مماثل لما أدّاه الخبر، والحكم المماثل لما أدّاه الخبر عبارة عن الاستحباب الذي هو الوجه الثاني، فأيّ فرق بينهما؟ نعم، إذا كان الحكم الظاهريّ عبارة عن شيء آخر غير الحكم المماثل، كالتنجيز والتعذير وتتميم الكشف ونحو ذلك فهو يفترق عن جعل الاستحباب.

وسواء كان هذا الكلام صادراً من الشيخ الأعظم(قدس سره)، أو لا فهذا كلام يناسب الذوق الاُصوليّ العامّ في تصوير الحكم الظاهريّ من كونه عبارة عن أحد هذه الاُمور من جعل الحكم المماثل، أو التنجيز والتعذير، أو تتميم الكشف، ونحو ذلك. وأمّا على المختار من أنّ هذه كلّها ألسنة مختلفة وألوان من الكلام تكشف عن شيء واحد وهو اهتمام المولى ببعض الأغراض دون بعض عند تزاحمها، فالفرق بين الوجه الثاني والثالث في غاية الوضوح؛ إذ في الوجه الثاني يكون الاستحباب نفسيّاً ناشئاً من ملاك في ذات العمل بما ينطبق عليه من العنوان الثانويّ، وفي الوجه الثالث يكون الاستحباب طريقيّاً وبداعي الاهتمام بالملاك الموجود في

398

المستحبّات الواقعيّة من دون أن يفرض في نفس هذا العمل بعنوان البلوغ أيّ ملاكومطلوبيّة. هذا بناءً على ما هو المختار في الفرق بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فنفس ذاك الفرق المختار طبّقناه في المقام لتوضيح الفرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث. وأمّا على القول بأنّ الحكم الظاهريّ عبارة عن جعل الحكم المماثل فأيضاً نقول: إنّ أيّ شيء يفترضه صاحب هذا القول فارقاً بين هذا الحكم المماثل الظاهريّ والحكم الواقعيّ يمكن افتراضه في المقام.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الوجه الثاني والثالث يختلف أحدهما عن الآخر ذاتاً.

نعم، أنكر السيّد الاُستاذ وجود ثمرة فقهيّة بينهما؛ إذ على أيّة حال يفتي الفقيه بالاستحباب إمّا لعنوان البلوغ وجداناً، أو لهذا الخبر الضعيف الذي ثبتت حجّيّته تعبّداً، فلا فرق بينهما فيما يهمّ الفقيه، ثمّ ذكر السيّد الاُستاذ: أنّ بعض المحقّقين حاول إبراز الفرق بينهما بأنّه إن ورد خبر ضعيف يدلّ على استحباب شيء كالمشي بعد الطعام مثلاً، وورد خبر صحيح يدلّ على حرمته، فعلى الثالث يكون الخبر الضعيف حجّة ومعارضاً للخبر الصحيح، وعلى الثاني ليس الأمر كذلك، بل يكون الفعل بعنوانه الأوّليّ حراماً وبعنوان بلوغ استحبابه مستحبّاً، فيدخل ذلك في باب تزاحم الملاكين والمقتضيين للحكم لا في باب التعارض. وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّ أخبار (مَن بلغ) لا تشمل فرض بلوغ الثواب في مورد بلغ العقاب فيه أيضاً، فمثل هذا الفرض خارج عن أخبار (مَن بلغ) رأساً.

 

ثمرات الفرق بين الحجّيّة والاستحباب النفسيّ:

أقول: تظهر بين الوجهين ثمرات عديدة:

الاُولى: أنّه في بعض الفروض يتحقّق التعارض بناءً على الوجه الثالث بخلاف الوجه الثاني، ونذكر تحت هذا العنوان موردين:

1 ـ أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب شيء وخبر صحيح على عدم استحبابه

399

بعنوانه الأوّليّ، فعلى الثالث أصبح الخبر الضعيف حجّة ومعارضاً للخبر الصحيح وتساقطا، فلم يثبت الاستحباب، وعلى الثاني لم يصبح الخبر الضعيف حجّة، وإنّما ثبت استحباب العمل بالعنوان الثانويّ وهو البلوغ، فيحكم بأنّ هذا العمل بعنوانه الأوّليّ ليس مستحبّاً، وبعنوانه الثانويّ مستحبّ، ومثل هذا ما لو دلّ خبر ضعيف على وجوب شيء وخبر صحيح على عدم وجوبه بالعنوان الأوّليّ، فعلى الثالث يتعارضان بناءً على شمول أخبار (مَن بلغ) لما يدلّ على الوجوب، فإنّه إن فرض أنّه بهذا يثبت الوجوب فهذا معارض للخبر الصحيح الدالّ على عدم الوجوب، وإن فرض أنّه بهذا يثبت جامع الطلب، فجامع الطلب القابل للانطباق على الوجوب لا يمكن إثباته لدلالة الخبر الصحيح على عدم الوجوب، والجامع غير القابل للانطباق على الوجوب وهو المساوق للاستحباب لم يدلّ عليه هذا الخبر الضعيف، وعلى الثاني لا يتعارضان، بل يحكم بعدم وجوب ذلك العمل بالعنوان الأوّليّ واستحبابه بالعنوان الثانويّ.

2 ـ أن يدلّ خبر ضعيف على استحباب شيء وخبر ضعيف آخر على استحباب شيء آخر، وعلمنا إجمالاً بكذب أحدهما، فعلى الثاني يلتزم باستحباب كلا الأمرين بالعنوان الثانويّ، وعلى الثالث يتعارضان، فإنّه وإن لم يكن بينهما تعارض ذاتيّ ـ كما لو دلّ أحدهما على استحباب شيء والآخر على استحباب تركه ـ لكن يوجد بينهما تعارض اتّفاقيّ ويتساقطان بواسطة العلم الإجماليّ بكذب أحدهما. هذا بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)من أنّ العلم الإجماليّ بالكذب يوجب التعارض الاتّفاقيّ بملاك استحالة جعل الكشف والطريقيّة لأمرين نعلم بأنّ أحدهما مُظلم وكاذب.

وأمّا على مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ وهو المختار ـ من أنّ ملاك التعارض

400

والتساقط في ذلك إنّما هو منافاة الدلالة الالتزاميّة لكلّ منهما الثابتة ببركة العلم الإجماليّ للدلالة المطابقيّة للآخر، فتتساقط كلّ من الدلالتين الالتزاميّتين مع الدلالة المطابقيّة للاُخرى بالتعارض الذاتيّ، فيمكن أن يقال هنا: إنّ أخبار (مَن بلغ) لم تشمل الدلالة الالتزاميّة وإنّما أثبتت الحجّيّة لبلوغ الثواب في أيّ واحد منهما لا لنفي الآخر، فلا تعارض بينهما.

الثانية: أنّ في بعض الفروض يثبت التعارض على كلا الوجهين، لكن يختلف مركز التعارض باختلافهما، وبالتالي تختلف كيفيّة إعمال قوانين باب التعارض، مثاله: أنّنا فرضنا ورود خبر صحيح يدلّ على أنّ ما يوجب الإضرار بالنفس لا يكون مستحبّاً ولو بعنوان ثانويّ، وورود خبر ضعيف يدلّ على استحباب اللطم في عزاء الحسين(عليه السلام)، ونفترض أنّ اللطم أمر مضرّ، فعلى الثالث يقع التعارض بين هذين الخبرين، ويقدّم الثاني على الأوّل بالأخصّيّة، وأخبار (مَن بلغ) ليست طرفاً للمعارضة مع الخبر الصحيح النافي للاستحباب، وإنّما هي دليل على حجّيّة ما يعارضه من الخبر المثبت للاستحباب، ولا منافاة بين عدم استحباب شيء واقعاً وحجّيّة ما دلّ على استحبابه، وعلى الثاني يصبح ما دلّ على عدم استحباب المضرّ بأيّ عنوان من العناوين معارضاً لنفس أخبار (مَن بلغ) الدالّة على استحباب اللطم بعنوان البلوغ، وتعارضهما يكون بالعموم من وجه ويتساقطان.

الثالثة: أنّ بعض أقسام الخبر الضعيف تشمله أخبار (مَن بلغ) على الوجه الثاني، ويثبت بذلك الاستحباب، وأمّا على الوجه الثالث، فإمّا أن يثبت بذلك الوجوب أو لا تشمله أخبار (مَن بلغ) رأساً، وذلك فيما لو دلّ خبر ضعيف على وجوب شيء فإنّه على الثاني يثبت الاستحباب له بعنوان البلوغ، وأمّا على الثالث فشأن أخبار (مَن بلغ) أن يجعل هذا الخبر حجّة، فإن قلنا بأنّه يمكن لأخبار (مَن بلغ) أن يثبت الوجوب فهذا الخبر يصبح حجّة ويثبت به الوجوب، وإن قلنا بأنّها تقصر

401

عن إثبات أزيد من الثواب والاستحباب وجامع المطلوبيّة فهذا الخبر لا تشمله أخبار (مَن بلغ) لا بلحاظ دلالته المطابقيّة من الوجوب؛ إذ هو خلف، ولا بلحاظ دلالته الالتزاميّة من الثواب وجامع الطلب، وذلك على مبنى السيّد الاُستاذ ـ الذي هو المنكر للثمرة في المقام ـ من أنّه يستحيل انفكاك الدلالة الالتزاميّة عن المطابقيّة في الحجّيّة بأن لا تكون المطابقيّة حجّة، ومع ذلك تكون الالتزاميّة حجّة. نعم، على ما هو الصحيح من إمكان التفكيك يمكن الالتزام هنا بثبوت الثواب وجامع المطلوبيّة.

الرابعة: أنّ في بعض الموارد يتعدّد الاستحباب على الثاني بخلافه على الثالث، كما لو دلّ خبر ضعيف على استحباب المشي بعد الطعام مثلاً، ودلّ خبر ضعيف آخر على استحباب المشي في الثوب الأبيض بعد الطعام، بحيث كان هذا الخبر ناظراً إلى تقييد دائرة متعلّق نفس الاستحباب الأوّل لا إلى استحباب مستقلّ عن الاستحباب الأوّل، فبناءً على الوجه الثاني يثبت استحبابان على عنوانين بعنوان البلوغ: أحدهما المشي بعد الطعام، والثاني المشي في الثوب الأبيض بعد الطعام. وكذا إذا فرض الخبران صحيحين، أو فرض أحدهما صحيحاً والآخر ضعيفاً.

وأمّا بناءً على الوجه الثالث ففي بعض الصور لا يثبت في المقام استحبابان، وتوضيحه: أنّه إمّا نفرض الخبر المقيّد صحيحاً والخبر المطلق ضعيفاً، أو بالعكس، أو نفرضهما ضعيفين:

أمّا على الأوّل: فالخبر المقيّد الذي هو حجّة في نفسه يقيّد ـ لا محالة ـ الخبر المطلق الذي صار حجّة ببركة أخبار (مَن بلغ) فلا يثبت إلاّ استحباب واحد، وهو استحباب المشي في الثوب الأبيض لا مطلق المشي.

وأمّا على الثاني: فإن فرض أنّ أخبار (مَن بلغ) تجعل الخبر حجّة بجميع خصوصيّاته، فصار الخبر المقيّد كأنّه خبر صحيح فأيضاً يقيّد ذلك المطلق، ولا

402

يثبت إلاّ استحباب واحد، وإن فرض أنّها إنّما تعطي الحجّيّة بمقدار ثبوت الاستحباب لا أزيد من ذلك فعندئذ نقول: إنّ إطلاق المطلق ينفي ـ لا محالة ـ استحباب المقيّد بما هو مقيّد؛ إذ المفروض أنّهما ينظران إلى استحباب واحد، فإن فرض أنّ ظهور المقيّد أقوى من ظهور المطلق(1) في نفي المقيّد قدّم عليه، وثبت أيضاً استحباب واحد(2)، وإن فرض تساويهما تساقطا، وثبت أيضاً استحباب واحد.

وأمّا على الثالث: فإن فرض أنّ أخبار (مَن بلغ) تجعل الخبر حجّة بجميع خصوصيّاته، فالمقيّد يقيّد المطلق لا محالة ويثبت استحباب واحد، وإلاّ ثبت استحبابان ظاهريّان وإن علم بكذب أحدهما.

الخامسة: أنّه في بعض الموارد يجري الاستصحاب على الوجه الثالث بخلافه على الوجه الثاني، مثاله: ما لو دلّ خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المجلس، وكان مقدار دلالته هو ما قبل الزوال من باب القصور في الدلالة من دون أن يدلّ على نفي الاستحباب فيما بعد الزوال، فبناءً على الوجه الثاني يكون الاستحباب ثابتاً بعنوان البلوغ، وهذا الاستحباب منتف قطعاً بعد الزوال بانتفاء البلوغ فلا مجال للاستحباب، وبناءً على الوجه الثالث يكون الاستحباب ثابتاً



(1) لعلّ المقصود أنّ تقديم المقيّد على المطلق إن كان بنكتة القرينيّة فقد سقطت بسقوط دلالته الالتزاميّة على نفي المطلق، حيث إنّ المفروض عدم حجّيّة هذه الدلالة الالتزاميّة، وإن كان بنكتة الأقوائيّة فهي موجودة في المقام.

(2) إنّما قدّم المدلول المطابقيّ للمقيّد على المدلول الالتزاميّ للمطلق وهو نفي المقيّد لا على المدلول المطابقيّ للمطلق لعدم تعارض بينهما، فيثبت ظاهراً الاستحبابان رغم العلم الإجماليّ بكذب أحدهما.

403

للجلوس في المسجد بعنوانه الأوّليّ، وهذا الاستحباب محتمل الثبوت بعد الظهر وإن لم يعلم ثبوته لأجل القصور في عالم الدلالة، فهنا يأتي دور استصحاب الاستحباب بناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام الاستحبابيّة.

السادسة: ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في تنبيهات أخبار (مَن بلغ) من أنّه بناءً على الحجّيّة يحكم الفقيه بالاستحباب حتّى لمقلّديه وإن لم يتحقّق البلوغ بالنسبة للمقلّدين. وبناءً على الاستحباب النفسيّ بعنوان البلوغ لابدّ من تحقّق البلوغ للمقلّدين أيضاً حتّى يتحقّق الاستحباب بالنسبة لهم.

ولعلّه بالتأمّل توجد ثمرات اُخرى أيضاً غير هذه الثمرات.

 

2 ـ تحقيق مفادها إثباتاً:

ولنشرع بعد هذا في بيان ما هو الصحيح من هذه الاحتمالات الأربعة في أخبار (مَن بلغ)، فنقول:

أمّا احتمال الإرشاد فلا نتكلّم عنه مستقلاًّ، بل نتكلّم عمّا عداه، فإن وجدت قرينة على ما عداه اُخذ به، وإلاّ فنفس الإجمال يكفي في صالح نتيجة فرض الإرشاد؛ إذ لا يثبت عندئذ لنا شيء عدا الحكم العقليّ كما هو الحال في فرض الإرشاد.

وأمّا احتمال جعل الحجّيّة فقد أفاد المحقّق العراقيّ(قدس سره)(1)، والسيّد الاُستاذ(2)وغيرهما(3) في تفنيده أنّ جعل الحجّيّة والكشف عن الواقع ينافيه قول: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 278.

(2) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 319.

(3) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 208.

404

أقول: إنّ هذا الكلام بصورته البدائيّة يورد عليه بسهولة بأنّ حديث (مَن بلغ) ليس بلسان فرض الكشف عن الواقع حتّى ينافي ذلك قوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يقله)، فيحتاج هذا الكلام إلى شيء من التنقيح والتشريح، وذلك بأن يقال: إنّ حديث (مَن بلغ) إنّما دلّ بدلالته المطابقيّة على ملازمة بين البلوغ والثواب، والوجه في دلالته على الحجّيّة هو أن يقال: إنّ الثواب مترتّب على الأمر، فيدلّ الحديث بالالتزام على ملازمة اُخرى في رتبة أسبق من هذه الملازمة وهي الملازمة بين البلوغ والأمر، وعندئذ نقول: إنّ الملازمة بين البلوغ والأمر إمّا تكوينيّ، أو عنائيّ.

أمّا دعوى الملازمة التكوينيّة في المقام فكذب محض، فلابدّ أن يكون المقصود هو الملازمة العنائيّة، ودعوى مطابقة البلوغ للواقع مبالغة، وذلك كناية عن الحجّيّة، ومن الواضح أنّ دعوى المطابقة والملازمة بنحو المبالغة والعناية ينافيها فرض عدم المطابقة بقوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله).

والتحقيق مع ذلك: أنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل، فإنّ جعل الاستحباب الطريقيّ في المقام يتصوّر بنحوين:

الأوّل: أن يكون ذلك بجعل الحجّيّة والكاشفيّة على حدّ حجّيّة خبر الثقة، وذلك بالتقريب الذي عرفت.

والثاني: أن يكون ذلك من قبيل جعل وجوب الاحتياط، وذلك بتقريب أنّ المولى ـ لأجل اهتمامه بأغراضه في الأخبار الدالّة على الاستحباب المطابقة للواقع ـ أراد أن يحثّ على العمل بكلّ خبر دلّ على استحباب شيء، تحفّظاً على أغراضه الثابتة في الأخبار المطابقة للواقع، نظير التحفّظ على الواقع المعلوم بالإجمال أو المحتمل بالإجمال بالاحتياط في جميع الأطراف، فحثّ على العمل بكلّ خبر دالّ على استحباب شيء بجعل ثواب عليه كي يكون الربح لدى العبد

405

قطعيّاً، فتشتدّ رغبته في العمل بذلك. وما مضى من الإشكال إنّما يبطل الوجه الأوّل من هذين الوجهين دون الثاني، فإلى الآن لم يظهر مفنّد لهذا الاحتمال، فلنرَ بعد هذا أنّه هل توجد قرينة على احتمال آخر في قبال هذا الاحتمال فيبطل بذلك هذا الاحتمال أو لا؟

وأمّا الاستحباب النفسيّ فيوجد هنا تقريب يثبت الجامع بينه وبين الاستحباب الطريقيّ، وهو ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) واحتمله المحقّق العراقيّ(قدس سره)، وكلام المحقّق العراقيّ هنا مجمل من حيث إنّه هل كان مقصوده إثبات الاستحباب النفسيّ بذلك، أو الجامع بين الاستحباب النفسيّ والحجّيّة(2). وأمّا كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)فصريح في أنّ هذا التقريب لو خلّي ونفسه لا يثبت إلاّ الجامع بينهما، وذلك التقريب هو حمل قوله في هذه الأخبار: (فعمله) على إرادة الأمر. وتوضيح ذلك: أنّه وإن لم يوجد في أخبار (البلوغ) الأمر بصيغته أو مادّته، لكنّ الجملة الخبريّة في كلام الشارع ظاهرة في كونها بداعي الأمر كقوله: (سجد سجدتي السهو)، فقوله في هذه الأخبار: (فعمله) وإن كان جملة خبريّة، لكنّه يحمل على إرادة الأمر، وبعد استفادة الأمر من ذلك نقول: إنّ الأمر في لسان المولى ظاهر في المولويّة، وحمله على الإرشاد خلاف الظاهر ما لم تقم قرينة عليه، فيثبت بذلك الأمر المولويّ بالعمل بالخبر البالغ، وهو أعمّ من كونه نفسيّاً أو طريقيّاً، فثبت بهذا الجامع بين الحجّيّة والاستحباب النفسيّ.

أقول: إنّ هذا من غرائبهم(رحمهم الله)، فإنّ قوله: (فعمله) قد وقع شرطاً فسقط عن



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 150.

(2) كلامه في نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 277 واضح في إرادة الاستحباب النفسيّ.

406

إفادة أمر يصحّ السكوت عليه، وليس إخباراً ولا إنشاءً، نظير أن يقال: (مَن أجنب فليغتسل)، أفهل يُفهم من ذلك الأمر بالإجناب، وهل يتوهّم أحد أنّ هذا إخبار بالإجناب فيحمل على داعي الإنشاء؟ نعم، لو كان جزاء للشرط صحّت استفادة الأمر منه، فلو قال: (مَن بلغه ثواب عمل به) استفيد من ذلك أنّ من بلغه ثواب فليعمل به، لكن ليس الأمر كذلك.

 

إثبات الاستحباب النفسيّ:

وهنا تقريبان لإثبات خصوص الاستحباب النفسيّ من أخبار (مَن بلغ):

التقريب الأوّل: ما في الدراسات(1) من أنّ احتمال الإرشاد منفيّ بظهور أخبار (مَن بلغ) في كونها في مقام التحريض والترغيب في العمل، واحتمال جعل الحجّيّة منفيّ بمنافاة ذلك لقوله: (وإن كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يقله)، فينحصر الأمر في الاستحباب النفسيّ.

ويرد عليه:

أوّلاً: منع انحصار الأمر في الاستحباب النفسيّ بعد إبطال الإرشاد والحجّيّة، لما عرفت من أنّ ذيل الحديث لا ينافي جعل الحكم الطريقيّ على مستوى الحكم بالاحتياط، وإن كان ينافي جعل الحجّيّة من قبيل حجّيّة خبر الثقة، فيبقى احتمال الحكم الطريقيّ على هذا المستوى.

وثانياً: أنّ ظهور الأخبار في الترغيب إنّما يدفع الاحتمال الرابع الذي كان عبارة عن مجرّد الوعد لملاك في نفس الوعد، ولا يدفع الاحتمال الأوّل، وهو الإرشاد، فإنّ الترغيب ثابت فيه أيضاً كما في الاحتمال الثاني والثالث، إلاّ أنّ



(1) ج 3، ص 189.

407

الترغيب بناءً على الإرشاد ترغيب من الشارع بما هو عاقل، وعلى الاحتمالينالآخرين ترغيب منه بما هو شارع ومولىً.

نعم، لو قال بدلاً عمّا مضى: إنّ ترغيب الشارع ظاهر في كونه ترغيباً منه بما هو شارع كان هذا شيئاً معقولاً كما سيأتي إن شاء الله.

التقريب الثاني: هو التقريب المشهور في المقام، وهو عبارة عن تطبيق كلام عامّ في جميع موارد ترتيب الثواب على شيء على ما نحن فيه، وذلك الكلام العامّ عبارة عن أنّه مهما رتّب ثواب على عمل فقيل: (مَن فعل كذا كان له كذا وكذا من الثواب) كان ذلك دليلاً على مطلوبيّة ذلك العمل واستحبابه؛ وذلك لأنّ الثواب يستلزم الأمر ويترتّب عليه بعد فرض أنّه لا يترتّب الثواب على شيء جزافاً، فنستكشف من ترتيب الثواب على هذا العمل كونه مأموراً به بقانون الدلالة الالتزاميّة العقليّة، والبرهان الإنّىّ، وكشف الملزوم عن لازمه.

فطبّق هذا الكلام العامّ على ما نحن فيه حيث إنّه رتّب فيه الثواب على العمل بما بلغ الثواب عليه، فيدلّ على استحباب ذلك وتعلّق الأمر به.

واُورِد عليه: بأنّ هناك فرقاً بين ما نحن فيه وسائر الموارد، وهو أنّه لم يكن يوجد في سائر الموارد ملاك آخر للثواب غير الأمر، وهنا يوجد ملاك آخر له وهو الانقياد.

واُجيب على ذلك: بأنّ إطلاق أخبار (مَن بلغ) يشمل فرض العمل بما بلغه الثواب عليه وإن لم يأتِ برجاء المطابقة وداعي الانقياد، وفي فرض عدم إتيانه بهذا النحو لا يوجد ملاك الانقياد.

ومن هنا وقع البحث بين المحقّقين كالمحقّق الخراسانيّ والمحقّق الإصفهانيّ والمحقّق العراقيّ والسيّد الاُستاذ في أنّه هل يشمل إطلاق أخبار (مَن بلغ) صورة الإتيان لا بداعي الانقياد والرجاء حتّى يصحّ الاستدلال بها على المقصود أو لا يشملها حتّى لا يصحّ ذلك؟

408

فذهب بعض كالمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) إلى شمول الإطلاق لذلك، فيتمّ هذا الاستدلال، وبعض آخر كالمحقّق العراقيّ(قدس سره)إلى عدم شموله له فلا يتمّ هذا الاستدلال، فقد اتّفقوا على نقطة وهي أنّه على تقدير شمول إطلاق الأخبار في ذاته لغير صورة الإتيان بداعي الرجاء يتمّ هذا الاستدلال بالأخبار، واختلفوا في نقطة اُخرى وهي أنّه هل يشمل إطلاق الأخبار فرض الإتيان لا بداعي الرجاء أو لا؟

أقول: أمّا النقطة الاُولى التي اتّفقوا عليها فهي غير صحيحة عندنا، ولنا حول هذه النقطة كلامان:

الكلام الأوّل: أنّ ما ذكروه من إثبات الأمر في موارد ترتّب الثواب على عمل بقانون الملازمة العقليّة بين الثواب والأمر وكشف الملزوم عن لازمه غير صحيح، فإنّ الثواب ليس ملازماً لواقع الأمر وإنّما هو ملازم للعلم بالأمر، فلو كان الأمر ثابتاً في الواقع والعبد يتخيّل عدم الأمر لا يترتّب أيّ ثواب على عمله، بل لو تخيّل النهي ترتّب العقاب عليه، ولو تخيّل العبد الأمر ولم يكن أمر ترتّب الثواب على عمله، فالثواب إنّما هو ملازم للعلم بالأمر لا لنفس الأمر، وعليه فنقول: هل المقصود إحراز نفس الأمر من ترتيب ثواب عمل على عمل بالملازمة، أو المقصود إحراز العلم بالأمر من ذلك؟ فإن كان المقصود هو الأوّل لم يصحّ؛ لأنّ نفس الأمر ليس طرفاً للملازمة، وإن كان المقصود هو الثاني لم يصحّ أيضاً؛ إذ لا معنى لأن نحرز من خبر ترتّب الثواب أنّنا عالمون بالأمر، بل نرجع ابتداءً إلى أنفسنا فنرى أنّنا غير عالمين بذلك في المرتبة السابقة على هذا الخبر فكيف يكشف هذا الخبر عن علمنا بذلك؟

وإنّما الصحيح في باب استكشاف الأمر من ترتيب الثواب على العمل أنّ ذلك يستفاد لأحد وجهين:

الأوّل: أن يفرض أنّ قوله: (مَن عمل كذا فله كذا) كناية عرفاً عن ثبوت الأمر،

409

نظير قولك: (زيد كثير الرماد) الذي هو كناية عن كونه كريماً، وتكفي في باب الكناية مناسبات عرفيّة تصحّح ذلك بلا حاجة إلى ثبوت الملازمة بالدقّة بينهما، كما أنّه لا ملازمة دقّيّة بين كثرة الرماد والكرم، فقد يكون كثير الرماد ولا يكون كريماً وبالعكس.

الثاني: أن يقال: إنّ قوله: (مَن عمل كذا فله كذا) يستبطن قيداً ارتكازيّاً، أي: مَن عمل كذا عارفاً بحكمه فله كذا، وعندئذ يستكشف الأمر على أساس الملازمة العقليّة، فإنّ صدق هذه القضيّة الشرطيّة مستلزم لكون حكمه هو المطلوبيّة.

وشيء من هذين الوجهين لا يأتيان فيما نحن فيه، فإنّ الأمر ليس هنا منحصراً في الكناية وتقدير كلمة (عارفاً بحكمه)، بل يتصوّر هنا تقدير آخر ليس بأشدّ من مؤونة الكناية ومؤونة هذا التقدير، وهو تقدير فرض الانقياد وداعي الرجاء، فإنّ هذا أيضاً تقدير عرفيّ ليس التقدير الأوّل أو الكناية بأولى منه.

الكلام الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عمّا مضى، وفرضنا أنّه في موارد ترتيب الثواب على عمل يستكشف الأمر بقانون الملازمة العقليّة بين الثواب والأمر قلنا مع ذلك: إنّ هذا لا ينطبق على ما نحن فيه.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارةً نفترض ـ لأجل الاستظهار من هذه الأخبار أو لجهة اُخرى كحكم العقل ـ أنّ الثواب المذكور في هذه الأخبار ليس ثواباً جزافيّاً، وإنّما هو ثواب استحقاقيّ، واُخرى نفرض عدم استبعاد كون ذلك ثواباً جزافيّاً، وبكلمة اُخرى: ثواباً تفضّليّاً، فإن فرض الثاني انغلق باب بحث استكشاف الأمر من هذا الثواب؛ إذ المفروض عدم استبعاد كون الثواب جزافاً وغير ناشئ من استحقاق بواسطة الأمر وغير ذلك، فلابدّ لفتح باب البحث في ذلك من فرض الأوّل، وهو أنّ الثواب لا يكون جزافيّاً، بل هو على أساس استحقاق العبد على مولاه بمعنىً من

410

معاني الاستحقاق، وعندئذ نقول: إنّ إطلاق قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله كان له ذلك الثواب) بعد فرض كون المراد به الثواب الاستحقاقيّ مقيّد عقلاً بصورة الإتيان بداع قربيّ؛ إذ الإتيان به لا بهذا الداعي لا يوجب الاستحقاق كما هو واضح، وبعد تقييد الإطلاق بهذا المقيّد المنفصل نقول: إنّ التمسّك بهذا المطلق عندئذ تمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد، ولا يجوز التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للمقيّد المنفصل أصلاً(1)، وفي باب العامّ لا يجوز التمسّك به في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل إلاّ في بعض موارد مستثناة، ولكن في باب المطلق(2) ليس لعدم الجواز استثناء أصلاً(3)، والوجه في كون التمسّك بالمطلق هناتمسّكاً في الشبهة المصداقيّة هو أنّ للعمل بما بلغه الثواب بداع قربيّ مصداقين: أحدهما مصداق قطعيّ، والآخر مصداق غير قطعيّ.

أمّا الأوّل فهو العمل بداعي الانقياد، وأمّا الثاني فهو العمل بداعي الأمر الموقوف على وجود الأمر، ومع عدمه يلزم التشريع، أو يكون ذلك أمراً غير معقول، والمفروض أنّه بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) نشكّ في وجود الأمر فنشكّ في هذا المصداق. هذا بعد تنزّلنا عن الإشكال الأوّل، وإلاّ فقد عرفت أنّ وجود الأمر واقعاً لا أثر له أصلاً.



(1) بل قد يقال: إنّ المقيّد هنا متّصل؛ لأنّ اشتراط استحقاق الثواب بالداعي القربيّ عقليّ ارتكازيّ كالمتّصل، ولكن قد يتّضح لك بمراجعة بحث العموم والخصوص أنّ المخصّص اللبّيّ الارتكازيّ يكون في خصوص مسألة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة كالمنفصل لا كالمتّصل.

(2) بمعنى ثبوت الحكم على الطبيعة لا للأفراد.

(3) مضى الوجه في ذلك من قِبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث العموم والخصوص فراجع.

411

وأمّا النقطة الثانية التي اختلفوا فيها وهي أنّه هل تكون أخبار (مَن بلغ) شاملة في ذاتها وبقطع النظر عمّا مضى لغير فرض الانقياد أو لا؟

فنقول: إنّ هذا موقوف على أن نرى أنّه هل توجد قرينة في أخبار (مَن بلغ) على تقييدها بفرض الانقياد أو لا؟

وما يذكر قرينة على الاختصاص بفرض الانقياد أمران:

الأوّل: فاء التفريع في قوله: (مَن بلغه ثواب فعمله)، حيث دلّ على كون العمل متفرّعاً على البلوغ.

والثاني: التصريح في بعض تلك الأخبار برجاء المطابقة فيحمل غيره عليه حملاً للمطلق على المقيّد.

أمّا القرينة الاُولى: فقد نوقشت باُمور:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) من أنّ البلوغ اُخذ بنحو الجهة التعليليّة لا بنحو الجهة التقييديّة كي يوجب وجهاً وعنواناً للعمل.

أقول: إنّ هذا الكلام لا يخلو من إجمال، فإن أراد(قدس سره) بذلك أنّه لمّا كان قيد البلوغ بنحو التعليل لا بنحو التقييد فالعمل يبقى على إطلاقه، ولا يختصّ بالحصّة الانقياديّة والمتفرّعة على البلوغ، فمن الواضح أنّه ليس الأمر كذلك، فإنّه بمجرّد أخذ البلوغ في جانب العمل لا محالة لا يبقى العمل ثابتاً على إطلاقه، بل تضيّق دائرته بذلك سواء فرض البلوغ جهة تعليليّة أو تقييديّة، فإنّ إطلاقه على أيّ حال خلف فرض التفرّع على البلوغ فيه.

وإن أراد بذلك أنّه وإن صار العمل مقيّداً بفرض التفرّع على البلوغ والحصّة



(1) راجع الكفاية، ج 2، ص 197 بحسب طبعة المشكينيّ. ومن المحتمل كون المقصود الحقيقيّ للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) الوجه الثالث أو الرابع.

412

الانقياديّة، لكنّ الثواب قد جعل على نفس هذا العمل المتفرّع على البلوغ والمنقادبه، ويكون البلوغ والانقياد جهة تعليليّة، ولم يجعل الثواب على الانقياد بأن يكون هذا العمل بما أنّه معنون بعنوان الانقياد ويكون الانقياد وجهاً له مثوباً عليه، فيثبت بذلك أنّ الرواية ليست إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الانقياد؛ لأنّ ثواب الانقياد في الحقيقة مترتّب على عنوان الانقياد لا على خصوص ذات الحصّة الانقياديّة من العمل بما هو هو، ورد عليه: أنّه إن صار البناء على هذا التدقيق فعلى فرض الاستحباب وكون العمل من باب الطاعة لا من باب الانقياد أيضاً نقول: إنّه ليس الثواب في الحقيقة مترتّباً على ذات العمل بما هو، بل مترتّب على عنوان الطاعة(1)، فعلى أيّ حال لا يعقل ترتّب الثواب على ذات العمل بما هو سواء فرض ذلك من باب الانقياد أو من باب الطاعة، فلا يكون ما ذكره قرينة على عدم الإرشاد إلى حسن الانقياد، بل يظهر ممّا عرفت أنّه لم يكن المقصود في أخبار (مَن بلغ) فرض العمل موضوعاً للثواب بهذا النحو من الدقّة، وإنّما العمل اُخذ فيها على وجه المورديّة للثواب، ولا ينافيه كون الثواب مترتّباً على عنوان الانقياد أو عنوان الطاعة.

الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(2)، وهو في الحقيقة ليس مناقشة في قرينيّة (الفاء) للاختصاص بفرض الانقياد، ولم يذكره هو(رحمه الله)بهذا الصدد، وإنّما هو دليل مستقلّ على أنّ أخبار (مَن بلغ) لا تنظر إلى حصّة الانقياد ولا تكون إرشاداً



(1) وذلك بعد استظهار كون الثواب استحقاقيّاً، وإلاّ لانسدّ باب استظهار الاستحباب.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

413

إلى حكم العقل، وفي مقام بيان ثواب الانقياد، وهذا الدليل مركّب من مقدّمتين:

1 ـ إنّ الخبر الضعيف المفروض دلالته على ترتّب ثواب على عمل ليس مفاده ترتّب الثواب على العمل بداعي الانقياد، وإنّما مفاده عبارة عن الثواب على نفس العمل.

2 ـ إنّ أخبار (مَن بلغ) قد نطقت بثبوت نفس الثواب الذي ذكر في ذلك الخبر الضعيف، وقد كان ذلك ثواباً على نفس العمل بحكم المقدّمة الاُولى، فيثبت بالجمع بين المقدّمتين أنّ أخبار (مَن بلغ) تثبت الثواب على نفس ذلك العمل.

ويرد عليه: أنّه ما هو المقصود بكون مفاد أخبار (مَن بلغ) هو ثبوت عين الثواب المذكور في الخبر الصحيح؟ فإن كان المقصود هو العينيّة من جميع الجهات فهو مفروض العدم على كلّ حال؛ إذ قد اُخذ ـ لا محالة ـ في أخبار (مَن بلغ) عنوان البلوغ سواء فرض بنحو الداعي للفعل والتقييديّة، أو فرض بنحو الموضوع للحكم بالاستحباب والتعليليّة، فعلى أيّ حال يكون للبلوغ دخل في شخص الثواب الموعود، في حين أنّه لم يكن دخيلاً في الثواب المذكور في الخبر الضعيف.

وإن كان المقصود كون الثواب الموعود في أخبار البلوغ عين الثواب المذكور في الخبر الضعيف كمّاً وكيفاً ـ أي: أنّه يعطى له نفس ما وعد إعطاؤه في الخبر الضعيف ـ فهذا صحيح، ولكنّه لا ينافي فرض كون الثواب على عنوان الانقياد لا على ذات العمل.

الثالث: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أيضاً(1)، وهو أنّ تفريع العمل على البلوغ لا يقتضي اختصاصه بالحصّة الانقياديّة؛ وذلك لأنّ تفريع العمل على شيء



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 221.

414

تارةً يكون من باب تفريعه على داعيه، كما تقول: (وجب عليّ كذا ففعلت)، حيث إنّ الوجوب داع للفعل، واُخرى يكون من باب تفريعه على موضوع داعيه، كما تقول: (دخل الوقت فصلّيت)، حيث إنّ الداعي إلى الفعل هو الأمر به ووجوبه، ويكون الوقت موضوعاً لذلك الأمر والوجوب، ففيما نحن فيه أيضاً نقول: تارةً يتفرّع العمل على البلوغ من باب تفريع الشيء على داعيه بأن يكون نفس هذا البلوغ داعياً إلى العمل، وهذا هو الحصّة الانقياديّة، واُخرى يتفرّع على البلوغ من باب تفرّع الشيء على موضوع داعيه بأن يكون الداعي إليه هو الاستحباب الذي يكون موضوعه البلوغ.

ويرد عليه: أنّه وإن كان الأمر كما ذكره ـ أي: أنّ تفرّع العمل على شيء يتصوّر له فردان ـ لكنّ الفرد الثاني لا يمكننا إحرازه بنفس أخبار (مَن بلغ)، وتوضيح ذلك: أنّ أخبار (مَن بلغ) جعلت العمل المتفرّع على البلوغ موضوعاً لترتّب الثواب، حيث قال: (مَن بلغه ثواب فعمله)، ففرّع العمل بالمعنى الحرفيّ على البلوغ، ولنقلب ـ لأجل التوضيح ـ المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ، فلنفترض أنّ الحديث هكذا: (العمل المتفرّع على البلوغ يترتّب عليه الثواب)، وعندئذ نقول: إنّ العمل المتفرّع على البلوغ له فردان: فرد يقينيّ وهو العمل الانقياديّ وبداعي البلوغ، وفرد مشكوك وهو العمل بداعي حكم البلوغ الذي هو الاستحباب، وهذا الفرد مشكوك بقطع النظر عن أخبار (مَن بلغ) بمشكوكيّة أصل الاستحباب، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إثبات ذلك بنفس هذه الأخبار بالتمسّك بإطلاقها، فإنّ ثبوت الإطلاق لها فرع ثبوت هذا الفرد، فكيف يثبت ذلك بالإطلاق؟ فذلك من قبيل أن يتمسّك بإطلاق قول: (أكرم العالم) في فرد شككنا في كونه عالماً زائداً على الأفراد المعلومة، وهذا غير ما مضى من الإشكال على النقطة الاُولى من لزوم التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة