399

الدليل العقليّ

2

 

 

 

القُصور في عالم الجعل

 

 

 

 

 

401

 

 

 

 

المرحلة الاُولى: مرحلة الجعل، وقد حمل المحقّق النائينىّ(رحمه الله) كلام الأخباريّين على دعوى القصور في هذه المرحلة، لابمعنى نفي حجّيّة كشف الحكم الشرعىّ عن طريق العقل؛ فإنّه لوكشف الحكم الشرعىّ عن طريقه، لم يمكن سلب حجّيّته عندئذ، بل بمعنى تقييد أصل الجعل عن طريق متمّم الجعل؛ فإنّ هذا بمكان من الإمكان، فكأنّ هذا حمل لكلام الأخباريّين على أمر ممكن، وإخراج له عن فرضيّة إسقاط القطع عن الحجّيّة الذي هو غير ممكن.

أقول: قد مضى منّا بيان إمكانيّة جعل العلم عن طريق ما ـ كالعلم عن طريق العقل ـ مانعاً بلاحاجة إلى متمّم الجعل، وكذلك يمكن جعل العلم عن طريق الشرع ـ مثلاً ـ شرطاً بمعنى أخذ العلم بالجعل شرطاً للمجعول بلا حاجة ـ أيضاً ـ إلى متمّم الجعل.

ولكنّه يقع الكلام هنا في أنّ هذا التقييد هل يفيد لردع من توصّل إلى حكم شرعىّ عن طريق العقل عن العمل بدليله العقلىّ؛ كي نستطيع أن نسند عدم جواز الاعتماد على الدليل العقلىّ إلى هذا التقييد، أو لا؟

والجواب: أنّ هذا غير ممكن؛ إذ لو تمّ لدى هذا الشخص الكشف، فهذا يعني:أنّه ـ مثلاً ـ اعتقد الحصول على العلّة التامّة للحكم، فاعتقد ـ مثلاً ـ أنّ ضرب اليتيم قبيح، وأنّ القبح العقلىّ علّة حتميّة للحرمة الشرعيّة، فلو قيل له: إنّ الحرمة الشرعيّة منتفية بشأنك باعتبار حصول العلم لك بها عن طريق العقل، لا يستطيع أن يصدّق بذلك؛ إذ هو مساوق عنده لانفكاك المعلول من علّته التامّة.

ولو لم يتمّ لديه الكشف؛ لعدم اعتقاده بالعلّيّة التامّة مثلاً، فبإمكانه التصديق بمانعيّة العلم العقلىّ عن الحكم: بأن يكون ما أدركه مقتضياً للحكم فحسب، قابلاً لاقترانه بهذا المانع، ولكن يكفي ـ عندئذ ـ لعدم حجّيّة دليله العقلىّ عدم تماميّة الكشف، وإضافة عدم الحجّيّة إلى تقييد الحكم بغير حالة العلم العقلىّ ليست إلّا إضافة تبرّعيّة، وعليه فتوجيه كلام الأخباريّين بهذا التفسير ليس حملاً لكلامهم على أمر ممكن(1).


(1) اللّهمّ، إلّا أن يكون مقصود الأخبارىّ إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّ ما اكتشفه الاُصولىّ ليس علّةتامّة للحكم؛ لأنّ نفس حصول العلم به عن طريق العقل مانع عن ثبوت الحكم، بأمل أن يلتفت الاُصولىّ إلى ذلك، فيزول علمه بالحكم وكشفه له.

403

الدليل العقليّ

3

 

 

القُصور في عالم الكشف

 

 

○ العقل النظرىّ.

○ العقل العملىّ.

 

 

 

405

 

 

 

 

المرحلة الثانية: مرحلة الاستكشاف، وعمدة(1) ما يوجد في المقام لتزييف مرحلة الكشف: هي القول بأنّنا نواجه كثيراً خطأ العقل في استنتاجاته، وهذا ما يسقطه عن الاعتبار، لا بمعنى سلب الحجّيّة عنه الذي يرجع إلى بحث المرحلة الثالثة، بل بمعنى عدم إمكان الاعتماد على طريق يكثر فيه الخطأ.

وهذا الكلام هو من سنخ كلام الفلاسفة الشكّاكين، لا من سنخ كلام الفلاسفة المادّيّين المنكرين للأدلّة العقليّة.

وتوضيح ذلك: أنّ الفلاسفة المادّيّين يرجع لبّ كلامهم إلى دعوى حصر مصدر المعرفة بالتجربة، لا إلى التشكيك في استنباط العقل على الإطلاق، فهم يقولون: إنّ المصدر الوحيد الذي يكون من حقّ العقل استقاء المعارف منه هو التجربة، وحتّى أبده البديهيّات، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، إنّما يعرف عن طريق التجربة التي مضت في عصر حياة الإنسانيّة ككلّ، أو تجربة الفرد الموجود من الإنسان بنفسه.

أمّا الفلاسفة الشكّاكون فهم يشكّكون في أصل إدراك العقل، سواء فرضناه مستمدّاً من التجربة، أو لا.

وكلام الأخباريّين في المقام يشبه هذا المدّعى دون مدّعى المادّيّين، فهم ينكرون أن يكون من حقّ العقل ـ مثلاً ـ درك وجوب مقدّمة الواجب ولو عن طريق التجربة: بأن نفترض إيقاع التجارب على أكبر عدد ممكن من أفراد الإنسان، فنعرف أنّ انقداح حبّ الشيء في النفس وإرادته يستلزم انقداح حبّ مقدّمته فيها وإرادتها.


(1) قد يكون مراد بعض الأخباريّين مجرّد إلفات نظر الاُصولىّ إلى أنّه لا ينبغي حصول الجزم بالأحكام الشرعيّة عن طريق العقل؛ لبعد مناشئها ـ وهي الملاكات ـ عن متناول العقل؛ وذلك بأمل أن يزول من الاُصولىّ جزمه بالحكم حينما يلتفت إلى هذا الكلام.

فإذا كان هذا هو مقصود الأخبارىّ، ينبغي لفت نظره إلى الموارد التي قد يكون الحكم فيها قريباً من متناول العقل، كما في الملازمات العقليّة، مثل: وجوب المقدّمة، أو تحريم ما قبّحه العقل، وتحبيذ ما حسّنه العقل.

406

هذا. ولا يفترق الحال ـ في مدى صحّة أو عدم صحّة شبهة الأخباريّين ـ بين القول بأنّ الأخطاء التي تقع في علوم البشريّة ترجع إلى زلّة قوّة واحدة في عملها واستنتاجها، أو القول بأنّها ترجع إلى الخلط بين القوى، بمعنى: أنّ كلّ قوّة من القوى لا تخطأ في عملها، ولكن بما أنّ جميع تلك القوى تمركزت في مصبّ واحد: وهو النفس يقع الخطأ من ناحية ما يصدر عن النفس من عمليّة التركيب وجعل المحمول المستنتج من إحدى القوى لموضوع مستنتج من قوّة اُخرى، فهذا الكلام سواء صحّ تماماً، أو في الجملة، أو لم يصحّ أصلاً: بأن افترضنا أنّ كلّ خطأ ينشأ من قوّة واحدة لا من الخلط بين القوى، فهذا لايؤثّر فيما نحن بصدده من دعوى أنّ كثرة الخطاء في الأدلّة العقليّة تمنع عن الاعتماد عليها.

وعلى أىّ حال، فالكلام في تحقيق حال هذه الشبهة ومدى صحّتها وبطلانها يقع في مقامين:

الأوّل: في العقل النظرىّ.

والثاني: في العقل العملىّ.

 

407

 

 

 

 

العقل النظرىّ

 

أمّا المقام الأوّل: وهو الكلام في العقل النظرىّ، فلا إشكال في كثرة الأخطاء الواقعة في العلوم المستنتجة من العقل النظرىّ، والمدّعى للأخباريّين بحسب الفرض ثبوت القصور لذلك في عالم استكشاف الحكم الشرعىّ منه.

ويرد على ذلك:

أوّلاً: النقض بالأحكام العقليّة الواقعة في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة ممّا يثبت به أصل حجّيّة الكتاب والسنّة، كدليل نبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله) التي لابدّ من رجوع إثباتها إلى العقل النظرىّ، أو ما تثبت به نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّ ثبوت ذلك: إمّا يكون بالتواتر، أو بالآحاد مع ثبوت حجّيّة خبر الآحاد بالتواتر، أو ما في حكمه، وليس التواتر عدا اجتماع آحاد كثيرة على أمر واحد يحكم العقل النظرىّ بأنّه يستحيل ـ بحسب الواقع العملىّ ـ خطؤها مثلاً مع ما لها من خصوصيّات عدديّة وغيرها، وكذا ما بحكم التواتر، كالسيرة العقلائيّة لابدّ من رجوع الاستدلال به إلى العقل النظرىّ.

وثانياً: النقض باستنباط الأحكام من نفس الكتاب والسنّة؛ فإنّه كثيراً ما يحتاج إلى إعمال العقل النظرىّ في مقام إيقاع النسبة بين الأدلّة المتعارضة، خصوصاً إذا كانت أزيد من اثنين، ونحو ذلك ممّا وقع الخطأ فيه كثيراً. على أنّه لا حاجة إلى فرض كثرة الخطأ فيه، بل تكفي كثرة الخطأ في سنخه، فما دمنا رأينا أخطاءً كثيرة في الاستنباطات العقليّة ولو في غير هذا المورد، فالمفروض سلب الاعتماد ـ مثلاً ـ عن ذلك حتّى في هذا المورد.

وأمّا الجواب الحلّىّ عن الإشكال، فالمتعارف في ذلك هو القول بأنّ العقل البشرىّ بحدّ ذاته يتورّط في أخطاء كثيرة، لكن يوجد لدينا قانون يعصمه من الخطأ حينما يلتزم الإنسان به، وهو قانون المنطق.

وكأنّ المحدّث الأستر آباديّ(رحمه الله) كان يهدف الجواب عن هذا الكلام حينما قال: إنّ علم المنطق إنّما يعصم من الخطأ في صورة الدليل، لكن تبقى الموادّ غير مضمونة الصحّة.

408

وهذا الجواب مع إبقائه على هذا المستوى من البحث يدفعه: أنّ علم المنطق اشترط في موادّ الأقيسة أن تكون داخلة في القضايا الستّ البديهيّة، أو منتهية إليها بقياس سابق. ومع مراعاة هذا الشرط لا يتصوّر خطأ في النتيجة، إلا بالنشوء من خطأ في بعض صور الأقيسة المتسلسلة، وقد افترضنا أنّ المنطق يعصمنا من الخطأ في ذلك.

وتحقيق الحال في المقام: أنّ معنى اليقين يختلف بحسب المصطلح المنطقىّ عنه بحسب المصطلح الاُصولىّ، فمفهوم اليقين في علم المنطق اُخذ فيه عنصر ضمان المطابقة للواقع، وذكروا أنّ البرهان علّة لحصوله، أمّا مطلق الجزم فقد يحصل من غير البرهان أيضاً، كالمغالطة، والجدل، والسفسطة، في حين أنّ مفهوم اليقين في مصطلح الاُصولىّ عبارة عن مطلق الجزم الخالي من أىّ تردّد في النفس.

وبعد هذا نقول: هل المراد من الاستشكال في حصول اليقين من الدليل العقلىّ هو الاستشكال في حصول اليقين المنطقىّ، أو في حصول اليقين الاُصولىّ؟

فإن اُريد الأوّل، فهذا غير مرتبط بما هو غرض الاُصولىّ، وإنّما هو بحث آخر، وقع فيه الخلاف بين الفلاسفة الشكّاكين والفلاسفة اليقينيّين(1)، طبعاً لا بمعنى الخلاف في ضمان الحقّانيّة لدى نفس المتيقّن؛ إذ لا إشكال في أنّ المتيقّن لا يحتمل حين يقينه خطأه، بل بمعنى الخلاف في ثبوت قضايا مضمونة الحقّانيّة بصورة عامّة بالنسبة إلى طريقة التفكير. وعلى أيّة حال، فالكلام فيما نحن فيه ليس في خصوص اليقين المنطقىّ الذي يحصل بالبرهان، بل في الجزم بمعناه العامّ، فلو أحرقنا كتاب البرهان بتمامه، لم يضرّنا شيئاً في المقام.

 

إنكار اليقين بمعناه الاُصولىّ

 

وإن اُريد الثاني، وهو إنكار إمكان حصول اليقين بالمعنى الاُصولىّ من الأدلّة العقليّة، قلنا: إنّ اليقين بنفسه موجود من الموجودات يخضع لقوانين العلّيّة، ولا يوجد من دون علّة كباقي المعلولات في العالم، وعلّته تتركّب من: المعلومات الضروريّة الثابتة في


(1) فالشكّاكون يدّعون أنّ التفاتهم إلى عدم وجود ضمان لمطابقة الجزم مع الواقع سلبهم الجزم، أي: إنّ عدم كون اليقين منطقيّاً جعلهم غير قادرين على تحصيل اليقين الاُصولىّ، وهو الجزم، وأنّه ينبغي لكلّ من لا يحصل على ضمان الحقّانيّة أن يشكّ، وينسلب عنه الجزم.

409

النفس، ومقدار استعداد الشخص، وما له من الإحاطة بالمعلومات الثانويّة، ومقدار الذكاء، وغير ذلك من خصوصيّات روحيّة وجسميّة، واُمور خارجة عن الروح والجسم. وشرائط حصول العلم تختلف باختلاف الأشخاص في مستوى الذكاء وسائر الخصوصيّات، وحصول العلم واليقين عند تحقّق علّته أمر غير اختيارىّ. نعم، يدخل تحت قدرة الشخص في الجملة تغيير الشرائط بالنسبة إلى نفسه. ولا يجب أن يكون مجرّد كثرة الأخطاء في الأدلّة العقليّة مانعاً عن علّيّتها لحصول القطع، نظير أنّ المشي الذي نفترضه علّة لتقوية الأعصاب والعضلات ـ مثلاً ـ لا تمنعه عن علّيّته كثرة زلّة الماشي وسقوطه على الأرض، أو تيهه في الطريق وعدم وصوله إلى مقصده.

ولو التفت الأخبارىّ إلى كلّ ما ذكرناه، وقال: إنّ المدّعى لنا هو أنّ عدم الالتفات إلى كثرة وقوع الخطأ في الأدلّة العقليّة هو بحدّ ذاته جزء العلّة لحصول اليقين، ومع هذا الالتفات لايحصل اليقين.

قلنا له:

أوّلاً: إنّنا جرّبنا ذلك، ورأينا حصول الجزم لنا بالوجدان على رغم التفاتنا إلى ذلك، فيعلم أنّ عدم الالتفات ليس جزءاً للعلّة بشكل عامّ، وإلّا للزم وقوع الانفكاك بين العلّة والمعلول.

وثانياً: إنّ الالتفات إلى الأخطاء الكثيرة يحصل كثيراً في الفكر البشرىّ حتّى الأطفال، فلو فرض هذا مانعاً عن حصول الجزم واليقين، انتفى الجزم واليقين بلا حاجة إلى أن يتعب المحدّث الأسترآبادىّ(رحمه الله) وأضرابه أنفسهم الزكيّة في مقام البحث مع الخصم بما لا يفيد الجزم واليقين؛ لكونه بحثاً عقليّاً أيضاً، وكان الأولى أن يدَعوا الاُمور التكوينيّة تؤدّي دورها، وتؤثّر أثرها، ويرتفع اليقين من البين.

وثالثاً: إنّ نفس دعوى الأخبارىّ الجزم بنحو الموجبة الكلّيّة بعدم إمكان حصول جزم من هذا القبيل مع الالتفات إلى كثرة الأخطاء... آية بطلان هذه القضيّة الكلّيّة؛ فإنّ نفس هذا الجزم هو خلاف هذه القاعدة المدّعاة.

يبقى أن يدّعي الأخبارىّ الشكّ وعدم الجزم في نفسه، واحتمال كون هذا الالتفات مانعاً عن حصول الجزم عند الآخرين، ويقول: إنّي لا أقطع بحصول الجزم عند

410

الآخرين(1)، فلو ادّعى هذه الدعوى، ومشينا معه إلى آخر نقوضها، وادّعى في جميعها الشكّ... لم يسعنا تكذيبه؛ لما مضى: من أنّ أجزاء العلّة لحصول الجزم تختلف من شخص لآخر، ولعلّ أحد أجزاء علّة حصول الجزم بالنسبة إلى هذا الشخص هو عدم الالتفات إلى كثرة الأخطاء، والمفروض التفاته إليها، لكنّا نقطع بأنّ هذا ليس جزء العلّة بصورة كلّيّة؛ لما نراه بالوجدان من تحقّق المعلول في أنفسنا، وهو الجزم، على رغم انتفاء هذا الجزء.

وهذا نظير أنّ ما نراه ـ مثلاً ـ من إحراق النار للقرطاس تحت السماء دليل على أنّه ليس من شرائط إحراقها للقرطاس كونها تحت السقف، فلو ادّعى أحد كون ذلك شرطاً له، كان جوابه نقضاً وحلّاً شيئاً واحداً، وهو ما جرّبناه خارجاً، بفرق أنّ هذه التجربة في مثل هذا المثال تهدينا إلى قضيّة عامّة حاصلها عدم اشتراط كون النار تحت السقف في الإحراق مثلاً؛ إذ لا نحتمل الفرق بين نار ونار، أو قرطاس وقرطاس، أو كون الملقي في النار زيداً أو عمراً... في حين أنّنا فيما نحن فيه لا تهدينا تجربتنا إلى قضيّة عامّة؛ لما قلناه: من أنّ أجزاء علّة حصول الجزم تختلف من شخص لآخر، فقد يكون عدم الالتفات إلى كثرة الأخطاء شرطاً لحصول الجزم في مزاج إنسان معيّن؛ لما له من خصوصيّات روحيّة وفكريّة وغيرها، ولا يكون الأمر بالنسبة إلى شخص آخر كذلك، فهو بما له من خصوصيّات فكريّة وروحيّة ومزاجيّة وغيرها يكون مضطرّاً إلى حصول الجزم له من الأدلّة العقليّة، وقد يكون أحد أجزاء العلّة لحصول الجزم له بكثير من الاُمور اعتقاده بكون ما له من مستوى الذكاء والخبرات والاطّلاع على سائر الآراء واصلاً إلى درجة لو فرض وجودها في أىّ شخص، واقترانها بالخصوصيّات التي اقترنت بها في هذا الشخص، لم تكثر أخطاؤه، بل كانت أخطاؤه في غاية القلّة بنحو لا موجب للتشويش من قبلها.

وخلاصة الكلام: أنّنا لا نمنع أن يدّعي أحد لنفسه الشكّ وعدم الجزم، لكن ليس له أن يقول لنا ـ بعنوان الإشكال والاعتراض ـ: لماذا يحصل لكم الجزم بالأدلّة العقليّة على رغم كثرة الأخطاء فيها؟! سنخ ما يقال لمن يذهب إلى صحراء كثيرة المخاطر: لماذا


(1) أو أن يقول: إنّ هذا الالتفات أصبح في نفسي مانعاً عن حصول الجزم، وألفت نظركم أيّها الاُصوليّون إلى أنّ هذا يناسب المانعيّة عن حصول الجزم، برجاء أن يكون نفس هذا الالتفات سبباً لانسلاب الجزم عنكم؛ كي اُنقذكم بهذا الطريق من اعتناق قطوع يكثر فيها الأخطاء.

411

تذهب إلى الصحراء على رغم كثرة المخاطر فيها؟! فإنّ حصول الجزم لنا ليس أمراً اختياريّاً. نعم، له أن يقول هذا الكلام بعنوان السؤال عن وجه حصول الجزم، فيقال له في الجواب: إنّ الوجه في ذلك هو: إنّنا خلقنا هكذا، وتكوّنت فينا خصوصيّات لا يكون معها الالتفات إلى كثرة الأخطاء مانعاً تكويناً عن حصول الجزم. نعم، لو كنّا نحتمل الملازمة بين نفس مدلولات الأدلّة، لكان انكشاف خطأ بعضها موجباً لعدم علمنا بصحّة باقي الأدلّة، لكنّنا لا نحتمل ذلك، وإنّما نعتقد بالتلازم العلّىّ بين نفس الدليل المقترن بشرائط خاصّة وحصول العلم بمدلوله.

وقد ظهر بما ذكرناه ما في كلام الاُصوليّين حيث سلكوا غير هذا المسلك في ردّ شبهة الأخباريّين.

هذا تمام الكلام في فرض كون مراد الأخباريّين إنكار اليقين بمعناه الاُصولىّ.

 

إنكار اليقين بمعناه المنطقىّ

 

أمّا إنكاره بمعناه المنطقىّ، فقد مضى أنّه خروج عمّا نحن فيه، ومع ذلك لا بأس ببحثه هنا على سبيل الإجمال.

فنقول: قد تعارف بهذا الصدد لدى أتباع منطق أرسطو القول بأنّ صفحة واحدة من صفحات المعارف البشريّة مضمونة الحقّانيّة، وهي صفحة (البرهان) من بين صفحات (الصناعات الخمس) وفي صدر الصفحة توجد (البديهيّات الستّ) وهي: الأوّليّات، والفطريّات، والحسّيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، والمتواترات. فهذه القضايا مضمونة الحقّانيّة ضماناً ذاتيّاً. وبعد ذلك يأتي في هذه الصفحة دور الأحكام المكتسبة التي تكتسب من تلك البديهيّات، وهي ليست مضمونة الحقّانيّة بالذات، ولكنّها تصبح مضمونة الحقّانيّة ببركة قوانين البرهان؛ فإنّ الخطأ في النتيجة إن كان ناشئاً من الخطأ في الصورة، فقوانين البرهان ـ لو روعيت ـ تمنع عن خطأ من هذا القبيل، وإن كان ناشئاً من الخطأ في المادّة، فهذا لابدّ من رجوعه إلى الخطأ في قياس سابق عليه، فننقل الكلام إلى ذاك القياس، ونضمن عدم خطئه في الصورة بمراعاة قوانين البرهان، وهكذا إلى أن نصل

412

إلى الموادّ الأوّليّة الثابتة في صدر الصفحة، وهي البديهيّات التي كانت مضمونة الصحّة بالذات.

وتوجيه إشكال الأخباريّين على ذلك يمكن أن يكون بأحد وجهين:

1 ـ أن يقال: إنّ نفس القانون المنطقىّ حكم عقلىّ يحتاج إلى عاصم له من الخطأ؛ إذ ليس هو من الأحكام الأوّليّة التي أدركها الإنسان منذ خلق، وإنّما اخترعه أرسطو بعد مضيّ آلاف الدهور من عمر الإنسان.

2 ـ أن يقال: إنّ نفس القانون المنطقىّ حقّ، ومراعاته في التطبيق تعصم من الخطأ، ولكنّنا بحاجة إلى عاصم آخر يعصمنا من الخطأ في نفس التطبيق، ولا تعقل عاصميّة نفس القانون لتطبيقه من الخطأ؛ إذ لا يعقل وجوده في رتبة تطبيقه.

ولابدّ لنا من تعمّق أكثر؛ كي نعرف حقيقة الحال. ولتوضيح ما هو التحقيق نتكلّم في جهتين:

إحداهما: في تحقيق الحال بالنسبة إلى القضايا البديهيّة.

والثانية: في تحقيق الحال بالنسبة إلى القضايا المكتسبة.

 

القضايا البديهيّة

أمّا الجهة الاُولى: فقد مضى أنّ اليقينيّات في نظر منطق أرسطو عبارة عن القضايا الستّ، إلّا أنّ لنا كلاماً في ضمان حقّانيّة بعض تلك القضايا:

فنحن نؤمن بضمان حقّانيّة (الأوّليّات) التي لا يحتاج الجزم بها إلى أكثر من تصوّر الطرفين، كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء. و(الفطريّات) أي: القضايا التي قياساتها معها، والتي يصدق عليها ـ ولو بنوع من المسامحة ـ أنّها ـ أيضاً ـ لا يحتاج الجزم بها إلى أكثر من تصوّر الطرفين، كقولنا: الأربعة زوج.

أمّا الحسّيّات فعلى قسمين:

أحدهما: الإحساس بالاُمور المجرّدة النفسيّة، كالعلم، واللذّة، وهذه لا تقلّ عن الأوّليّات، فهي ـ أيضاً ـ مضمونة الصحّة.

وثانيهما: الإحساس بالاُمور الخارجيّة، وهذا تارة نتكلّم عنه بلحاظ اُفق الحسّ،

413

فالمرئي ـ مثلاً ـ له وجود في اُفق الرؤية، وهو عبارة عن نفس الإحساس الرؤيتي، وهذا راجع إلى القسم الأوّل من الإحساس، فحاله حاله.

واُخرى نتكلّم عنه بلحاظ اُفق الخارج، كإثبات وجود المرئي خارجاً، وهنا نفصّل بين إثبات أصل الواقع الموضوعىّ المستقلّ عنّا، وإثبات التفاصيل التي نحسّ بها: من طول، أو عرض، أو شكل، وهيئة، وما إلى ذلك.

أمّا الأوّل: فهو ـ أيضاً ـ كالأوّليّات في كونه مدركاً بالبداهة، وإن كان يفترق عنها في احتياج إدراكه إلى مقدّمات إعداديّة لا يحتاج درك الأوّليّات إليها(1).

وأمّا الثاني: فليس مضمون الحقّانيّة بالذات، ويقع فيه الخطأ كثيراً، كما أنّه ليس مضمون الحقّانيّة بواسطة البرهان أيضاً، وإنّما يدرك بإدراك أغفله المنطقيّون من الحساب، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الجهة الثانية.

وأمّا التجريبيّات، فكالحسّيّات في عدم ضمان الحقّانيّة لها بصورة عامّة، بل قد تخطأ وقد تصيب؛ إذ لو جرّبنا ـ مثلاً ـ النار مرّات عديدة، فرأيناها محرقة، فهذا بالنسبة إلى الإنسان المتعارف سبب لحصول اليقين بالمعنى الاُصولىّ، ولكن كونه مضمون الصحّة موقوف على استقراء تمام الخصوصيّات التي يكون عالم التجربة أضيق منها(2)؛ ولذا يتّفق كثيراً انكشاف خطأ الجزم الناشئ من التجربة بالوصول إلى مادّة النقض.

وما ذكرناه في التجربة يأتي في الحدس أيضاً، وهو المسمّى في المصطلح الحديث بالملاحظة المنظّمة، كما في قولنا: نور القمر مستفاد من الشمس؛ فإنّها كالتجربة بفرق أنّ المجرّب يتدخّل في مورد التجربة بإدخال تغييرات وتعديلات عليه بخلاف الملاحظ.

وأمّا المتواترات فأيضاً ليست من اليقينيّات؛ فإنّ التواتر قائم على أساس الحسّ، وقد


(1) بل الصحيح: أنّ هذا إمّا مدرك بالاكتساب على أساس قانون العلّيّة، بأن يقال: التحوّلات التي نجدها في محسوساتنا في اُفق الإحساس تكشف بقانون العلّيّة عن واقع موضوعىّ متحوّل، أو أنّه ليس مدركاً حتّى بهذا القانون بناءً على احتمال نشوء هذه التحوّلات من حركة النفس الجوهريّة، فسيكون إذن حال إثبات الواقع الموضوعىّ هو حال إثبات التفاصيل مدركاً بحساب الاحتمالات.

وقد عدل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن دعوى بداهة أصل الواقع الموضوعىّ في كتابه (الاُسس المنطقيّة للاستقراء).

(2) أو على استحالة أكثريّة الصدفة، وقد فنّد ذلك في كتاب الاُسس المنطقيّة للاستقراء، فراجع.

414

عرفت حال الحسّ. مضافاً إلى أنّنا نطالب القائل بيقينيّة المتواترات بتفسير المتواترات، وبيان العنصر الذي أوجب ضمان الحقانيّة.

فإن فسّره بتكاثر الأخبار إلى حدّ يفيد الجزم الاُصولىّ، قلنا: إنّ إفادته للجزم الاُصولىّ لا تستلزم ضمان الحقّانيّة، وإلّا لكانت تمام أخبار الوسائل مضمونة الحقّانيّة؛ لأنّها أفادت الجزم للأخباريّين المدّعين تواترها.

وإن فسّرها بتكاثرها إلى حدّ يستحيل خطؤها، أصبح قولنا: (إنّ الخبر المتواتر مضمون الحقّانيّة) قضيّة بشرط المحمول، أي: إنّ تكاثر الأخبار إلى حدّ ضمان الحقّانيّة يوجب ضمان الحقّانيّة، وهذا كما ترى لا يرجع إلى محصّل(1).

 

القضايا المكتسبة

وأمّا الجهة الثانية: فقد أفاد علماء المنطق: أنّ ما لا يكون بديهيّاً ومضمون الصحّة ذاتاً يجب أن يكتسب من البديهيّات بالحجّة، وهي على ثلاثة أقسام: القياس، والاستقراء، والتمثيل. والأخيران غير مرضيّين عندهم ما لم يرجعا إلى الأوّل، وهو القياس، وهو على أربعة أشكال، ثلاثة منها ترجع إلى الشكل الأوّل(2). فتمام الحجج والبراهين يجب أن ترجع إلى الشكل الأوّل، وهو ذوحدود ثلاثة: (الأصغر) وهو موضوع النتيجة والصغرى. و(الأوسط) وهو الحدّ المشترك بين المقدّمتين غير الموجود في النتيجة. و(الأكبر) وهو محمول النتيجة والكبرى. ويكون الأوسط همزة وصل بين الأصغر والأكبر، وموجباً لائتلافهما وحمل الأكبر على الأصغر. وكيفيّة الاستنتاج من الشكل الأوّل عبارة عن تطبيق الأكبر على الأوسط، وهو بديهىّ ومضمون الحقّانيّة. وتطبيق الأوسط على الأصغر، وهو بديهىّ ومضمون الحقّانيّة، فينطبق الأكبر على الأصغر


(1) قد يكون مقصودهم بالتواتر: درجة من الكثرة توجب الجزم الاُصولىّ عند عامّة الناس المتعارفين، فيدّعى أنّ هذا يستلزم استحالة الخطأ، وإن جاء في تعبيراتهم أنّ التواتر: هو درجة من الكثرة يستحيل معها التواطؤ على الكذب، فلا يبعد أن يكون هذا عنواناً مشيراً إلى كثرة كاثرة لا شرطاً للمحمول، فالأولى في إثبات عدم ضمان حقّانيّة المتواترات هو الرجوع إلى البراهين الواردة في كتاب الاُسس المنطقيّة؛ لإبطال قانون استحالة كون الصدفة أكثريّة.

(2) كما أنّ الاستثنائىّ يمكن إرجاعه إلى الاقترانىّ.

415

بحكم آخر للعقل بديهىّ ومضمون الحقّانيّة أيضاً، وهو: أنّ المنطبق على شيء منطبق على شيء ثالث يكون منطبقاً على ذاك الشيء الثالث.

وبهذا تحصّلت لدينا خريطة المعلومات المضمونة الصحّة، ففي أوّل الخريطة البديهيّات، وتجعل تحتها ما يكون أخصّ منها بدرجة، وهي أكثر عدداً ممّا في السطر الأوّل لا محالة. ثُمّ ما يكون أخصّ من الدرجة الثانية، وهي أكثر عدداً منها، وهكذا إلى أن نصل إلى الجزئيّات الصرفة، ويتشكّل من كلّ ثلاثة اُمور مترتّبة في هذه الخريطة قياس من الشكل الأوّل. ويجب أن يكون درك انطباق كلّ واحد من هذه الاُمور على ما يتلوه بلا فصل بديهيّاً لا اكتسابيّاً، وإلّا للزم وجود الفصل بينهما؛ لأنّ الاكتساب يكون بالقياس، وهو بحاجة إلى الأوسط، وإذا كان انطباق كلّ واحد من هذه الاُمور على تاليه بديهيّاً، كان تمام ما يثبت في هذه الخريطة مضمون الحقّانيّة.

وبهذا البيان ظهرت صحّة القول بأنّ منطق أرسطو لا يزيد شيئاً على المعارف البشريّة، ولا يثمر معرفة جديدة، على أن يكون المراد بهذا الكلام: أنّه كلّما عرف تفصيلاً بالاستنتاج من القياس، كان كامناً في الكبرى، فمنطق أرسطو إنّما يفيد في إلفات النظر تفصيلاً إلى جزئيّات الاُمور المعلومة إجمالاً.

وقد اتّضح بما مرّ: أنّ مراعاة قانون المنطق عاصمة في حدوده من الخطأ. وبالرغم من ذلك نرى الأخطاء الكثيرة في الفكر البشرىّ التي يضجّ منها العالم، فلابدّ من التفتيش عن نكتة ذلك، فنقول: لا يعقل سبب لهذه الأخطاء إلّا أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: ما مضى من دعوى أنّ نفس قانون المنطق من نتاج الفكر البشرىّ بعد ردح من الزمن، وليس بديهيّاً ومعصوماً بذاته كي يكون عاصماً.

ويرد عليه: ما عرفته: من بداهة إنتاج الشكل الأوّل بحكم العقل البديهىّ المدرك لقاعدة: أنّ (المنطبق على شيء منطبق على ثالث منطبق على ذاك الثالث) وعدم التفات البشر بالتفصيل ردحاً من الزمن إلى الشكل الأوّل ـ مثلاً ـ لا يعني عدم بداهته؛ لثبوت الالتفات الإجمالىّ لكلّ أحد إليه، على أنّ عدم التصديق الناشئ من عدم الالتفات لا ينافي البداهة؛ فإنّ التصديق بالبديهيّات ـ أيضاً ـ متوقّف على التصوّر بلا إشكال.

وخلاصة الكلام: أنّ قوانين المنطق منها ما هو بديهىّ ومضمون الصحّة بنفسه، فلا يحتمل فيه الخطأ، ومنها ما هو نظرىّ مكتسب من الأوّل، فهو مضمون الصحّة ببركة

416

الأوّل، إلّا من ناحية احتمال نشوء الخطأ في التطبيق، وهذا رجوع إلى الأمر الثاني.

الثاني: ما مضى ـ أيضاً ـ من دعوى أنّ قانون المنطق صحيح، ولكنّه لا يعقل كونه عاصماً من الخطأ في تطبيقه، فيقع الاشتباه في ذلك. وهذا صحيح لا إشكال فيه، إلّا أنّه لا يفيد الأخباريّين بنحو الإطلاق.

توضيح ذلك: أنّ الخطأ في تطبيق قانون المنطق يرجع في الحقيقة إلى أحد أمرين:

1 ـ الغفلة والذهول عن نفس شرائط الإنتاج: من كلّيّة الكبرى، وإيجاب الصغرى، وفعليّتها، أو عن مراعاتها على رغم بداهتها؛ إذ قد يغفل الإنسان أحياناً عن أمر بديهىّ، وهذا نادر جداً لمن له أدنى ممارسة في الاستدلالات، فلا يؤثّر بشكل ملحوظ في الموادّ البعيدة عن البديهيّات فضلاً عن القريبة منها.

2 ـ عدم الالتفات إلى الحدود الثلاثة، والغفلة عن مقدار شمولها، وغير ذلك من خصوصيّاتها؛ فإنّ معنى بداهة القضيّة ليس هو وضوح حدودها، وعدم الخطأ في ذلك حتّى مع عدم الالتفات، وإنّما معناها هو الوضوح، وعدم الخطأ في حدود البداهة عند الالتفات.

وهذا القسم من الخطأ كثير في الموادّ البعيدة عن البديهيّات كعلم الاُصول، وكلّما اقتربت المادّة إليها، قلّ فيها هذا الخطأ، والسرّ في ذلك: أنّ الخطأ في المادّة السابقة يؤثّر في اللاحقة دون العكس؛ ولأجل ما ذكرناه لا ترى الاشتباه في المنطق والحساب والهندسة وسائر الرياضيّات، إلّا في غاية الندرة؛ فذلك ناشئ من قربها من البديهيّات، إضافة إلى خلوّها عمّا سيأتي من السبب الثالث من أسباب الاشتباه.

وقد اتّضح بهذا: أنّ دعوى سقوط العقليّات عن درجة الاعتبار لكثرة الخطأ فيها، لم تتمّ بإطلاقها، بل ينبغي التفصيل بين الموادّ القريبة من البديهيّات والبعيدة عنها(1).

وهذا التفصيل صدر عن المحقّق الأسترآبادىّ(رحمه الله) ولكن كلام كثير من الأخباريّين مطلق في ذلك.

هذا. وما عرفته من الإشكال وارد عليهم حتّى بناءً على كون مرادهم من اليقين اليقين الاُصولىّ كما هو واضح.


(1) إلّا أن يكون المطلوب الحصول على العصمة الكاملة، وحينئذ فلاتشترط في نفي الحقّانيّة كثرة الأخطاء، بل الخطأ النادر ـ أيضاً ـ يكشف عن عدم الحقّانيّة.

417

ثُمّ الخطأ في التطبيق يقلّ بطول الممارسة، وتمرين الفكر، وتقوية الذكاء، وفي أىّ فنّ مارس العقل، وطال مرانه فيه، قلّت أخطاؤه مطلقاً وبصورة خاصّة في ذلك الفنّ.

الثالث: أنّ هنا منشأً آخر للخطأ في المعارف البشريّة لم يلتفت إليه أرسطو في فنّه، ولا الاُصوليّون، ولا من عارضهم من الأخباريّين، وهو: أنّ ما مضى ذكره من الخريطة في مقام التنازل من العالي إلى السافل كان من شرط عدم وقوع الخطأ فيها كون تطبيق أىّ شيء وجد في تلك الخريطة على ما بعده بلا فصل بديهيّاً، وهذا شرط أساس لاحظوه في فنّ المنطق، ولكن الإنسان قد يطبّق ـ مع الالتفات ومن دون غفلة ـ شيئاً على شيء بلا فصل من دون أن يكون هذا التطبيق بديهيّاً، وإلّا لما وقع في الخطأ.

فهذا التطبيق لا هو تطبيق مع فاصل، كي يكشف عن نقص في الخريطة، ويكون تتميمها بتحصيل الفاصل، ولا هو تطبيق بديهىّ ومعصوم من الخطأ، كي تصبح الخريطة بتمامها معصومة، بل هو تطبيق ينشأ من حساب الاحتمالات وتجميع القرائن إلى حدّ يفني الشكّ وينهيه تلقائيّاً، وليس المقصود بذلك فناء الشكّ رياضيّاً؛ فإنّ الاحتمال لا يفنى رياضيّاً بتجميع القرائن على خلافه، بل مهما كثرت القرائن، كان مقتضى الحساب الرياضىّ بقاء كسر ضئيل دون أن يزول، ولكن الإنسان خلق بنحو يضمر ويزول الاحتمال الضئيل في نفسه، وينتفي عند تظافر القرائن ضدّه في ضمن شروط لا مجال لبحثها هنا.

فمثلاً: حين نشير إلى محسوسنا في اُفق الحسّ، ونطبّق عليه عنوان المطابقة للواقع الخارجىّ، فهذا التطبيق ليس بالبداهة، ولا بوسيط محذوف، بل بحساب الاحتمالات، وإلى هذا يرجع كلّ (المحسوسات) الخارجيّة و(التجربيّات) و(الحدسيّات) و(المتواترات)(1).

وما أفاده الشيخ الرئيس في الشفاء: من أنّ إفادة التجربة للعلم تكون بضمّ قاعدة عقليّة، وهي: (أنّ الصدفة لا تكون دائميّة أو غالبيّة) غير صحيح؛ فإنّ هذه القاعدة بنفسها


(1) هذه القطعة من البحث لم أكتبها بالشكل الذي أفاده(رحمه الله) في الدرس في الدورة التي حضرتها، حيث ذكر(رحمه الله) هنا تفاصيل وبيانات عدل عنها بعد ذلك، فحذفتها وبدّلتها بهذا المقطع. وتفصيل مختاراته الأخيرة(رحمه الله)موجود في كتاب (الاُسس المنطقيّة)، كما غيّرت بعض العبائر في الأبحاث الآتية المرتبطة بهذا المقطع بالشكل الذي يلائم مختاره الأخير.

418

لامنشأ لها سوى التجربة، فلا تفيد ضمّ هذه المقدّمة إلى التجربة شيئاً (1).

والخلاصة أنّ العلوم التي تحصل للإنسان عن هذا الطريق ليست عدا يقين اُصوليّ. نعم، يمكن تقليل الخطأ في ذلك بطول الممارسة، وتمرين العقل، وتقوية الذكاء، وملاحظة مقاييس حساب الاحتمالات.

وكلّما كانت القضيّة أقرب إلى الموادّ البديهيّة، قلّ وقوع الخطأ فيها، كما أنّ القضايا التي لم يعمل فيها حساب الاحتمالات تبقى سليمة عن هذه الأخطاء، كما هو الحال في (المنطق) و(الحساب) و(الهندسة) وسائر الرياضيّات، هذا.

وحساب الاحتمالات ليس حاله حال منطق أرسطو في عدم إفادته لتكثير المعارف البشريّة؛ فإنّ هذا طريق للتخطّي إلى الخارجيّات(2).

وكذلك الحال بالنسبة إلى العقل المدرك للبديهيّات إلى حدّ ما؛ إذ لا أقلّ من كون إدراك الواقع الموضوعىّ المستقلّ مستفاداً منه(3).


(1) والدليل على عدم بداهة هذه القاعدة وضمان حقّانيّتها اُمور مذكورة في (الاُسس المنطقيّة) نكتفي هنا بالإشارة إلى وجهين منها:

الأوّل: إلفات الوجدان إلى أمرين:

أحدهما: أنّ إدراك العقل للأوّليّات يستبطن عنصر كون نسبة المحمول إلى الموضوع في المدرك نسبة الضرورة، ولا نمتلك قضيّة أوّليّة ولا فطريّة تكون نسبة المحمول إلى الموضوع فيها مجرّد نسبة الفعليّة والإطلاق العامّ (ومن هنا لا نؤمن بأوّليّة وجود العالم الموضوعىّ).

وثانيهما: أنّنا لا ندرك في قضيّة (الصدفة لا تكون أكثريّة) عنصر الضرورة بين المحمول والموضوع، مع أنّها لو كانت بديهيّة، لكانت من الأوّليّات ـ مثلاً ـ لا من المحسوسات.

الثاني: أنّنا لو افترضنا أقلّ درجات الكثرة المقطوع بعدمها في قولنا: (الصدفة لا تكون أكثريّة) عبارة عن عشرة مثلاً، وجرّبنا طعاماً أعطيناه لعشرة فتسمّموا، ثمّ اكتشفنا الصدفة في تسعة منهم مثلاً، فلا إشكال في أنّ الجزم الحاصل من التجربة يسلب منّا، في حين لو كانت هذه القضيّة عقليّة بديهيّة يمتنع خطؤها، لم يكن من المترقّب زوال ذاك الجزم.

(2) يلتقي الإنسان بأنحاء ثلاثة من المعلومات:

1 ـ ما يكون حاضراً لدى النفس باعتباره من المجرّدات الموجودة في اُفق النفس، كالألم واللذّة، وهذا يعرفه الإنسان مباشرة بلا حاجة إلى حساب الاحتمالات.

2 ـ ما في لوح الواقع (غير الخارجيّات)، وقد يدرك العقل بعض الاستحالات والضرورات في ذلك بلا حاجة إلى حساب الاحتمالات، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكون اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة.

3 ـ عالم الخارج، ولا سبيل له إلّا حساب الاحتمالات.

(3) قد مضى منّا عدم صحّة ذلك، وذكرنا عدوله(رحمه الله) عن ذلك في كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء). ويبدو أنّه في بحثه في دورته الأخيرة الذي لم أحضره جرى على وفق ما في كتاب الاُسس المنطقيّة.

419

 

 

 

 

العقل العملىّ

 

وأمّا المقام الثاني: وهو فيما يسمّى عند المنطقيّين بالعقل العملىّ(1)، وعند المتكلّمين بالحسن والقبح، وعند الفلاسفة بالخير والشر، وعند علماء الأخلاق بالفضيلة والرذيلة، فقد وقع الخلاف في ذلك بين الاُصوليّين والمحدّثين، فأثبت الاُصوليّون الحسن والقبح المدركين بالعقل، وأنكرهما الآخرون.

قد مضى أنّ العقل العملىّ يحتاج في مقام استنباط الحكم الشرعىّ منه إلى ضمّ حكم العقل النظرىّ إليه: من قاعدة الملازمة، أو استحالة صدور القبيح عن الحكيم. إذن يقع الكلام هنا في جهتين:

الاُولى: في تحقيق الحال في أصل العقل العملىّ.

والثانية: في تحقيق الحال في العقل النظرىّ المنضمّ إليه، أعني: قاعدة الملازمة، وأمّا استحالة صدور القبيح عن الحكيم، فليس هنا محلّ بحثها.

 


(1) ليس المقصود من تقسيم العقل إلى النظرىّ والعملىّ، وكذلك إلى ما قد يقال: من العقل المدرك للبديهيّات، والعقل المدرك للنظريّات بنحو التوالد الموضوعىّ، والعقل المدرك بحساب الاحتمالات بنحو التوالد الذاتىّ: دعوى التعدّد بلحاظ القوى، بل المقصود اختلاف المعقولات سنخاً بهذا النحو، أمّا كون المدرك لها جميعاً قوّة واحدة أو لا، فهذا بحث آخر.

420

 

الحسن والقبح العقليّان

 

أمّا الجهة الاُولى: فالقدر المتيقّن من كلمات المحدّثين هو: إنكار الحسن والقبح العقليّين، بمعنى: إنكار الاعتماد في ذلك على دركنا لها بعقولنا القاصرة، دون إنكار أصل الحسن والقبح.

لكن الاُصوليّين ـ إلّا من شذّ ـ ذهبوا إلى التصديق بأصل الحسن والقبح العقليّين، وإلى صحّة الاعتماد على العقل في إدراكنا لهما.

وهناك قول ثالث ذهبت إليه الأشاعرة، وهو: إنكار أصل الحسن والقبح الواقعيّين، وقالوا: إنّ الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، ومقصودنا من نسبة ذلك إلى الأشاعرة نسبته إليهم بنحو الموجبة الجزئيّة (وكذلك في سائر الموارد عند ما ننسب شيئاً إلى طائفة؛ كي لا ينافي ذلك أفتراض مخالفة جملة منهم لذاك الرأي).

وقد ينسب إلى فلاسفة المسلمين القول بما يكون وسطاً بين قول الأشاعرة وقول الأخباريّين، وهو القول بأنّ الحسن ما حسّنة القانون، والقبيح ما قبّحه القانون، وذلك يختلف باختلاف المجتمعات والموالي والعبيد.

وقد تسرّب النزاع في الحسن والقبح العقليّين إلى غير المسلمين، فذهب رجال الدين المسيحيّون إلى أنّ الحسن والقبيح ما حسّنه الشارع أو قبّحه، وذهب فلاسفتهم إلى ثبوت الحسن والقبح في الواقع، والاعتماد على إدراك العقل لهما.

 

مع المنكرين على مستوى النقض

 

هذا، وقد اُورد نقضان على من ينكر الحسن والقبح إنكاراً (أشعريّاً) أو (أخباريّاً)، ولو تمّ النقضان، فهما واردان على فلاسفة المسلمين أيضاً؛ إذ إنّ كلامهم ـ كما سيأتي(1) ـ لا يرجع بعد التحليل إلى محصّل سوى ما مضى من كون الحسن والقبيح هو ما حسّنه أو


(1) سيأتي منه(قدس سره) إبراز احتمالين فيما هو مقصود الفلاسفة.

421

قبّحه القانون، ولا فرق بين هذا وقول الأشاعرة سوى أنّ الأشاعرة ـ بما هم متديّنون ـ أضافوا الحسن والقبح إلى قانون الشرع، والفلاسفة أضافوهما إلى مطلق القانون:

النقض الأوّل: حكم العقل العملىّ الواقع في طول الكتاب والسنّة، كوجوب المعرفة، ووجوب الطاعة، وحرمة المعصية؛ إذ مع إنكار العقل العملىّ لا يبقى ملزم لتحصيل المعرفة، ولا للطاعة وترك المعصية، وفرض إيجاب الشارع لهذه الاُمور غير مفيد: أمّا بالنسبة إلى وجوب المعرفة، فواضح؛ إذ المفروض أنّه لم يثبت بعد وجود الشارع كي يتمسّك بحكمه، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الطاعة وحرمة المعصية، فلانّه لو لم يكن ذلك مدركاً بالعقل، واُريد تثبيته بحكم الشرع، نقلنا الكلام إلى إطاعة هذا الحكم، وهكذا إلى أن يتسلسل، أو يدور.

والنقض الثاني: حكم العقل العملىّ الواقع في الرتبة السابقة على الكتاب والسنّة، وهو حكمه بقبح إجراء المعجز على يد من يدّعي النبوّة كذباً؛ لكونه إضلالاً، فإنّه بناءً على إنكار ذلك لا يبقى مدرك لإثبات النبوّة.

والتحقيق: عدم ورود شيء من النقضين:

أمّا النقض الأوّل: فلأنّ بإمكان الأخبارىّ والأشعرىّ أن يدّعيا: أنّ المحرّك لنا لتحصيل المعرفة وللطاعة هو احتمال العقاب الذي هو المحرّك الوحيد حتّى بالنسبة إلى المعترفين بالحسن والقبح العقليّين، إلّا من شذّ وندر ممّن يعبد الله عبادة الأحرار، فاحتمال العقاب بذاته محرّك للإنسان بلا حاجة في تحريكه إلى توسيط حكم العقل بالقبح.

أمّا كيف ينشأ احتمال العقاب؟ فبإمكان الأخبارىّ أن يقول: إنّنا لا نعتمد على إدراك عقولنا القاصرة في درك الحسن والقبح، لكنّنا لاننكر أصل الحسن والقبح، ونحن نحتمل حسن الطاعة وقبح المعصية، ولا نحتمل العكس، وهذا الاحتمال يصبح منشأً ـ بحسب العقل النظرىّ ـ لاحتمال فعليّة العقاب في ترك الطاعة، وكذا الحال في ترك تحصيل المعرفة.

وبإمكان الأشعرىّ أن يقول: إنّنا أنكرنا أصل الحسن والقبح، فلا يأتي احتمال حسن الطاعة وقبح المعصية، ولكن ما دام لا يوجد حسن وقبح فالله تعالى حرّ في أفعاله، وقد أنذرنا بالعقاب على ترك الطاعة وفعل المعصية، والإنسان السوىّ في عقله وتفكيره

422

يحتمل لامحالة صدق هذا الإنذار احتمالاً راجحاً على احتمال كون العقاب على فعل الطاعة وترك المعصية (إن احتمل ذلك أيضاً)، وهذا بنفسه محرّك نحو الطاعة وترك المعصية، وكذا الحال بالنسبة إلى وجوب المعرفة.

وهناك جواب آخر يمكن للأخبارىّ والأشعرىّ أن يتمسّكا به ـ على وفق مبانيهما ـ بالنسبة إلى مسألة الطاعة فحسب دون مسألة المعرفة، وهو دعوى القطع بثبوت العقاب على المخالفة:

أمّا الأخبارىّ فلما ذهب إليه: من أنّ الدليل النقلىّ يورث القطع، وقد ورد كثيراً الإخبار بالعقاب على المخالفة، فنقطع بثبوت العقاب، بل بهذا الطريق يحصل لنا القطع بنفس الحسن والقبح؛ لدلالة الأخبار ـ أيضاً ـ على حسن الطاعة وقبح المعصية، فإذا ثبت الحسن والقبح، ثبت العقاب في المخالفة.

والإيراد على ذلك: بأنّه (لو سقط العقل عن الاعتبار، سقط النقل أيضاً؛ لتوقّفه عليه) إيراد على المبنى، ونقض وارد عليهم في باب العقل النظرىّ، وقد مضى ذكره. وهنا إنّما نتكلّم بلحاظ العقل العملىّ، فنرى أنّ هذا النقض غير وارد عليهم بناءً على مبانيهم.

وأمّا الأشعرىّ فصحيح أنّه أنكر الحسن والقبح بمعنى الجهة المترتّب عليها المدح والذمّ، لكنّه لم ينكر الكمال والنقص ودرك العقل لهما حتّى في الاُمور الخارجة عن الاختيار؛ ولذا استدلّوا على امتناع الجهل على الله بأنّ الجهل نقص، وأنّ النقص محال على الذات الواجبة الوجود، فاستنتجوا من هاتين المقدّمتين امتناع الجهل على الله. ولا نريد البحث هنا عن مدى صحّة هاتين المقدّمتين، ومدى إمكانيّة التفكيك بين درك الكمال والنقص ودرك الحسن والقبح، وإنّما نهدف للقول بأنّهم على مبانيهم يمكنهم الجواب عن النقض بدعوى أنّ الكذب نقص بحكم العقل النظرىّ، والنقص محال على الله بالعقل النظرىّ أيضاً، فيثبت بذلك صدق الإنذارات الواردة من الشارع(1).

هذا، مضافاً إلى أنّ الأشعرىّ يمكنه دفع النقض بالنسبة إلى كلّ من مسألتي الطاعة


(1) لا يخفى أنّ الكمال والنقص أحياناً يكونان ثابتين بشكل مستقلّ عن الحسن والقبح، كما في العلم والجهل، والقدرة والعجز، وما شابه، واُخرى يكونان نتيجة للحسن والقبح، فالكذب إنّما يكون نقصاً لأنّه قبيح، فلا ينبغي قياس باب الكذب بباب الجهل، ولا مسوّغ لافتراض امتناع الكذب على الله بعد فرض عدم القبح.

423

والمعرفة بما يتبنّاه: من أنّ كلّ ما يصدر عن الإنسان من فعل أو ترك فهو مجبور عليه(1).

وأمّا النقض الثاني: فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الاستدلال على النبوّة بقبح إجراء المعجز على يد الكاذب لكونه تضليلاً غير صحيح، على الرغم من أنّه هو الاستدلال الرسمىّ لعلم الكلام منذ وجد حتّى الآن؛ وذلك لأنّ المعجز إن لم يكن ـ بغضّ النظر عن قبح التضليل ـ دليلاً على النبوّة وصدق مدّعى من جرى على يده، إذن ليس إجراؤه تضليلاً، وإن كان دليلاً على ذلك، إذن ضمّ مسألة التضليل (المتوقّف على الدلالة في الرتبة السابقة) إلى تلك الدلالة ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان(2).

 


(1) لايخفى أنّ مدّعي الجبر لا ينكر عادة الدوافع ومقدّمات الإرادة والشوق المؤكّد في النفس، وإنّما يقول: إنّ الأفعال التي تصدر عن الإنسان تكون واجبة الوجود بالغير، بمعنى: أنّها يجب أن تصدر عنه بدوافعها؛ لوجود علّة تامّة لذلك (كما أنّ صاحب الكفاية المدّعي للاختيار سمّى نفس هذا اختياراً). وعليه، فبالإمكان إيراد التساؤل على الأشعرىّ عمّا هو دافعه نحو الطاعة وتحصيل المعرفة على رغم إنكاره للحسن والقبح، ولا يصحّ الجواب عن ذلك بأنّه مجبور على ما يفعل.

(2) قلت له (رضوان الله عليه): إنّه قد يقال: إنّ المعجز دليل على النبوّة بقطع النظر عن قبح التضليل في مستوى فكر العوامّ غير الملتفتين إلى هذه المناقشات، وأمّا عند الخواصّ فهو بذاته ليس دليلاً على النبوّة، ولكن تتمّ دلالته على النبوّة عندهم ببيان: أنّه لو لم يكن نبيّاً فإجراء المعجز على يده تضليل للعوامّ، والتضليل قبيح يستحيل صدوره عن الله تعالى.

فأجاب(رحمه الله) عن ذلك:

أوّلاً: بأنّ هذا لو تمّ، فهو تصحيح للبرهان الكلامىّ على النبوّة، ولكنّه لا يفيد بحثنا في المقام لتثبيت الإشكال على الأخبارىّ والأشعرىّ؛ إذ بعد أن ثبتت في الجملة دلالة المعجز على النبوّة في المرتبة المتقدّمة على قاعدة قبح التضليل، فمن الممكن للأشعرىّ والأخبارىّ أن يدّعيا حصول العلم لهما من هذا الدليل، وعدم اختصاص دلالة المعجز بمستوى فهم العوامّ فقط. وحينئذ وإن كان يقع البحث في أنّ دلالة المعجز في الرتبة المتقدّمة على مسألة التضليل هل هي تامّة حقيقة، أو هي فهم بسيط للعوامّ والسذّج؟ لكن هذا غير انسداد باب إثبات النبوّة رأساً وورود النقض على الأخبارىّ والأشعرىّ.

أقول: لو غضّ النظر عمّا سيأتي في المتن من الجواب الثاني عن النقض: من كون المعجز بنفسه دليلاً على النبوّة، وكذلك توجد أدلّة اُخرى عليها، فهذا الجواب هنا لايرجع إلى محصّل؛ إذ غاية ما هناك أنّنا نبحث مع الأخبارىّ والأشعرىّ إلى أن نثبت لهما بعد النقاش: أنّ الإعجاز بحدّ ذاته ليس دليلاً تامّاً على النبوّة، وإنّما هو دليل في نظر العوامّ، وحينئذ يكون إجراؤه على يد الكاذب تضليلاً للعوامّ، فإن قبلتم قبح التضليل، ثبت النقض عليكم، وإلّا انهار أصل الإيمان بالنبوّة.

وثانياً: بأنّ هذا البيان بنفسه غير تامّ، بغضّ النظر عن مسألة تثبيت النقض على الأخبارىّ والأشعرىّ وعدمه؛ إذ لو لم يكن المعجز في المرتبة السابقة دليلاً على النبوّة إلّا على مستوى فهم العوامّ والسذّج، فدليل