494

وهذا ظاهر فيما لو أراد بالموصليّة الموصليّة الفعليّة، وأمّا لو أراد الموصليّة الشأنيّة، فهي غير التوصّل الذي يدّعى اشتراط قصده في هذا الاحتمال.

اشتراط وجوب المقدّمة بكونها موصلة

الاحتمال الرابع: ما اختاره صاحب الفصول(قدس سره): من اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة إلى ذيها(1).

والكلام في ذلك يقع في مقامين:

الأوّل: في البراهين التي احتجّ بها على بطلان القول بالمقدّمة الموصلة.

والثاني: في البرهان على إثبات القول بالمقدّمة الموصلة.

وبمجموع البحثين يتّضح الموقف تجاه هذا الاحتمال:

أمّا المقام الأوّل: فبراهين بطلان المقدّمة الموصلة يرجع بعضها إلى بيان عدم المقتضي للتقييد بالموصلة، وبعضها إلى إبداء محذور ثبوتيّ في التقييد.

وهذه البراهين وجوه عديدة:

الوجه الأوّل: دعوى استلزام ذلك للتسلسل.

ويمكن تقريب ذلك بوجهين:

الأوّل: ما هو ظاهر كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)(2)، وحاصله: أنّ الوجوب إذا كان متعلّقاً بالموصلة، فالواجب هو ذات المقدّمة مع التقيّد بالإيصال، فذات المقدّمة مقدّمة للمقدّمة الموصلة؛ لمقوّميّتها لها، والوجوب كما يترشّح على مقدّمة الواجب



(1) الفصول، ص 87.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 290 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

495

النفسيّ كذلك يترشّح على مقدّمات المقدّمة، فنقول: هل يترشّح الوجوب على ذات المقدّمة التي هي مقدّمة للمقدّمة الموصلة، أو يترشّح الوجوب عليها بقيد إيصالها إلى المقدّمة الموصلة؟

فإن قلنا بالثاني، حصّلنا أيضاً مركباً من الذات وقيد الإيصال، فيكون الذات مقدّمة للمقدّمة الموصلة، فننقل الكلام إليها، وهكذا إلى أن يتسلسل، وإن انتهينا أخيراً إلى وجوب متعلّق بالذات بلا قيد الإيصال، فلنقل بذلك من أوّل الأمر.

وهذا التقريب جوابه واضح؛ إذ لو سلّم كلّ الاُصول الموضوعيّة لهذا التقريب، قلنا: إنّ ذات الوضوء ليس مقدّمة للوضوء الموصل، فإنّ المقدّمات الداخليّة ليس فيها ملاك الوجوب؛ لعدم التوقّف والمقدّميّة في عالم الوجود، وذات الوضوء جزء ومقدّمة داخليّة للوضوء الموصل(1).

الثاني: أن يقال بأنّ وجوب الصلاة يترشّح منه وجوب غيريّ على الوضوء، وهو يتعلّق ـ على القول بالموصلة ـ بالوضوء، لا على الإطلاق، بل الوضوء المقيّد



(1) ولو سلّمنا: أنّ المقدّمة الداخليّة كالخارجيّة، قلنا: إنّ مقدّمة المقدّمة إنما يترشّح عليها الوجوب بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة، لا بقيد الإيصال إلى المقدّمة؛ إذ لو فرض محالا إيصالها إلى المقدّمة الموصلة من دون إيصالها إلى ذي المقدّمة، لم تكن فيها فائدة، ومن حسن الحظّ في المقام: أنّ المقدّمة الثانية بقيد الإيصال إلى ذي المقدّمة عين الواجب الغيريّ الأوّل، ووجوبها عين الوجوب الأوّل. على أنّ المقدّمات مهما تفترض كثرتها أو طوليّتها لا يتعلّق بها جميعاً إلّا وجوب واحد.

أمّا لو فرض: أنّ الإشكال في نفس تكثّر المقدّمات إلى ما لا نهاية له، وأنّ هذا بنفسه تسلسل محال، فهذا ليس إشكالاً على وجوب المقدّمة الموصلة، بل هو إشكال في نفسه كاشف عن خطأ مّا في الحساب، فإمّا أنّ تكثّر المقدّمات لم يكن إلّا وهماً لا واقع له (كما هو كذلك)، وإمّا أنّ هذا النمط من التسلسل لم يكن محالا.

496

بالإيصال إلى الصلاة، فالواجب الغيريّ مقيّد بالصلاة، فتكون الصلاة قيداً في الواجب الغيريّ، فصارت مقدّمة المقدّمة، فيتعلّق بها الوجوب الغيريّ، ويصبح الوضوء ذا المقدّمة بالنسبة للصلاة، ويكون قيداً في هذا الوجوب الغيريّ، فيترشّح إليه وجوب مقدّميّ جديد، وهو أيضاً متعلّق بالموصل منه، وهكذا إلى أن يتسلسل.

وهذا التقريب أيضاً غير صحيح لعدّة وجوه:

الأوّل: ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: من أنّ المقدّمة الموصلة ـ على القول بها ـ لا ينحصر معناها في أخذ التوصّل إلى ذي المقدّمة قيداً للمقدّمة، بل لذلك معنىً آخر لا يستبطن أخذ التوصّل قيداً.

وهذا يصلح أن يكون جواباً للوجه الأوّل أيضاً.

الثاني: أنّه لو سلّمنا: أنّ معنى المقدّمة الموصلة تعلّق الوجوب الغيريّ بالوضوء المقيّد بحيثيّة الإيصال، لم يلزم مع هذا ترشّح الوجوب الغيريّ على الصلاة نفسها.

وتوضيح النكتة في ذلك: أنّ مقدّمة المقدّمة كلّيّةً فيها توقّفان: أحدهما توقّف المقدّمة الاُولى على الثانية، والآخر توقّف ذي المقدّمة الأصليّ على المقدّمة الثانية بسبب توقّف المقدّمة الاُولى، والتوقّف الأوّل لو لوحظ وحده، وفرض محالا: أنّه لا توقّف ثان، لم يترشّح وجوب على المقدّمة الثانية؛ إذ من الواضح: أنّ الشوق الغيريّ لا يمكن أن يصنع شيئاً سوى تقريب الإنسان نحو المطلوب النفسيّ، فإذا لم يكن المطلوب النفسيّ متوقّفاً عليه، فأيّ شوق يترشّح عليه؟!

فالسبب في الوجوب إنّما هو التوقّف الثاني، فالملاك دائماً في الوجوب الغيريّ سواء كانت المقدّمة أوّليّة، أو ثانويّة، أو ثالثيّة، إنّما هو مقدّميّتها لأصل الواجب النفسيّ.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ المقدّمة الثانية إن كانت مغايرة للواجب النفسيّ، كما

497

في إخراج الماء من البئر مثلا الذي هو مقدّمة للوضوء الذي هو مقدّمة للصلاة، ترشّح عليه الوجوب الغيريّ؛ لأنّ ملاك ذلك هو المقدّميّة في عالم الوجود، وهو ثابت، أمّا إذا أصبحت المقدّمة الثانية ـ بسحر ساحر ـ نفس ذي المقدّمة، كما هو المفروض في المقام، فلا معنى لترشّح الوجوب الغيريّ عليها؛ إذ لو فرض ترشّحه من المقدّمة الاُولى، فهذا خلف ما وضّحناه: من أنّ المقدّمات الثانويّة إنّما تكسب وجوبها من ذي المقدّمة الأصليّ، لا من المقدّمة الأوّليّة، ولو فرض ترشّحه من ذي المقدّمة الأصليّ، فملاكه إنّما هو التوقّف والمقدّميّة، ومن المعلوم: أنّ التوقّف والمقدّميّة فرع الاثنينيّة المفقودة في المقام.

الثالث: أنّه لو غضّ النظر عن كلا الجوابين، وافترض التسلسل، فهذا التسلسل ليس أمراً مستحيلا؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار والملاحظة.

وتوضيح ذلك: أنّ التسلسل ـ على ما ذكر الحكماء ـ على قسمين:

1 ـ التسلسل الذي يمشي ويصعد بلا نهاية، بلا حاجة إلى ملاحظة الملاحظ، وتدخّل متدخّل فيه، كَأن يكونَ هذا له علّة، وعلّته لها علّة، وهكذا، وهذا هو المحال.

2. التسلسل بمعنى: أنّه لا يتوقّف كلّما مشى الإنسان والملاحظ في ملاحظته، ومتى توقّف عن الملاحظة توقّف التسلسل، وهذا ليس محالا.

والمقام من هذا القبيل، فإنّ هذه الوجوبات كلّها أشواق نفسيّة، تتوقّف على الالتفاتات، وليس معنى هذه الوجوبات وجود أشواق لا متناهية بالفعل.

وهذا الجواب الثالث يتمّ على كلا تقريبي التسلسل.

الوجه الثاني: لزوم اجتماع المثلين؛ إذ يلزم كون الصلاة قيداً للواجب الغيريّ ومقدّمة له؛ لأنّ الواجب هو الوضوء الموصل إلى الصلاة، فيتّصف نفس الواجب النفسيّ بالوجوب الغيريّ، ويكون محطّاً لوجوبين.

498

وهذا البيان يعترض عليه بوجوه:

الأوّل: ما أشرنا إليه في ردّ البرهان السابق: من أنّه مبنيّ على تخيّل أنّ المقدّمة الموصلة معناها تعلّق الوجوب بالحصّة المقيّدة بانضمام ذي المقدّمة إليها، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: أنّ لتصوير المقدّمة الموصلة صيغة اُخرى.

الثاني: ما بيّنّاه أيضاً في ردّ الوجه السابق. وحاصله: أنّ الصلاة وإن أصبحت مقدّمة المقدّمة، لكن لا يترشّح عليها الوجوب الغيريّ؛ لأنّ ترشّح الوجوب على مقدّمة المقدّمة إنّما يكون بلحاظ كونه مقدّمة لذي المقدّمة الأصليّ، وهنا لا تكون الصلاة مقدّمة لذي المقدّمة الأصليّ؛ فان المقدّميّة والتوقّف فرع الاثنينيّة، وأمّا وجوب المقدّمة فلا يترشّح إلى مقدّمتها.

هذان هما الوجهان الصحيحان في الردّ على هذا البرهان.

ولكن قد يظهر من كلمات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وجه آخر في مقام الجواب، وهو ما نذكره الآن بعنوان الثالث:

الثالث: الالتزام بالتأكّد والاشتداد المساوق للتوحّد، كما هو الحال في سائر الموارد، كمورد تعلّق النذر بالواجب(1).

وفيه: أنّ هذا إنّما يعقل في شوقين متولّدين من ملاكين لا من ملاك واحد. وتوضيحه: أنّ معنى تأكّد الشوقين ليس هو وجود شوقين في جانبي النفس، وأنّ النفس تضيق بهما، فيتّحدان، بل معناه وجود ملاكين يقتضيان الشوق، ولكن يستحيل تأثير كلّ منهما بحدّه؛ لاستحالة اجتماع شوقين، فيؤثّران تأثيراً واحداً.

أمّا في المقام، فمقتضي الشوقين واحد، وهو مصلحة الصلاة، وفي مثل ذلك



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

499

لا معنى لتأكّد الشوق؛ لعدم ازدياد في الملاك.

وبكلمة اُخرى: إنّ اشتداد الشوق لا يكون جزافاً، بل يكون باعتبار اشتداد الملاك، كما أنّ الشوق لا يكون جزافاً، بل يكون باعتبار الملاك، والوجدان حاكم بأنّ الشوق إلى الصلاة لا يزيد نفسه ما لم تضمّ إليه نكتة من الخارج.

الوجه الثالث: دعوى استلزام ذلك للدور.

وهذا له تقريبان في كلماتهم:

الأوّل: أن يقال بلزوم الدور في عالم الوجود، فيقال: إنّ الصلاة متوقّفة على مقدّمتها وهو الوضوء، وقد أصبحت مقدّمة لمقدّمتها؛ لأنّنا قلنا بالمقدّمة الموصلة التي هي مقيّدة بلحوق ذي المقدّمة، وهي الصلاة مثلا، إذن، فمقدّمة الصلاة وهي الوضوء متوقّفة على الصلاة(1).

وهذا التقريب جوابه واضح، فإنّ المدّعى إنّما هو كون متعلّق الوجوب الغيريّ هو الحصّة الموصلة، لا كون الموقوف عليه الصلاة الحصّة الموصلة، بل الصلاة متوقّفة على ذات الوضوء، والموقوف على الصلاة هو الوضوء الموصل بما هو موصل، فلا دور.

الثاني: أن يقال بلزوم الدور في عالم الوجوب، حيث إنّه ينشأ من وجوب الوضوء وجوب غيريّ آخر على الصلاة، فيقال: إنّ وجوب الصلاة نشأ من وجوب الوضوء، ووجوب الوضوء نشأ من وجوب الصلاة، وهو الدور(2).

وقد أجاب السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا الإشكال بأنّ الوجوب



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 290 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 238 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

500

الذي تولّد من وجوب الوضوء هو وجوب غيريّ(1).

وهذا الجواب في غاية الوضوح، ولكن لعلّ مقصود المستشكل في الدور النظر إلى ما قالوه من فرض التأكّد. وتوضيح ذلك: أنّنا لو التزمنا بشوقين: أحدهما نفسيّ والآخر غيريّ، فاندفاع الدور واضح، لكن لو فرضنا: أنّنا أردنا أن نتجاوز عن محذور اجتماع المثلين بالتأكّد، فعندئذ ليس إلّا وجود واحد للشوق، فيلزم الدور. وإن شئتم قلتم: إنّ التأكّد بين أمرين موجودين في مرتبتين أمر غير معقول.

وبكلمة اُخرى نقول: يوجد عندنا وجوب نفسيّ للصلاة واقع في المرتبة الاُولى، ووجوب غيريّ للوضوء واقع في المرتبة الثانية، ووجوب غيريّ للصلاة واقع في المرتبة الثالثة، فإن بقي الأوّل والثالث على حدّهما، لزم اجتماع المثلين، وإن اتّحدا لزم تقديم المتأخّر وتأخير المتقدّم.

إلّا أنّك عرفت: أنّ الاُصول الموضوعيّة لهذا الإشكال غير صحيحة؛ لما تقدّم من الجواب الأوّل والثاني عن الوجه الثاني.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله): من أنّ تقييد شيء بما هو أخصّ مطلقاً منه مساوق لتقييده بوجود نفسه؛ لأنّ وجود الأخصّ المطلق مساوق لوجود الأعمّ، فكما يستحيل تقييد الشيء بنفسه كذلك يستحيل تقييده بما هو أخصّ مطلقاً منه، والحصّة الموصلة أخصّ مطلقاً من ذات المقدّمة.

هذا بيان وقع في تقرير المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(2)، ولعلّه وقع فيه نوع من الالتباس من المقرِّر؛ إذ من الواضح: أنّ الميزان في صحّة التقييد كون المقيَّد أعمّ ولو من



(1) راجع المصدر السابق، تحت الخطّ، والمحاضرات، ج 2، ص 414 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) بدائع الأفكار، ج 1، ص 388 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف.

501

وجه من القيد، لا كون القيد أعمّ ولو من وجه من المقيَّد، فإكرام الفقيه مثلا لا يعقل تقييده بكونه عالماً؛ لأنّ العالم أعمّ من الفقيه، والتقييد تخصيص، فلابدّ أن يكون المقيّد واجداً لحصّتين: حصّة واجدة للقيد، وحصّة فاقدة له، فالتقييد يتوقّف على أن لا يكون القيد أعمّ مطلقاً من المقيّد، أو مساوياً له، أمّا لو كان أخصّ مطلقاً منه، فلا بأس بالتقييد، فيقيّد الإنسان بالعالم؛ لأنّه قابل للتحصيص إلى العالم وغيره.

الوجه الخامس: ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله): من أنّه لو أتى بالمقدّمة، فهل يسقط الأمر الغيريّ قبل إتيانه بذي المقدّمة، أو لا؟ فإن فرض عدم السقوط، فهو تحصيل للحاصل، ولا شيء يحرّك نحوه؛ فإنّه لم يبقَ شيء يتحرّك نحوه غير ذي المقدّمة، وإن فرض السقوط، فسقوط الأمر لا يكون إلّا بالامتثال، أو العصيان، أو ارتفاع الموضوع، أو بحصول الغرض بفرد لا يعقل انبساط الأمر عليه؛ لخروجه عن القدرة، أو حرمته. أمّا فرض العصيان، فواضح البطلان؛ فإنّه في طريق الامتثال لا العصيان، ولو مات الآن لم يكن عاصياً، وأمّا ارتفاع الموضوع، فهو أيضاً باطل؛ إذ لا يزال لم يأتِ بذي المقدّمة، وأمّا عدم إمكان انبساط الأمر عليه، فأيضاً غير صحيح؛ إذ لا هو أمر غير مقدور، ولا هو فرد محرّم، فالمتعيّن هو فرض حصول الامتثال، وهو المطلوب(1).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 186 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

ويمكن الجواب على هذا الوجه بأنّنا نسأل: ما هو المقصود من سقوط الأمر بالمقدّمة بعد الإتيان بها، وقبل الإتيان بذي المقدّمة؟

إن كان المقصود سقوط فعليّة الأمر، فهذا ما لا نقول به حتّى بعد امتثال ذي المقدّمة؛ لأنّنا نرى: أنّ الامتثال يسقط فاعليّة الأمر لا فعليّته، وإن كان المقصود سقوط فاعليّة الأمر ومحرّكيّته، فقد مضى: أنّ الأمر الغيريّ لا محرّكيّة ولا فاعليّة له منذ البدء.

502

والجواب: أ نّا نختار عدم سقوط الأمر الغيريّ بالإتيان بالمقدّمة، ومحذور تحصيل الحاصل عليه نقض وحلّ:

أمّا النقض، فهناك نقض خاصّ على صاحب الكفاية بلحاظ مبانيه، ونقض عامّ بلحاظ المباني المشتركة بين صاحب الكفاية وغيره:

أمّا النقض الأوّل: فيمكن إيراده بلحاظ ما أفاده صاحب الكفاية في عدّة موارد: منها في بحث الإجزاء(1)، ومنها في بحث التعبّديّ والتوصّليّ(2).

ففي الأوّل ذكر في بحث تبديل الامتثال: أنّه يمكن بقاء الأمر حتّى بعد الامتثال إذا كان الواجب مقدّمة إعداديّة لغرض أقصى لم يستوفَ، فيبقى الأمر ببقاء الغرض الأقصى، ومن هنا يجوز تبديل الامتثال، فلو أمره المولى مثلا بالإتيان بماء، فأتى له بماء، جاز له قبل أن يشربه المولى ويرتفع العطش أن يبدّله بماء آخر، وكان هذا تبديلا في الامتثال، بينما هذا يرد عليه نفس إشكال المقام، فيقال: كيف يأمر بإتيان الماء وهو تحصيل للحاصل؟!

وفي بحث التعبّديّ والتوصّلي ذكر: أنّ الأمر تعلّق في التعبّديّ بذات الفعل، ومع ذلك لو أتى بذات الفعل بلا قصد القربة لم يسقط الأمر، مع أنّه يرد أيضاً نفس محذور تحصيل الحاصل، بل في هذين الموردين لا نملك جواباً على هذا المحذور، وفي موردنا نملك جواباً عليه.

وأمّا النقض الثاني: وهو النقض العامّ، فهو النقض بالأمر الضمنيّ، فالأمر الضمنيّ بتكبيرة الإحرام مثلا إن فرض عدم سقوطه بعد التكبير، فهو تحصيل للحاصل، وإن فرض السقوط، فله أحد مناشئ أربعة لا سبيل إلى الثلاثة الأخيرة



(1) المصدر السابق، ص 127.

(2) المصدر السابق، ص 107.

503

منها، فيتعيّن الامتثال، مع أنّه لا إشكال في أنّ الواجب الضمنيّ لا يمتثل إلّا في ضمن امتثال الواجب النفسيّ، وبالإتيان بالواجب النفسيّ.

وهذا نقض على مستوى محلّ الكلام، أي: أنّ الجواب الحلّيّ حلّ للإشكال في محلّ الكلام وفي مورد النقض معاً.

وأمّا الحلّ، فيكون بالجواب على إشكال تحصيل الحاصل، وقد يجاب عليه بصيغة بدويّة، وهي: أنّ الأمر لم يتعلّق بالتكبيرة ذاتها، بل بالتكبيرة المقيّدة بانضمام باقي الأجزاء، فمتعلّق الأمر لم يحصل، وما حصل إنّما هو ذات التكبير، وهو ليس متعلّقاً للأمر، وكذلك في المقدّمة إنّما تعلّق الأمر بالوضوء المقيّد بترتّب ذي المقدّمة عليه، أو بمجموع المقدّمات مثلا، فذات الوضوء ليس متعلّقاً للأمر، وما هو متعلّق الأمر لم يحصل بعدُ.

وهذا الجواب قد يُرى صحيحاً في بادئ الأمر، إلّا أنّه لا يثبت أمام التحليل، فإنّ الأمر الضمنيّ بالتكبير المقيّد بانضمام غيره ينحلّ إلى أمرين ضمنيّين: أمر ضمنيّ بذات التكبير، وأمر ضمنيّ بتقيّده بانضمام غيره، فينقل الكلام إلى الأمر بذات التكبير، وهو ليس متعلّقاً بالمقيّد، وإلّا جاء التحليل أيضاً، ولزم التسلسل، فلابدّ من الانتهاء إلى أمر بذات التكبير.

وروح المطلب، وحقّ المطلب أن يقال: إنّه لا يلزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ الأمر إذا كان ضمنيّاً فتحصيله أيضاً ضمنيّ، أي: كما أنّ الأمر الضمنيّ يكون في ضمن الأمر النفسيّ الاستقلاليّ كذلك محصّليّته ومحرّكيّته في ضمن محصّليّة ومحرّكيّة الأمر الاستقلاليّ، فهناك أمر واحد له محصّليّة واحدة بالتحليل ينحلّ إلى أوامر عديدة، وتحصيلات عديدة، فبعد فرض: أنّ هذه المحصّليّة ضمنيّة، أي: أنّ هذا جزء التحصيل، وأمّا التحصيل الحقيقيّ، فهو تحصيل المركّب، يصبح من الواضح: أنّ هذا ليس تحصيلا للحاصل؛ لأنّ المركّب لم يحصل، فتحصيل الحاصل إنّما يطبّق على التحصيل المستقلّ، أمّا الأمر الضمنيّ، فلو طبّق عليه الإشكال مع فرزه

504

عن باقي الأوامر الضمنيّة، كان خلف كونه ضمنيّاً(1).



(1) السيّد الخوئيّ (رحمه الله) ذكر الجواب الحلّيّ بتقريب آخر، وهو الالتزام بسقوط التكليف عن الجزء مراعى بإتيان جميع الأجزاء، دون ما إذا استقلّ الجزء في الوجود؛ لأنّ الأمر بالمركّب أمر بكلّ جزء بشرط انضمام الباقي، والجزء المجرّد عن باقي الأجزاء لا أمر به من أوّل الأمر ليسأل عن سقوطه وعدم سقوطه(1).

وفيه: أنّ السقوط المراعى هنا لا معنى له؛ لما عرفت: من أنّ الوجوب الضمنيّ سقوطه أيضاً ضمنيّ كوجوده وكتحريكه، فلا معنى لسقوطه قبل سقوط باقي الأجزاء مراعى بإتيان باقي الأجزاء في المستقبل، على أنّنا لو فرضنا إمكان سقوط الأمر الضمنيّ مستقلاًّ، فأيضاً لا معنى للسقوط المراعى؛ إذ حينئذ يتعيّن سقوط الأمر بهذا الجزء؛ إذ لا مبرّر لتوقّف سقوطه على الإتيان بباقي الأجزاء بعد أن لم يكن مرتبطاً في سقوطه بسقوط باقي الأجزاء، والقول بأنّ الإتيان بباقي الأجزاء شرط في كون هذا الجزء هو الجزء المتّصف بالوجوب، والجزء المجرّد لا وجوب له حتّى يسقط، أو لا يسقط عبارة اُخرى عن أنّ هنا وجوباً واحداً تعلّق بالمجموع، والمفروض انحلال هذا الوجوب إلى وجوبات متعدّدة غير مترابطة في السقوط، وذات كلّ جزء متعلّق لأمر ضمنيّ، وليس متعلّق هذا الأمر الضمنيّ عبارة عن هذا الجزء مع الجزء الآخر، أو مع الاقتران بالجزء الآخر، وإلّا لانحلّ أيضاً، فالأمر بهذا الذات يجب أن يسقط، وافتراض كون اقتران هذا الجزء بباقي الأجزاء عنواناً مشيراً إلى تلك الحصّة من الجزء المقترن غير صحيح؛ لما حقّقناه في محلّه: من أنّ فرض مشيريّة العنوان بنحو لا يرجع إلى التقييد لا يصحّ في مفاهيم الألفاظ التي يطرأ عليها الحكم، وإنّما يعقل في الاُمور الخارجيّة، وعليه فلابدّ ـ بناءً على سقوط الأمر الضمنيّ ـ من سقوط الأمر بذات الجزء حتّى مع فرض: أنّه سوف لن يأتي بباقي الأجزاء، وهذا خلاف الوجدان، فالصحيح إذن هو عدم السقوط؛ لأنّ السقوط في الأمر الضمنيّ أيضاً يجب أن يكون ضمنيّاً.


(1) راجع المحاضرات، ج 2، ص 417 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

505

وهذا هو الفرق بين محلّ الكلام وموردي النقض على صاحب الكفاية، فإنّ الأمر في المقام ضمنيّ، وتحصيله ضمنيّ، أي: ليس تحصيلا، وإنّما هو جزء التحصيل، بخلاف الأمر في ذينك الموردين.

وهذا البيان يجري في الأوامر الغيريّة أيضاً بناءً على المقدّمة الموصلة، وأنّ الأمر بالمقدّمة أمر بها مع انضمام سائر المقدّمات أو القيود إليها.

الوجه السادس: ما ذكره صاحب الكفاية(1) أيضاً، وهو: أنّ دخل قيد في الواجب لا يكون جزافاً، بل يكون بلحاظ دخله في ملاك ذلك الوجوب، وقيد التوصّل ليس دخيلا في ملاك الوجوب.

وهذا البرهان يختلف عن البراهين السابقة بأنّ البراهين السابقة كانت تبيّن المانع عن أخذ قيد التوصّل، وهذا البرهان يقول: لا مقتضي لأخذه. وتوضيحه يكون بأن نعرف ما هو ملاك وجوب الواجب الغيريّ، ويستخلص من كلمات صاحب الكفاية عدّة صيغ لهذا الملاك:

1 ـ إنّ الملاك هو جعل ذي المقدّمة ممكناً لا وجوده مباشرة؛ لوضوح: أنّ وجوده ليس من الفوائد المترتّبة على وجود المقدّمة دائماً، إلّا في المقدّمات السببيّة التي لا تنفكّ عن ذيها، وأمّا في غير ذلك، فما يحصل ببركة المقدّمة إنّما هو إمكان ذي المقدّمة الذي قد يوجد وقد لا يوجد، ومن الواضح: أنّ التوصّل ليس له دخل في إمكان ذي المقدّمة(2).

وهذه الصيغة لها مناقشة عامّة تطّرد في كلّ الصيغ التي سوف نذكرها، نؤجّلها



(1) الكفاية، ج 1، ص 184 ـ 186 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات الشيخ المشكينيّ.

(2) نفس المصدر، ص 184 ـ 185.

506

إلى آخر الصيغ، ولها مناقشة خاصّة، وهي: أنّه هل المراد بإمكان ذي المقدّمة ما يقابل الامتناع الذاتيّ، أو ما يقابل الامتناع الوقوعيّ، أو ما يقابل الامتناع بالغير؟

فإن اُريد به ما يقابل الامتناع الذاتيّ، يرد عليه: أنّ الإمكان في مقابل الامتناع الذاتيّ ثابت بذاته، فإنّ فرض كونه ممتنعاً ذاتيّاً يناقض فرض توقّفه على المقدّمة.

وإن اُريد به ما يقابل الامتناع الوقوعيّ، أي: ما يكون مستلزماً للمحال، لا هو محال، أي: ما تكون علّته محالا ذاتيّاً، لا هو محال ذاتيّ، يرد عليه: أنّه يكفي في دفع الامتناع الوقوعيّ إمكان المقدّمة، ولا أثر لوجودها في ذلك.

وإن اُريد به ما يقابل الامتناع بالغير، فالامتناع بالغير مقابله الوجوب بالغير، فإنّ كلّ ممكن إن كانت علّته موجودة، فهو واجب بالغير، وإن كانت غير موجودة، فهو ممتنع بالغير، فمقابل الامتناع بالغير هو الوجوب بالغير المساوق لوجود ذي المقدّمة، وهو خلف مقصوده.

2 ـ ما يقارب الصيغة الاُولى مع اختلاف في الصياغة، وهو: أنّ الملاك القدرة على ذي المقدّمة، وهي تحصل بذات المقدّمة بلا دخل قيد التوصّل(1).

وهذا أيضاً له جواب عامّ نذكره في آخر الصيغ، وجواب خاصّ، وهو: أنّ القدرة على ذي المقدّمة تتوقّف على القدرة على المقدّمة، لا على ذات المقدّمة، ولو كانت ذات المقدّمة دخيلة في القدرة، لأصبحت مقدّمة الوجوب، لا مقدّمة الواجب.

3 ـ إنّ الملاك حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة.

وهذا المطلب يمكن أن يبيّن بعدّة تعبيرات:



(1) نفس المصدر، ص 191. والتعبير هكذا: الغاية إنّما هو حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى المطلوب النفسيّ.

507

أحدها: هذا التعبير الذي ذكرناه، وهو حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة، وهذا تعبير جاء في بعض فقرات كلام صاحب الكفاية(1).

والثاني: تعبير المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وهو: أنّ الملاك في الواجب الغيريّ هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من هذه الجهة؛ فإنّ عدم كلّ مقدّمة من مقدّماته يصلح أن يكون علّة لعدم ذي المقدّمة، ويكون باباً من أبواب عدمه(2).

وهذا عبارة اُخرى عن المطلب الأوّل، وهو: أنّ الغرض من المقدّمة حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة.

والثالث: أنّ الغرض من المقدّمة التهيّؤ والاقتراب نحو الإتيان بذي المقدّمة.

وهذا أيضاً تعبير آخر عن سابقه؛ فإنّه كلّما سدّ باب من أبواب عدمه قيل عنه: إنّه اقترب إليه، فهذه تعبيرات عن روح واحدة، ولا شكّ في أنّ هذه الروح مطلب يترتّب على المقدّمة، ولا يكون موجوداً قبلها، كما لا شكّ أنّه يحصل بذات المقدّمة بلا قيد الإيصال، فإن كان هذا هو الملاك في وجوب المقدّمة، فقيد التوصّل، أو ما يساوقه ليس دخيلا في الواجب الغيريّ.

ولكن الصحيح: أنّ هذا ليس هو الملاك الأساس في الواجب الغيريّ، بل لابدّ من الاعتراف بعبارة صريحة بأنّ الغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ هو وجود الواجب النفسيّ، لا التهيّؤ، ولا الاقتراب، ولا سدّ باب من أبواب العدم، ولا تحصيل القدرة، ولا الإمكان، ولا حصول ما لولاه لم يحصل ذو المقدّمة، أو



(1) نفس المصدر، ص 184. إلّا أنّه ورد فيه التعبير بــ «لما أمكن حصول ذي المقدّمة».

(2) المقالات، ج 1، المقالة 19، ص 330 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 340 و 342 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

508

نحو ذلك، فإنّ أيّ غرض آخر نفترضه هو الملاك في الواجب الغيريّ غير نفس وجود ذي المقدّمة، فهذا الغرض لا يخلو حاله من أحد شقوق أربعة:

1 ـ كون هذا الغرض في نفسه محبوباً نفسيّاً، أي: أنّ المولى يحبّ نفس إيجاد القدرة، أو الإمكان، أو غير ذلك من تلك الاُمور بذاته.

وهذا خلف؛ لأنّ المفروض: أنّه لا يوجد مطلوب نفسيّ إلّا ذو المقدّمة، وهو الصلاة مثلا. أمّا لو كانت نفس القدرة مثلا مطلوبة نفساً، فالوضوء يصبح مقدّمة توليديّة وموصلة دائماً، وهذا كلّه خلف المفروض، إذن، فلابدّ أن يكون حبّ المولى لتحصيل القدرة، أو الإمكان، أو التهيّؤ، أو سدّ باب العدم، أو نحو ذلك حبّاً غيريّاً، فلابدّ أن يكون وراءه غرض أيضاً، فما هو الغرض الذي من ورائه؟

2 ـ أن يفرض: أنّ هذا الغرض محبوب غيريّ، وأنّ الغرض الذي يكون من وراء هذا الغرض عبارة عن نفس الواجب النفسيّ، فغرض الغرض هو الواجب النفسيّ.

وهذا حاله حال ما لو قيل ابتداءً: إنّ الغرض من المقدّمة هو الواجب النفسيّ، أي: أنّه في صالح القول بالمقدّمة الموصلة، فإنّ غرضاً من هذا القبيل لا يدعو إلى الشوق إلى المقدّمة في دائرة أوسع من دائرة المقدّمة الموصلة.

3 ـ أن يكون هذا الغرض الغيريّ ناشئاً من غرض غيريّ آخر، وهكذا حتّى يتسلسل بلا وصول إلى غرض نفسيّ.

وهذا واضح البطلان؛ لبطلان التسلسل.

4 ـ أن يكون منتهياً إلى غرض نفسيّ غير الصلاة.

وهذا باطل؛ لأنّ المفروض عدم وجود غرض نفسيّ آخر.

وخلاصة ما يتبرهن بهذا البيان: أنّ الغرض من الواجب الغيريّ يجب: إمّا أن يكون هو الواجب النفسيّ، أو أن ينتهي إليه؛ إذ لا يمكن أن يكون الغرض منه شيئاً

509

آخر بنحو المحبوبيّة النفسيّة، أو منتهياً إلى محبوب نفسيّ غير الصلاة، فإنّه خلف، ولا يمكن التسلسل، فالغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ إنّما هو وجود الواجب النفسيّ.

وأمّا المقام الثاني: فالبرهان الصحيح على المقدّمة الموصلة هو ما اتّضح بما ذكرناه أخيراً في إبطال الوجه السادس من وجوه البرهنة على بطلان المقدّمة الموصلة القائل بأنّ ملاك الوجوب لا يختصّ بالمقدّمة الموصلة، فقد وضّحنا: أنّ الغرض الحقيقيّ من الواجب الغيريّ إنّما هو وجود الواجب النفسيّ، وإلّا لزم الخلف، أو التسلسل على ما مضى شرحه آنفاً.

فهذا ـ بحسب الحقيقة ـ ليس فقط دفعاً للبرهان المذكور على نفي المقدّمة الموصلة، بل برهان على المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الغرض من الواجب الغيريّ إن كان هو وجود الواجب النفسيّ، أو منتهياً إليه، فهو ضيّق، لا يترتّب إلّا على المقدّمة الموصلة.

نعم، يبقى علينا أن نعرف الصيغة المعقولة للمقدّمة الموصلة، أي: ماذا يؤخذ في الواجب بحيث تصير مقدّمةً موصلة؟

وهذا بحث تصوّريّ لما تمّ عليه البرهان.

فنقول: هناك عدّة تصوّرات لاختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة:

التصوّر الأوّل: أن يتقيّد الواجب بما يترتّب عليه الصلاة.

وهذا هو الذي كان ملحوظاً في نظرهم حينما أشكلوا بلزوم الدور والتسلسل.

وهذا التصوير غير صحيح، لا للدور والتسلسل، فإنّه تقدّم الجواب عليهما، بل لنكتة اُخرى، وهي: أنّ ملاك الوجوب الغيريّ هو المقدّميّة لوجود الواجب النفسيّ، وما لا يقع في طريق الواجب النفسيّ ليس مقدّمة، ولا معنى لانبساط الوجوب الغيريّ عليه، وقيد الترتّب أمر منتزع عن وجود الواجب النفسيّ، فليس

510

واقعاً في طريق تحقّق الواجب النفسيّ، وأخذ هذا القيد في الواجب الغيريّ معناه انبساط الوجوب الغيريّ عليه، وهو غير معقول؛ فإنّ الوجوب الغيريّ يعني الوجوب لأجل الغير، فكيف ينبسط على ما لا يتوقّف عليه الغير؟!

التصوّر الثاني: أن يقال: إنّ المأخوذ في الواجب الغيريّ ليس هو عنوان ترتّب الواجب النفسيّ، بل عنوان التوصّل إلى الواجب النفسيّ.

وتوضيحه: أنّه حينما يتحقّق ذو المقدّمة فعندنا عنوانان منتزعان: أحدهما ترتّب الصلاة على الوضوء، وهذا في طول وجود ذي المقدّمة، والآخر عنوان التوصّل إلى الصلاة، وهو عنوان ينتزع من الوضوء في عرض ترتّب الصلاة، فكأنّ الوضوء له معلولان: معلول خارجيّ، وهو الصلاة، ومعلول انتزاعيّ، وهو التوصّل إلى الصلاة، والموصليّة والعلّيّة ونحو ذلك من العناوين التي تنتزع من الوضوء وتكون في عرض الصلاة، فالمقدّمة تقيّد في هذا التصوير بهذا العنوان الذي هو في عرض ترتّب الصلاة بدلا عن تقييدها بترتّب الصلاة، وهذا التبديل هو الذي صنعه المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في تفسير المقدّمة الموصلة(1) لكي يدفع إشكالات الدور والتسلسل(2).

لكن هذا الكلام لو تمّ لا يدفع نكتة إشكالنا على التصوير السابق، فإنّ هذا العنوان، أو التقيّد به ليس واقعاً في طريق تحقّق الصلاة، وغاية ما يفرض: أنّه ملازم له وفي عرضه، فانبساط الوجوب الغيريّ على التوصّل بهذا المعنى ـ لو تعقّلناه ـ



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 142 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 142 ـ 143 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت. وقد ذكر تحت الخطّ بعنوان التعليق على نهاية الدراية بطلان إشكال الدور، بقطع النظر عن تفسيره للموصلة، وذكر أيضاً كون هذا الفهم للموصلة مبطلا آخر لإشكال الدور.

511

غير معقول أيضاً، كانبساطه على قيد ترتّب الصلاة، وإلّا لزم ترشّح الوجوب الغيريّ على كلّ ما يلازم الواجب النفسيّ، مع أنّه لا يترشّح إلّا على ما هو واقعفي طريقه.

التصوّر الثالث: فرض المقدّمة الموصلة بنحو الحصّة التوأم على النحو الذي ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1).

وتوضيحه ببيان أمرين:

الأوّل: أنّ الأمر بشيء تارةً يتعلّق بالمطلق، كالأمر بالصلاة المطلقة من ناحية إيقاعها في المسجد وعدمه، واُخرى يتعلّق بالمقيّد، بأن يدخل التقيّد تحت الأمر مع خروج القيد، فيقال مثلا: «صلِّ إلى القبلة»، فالأمر متعلّق بذات الفعل وبالتقيّد، مع خروج القيد، وثالثة يتعلّق الأمر بذات المقيّد على نحو يكون القيد والتقيّد معاً خارجين عن متعلّق الأمر، ويكون متعلّق الأمر ذات الحصّة، فلا هو مطلق بحيث يسري الأمر إلى تمام الحصص، ولا هو مقيّد بأن يكون التقيّد داخلا تحت الأمر، فمن ناحية يشبه المقيّد؛ لوقوف الأمر على الحصّة، ومن ناحية اُخرى يشبه المطلق؛ لعدم دخول التقيّد تحت الأمر، ويكون القيد مجرّد مشير إلى ذات الحصّة التوأم، كما في قولنا: «إمامي خاصف النعل»، فخاصف النعل مجرّد عنوان مشير من دون دخل للقيد، أو للتقيّد به في استحقاق الذات الشريفة للإمامة.

الثاني: أنّ الأمر المقدّميّ في المقام لا يمكن تعلّقه بالمطلق، ولا بالمقيّد، فيتعيّن الشقّ الثالث، وهو تعلّقه بالحصّة التوأم بالإيصال؛ لما عرفت: من أنّ الشقوق ثلاثة.

أمّا امتناع الإطلاق، فلأنّه خلف برهان المقدّمة الموصلة بحسب الفرض، وأمّا



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 331، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 340 ـ 343.

512

امتناع التقييد، فلأنّ القيد المتصوّر أحد قيدين، وكلاهما ممتنع:

أحدهما: التقيّد بترتّب الواجب وانضمامه، وهو غير معقول؛ لبعض البراهين الذي نسبناه(1) إلى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) على ما تقدّم.

والثاني: تعلّق الأمر بالوضوء المقيّد بانضمام سائر المقدّمات إليه، كما أنّ الأمر بتطهير الثوب أيضاً كذلك، وهكذا الحال في الأمر بكلّ مقدّمة، سنخ ما يدّعى في باب الأجزاء في المركّب الارتباطيّ: من أنّ الأمر بكلّ جزء متعلّق بالجزء المقيّد بباقي الأجزاء.

وهذا أيضاً مستحيل؛ لأنّ كلّ واحد من المقدّمات أو الأجزاء إذا تقيّد بانضمام المقدّمات الاُخرى، أو الأجزاء الاُخرى، لزم الدور، فإذا كان الركوع قيداً في التكبير وبالعكس، أو كان الوضوء قيداً في تطهير الثوب وبالعكس، كان كلّ منهما مقيّداً بالآخر، وبالتالي كان كلّ منهما مقدّمة للآخر، وهذا دور باطل.

وكلّ من الأمرين اللذين حلّلنا إليهما كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) غير صحيح:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ فكرة الحصّة التوأم ـ وهي أن يكون القيد والتقيّد كلاهما خارجاً، ومع هذا يقف الوجوب على الحصّة ـ غير معقولة عندنا، وقد تقدّم في بحث التعبّديّ والتوصّليّ: أنّ هذا المطلب لا يعقل في باب المفاهيم، وإنّما يعقل في الأفراد الخارجيّة، أي: أنّ الحصّة الخاصّة تارةً يفرض: أنّ لها نحو تعيّن خارجيّ، وامتياز وجوديّ بقطع النظر عن القيد والتقيّد، كتعيّن ذات أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)بقطع النظر عن خصف النعل، فهنا يعقل كون موضوع الحكم ذات



(1) الدليل الموجود في المقالات، ص 330 بحسب الطبعة الماضية، وفي نهاية الأفكار، ص 340 ـ 341 بحسب الطبعة الماضية على عدم التقييد هو: أنّ الملاك والغرض المترتّب على كلّ مقدّمة إنّما هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من ناحية تلك المقدّمة.

513

الحصّة، وكون خصف النعل مجرّد عنوان مشير. واُخرى يفرض: أنّها حصّة مفهوميّة، فلا تعيّن لها في مقابل باقي الحصص بقطع النظر عن التقيّد، كالعالم العادل في مقابل العالم غير العادل، فإنّه لا تعيّن لهذه الحصّة بقطع النظر عن التقييد بالعدالة؛ لأنّنا نتكلّم في المفاهيم، فهذا التقييد: إن أخذناه في مصبّ الحكم، دخل التقيّد تحت الأمر، وإن أخرجناه، سرى الحكم ـ لا محالة ـ إلى باقي الحصص؛ إذ بعد إخراجه لم يبقَ تباين بين العالم العادل والعالم غير العادل.

وأمّا الأمر الثاني: وهو أنّه يلزم أن تكون كلّ مقدّمة قيداً في الاُخرى، أي: مقدّمةً للاُخرى ـ وطبّق ذلك على الأجزاء أيضاً ـ فهذا من غرائب(1) مدرسة المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، فإنّه لم تصبح كلّ مقدّمة مقدّمة لذات الاُخرى، بل أصبحت مقدّمة للمقيّد من المقدّمة الاُخرى، وما هي مقدّمة لها ذات المقدّمة الاُخرى، فالموقوف عليه غير الموقوف عليه، فلا دور، وكأنّه قاس المقدّمة الشرعيّة بالمقدّمة العقليّة، فإنّ المقدّميّة هنا شرعيّة، نشأت من أخذ التقيّد في الواجب، والمقدّمة الشرعيّة مقدّمة للمقيّد، لا لذات الشيء، بخلاف المقدّمة العقليّة، فنصب السلّم مقدّمة لذات الكون على السطح، ولكن الوضوء مقدّمة للصلاة المقيّدة بالوضوء، والمقدّميّة المدّعاة في باب المقدّمات المتعدّدة، وكذلك الأجزاء شرعيّة، لا عقليّة.



(1) لم أجد هذا الشيء الغريب في المقالات، ولا في نهاية الأفكار، ولكن وجدته في بدائع الأفكار، ج 1، ص 392 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف، أمّا تطبيق ذلك على الأجزاء فلم أجده.

نعم، وردت في المقالات، ج 1، ص 330 بحسب الطبعة التي أشرنا إليها، وكذلك في نهاية الأفكار، ج 1، ص 340 ـ 341 البرهنة على عدم تقيّد كلّ مقدّمة بالانضمام إلى مقدّمة اُخرى بما مضى منه: من دعوى: أنّ الملاك والغرض من وجوب كلّ مقدّمة إنّما هو سدّ باب عدم ذي المقدّمة من زاوية تلك المقدّمة.

514

التصوّر الرابع: أنّ الأمر الغيريّ يتعلّق بمجموع المقدّمات التي لا تنفكّ عن ذي المقدّمة، لا بمعنى: أنّ عنوان (لا ينفكّ عن ذي المقدّمة) مأخوذ في متعلّق الأمر، بل الأمر تعلّق بواقع ما لا ينفكّ عن ذلك، فلنفرض: أنّ مجموع المقدّمات التي لو وجدت لوجد ذو المقدّمة اُمور عشرة، فالأمر متعلّق بمجموع تلك الاُمور، وعنوان (ما لا ينفكّ) عنوان مشير لا أكثر، والأمر بكلّ واحد من تلك الاُمور العشرة أمر ضمني.

وهذا هو التصوير الصحيح للقول بالمقدّمة الموصلة.

إلّا أنّه قد اعترض عليه، أو يمكن الاعتراض عليه بعدّة اعتراضات، وكلّها مدفوعة:

الأوّل: أن يقال: إنّ هذه المجموعة لا تتصوّر إلّا في المقدّمات السببيّة، كما في الإحراق الذي مقدّمته الإلقاء في النار، فيقال: إنّ الوجوب المقدّمي متعلّق بمجموع المقدّمات التي آخرها الإلقاء في النار، وهو لا ينفكّ عن الإحراق، ولكن في الواجبات التي ليست لها مقدّمة سببيّة من هذا القبيل كالصلاة التي يمكن تركها بعد الإتيان بكلّ المقدّمات لا يتمّ ذلك(1).

والجواب: أنّه في ذلك نُدخِل في مجموع المقدّمات الإرادة والجزم والعزم، فإذا دخلت الإرادة لم ينفكّ عن ذي المقدّمة، ومن هنا قد يصعّد الإشكال إلى الاعتراض الثاني:

الثاني: أنّه إذا اُدخلت الإرادة في المقدّمات، لزم التكليف بأمر غير اختياريّ؛ لأنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 185 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ.

(2) نفس المصدر، ص 186.

515

وهذا الإشكال لا يرد على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) القائل بأنّ الاختيار عبارة عن هجمة النفس، وإعمال القدرة الذي هو عمل نفسانيّ، فإنّه يقال: إنّ نفس هجمة النفس وإعمال القدرة عمل اختياريّ بذاته، واختياريّة باقي الأعمال به.

نعم، يوجد لهذا الإشكال مجال على مسلك صاحب الكفاية القائل بأنّ الاختيار عبارة عن الإرادة والشوق، فيقال: إنّ الإرادة ليست إراديّة، وإلّا لتسلسل(1).

وقد يجاب على هذا المسلك أيضاً بأنّ الإرادة يمكن نشوؤها من الإرادة بالتفكير في فوائد الشيء ونحو ذلك. نعم، لابدّ من الانتهاء إلى إرادة غير اختياريّة، لكن تكفي اختياريّة الإرادة الاُولى.

وهذا الجواب قد ذكره المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(2).

ولكنّه يرد عليه: أنّه في الحالات الاعتياديّة لا يعقل تعلّق الإرادة بأن يريد، والنكتة في ذلك: أنّ تعلّق الإرادة بشيء لا يكون جزافاً، بل يكون بلحاظ المصلحة في المتعلّق، فلو فرض: أنّ شخصاً يريد أن يريد الصلاة من دون أن يكون بالفعل مريداً للصلاة، فهذه الإرادة الفعليّة المتعلّقة بالإرادة لابدّ أن تكون ناشئة من مصلحة في المتعلّق، وهي إرادة الصلاة، وفي الحالات الاعتياديّة لا توجد مصلحة في إرادة الصلاة، أو إرادة أيّ فعل آخر، إلّا المصلحة الطريقيّة



(1) الفرق بين المسلكين الموجب لعدم ورود هذا الإشكال على مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، واختصاصه بمسلك صاحب الكفاية هو: أنّ هجمة النفس لم تفترض في مسلك المحقّق النائينيّ (رحمه الله) مقهورة لشيء سابق، ولكنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد تفترض في مسلك صاحب الكفاية مقهورة لمقدّمات الشوق.

(2) نهاية الدراية، ج 2، ص 141 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

516

التي مرجعها إلى المصلحة النفسيّة القائمة بذات المراد، وإلّا فالإرادة بما هي إرادة، أيّ مصلحة فيها ما لم نفرض فروضاً استثنائيّة؟!

وعندئذ نقول: إنّ تلك المصلحة النفسيّة القائمة بذات الفعل: إمّا أن تكون كافية في محرّكيّة المكلّف نحو الفعل، وقدح شوقه نحوه، إذن توجد في نفسه إرادة الصلاة ابتداءً، وإن لم تكن كافية لذلك، فكيف يعقل أن تكون المصلحة الطريقيّة القائمة بإرادة الفعل محرّكة نحو إرادة الإرادة؟

إذن، ففرضيّة: أنّه يريد أن يريد الصلاة من دون أن يريد الصلاة بالفعل فرضيّة غير معقولة عادةً، فهذا الجواب غير صحيح.

والصحيح في الجواب: أنّ الوجوب الغيريّ لا محذور في تعلّقه بالإرادة وإن فرض كونها أمراً غير اختياريّ؛ وذلك؛ لأنّ التكليف بغير الاختياريّ إنّما نقول باستحالته لمحذورين:

1 ـ إنّ التكليف يكون بداعي الباعثيّة والمحرّكيّة التي هي غير معقولة في غير الاختياريّ.

2 ـ إنّ التكليف بغير المقدور إحراج للمكلّف، وإلجاء له إلى الوقوع في المعصيّة والعقاب، وهو قبيح.

وكلا هذين المحذورين غير موجود في المقام:

أمّا الأوّل، فلأنّ الوجوب الغيريّ وجوب تبعيّ قهريّ، وليس وجوباً مجعولا من قبل المولى بداعي البعث والتحريك.

وأمّا الثاني، فلأنّه لا يلزم في المقام إحراج: إمّا لأنّ الوجوب الغيريّ لا ثواب ولا عقاب عليه بما هو هو على ما مضى، وإمّا لأنّ الوجدان قاض بأنّ التكليف بإرادة الصلاة ليس فيه أيّ إحراج زائد على التكليف بالصلاة.

الثالث: أنّ مجموع المقدّمات حتّى مع ضمّ الإرادة ليس مقدّمة موصلة على

517

ما ذكرناه في بحث الجبر والاختيار: من أنّ الفعل الاختياريّ لا يخرج بالإرادة والشوق الأكيد من الإمكان إلى الوجوب، والوجدان قاض بأنّه برغم هذا الشوق يمكنه أن يعاكس شوقه، ولا يأتي بما اشتاق إليه، وقد مضى: أنّ قاعدة: (أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) لا تنطبق على الأفعال الاختياريّة للإنسان.

والجواب: أنّه لو قصدنا بالمقدّمة الموصلة ما يستحيل انفكاك ذي المقدّمة عنه، جاء هذا الإشكال، لكن ليس هذا هو المقصود، فإنّ الاستحالة ليست دخيلة في برهان المقدّمة الموصلة، وإنّما المقصود: المقدّمة التي يضمن معها ترتّب الغرض ـ أعني: ذا المقدّمة ـ عليه، ولا يحتمل أحد من الموالي أنّ العبد إذا تمّت في حقّه كلّ المقدّمات مع الشوق الأكيد، والإرادة نحو شيء، وله قدرة تامّة عليه، ولا مزاحم له في إعمال قدرته، ولا يوجد أيّ محذور في إقدامه عليه، فمع ذلك لا يفعل ذلك الفعل.

الرابع: أن يقال: إنّ الإرادة لا يمكن أن يجعل عليها الوجوب الغيريّ وإن كانت مقدّمة؛ لأنّ فيها نكتة تميّزها عن باقي المقدّمات، وهي: أنّ الأمر بذي المقدّمة الذي معناه: إيجاد الباعث والمحرّك نحو الصلاة لو حلّلناه، لوجدنا أنّه بالمباشرة دعوة نحو إرادة الصلاة؛ لأنّ الأمر بالصلاة مرجعه إلى الباعثيّة والتحريك نحو الصلاة، ومعنى ذلك: إيجاد الداعي في نفس المكلّف، وهذا معناه: إيجاد الإرادة، فكلّ تكليف نفسيّ بشيء يحرّك في الواقع مباشرة نحو إرادة ذلك الفعل، ولكنّه لا يحرّك مباشرة نحو سائر المقدّمات، فمن هنا أمكن إيجاد محرّك آخر نحو سائر المقدّمات كالوضوء، بخلاف الإرادة.

وجواب ذلك اتّضح ممّا مضى، فإنّ الوجوب الغيريّ ليس وجوباً مجعولا بداعي المحرّكيّة والباعثيّة حتّى يقال: لم يبقَ مجال لذلك، بل لو كان مجعولاً

518

بداعي المحرّكيّة والباعثيّة، لأشكل الأمر في باقي المقدّمات أيضاً؛ لأنّ الأمر النفسيّ بالفعل وإن لم يكن محرّكاً نحوها بالمباشرة، لكنّه محرّك نحوها تسبيباً، والوجوب الغيريّ لا يوجد له أيّ تحريك جديد، وتأكيد للمحرّكيّة السابقة.

الخامس: أنّ إيجاب الإرادة معناه: إيجاد المحرّك نحو الإرادة، وإيجاد المحرّك نحو الإرادة معناه: إيجاد الإرادة للإرادة، فكما أنّ الوجوب النفسيّ المتعلّق بأصل الصلاة يقتضي إرادة الصلاة، كذلك الوجوب الغيريّ المتعلّق بإرادة الصلاة يقتضي إرادة إرادة الصلاة، مع أنّ إرادة إرادة الصلاة ليس لها أيّ مقدّميّة نحو الصلاة، فليس كلّ من يصلّي يريد أن يريد، ثمّ يريد، ثمّ يصلّي، بل أكثر المصلّين عادةً يريد الصلاة ابتداءً.

وهذا الكلام ـ بغضّ النظر عن المناقشة التي مضت: من أنّ الوجوب الغيريّ ليس للتحريك، وإنّما هو وجوب قهريّ ـ يرد عليه: أنّ هذا الكلام بنفسه يجري في سائر المقدّمات، فإنّ الأمر بنصب السلّم معناه: إيجاد إرادة نصب السلّم، مع أنّه كثيراً ما يتحقّق نصب السلّم من دون إرادة.

وحلّ المطلب: أنّ إرادة الإرادة مثلا، أو إرادة نصب السلّم مقدّمة للتحصيل لا للحصول، فقد يتّفق أنّ المقصود يوجد صدفة بلا إرادة، فحصول الواجب النفسيّ لا يتوقّف على إرادته فضلا عن إرادة إرادته، ولكن تحصيله من قبل المولى يكون طريقه منحصراً بقدح الإرادة في نفس العبد عن طريق الأمر، لا أن يجلس المولى في بيته ويقول: لعلّه يتحقّق نصب السلّم صدفة، فهذا كأنّه خلط بين التحصيل الذي يكون بالإرادة التشريعيّة للمولى والحصول الذي يكون بالإرادة التكوينيّة، وانتظار الصدفة خلف التحصيل، فلو لم يكلّف المولى العبد بإرادة شيء معناه: أنّه لم يحصّل ذلك الشيء.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الحقّ هو كون الوجوب مخصوصاً بالمقدّمة