441

قرينيّته بالنسبة إليها، ولا تعارض في المقام، فإنّه فرع استقرار كلّ من الظهورين في حدّ نفسه. وهنا أيضاً أقوائيّة الشموليّ ليس لها أثر؛ إذ أثرها يظهر لو وجد ظهوران متعارضان.

هذا تمام الكلام في دوران التقييد المنفصل، أو المتّصل بين الرجوع إلى المادّة، أو الهيئة.

كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام:

بقي كلام للمحقّق النائينيّ (رحمه الله) ذكره، وطبّقه على المقام(1)، وهو في نفسه ـ بغضّ النظر عن تطبيقه على المقام ـ مطلب مهمّ في الجمع العرفيّ في باب التعادل والتراجيح، وهو: أنّ قانون الجمع بين الدليلين بتقديم الأقوى منهما الذي هو نحو جمع عرفيّ إنّما يكون في دليلين متعارضين تعارضاً ذاتيّاً مثل: (لا تكرم أيّ فاسق، وأكرم الهاشميّ) دون ما إذا كان التعارض عرضيّاً للعلم الإجماليّ صدفة بكذب أحدهما، كما لو قال: (لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً: الطعام، والشراب، والنساء)، وقال: (لا تقضي الحائض ما فاتها من الصلاة)، وعلمنا إجمالا: إمّا بخروج صلاة الآيات من الثاني، أو الارتماس من الأوّل.

وقال (رحمه الله): إنّ ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة إنّما هو تعارض عرضيّ للعلم الإجماليّ صدفة بكذب أحدهما(2).



(1) في خصوص فرض المقيّد المنفصل دون المتّصل.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 163 ـ 164 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 216 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

442

أقول: إنّ دعوى عدم تقديم أحد الظهورين على الآخر بالأقوائيّة عند فرض التعارض بالعرض ولو فرض أنّ أحدهما في منتهى درجة القوّة، والآخر في منتهى درجة الضعف خلاف ما يبدو للذهن من الارتكاز العرفيّ على الخلاف، مثلا حينما يقول المولى: (لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاثاً)، كان ظهور الكلام في الحصر قويّاً جدّاً، بينما ظهور قوله: (لا تقضي الحائض ما فاتتها من الصلاة) في شموله لصلاة الآيات التي يكون ابتلاء الحائض بها في غاية الندرة، وأوّل ما يتبادر إلى الذهن الصلوات اليوميّة التي تبتلي الحائض بها في كلّ يوم ضعيف جدّاً، فالذي يبدو لنا بحسب الفطرة العرفيّة أنّه ينبغي تقديم الأوّل على الثاني إذا علمنا إجمالا بمخالفة أحد الظهورين للواقع، فينبغي أن نرى: أنّه ما هي الشبهة التي دعت إلى مجافاة هذا الارتكاز، ويمكن تقريبها بعدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: ما هو محتمل أجود التقريرات، وظاهر فوائد الاُصول، وهو: قياس العلم الإجماليّ صدفة بكذب أحد الظهورين على العلم الإجماليّ صدفة بكذب أحد الخبرين، فكما أنّ العلم الإجماليّ صدفة بكذب أحد الخبرين في نقله لا يوجب تقديم ما هو الأظهر منهما؛ لوضوح: أنّ نسبة العلم الإجماليّ بالكذب إليهما على حدّ سواء، وليس الأقوى ظهوراً أبعد عن الكذب، ولا الأضعف ظهوراً أقرب إلى الكذب، فكذلك العلم الإجماليّ صدفة بكذب أحد الظهورين لا يوجب تقديم ما هو الأظهر منهما.

وهذا التقريب مبنيّ على الخلط بين مرحلتين، فإنّه توجد عندنا مرحلتان بلحاظ الكلامين المتعارضين:

إحداهما: أنّ هذين الكلامين هل صدرا من المولى، أو لا؟

والثانية: أنّه بعد فرض صدورهما منه، وكون كلّ منهما كاشفاً عن المراد الجدّيّ هل يكون واقع مراد المولى على طبق هذا الكشف، أو ذاك؟

443

وقواعد الجمع العرفيّ، وتقديم أقوى الظهورين كلّها مرتبطة بالمرحلة الثانية، أي: أنّه بعد الفراغ عن صدورهما معاً يقال: هذا له كشف عن العموم مثلا، وذاك له كشف عن الخصوص، فيقدّم ما هو أشدّ كشفاً، ويصلح أن يكون قرينة على المراد من الآخر. أمّا لو وقع الإشكال والكلام في المرحلة الاُولى، وعلم إجمالا بكذب أحدهما، ففي هذه المرحلة لا معنى لإعمال قواعد الجمع العرفيّ، وتقديم أقوى الظهورين؛ إذ لم يفرض صدور كلامين منه حتّى يقدم أقواهما كشفاً وظهوراً، بل نعلم: أنّه لم يصدر منه إلّا كلام واحد، فلا معنى لإعمال قواعد الجمع العرفيّ.

أو قل بكلمة اُخرى: إنّه بلحاظ المرحلة الاُولى ـ أعني: جهة الصدور ـ نسبة احتمال الكذب إلى كلّ من الخبرين على حدّ سواء، وكون أحدهما أقوى ظهوراً، والآخر أضعف لا يوجب أقوائيّة احتمال الكذب وأضعفيّته، ولكن بلحاظ المرحلة الثانية ـ أعني: جهة الظهور ـ يكون احتمال الكذب أقرب ـ لا محالة ـ إلى أحد الظهورين منه إلى الآخر حينما يكون ذاك الظهور أضعف من الظهور الآخر، ويكون هذا نكتة في تقديم العرف للظهور الأقوى، وجعله قرينة على التصرّف في الآخر(1).



(1) لا يخفى: أنّ الشيخ النائينيّ (رحمه الله) لم يكن بصدد قياس العلم بكذب أحد الظهورين بالعلم بكذب أحد الخبرين في عدم تقديم الظهور الأقوى حتّى يكون ذلك خلطاً بين المرحلتين، وكلامه في فوائد الاُصول واضح في إرادة قياس العلم بكذب أحد الخبرين في كونه داخلا تحت اشتباه الحجّة باللاحجّة وأحكامه، لا تحت التعارض وأحكامه بفرض العلم بكذب أحد الخبرين، فالمقصود هو التقريب الثاني زائداً على النقض بقياس العلم بكذب أحد الظهورين بالعلم بكذب أحد الصدورين، فيقال: كما أنّ العلم بكذب أحد الصدورين لا يخلق التعارض بين السندين، بل يوجب اشتباه الحجّة واللاحجّة بينهما؛

444

التقريب الثاني: أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بعدم ورود مقيّد منفصل، ونحن نعلم بأنّ أحدهما المعيّن عند الله ورد عليه المقيّد المنفصل، فهو ساقط عن الحجّيّة، فيكون المقام داخلا في باب اشتباه الحجّة باللاحجّة. وقوانين الجمع العرفي إنّما تجري في موارد تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما، لا في موارد تمييز الحجّة عن اللاحجّة.

والجواب: أنّ حجّيّة الإطلاق ليست مشروطة بعدم واقع المقيّد المنفصل، بل بعدم العلم بالمقيّد المنفصل، وفي المقام لا يوجد علم تفصيليّ بمقيّديّة أحدهما



لأنّه يسقط أحد السندين المعيّن عند الله عن الحجّيّة غير المعيّن عندنا، كذلك العلم بكذب أحد الظهورين يوجب اشتباه الحجّة واللاحجّة بينهما، لا التعارض؛ لأنّه يسقط أحد الظهورين المعيّن عند الله غير المعيّن عندنا عن الحجّيّة.

والجواب بعد وضوح أنّ الكذب الواقعيّ في الصدورين أو التقييد الواقعي في الظهورين مثلا ليس هو الذي يسقط أحدهما عن الحجّيّة: أنّ العلم الإجماليّ بالكذب أو التقييد إن لم يكن مشتملا على مؤشّر يؤشّر إلى أحدهما المعيّن عند الله المجهول عندنا، كما لو كان العلم بالتضادّ هو الذي ولّد العلم الإجماليّ بالخلاف مثلا، فمن الواضح: أنّ هذا العلم نسبته إلى إسقاط حجّيّة أيّ واحد منهما مع الآخر متساوية، فلا معنى لإسقاط أحدهما المعيّن عند الله عن الحجّيّة، فيرجع الأمر إلى التعارض دون اشتباه الحجّة باللاحجّة، وإن كان مشتملا على مؤشّر من هذا القبيل، كما لو كان العلم بكذب أحدهما ناشئاً من إخبار نبيّ بكذب أحدهما المعيّن مع نسياننا بعد ذلك التعيين، وتذكّرنا لأصل إخبار النبيّ، فالظاهر: أنّ هنا أيضاً لا يؤثّر العلم الإجماليّ إلّا بقدر سقوط المجموع عن الحجّيّة، لا سقوط أحدهما، فيرجع إلى التعارض دون اشتباه الحجّة باللاحجّة، وآية ذلك أنّه لو كان أحدهما لا أثر له شرعاً ينجو الآخر عن السقوط في الفهم العرفيّ، وهذا إنّما يكون في فرض التعارض، لا في فرض اشتباه الحجّة باللاحجّة.

445

بالخصوص، وإنّما يوجد علم إجماليّ بالتقييد، ونسبة العلم الإجماليّ إليهما على حدّ سواء، ولا تتعيّن نسبته إلى أحدهما المعيّن عند الله حتّى يقال: إنّه هو الذي سقط عن الحجّيّة، فدخل الأمر في تمييز الحجّة عن اللاحجّة.

التقريب الثالث: أنّ الأقوى ظهوراً في باب التعارض إنّما يتقدّم على الأضعف ظهوراً من باب القرينيّة. وفي باب التعارض العرضيّ لا يكون الأقوى ظهوراً قرينة على الأضعف ظهوراً، بدليل: أنّنا لو جمعنا كلا الدليلين مع الدليل الذي دلّ على تقييد أحدهما في كلام واحد، لأصبح الأقوى ظهوراً مجملا، كما أنّ الأضعف ظهوراً يصبح مجملاً، في حين أنّ القرينة المنفصلة لو جمعت مع ذيها وحوّلت إلى المتّصل، لا تصبح مجملة بواسطة ذيها.

والجواب: أنّ إجمال الأقوى ظهوراً عند فرض الجمع بين الأدلّة الثلاثة في كلام واحد إنّما ينشأ من الدليل الثالث الصالح(1) للقرينيّة عليه، لا من الدليل الثاني الذي يفترض الدليل الأقوى قرينة عليه.

التقريب الرابع: أنّ الأقوى ظهوراً في باب التعارض إنّما يتقدّم على الأضعف ظهوراً من باب القرينيّة، والقرينيّة إنّما تعقل لو كان أحدهما متعرّضاً بمدلوله لحال مدلول الآخر، فالخاصّ مثلا قرينة على العامّ، وهو يتعرّض لنفي مدلول العموم في مورده. وهذا في باب التعارض العرضيّ غير موجود، فإنّ مدلول أحدهما أجنبيّ عن الآخر تماماً(2)، وإنّما وقع التعارض للعلم الإجماليّ صدفة بكذب أحد الظهورين.



(1) إلّا إذا لم يكن الدليل الثالث دليلا منصبّاً على تقييد أحدهما المعيّن عند الله، فحينما لم يكن كذلك لا نسلّم إجمال الدليل الأقوى لدى فرض الاجتماع في كلام واحد.

(2) الصحيح: أنّ التقديم بالأقوائيّة غير التقديم بالقرينيّة بمعنى التعرّض لحال الآخر.

وهذا جواب على التقريب الرابع والثالث.

446

وهذا التقريب لعلّه أحسن التقريبات.

والجواب: أنّنا وإن كنّا نسلّم أنّه في باب القرينيّة لابدّ من كون القرينة متعرّضةً لحال مدلول الآخر، لكن هذا التعرّض لا يلزم أن يكون بالمدلول المطابقيّ، بل يكفي أن يكون بالمدلول الالتزاميّ، والتعرّض بالمدلول الالتزاميّ موجود في المقام؛ وذلك لأنّ كلاًّ من الظهورين: الأقوى والأضعف يدلّ بالالتزام على قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو كان أحد الظهورين غير مراد، فإنّما هو ذاك الظهور الآخر. وبهذه الدلالة الالتزاميّة يرجع بالدقّة كلّ تعارض عرضيّ إلى تعارض ذاتيّ، فيقدّم الأقوى منهما. وهاتان الدلالتان الالتزاميّتان موجودتان ـ في الحقيقة ـ قبل معرفتنا صدفة بتقيّد أحد الظهورين بنحو العلم الإجماليّ، وبذلك يتمّ التعارض الذاتيّ، وينحلّ التعارض بتقدّم الأقوى ظهوراً؛ لكونه قرينة للتصرّف في الآخر. ودور العلم الإجماليّ في المقام هو دور إحراز الشرط لهاتين القضيّتين الشرطيّتين الالتزاميّتين.

447

الواجب النفسيّ والغيريّ

ومنها: تقسيمه إلى الواجب النفسيّ والغيريّ.

وفي الحقيقة قد عقد هذا البحث لأجل الواجب الغيريّ، والكلام يقع في ذلك في جهات:

تعريف الواجب الغيريّ والنفسيّ

الجهة الاُولى: في تعريف الواجب النفسيّ والغيريّ.

وقد عرّف ذلك بأنّ الواجب النفسيّ هو ما وجب لا لواجب آخر، والواجب الغيريّ هو ما وجب لواجب آخر.

واُورد عليه: أنّ أكثر الواجبات وجبت لمصالح فيها، فإذا فرض: أنّ تلك المصالح لم تكن بدرجة الإلزام، لم تستلزم إيجاب الواجبات، وإذا فرض: أنّها بدرجة الإلزام، إذن يصبح تحصيلها هو الواجب النفسيّ، ويكون أكثر الواجبات الشرعيّة كالصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك واجباً غيريّاً، لا واجباً نفسيّاً، اللّهم إلّا ما يكون من قبيل وجوب معرفة الله التي هي بنفسها كمال ومصلحة بغضّ النظر عمّا يترتّب عليها من أعظم المصالح.

والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو اُضيفت النفسيّة والغيريّة إلى عالم الملاك، أو عالم الشوق، فالملاك النفسيّ أو الشوق النفسيّ إنّما هو في تلك

448

المصالح، وأمّا الصلاة والصوم ونحوهما، فملاكه وشوقه تبعيّ، ولكنّنا نلحظ النفسيّة والغيريّة بلحاظ عالم تحميل المسؤوليّة التي يضعها المولى بعد أن يحرز الملاك، فإنّ حقّ المطلب هو: أنّ الواجب النفسيّ ما يعاقب على تركه بما هو هو، والواجب الغيريّ ما لا يعاقب على تركه بما هو هو. وميزان ذلك ما ذكرناه: من أنّ ما يجعله المولى على عهدتنا ويشغل به ذمّتنا مستقلاًّ يحكم العقل باستحقاق العقاب على تركه، وأمّا ما لم يجعل في العهدة بذاته، بل بتبع شيء آخر، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب على تركه بما هو هو، فإذا لاحظنا النفسيّة والغيريّة بلحاظ عالم الجعل في العهدة وتحميل المسؤوليّة، قلنا: إنّه إذا جعل نفس المصلحة رأساً في العهدة، وأشغل بها الذمّة، أصبحت هي الواجب النفسيّ، والفعل المحصّل لها الواجب الغيريّ، وأمّا إذا أدخل نفس العمل كالصلاة والصوم في العهدة، وأشغل ذمّته به، وجعله مصبّاً لإعمال مولويّته مستقلاًّ، إذن فيصبح نفس هذا العمل واجباً نفسيّاً.

يبقى في المقام سؤالان:

السؤال الأوّل: أنّه بعد أن كان الملاك النفسيّ، والشوق النفسيّ في نفس المصالح لا في العمل، فلماذا يعدل المولى عن إدخال نفس تلك المصالح في العهدة إلى إدخال هذه الأعمال كالصلاة والصوم في العهدة؟!

والجواب: أنّ ذلك يمكن أن يكون لإحدى نكات:

الاُولى: ما يستفاد من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1): من عدم إمكان إدخال



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 167، و ص 39 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 69 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 385 ـ 386 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

449

تلك الأغراض والمصالح في العهدة؛ لعدم دخولها تحت القدرة؛ لتوقّفها على مجموعة مقدّمات واُمور بعضها عبارة عن العمل الاختياريّ للمكلف، وبعضها خارج عن الاختيار، فالمولى يجعل نفس الفعل الذي هو إحدى مقدّماتها على العهدة، فيصبح بذلك موضوعاً لحكم العقل بالعقاب على الخلاف، وهذا هو الواجب النفسيّ.

وقد أورد على ذلك السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بأنّ الغرض الأعلى وهو تلك المصالح وإن لم يكن تحت الاختيار، لكن هناك غرض أدنى تحت الاختيار، وهو التهيّؤ والإعداد لحصول الغرض الأعلى، فلماذا لم يجعله داخلا في العهدة؟!(1).

وهذا الإشكال في غير محلّه بناءً على ما هو الصحيح عنده وعندنا: من أنّ مطلوبيّة المقدّمة مخصوصة بالحصّة الموصلة، فلو اُريد إدخال خصوص الإعداد والتهيّؤ الموصل إلى الغرض الأعلى في العهدة، فأيضاً هو خارج عن تحت القدرة، وإن اُريد إدخال مطلق الإعداد والتهيّؤ في العهدة، فحاله حال الصلاة من حيث إنّه لا هو المطلوب النفسيّ، ولا المطلوب الغيريّ الحقيقيّ، وإنّما هو إعمال مسامحة، فأيّ فرق في مقام إعمال المسامحة بين أن يطلب ذات الإعداد أو ذات الصلاة؟!

الثانية: أنّ المولى قد يتّفق أنّه يجعل ذات المقدّمة في عهدة المكلّف مباشرة، دون ذي المقدّمة حذراً من أن يخطأ العبد صدفة في مورد بتوهّم العجز عن الوصول إلى ذي المقدّمة عن طريق المقدّمة الفلانيّة مثلا، فنتيجة إدخال تلك المقدّمة في العهدة هي شدّة التحفّظ على الغرض، حيث إنّ العبد حتّى لو قطع بأنّ



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 167 تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله).

450

هذه المقدّمة لا توصل إلى الغرض، يجب عليه عقلا الإتيان بها، فيربح المولى في مورد خطأ العبد صدفة، وهذا كثيراً ما يتّفق خصوصاً في مقدّمة غامضة النتائج مجهولة الجوانب، فمثلا يجعل تكاليف معيّنة بقصد حفظ النظام من دون أن يجعل نفس حفظ النظام في العهدة، وإلّا لزم الاعتماد على عقل العبد وذوقه، والمولى غير واثق بعدم خطأه.

الثالثة: أنّ إدخال الفعل في العهدة قد يكون بنفسه من مقدّمات الوصول إلى المصلحة والغرض النفسيّ، كما لو كانت المصلحة والغرض في نفس عنوان الطاعة والامتثال، دون مجرّد الفعل من دون قصد امتثال، فيجعل الفعل في العهدة حتّى يصبح العبد قادراً على الامتثال.

الرابعة: أنّ المولى قد لا يكون اهتمامه بغرض معيّن إلى حدّ يهتمّ بسدّ جميع أبواب عدمه، بل يكون بدرجة يتطلّب منه سدّ باب معيّن، بأن يهتمّ بغرضه بمقدار مقدّمة واحدة من مقدّماته مثلا، ويجعل حصول غرضه بحصول باقي المقدّمات على عهدة الصدفة والاتّفاق، وعندئذ فقد يجعل في عهدة العبد خصوص تلك المقدّمة، فيكون قد حفظ بهذا غرضه بالمقدار الذي يهتمّ به.

فإن قلت: كان بإمكانه أن يوجب على العبد ذلك الغرض مشروطاً بتحقّق باقي المقدّمات.

قلت: أوّلا: إنّ الهدف هو تحصيل نكتة عرفيّة في العدول عن جعل الغرض في العهدة إلى جعل الفعل الذي هو مقدّمة للغرض في العهدة، وما ذكرناه يكفي نكتة لذلك، فهو يعدل عن جعل الغرض في العهدة إلى جعل مقدّمة من مقدّماته في العهدة بنكتة: أنّ اهتمامه بغرضه ليس بأزيد من سدّ باب العدم بمقدار تلك المقدّمة وإن كان بالإمكان التوصّل إلى نفس النتيجة أيضاً بإيجاب الغرض مشروطاً بتحقّق سائر المقدّمات.

451

وثانياً: أنّه قد يتّفق: أنّ العبد لا يعرف أنّ المقدّمات الاُخرى ـ ولو فرضت اختياريّة له ـ هل سوف تحصل، أو لا،. فيعالج المولى الموقف بإدخال تلك المقدّمة في العهدة بدلا عن إدخال أصل الغرض في العهدة.

الخامسة: أنّه قد لا يكون الملاك بنحو يمكن أن يعرّفه المولى بحدوده للعبد، ويطلبه، إلّا بأن يشير إليه بنفس عنوان الفعل، بأن يقول مثلا: (حصّل الملاك الذي يحصل بالصلاة)، ففي مثل ذلك يكون الاُسلوب العرفيّ هو جعل نفس الصلاة رأساً في العهدة، لا الملاك.

السؤال الثاني: أنّه ما هو معنى جعل الفعل في العهدة مع كون المحبوب النفسيّ هو الملاك؟ أفهل معنى ذلك هو تعلّق جعل الحكم والاعتبار بذلك الفعل، بحيث لو قلنا: إنّ الحكم في عالم الثبوت ليست له عدا مرحلتين: مرحلة الملاك ومرحلة الإرادة، من دون مرحلة ثالثة اسمها مرحلة الجعل والاعتبار، لم يعقل جعل الفعل في العهدة؟ ثُمّ أيّ أثر لمجرّد الاعتبار في باب حكم العقل بوجوب الامتثال؟!

والجواب: أنّ الجعل والاعتبار إنّما هو صياغة عرفيّة لإدخال الشيء في العهدة، وروح المطلب: أنّ حكم العقل بوجوب الامتثال يتدخّل في تعيّن موضوعه ومصبّه بالضبط تعيين المولى له، أي: أنّ ما يريد المولى أن يكون هو الملزم به العبد تكون نفس هذه الإرادة الواصلة إلى حدّ الإبراز من قبل المولى موضوعاً لتعيّن مصبّ وجوب الامتثال عند العقل، فمن الممكن أن يحوّل المولى مصبّ وجوب الامتثال والدخول في العهدة من أصل الغرض إلى مقدّمة من مقدّماته.

452

الأصل عند الشكّ في النفسيّة والغيريّة

الجهة الثانية: في أنّه إذا علمنا بوجوب شيء كالوضوء، وشككنا في كونه نفسيّاً أو غيريّاً، فما هو مقتضى الأصل؟

والكلام تارةً يكون في الأصل اللفظيّ، واُخرى في الأصل العمليّ:

أمّا الأصل اللفظيّ: فهو يقتضي النفسيّة، ولذلك خمسة تقريبات، بعضها صحيح، وبعضها غير صحيح، مضت في مبحث دلالة الأمر على النفسيّة، وعناوين تلك التقريبات هي هذه:

1 ـ التمسّك بإطلاق الأمر بالوضوء لغير حالات وجوب ما يفترض كونه مقدّمة له كالصلاة.

2 ـ التمسّك بإطلاق مادّة ما يفترض الوضوء مقدّمة له، وشمولها لما لا يكون مع الوضوء.

3 ـ دعوى: أنّ النفسيّة قيد عدميّ، والغيريّة قيد وجوديّ، والإطلاق يعيّن القيد العدميّ في مقابل القيد الوجوديّ.

4 ـ أصالة التطابق بين عالم الإثبات وعالم الثبوت، حيث إنّه ذكر وجوب الوضوء ذكراً مستقلاًّ غير تبعيّ، فظاهره: أنّه بحسب الثبوت يكون وجوبه وجوباً مستقلاًّ غير تبعيّ.

5 ـ التمسّك بإطلاق المادّة التي تعلّق بها الأمر ـ وهو الوضوء مثلا ـ للحصّة غير الموصلة بناءً على ما هو الصحيح: من أنّ الواجب المقدّميّ إنّما هي الحصّة الموصلة.

وتفصيل الكلام في هذا البحث موكول إلى ما مضى من بحث دلالة الأمر على النفسيّة في مقابل الغيريّة.

453

وأمّا الأصل العمليّ: فنتكلّم فيه بلحاظ عدّة صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الوضوء على تقدير كونه واجباً غيريّاً مقدّمة لواجب نفسيّ غير فعليّ، كأن يكون مقدّمة للصلاة، ولكن المكلّف عبارة عن إمرأة حائض فعلا، وهذا معناه: أنّ الوجوب الغيريّ للوضوء غير فعليّ حتماً، والوجوب النفسيّ له مشكوك تجري عنه البراءة بلا إشكال.

الصورة الثانية: أن يعلم إجمالا: إمّا بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو بوجوبه غيريّاً مقدمةً لشيء نحن لا نعلم بوجوبه بالفعل، أي: لا نعلم بكونه واجباً حتّى على تقدير نفسيّة وجوب الوضوء، وإنّما نعلم بوجوبه على تقدير كون وجوب الوضوء غيريّاً، وذلك كما لو علمنا إجمالا بأنّه: إمّا يجب الوضوء وجوباً نفسيّاً، أو تجب الزيارة مثلا المقيّدة بكونها مع وضوء، فيكون الوضوء واجباً غيريّاً من دون العلم الفعليّ بوجوب الزيارة.

وفي هذه الصورة يتشكّل علم إجماليّ: إمّا بوجوب الوضوء نفسيّاً، أو بوجوب الزيارة مثلا نفسيّاً.

وهناك تقريبان لدعوى انحلال هذا العلم الإجماليّ، والرجوع إلى الأصل المؤمّن:

التقريب الأوّل: دعوى الانحلال الحقيقيّ؛ لكون أحد طرفي العلم الإجماليّ ـ وهو الوضوء ـ معلوم الوجوب تفصيلا، فيكون الطرف الآخر ـ وهو الزيارة ـ مشكوك الوجوب بدواً، ونفي وجوبه بالبراءة.

وهذا التقريب غير صحيح؛ إذ الانحلال الحقيقيّ غير معقول إذا لم يكن متعلّق العلم التفصيليّ من سنخ متعلّق العلم الإجماليّ، وهنا متعلّق العلم الإجماليّ إنّما هو الوجوب النفسيّ: إمّا للوضوء، أو للزيارة، في حين أنّ متعلّق العلم التفصيليّ ليس هو الوجوب النفسيّ، بل الجامع بين الوجوب النفسيّ والغيريّ للوضوء.

454

التقريب الثاني: الانحلال الحكميّ بإجراء البراءة عن وجوب الزيارة بلا معارضة بالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ نفي وجوبه النفسيّ إن قصد به التوصّل إلى نفي العقاب بلحاظ ترك الوضوء الذي هو مخالفة قطعيّة، فهذا خارج عن عهدة البراءة، ويكون ذلك غير قابل للرفع عقلا أو عقلائيّاً، فإنّه لو ترك الوضوء فقد خالف حتماً: إمّا الوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء، وهو يستحقّ العقاب يقيناً، وإن قصد به التأمين عن عقاب آخر، فلا يحتمل عقاب آخر حتّى يؤمّن من ناحيته؛ فإنّ المفروض: أنّه لا يوجد إلّا وجوب نفسيّ واحد، فلا يوجد إلّا عقاب واحد، وهذا بخلاف البراءة عن وجوب الزيارة، فإنّ ترك الزيارة لا يستلزم المخالفة القطعيّة؛ إذ بإمكانه أن يتوضّأ ولا يزور، وحينئذ يشكّ في العقاب، ويكون نفي العقاب بإجراء البراءة عن وجوب الزيارة.

الصورة الثالثة: أن نفترض: أنّنا عرفنا فقط أنّ المولى أمر بالوضوء، ولا ندري: هل هو واجب نفسيّ، أو غيريّ، وعلى تقدير كونه غيريّاً الأمر يدور في واجبه النفسيّ الذي يكون هذا مقدّمة له بين اُمور غير محصورة، فيتشكّل علم إجماليّ بوجوب نفسيّ مردّد بين اُمور غير محصورة إمّا الوضوء، أو أحد اُمور كثيرة. وقد حقّقنا في محلّه: أنّ العلم الإجماليّ في الشبهة غير المحصورة لا ينجّز حتّى حرمة المخالفة القطعيّة، وأنّه تجري البراءة في كلّ الأطراف، فتجري البراءة حتّى عن الوجوب النفسيّ للوضوء.

ولا يقال: إنّ ترك الوضوء بالأخرة يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة؛ فإنّه لا بأس بذلك.

الصورة الرابعة: أن نعلم إجمالا أنّ الوضوء: إمّا واجب نفسيّ، أو واجب غيريّ لما هو معلوم الوجوب على كلّ حال كالصلاة مثلا.

455

وقد ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في ذلك: أنّ أصل وجوب الصلاة، وكذلك وجوب الوضوء معلوم، ويقع الشكّ في تقيّد الصلاة بالوضوء، فتجري البراءة عن هذا التقيّد، ونتيجة ذلك نتيجة النفسيّة، فبإمكانه أن يتوضّأ ويصلّي كيفما اتّفق، سواء توضّأ قبل الصلاة أو بعدها(1).

وناقش السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في ذلك بأنّه يعلم إجمالا: إمّا بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ الضمنيّ لتقيّد الصلاة بالوضوء، وهذا علم إجماليّ منجّز. ودعوى: أنّ الوضوء معلوم الوجوب على كلّ حال غير مفيدة؛ إذ هو معلوم الوجوب بالجامع بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ، والوجوب الغيريّ غير قابل للتنجّز، والعلم بالجامع بين ما لا يقبل التنجّز وما يقبل التنجّز لا يكون منجّزاً، إذن فالبراءة عن الوجوب النفسيّ الضمنيّ للتقيّد مع البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء تتعارضان وتتساقطان، فيجب الاحتياط بإيقاع الوضوء قبل الصلاة(2).

أقول: إنّ هذا الإشكال قابل للدفع في صورة وحدة الواقعة، بناءً على مبنى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في باب تنجيز العلم الإجماليّ المختار عندنا.

وتوضيح تسلسل التفكير في المقام:



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 170 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 222 ـ 223 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 170، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، والمحاضرات، ج 2، ص 392 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

456

أنّه قد يقال: إنّه أيّ فرق بين الصورة الثانية والصورة الرابعة، فكما علمنا إجمالا في الصورة الرابعة بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ لتقيّد الصلاة بالوضوء، كذلك علمنا إجمالا في الصورة الثانية بالوجوب النفسيّ للوضوء، أو الوجوب النفسيّ للزيارة، وغاية الفرق بينهما: أنّ طرفي العلم الإجماليّ في الصورة الثانية كانا عبارة عن وجوب نفسيّ مستقلّ، ولكن في هذه الصورة أصبح أحد طرفيه عبارة عن وجوب نفسيّ ضمنيّ، وهو وجوب التقيّد وهذا الفرق ليس فارقاً؛ فإنّه كما كنّا نقول في الصورة الثانية: إنّ البراءة عن وجوب الزيارة لا تعارضها البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، والتأمين عن العقاب مع المخالفة القطعيّة غير معقول، كذلك نقول في المقام: إنّ البراءة عن وجوب التقيّد لا تعارضها البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء؛ لأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، والتأمين عن العقاب مع المخالفة القطعيّة غير معقول.

إلّا أنّ هذا الإشكال بهذا المقدار لو اُلقي على السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ أمكنه أن يجيب ببيان الفرق بين الصورتين، فإنّه في الصورة الثانية البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء لا تفيد، لا لنفي أصل العقاب؛ للقطع بالمخالفة، ولا لنفي عقاب ثان؛ للقطع بعدم عقاب ثان؛ لعدم وجود وجوبين نفسيّين، وأمّا في الصورة الرابعة، فالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء تفيد، لا لنفي أصل العقاب حتّى يقال: إنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة، بل لنفي عقاب ثان فيمن ترك الصلاة والوضوء معاً؛ فإنّ الوضوء لو كان مقدّمة للصلاة لم يعاقب إلّا بعقاب واحد على ترك الصلاة، ولو كان واجباً نفسيّاً كان عليه عقاب آخر لترك الوضوء، فهذا هو الفرق بين الصورتين.

إلّا أنّ التحقيق: أنّ هذا الفرق ليس فارقاً عند فرض وحدة الواقعة، وذلك بناءً

457

على ما بنى عليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ وهو الصحيح ـ من جريان الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ إذا لم يمكن عقلا للمكلّف الاستناد إليها جميعاً في عرض واحد الذي ينجرّ إلى المخالفة القطعيّة، ومثال ذلك الشبهة غير المحصورة التي لا يمكن للمكلّف ارتكاب جميع أطرافها؛ حيث ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله): أنّه إذن لا بأس بجريان الاُصول في تمام أطرافها، وما نحن فيه عند فرض عدم تعدّد الواقعة من هذا القبيل، فإنّ المكلّف لا يمكنه أن يستفيد في واقعة واحدة من الأصل في كلا طرفي العلم الإجماليّ، أي: من أصل البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء، وأصل البراءة عن التقيّد في وقت واحد؛ وذلك لأنّه لا يخلو أمره في واقعة واحدة من أنّه يصلّي أو يترك الصلاة، فإن ترك الصلاة فالبراءة عن التقيّد لا تفيده؛ فإنّ عقاب ترك الصلاة مسجّل عليه لا محالة، وليس هناك عقاب آخر ينتفي بالبراءة عن التقيّد، وإن أتى بالصلاة فالبراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء لا تفيده؛ إذ لا يمكن أن ينفى بهذه البراءة أصل العقاب، ولا عقاب ثان. أمّا الأوّل فلأنّ ترك الوضوء يستلزم المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال على كلّ تقدير، ولا تأمين عن العقاب على المخالفة القطعيّة. وأمّا الثاني فلأنّه في فرض الإتيان بالصلاة يقطع بعدم عقاب ثان؛ إذ لا يحتمل في الوضوء أن يكون واجباً نفسيّاً وقيداً للصلاة في وقت واحد، وليس الواجب النفسيّ الذي يترك عند ترك الوضوء إلّا واجباً واحداً وهو الوضوء، أو تقيّد الصلاة بالوضوء؛ لأنّ المفروض إتيانه بأصل الصلاة، وعليه فلا يقع التعارض بين البراءتين.

نعم، لو تعدّدت الواقعة، أمكنه أن يصلّي في إحداهما، ويترك في الاُخرى، فيستفيد من كلتا البراءتين.

وقد تحصّل من استعراضنا لهذه الصور الأربع، والكلام فيها: أنّ ملاك الانحلال الحكميّ موجود في الصورة الثانية، بل والرابعة أيضاً على تفصيل عرفت، وهذا

458

الملاك ـ بحسب الحقيقة ـ قانون كلّيّ للانحلال يسري في مقامات عديدة، والضابط الكلّيّ له: أنّه كلّما تشكّل علم إجماليّ بأحد تكليفين، وكانت مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الآخر، دون العكس، ففي مثل ذلك لا تجري البراءة عن هذا التكليف؛ لأنّ مخالفته مساوقة للمخالفة القطعيّة، وتجري البراءة عن الآخر بلا معارض.

وهذا الضابط للانحلال ينطبق في عدّة مقامات، نذكرها هنا على سبيل الإجمال:

الأوّل: ما نحن فيه، وهو ما لو علم إجمالا بوجوب نفسيّ لشيء، أو لشيء آخر يفرض الأوّل مقدّمة وقيداً له، فمخالفة الأوّل تستلزم مخالفة الثاني، دون العكس، فيثبت الانحلال الحكميّ كما عرفت الكلام فيه.

الثاني: إذا علم إجمالا بوجوب أحد ضدّين لهما ثالث، أو حرمة الآخر، كما لو علم إجمالا بوجوب استقبال القبلة، أو حرمة استدبارها، فمخالفة حرمة الاستدبار تستلزم مخالفة وجوب الاستقبال، دون العكس، فتجري البراءة عن وجوب الاستقبال بلا معارض.

الثالث: لو علم إجمالا بوجوب أحد أمرين وجوديّين متغايرين، وكان أحدهما أخصّ مورداً من الآخر، فترك الأعمّ مورداً يستلزم ترك الأخصّ، دون العكس، كما لو علم إجمالا بوجوب استقبال منارة في الصحن عن قرب، أو استدبار حائط الصحن، فترك استدبار حائط الصحن يساوق ترك استقبال المنارة عن قرب، دون العكس(1)، فتجري البراءة عن وجوب الأخصّ.

الرابع: موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بالمعنى الأعمّ الشامل للشكّ في الجزء والشرط، ولدوران الأمر بين التعيّين والتخيير، كدوران الأمر بين وجوب إكرام حيوان، أو خصوص الإنسان، فمخالفة وجوب الأقلّ تستلزم مخالفة الأكثر، دون العكس.

نعم، موارد الأقلّ والأكثر بالمعنى الأخصّ، وهو الشكّ في الجزء والشرط



(1) أي: أنّ ترك استقبال المنارة عن قرب لا يساوق ترك استدبار حائط الصحن.

459

تمتاز ببيان الانحلال ببرهان آخر أيضاً؛ ولذا كان الانحلال فيه أوضح، وهو: أنّ البراءة عن المطلق لا تجري بقطع النظر عن البيان السابق؛ وذلك لأنّ وجوب المطلق ينحلّ إلى وجوب ذات المطلق وإلى إطلاقه: أمّا وجوب ذات المطلق، فمعلوم ولو في ضمن المقيّد، وأمّا إطلاقه، فليس ثقيلا وضيّقاً حتّى يشمله دليل البراءة، فإنّ مفاد دليل البراءة هو التوسيع.

وبهذا يتّضح: أنّه عندنا قانونان للانحلال الحكميّ، أحدهما يشمل المقامات الأربعة، وهو كون مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الآخر، والثاني يختصّ بقسم من المقام الرابع، وهو الأقلّ والأكثر بالمعنى الأخصّ، وهو: أنّه لا معنى لشمول البراءة لوجوب المطلق؛ إذ ذات المطلق معلوم الوجوب، وإطلاقه ليس ثقيلا حتّى يرفع.

ثُمّ إنّك عرفت: أنّ ملاك الانحلال فيما نحن فيه هو: أنّ ترك محتمل المقدّميّة مخالفة لكلا الواجبين النفسيّين المحتملين، بخلاف ترك الآخر، فمتى ما ثبتت هذه النكتة ثبت الانحلال، ومتى ما لم تثبت لم يثبت الانحلال.

وعليه فنقول: إنّ محتمل المقدّميّة ـ وهو الوضوء مثلا ـ تارةً يفرض: أنّ وقته على تقدير كونه واجباً نفسيّاً، ووقته على تقدير كونه واجباً غيريّاً متّحد، أو أنّ الأوّل أوسع من حيث الابتداء، أو الانتهاء، أو من كلا الجانبين، وعندئذ تنطبق عليه هذه النكتة للانحلال بلا إشكال؛ فإنّه لو ترك الوضوء فقد ترك الواجب الآخر، وهو الزيارة المقيّدة بالوضوء، أو تقيّد الزيارة بالوضوء، في حين أنّه يمكنه أن يترك الواجب الآخر، بأن يترك الزيارة المقيّدة بالوضوء في الصورة الثانية من الصور الأربع التي أشرنا إليها آنفاً في أوّل البحث، أو يزور قبل الوضوء في الصورة الرابعة من تلك الصور من دون أن يترك الوضوء.

واُخرى يفرض: أنّ الوقتين متباينان، أو أنّ الثاني أوسع، وعندئذ تختلّ النكتة، فهناك فرضان لاختلال النكتة:

460

الفرض الأوّل: فرض تباين الزمانين(1)، كما لو علمنا إجمالا: إمّا بوجوب إيقاع الوضوء قبل الزوال نفسيّاً، أو وجوب الزيارة المقيّدة بالوضوء الواقع بعد الزوال، وفي هذا الفرض لا تتمّ نكتة الانحلال، من دون فرق بين الصورة الثانية والصورة الرابعة، ففي الصورة الثانية نقول: يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للوضوء من دون مخالفة وجوب الزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال، وذلك بأن لا يتوضّأ قبل الزوال، ويتوضّأ بعد الزوال ويزور، كما يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء بعد الزوال دون الوجوب النفسيّ للوضوء، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال من دون أن يأتي بعد الزوال بزيارة مقيّدة بالوضوء بعد الزوال. وفي الصورة الرابعة، وهي ما لو قطعنا بالوجوب النفسيّ للزيارة، وإنّما تردّدنا بين تقيّدها بالوضوء، أو الوجوب النفسيّ للوضوء، نقول: أيضاً يمكنه مخالفة الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ للوضوء من دون مخالفة الوجوب الضمنيّ له، وذلك بأن لا يتوضّأ قبل الزوال، ويتوضّأ بعده ويزور، ويمكنه مخالفة الوجوب الضمنيّ للوضوء من دون مخالفة الوجوب النفسيّ له، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال، ولا يتوضّأ بعد الزوال ويزور.

الفرض الثاني: أن تكون دائرة الشرط أوسع ـ ولو نتيجةً(2)ـ من دائرة



(1) ولو تبايناً جزئيّاً، بأن كان أحدهما أوسع من حيث الابتداء، والآخر أوسع من حيث الانتهاء، فكانت النسبة بينهما عموماً من وجه.

(2) توضيح المقصود من كلمة (ولو نتيجةً): أنّه إذا وجبت احتمالا بعد الزوال الزيارة المقيّدة بمطلق الوضوء، أي: سواء كان الوضوء قبل الزوال، أو بعد الزوال، ولكن الوضوء المحتمل وجوبه نفسيّاً كان هو وضوء ما قبل الزوال، فهنا ـ بحسب الدقّة ـ إنّما تكون دائرة الشرط أوسع نتيجةً لا حقيقةً؛ إذ الوجوب الضمنيّ للتقيّد بالوضوء يستحيل أن يشمل

461

الوجوب النفسيّ، بأن نفترض: أنّ الوضوء إذا كان واجباً نفسيّاً، فلابدّ من إيقاعه قبل الزوال، وإذا كان شرطاً للزيارة، فالشرط يتحقّق بالوضوء قبل الزوال، ويتحقّق بالوضوء بعد الزوال.

وعليه، ففي الصورة الثانية، وهي ما لو لم نعلم بالوجوب النفسيّ للزيارة من غير هذه الناحية لا تنطبق نكتة الانحلال؛ فإنّه يمكنه أن يخالف الوجوب النفسيّ للوضوء، دون الوجوب النفسيّ للزيارة المقيّدة بالوضوء، وذلك بأن يترك الوضوء



الوضوء قبل الزوال؛ لأنّ وجوب الزيارة المقيّدة به إنّما يحدث بعد الزوال، فواقع المطلب: أنّه لو توضّأ قبل الزوال، لم يتّجه إليه أمر ضمنيّ بالوضوء بعد الزوال، ولو لم يتوضّأ قبل الزوال، توجّه إليه ذلك، فكأنّه ـ بحسب النتيجة ـ دائرة الشرط أوسع.

هذا. وكأنّ هذا التعبير إنّما جاء في الكلام بلحاظ أنّ نظره (رحمه الله) كان إلى الوجوب الضمنيّ للتقيّد بالوضوء، لا الوجوب الغيريّ للوضوء، وإلّا فالوجوب الغيريّ للوضوء حقيقةً أوسع، لا أنّه أوسع نتيجةً؛ إذ وجوب المقدّمة يمكن أن يسبق وجوب ذيها، كما في المقدّمات المفوّتة، وكأنّ نكتة التفاته إلى الوجوب الضمنيّ للوضوء، لا الوجوب الغيريّ له أنّه فيما سيقرّره من الانحلال العكسيّ تكون البراءة عن الوجوب الضمنيّ للوضوء هي التي تستلزم الترخيص في المخالفة القطعيّة، فلا تجري، أمّا الوجوب الغيريّ، فلا معنى أصلا للبراءة عنه. أو قل: إنّ طرف العلم الإجماليّ الذي نتكلّم عن تنجيزه وعدم تنجيزه في الصورة الرابعة إنّما هو الوجوب الضمنيّ للوضوء، لا الوجوب النفسيّ للزيارة؛ لأنّ المفروض العلم به، ولا الوجوب الغيريّ للوضوء؛ لأنّه لا عقاب على مخالفته، فالمناسب هو صرف النظر إلى الوجوب الضمنيّ للوضوء.

وعلى أيّة حال، فلو قسنا الزمان إلى الوجوب النفسيّ للوضوء والوجوب الغيريّ له، أو إلى ذات الواجبين، لا الوجوبين، استغنينا عن عبارة: (ولو نتيجةً).

462

قبل الزوال، ويتوضّأ بعد الزوال ويزور، ويمكنه العكس، وذلك بأن يتوضّأ قبل الزوال ولا يزور.

وفي الصورة الرابعة، وهي ما لو علمنا بالوجوب النفسيّ للزيارة وشككنا في كون الوضوء قيداً لها، أو واجباً نفسيّاً يتمّ الانحلال عكسيّاً إذا كانت الزيارة مقيّدة بما بعد الزوال، فمخالفة الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ للوضوء لا تستلزم مخالفة الوجوب الضمنيّ له؛ إذ بإمكانه أن يترك الوضوء قبل الزوال، ويتوضّأ ويزور بعد الزوال، ولكن مخالفة الوجوب الضمنيّ للوضوء ـ في فرض الإتيان بالزيارة الذي هو فرض تصوّر فائدة للبراءة عن الوجوب الضمنيّ، وفرض مخالفة الوجوب بمقدار الوجوب الضمنيّ ـ تستلزم مخالفة الوجوب النفسيّ للوضوء؛ إذ لو لم يتوضّأ أصلا قبل الزيارة التي فرض وقتها بعد الزوال، فقد ترك الوضوء قبل الزوال، وعليه فتجري البراءة عن الوجوب النفسيّ للوضوء بلا معارض.

463

استحقاق الجزاء على الأوامر الغيريّة

الجهة الثالثة: في استحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيريّة مخالفة وموافقة.

أمّا العقاب: فلا إشكال في أنّ مخالفة الأوامر النفسيّة توجب استحقاق العقاب؛ لأنّها تضييع لحقّ الطاعة للمولى، وتضييع الحقّ يصحّح العقاب من قبل من له الحقّ على من عليه الحقّ، وأمّا مخالفة الأمر الغيريّ، فتوضيح الحال فيها: أنّ العقاب على نحوين:

الأوّل: العقاب بالملاك الانفعاليّ.

والثاني: العقاب بالملاك المولويّ.

ومقصودنا بالعقاب بملاك الانفعال العقاب الناشئ من غضب المولى وتحسّره وتألّمه، فالمولى يضرب العبد عقاباً له على ما سبّبه له من انفعال، وهذا قد يتحقّق من غير المولى أيضاً على من خالف أوامره وتحكّماته، ولا إشكال في أنّ هذا العقاب إنّما يكون بسبب فوات الغرض النفسيّ، لا الغيريّ، بداهة أنّ المولى لو طلب مثلا ماءً بارداً من العبد، فلم يأتِ به، لم يحصل عند المولى إلّا انفعال واحد ولو فرض للفعل ألف مقدّمة، ولا يشتدّ انفعاله ويضعف بكثرة المقدّمات وقلّتها.

وبكلمة اُخرى: إنّ ضمّ ترك المقدّمة إلى ترك ذي المقدّمة كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، فالمولى لا يهمّه أن يأتي العبد بالمقدّمة، أو لا بعد فرض تركه لذي المقدّمة.

ومقصودنا بالعقاب المولويّ: العقاب الناشئ من حكم العقل بالمولويّة ولزوم الطاعة، ولابدّ في تشخيص موضوعه من الرجوع إلى العقل الذي أدرك حقّ الطاعة، والذي يدركه عقولنا أنّ موضوعه أيضاً هو ذاك الانفعال، فإنّ العقل يرى

464

أنّ العبد يجب أن يكون بوجوده وعضلاته امتداداً لعضلات المولى، ويهتمّ بعدم انفعاله كما هو يهتمّ به ـ أو ما يقوم مقام الانفعال في المولى الحقيقيّ، فإنّنا إنّما نعبّر بالانفعال ونحوه في باب المولويّة والعبوديّة بلغة البشر وإن كان لا ينطبق عليه تعالى، فالقصور في العبارة ـ فالعقل يقول: إنّ موضوع العقاب المولويّ هو موضوع العقاب الانفعاليّ، فالعقاب الانفعاليّ حينما يصدر من المولى يكون قد صدر من أهله، ووقع في محلّه، وحينما يصدر من غير المولى يكون ظلماً وعدواناً، فالعقاب سواء كان انفعاليّاً أو مولويّاً إنّما هو على مخالفة الأمر النفسيّ.

نعم، قد يكون من حين مخالفة الأمر الغيريّ بالرغم من عدم انتهاء وقت الواجب النفسيّ(1)، وذلك كما لو ترك المقدّمة في أوّل الزوال، في حين أنّه يصبح بذلك عاجزاً إلى آخر الوقت.

والخلاصة: أنّ العقاب سواء كان انفعاليّاً أو مولويّاً يكون على الغرض النفسيّ، لا على المقدّمة، نعم الغرض النفسيّ للمولى بما هو مولىً قد يختلف عن الغرض النفسيّ له لا بما هو مولىً، أعني بذلك: أنّ غرض الإنسان بما هو هو عبارة عن الملاك الذي هو محبوب ذاتيّ له، وقد يعاقب شخصاً ولو عدواناً على أنّه لم يحصّل له ذلك الملاك، وفوّته عليه، ولكن حينما يأمر إنساناً بشيء باعتباره مولىً فقد يدخّل في عهدته عملا من الأعمال التي هي مقدّمة للوصول إلى ذلك الملاك، من دون أن يأمر بنفس ذلك الملاك، كما هو الحال في أمر المولى بالصلاة والصوم ونحو ذلك، وعندئذ فالعقل يرى أنّ النقطة التي صبّ المولى مولويّته عليها ـ وهي الصلاة والصوم مثلا ـ هي كأنّها الغرض النفسيّ للمولى، فيثبت العقاب على مخالفة هذه النقطة.



(1) وقد يكون قبل حلول وقت الواجب النفسيّ أيضاً، كما في ترك المقدّمات المفوّتة الواجبة.

465

وأمّا الثواب: فأيضاً يوجد عندنا ثواب انفعاليّ وثواب مولويّ.

أمّا الثواب الانفعاليّ، فهو الثواب الثابت على أساس الحافز الانفعاليّ للتعويض، إلّا أنّ الانفعال هنا انفعال موافق، وفي طرف العذاب كان انفعالا معاكساً، وهذا الحافز الانفعاليّ يحصل للشخص بأزاء قضاء حاجته، ومهما كانت لقضاء حاجته مقدّمات فسوف لن يكون له إلّا انفعال واحد وفرح واحد، باعتبار أنّه استوفي له غرض واحد، وحيث إنّ الانفعال هو الحافز للمثوبة، فلا يثيبه بهذا الملاك إلّا بثواب واحد، فلا ثواب على المقدّمات.

نعم، هذا السبب الواحد والحافز الواحد للثواب يحفّزه نحو ثواب متناسب في حجمه من حيث الصغر والكبر مع ما بذله الفاعل من الجهد في سبيل تحصيل غرض هذا الإنسان، فبكثرة المقدّمات يكبر حجم الثواب، لا بمعنى زيادة في السبب وأنّه يتعدّد الثواب بتعدّد أسبابه، بل بمعنى زيادة في المسبّب، من قبيل الثواب على واجب ارتباطيّ مركّب من أجزاء، فإنّ الواجب الارتباطيّ كلّما كثر أجزاؤه زاد ثوابه، مع وضوح: أنّه ليس كلّ جزء من أجزائه سبباً مستقلاًّ لثواب مستقلّ.

وأمّا الثواب المولويّ، فهو تعويض بحكم العقل، في حين أنّ الثواب الانفعاليّ كان تعويضاً بمقتضى الطبع، فالثواب المولويّ ثواب بلحاظ استحقاق الفاعل على من فعل لأجله بمرتبة من مراتب الاستحقاق التي قد تكون استحبابيّة، وقد تكون وجوبيّه، فإثابة المولى الحقيقيّ لعبده عند إطاعة أوامره استحبابيّة وإثابة غير المولى لمن خدمه وأحسن إليه قد تكون وجوبيّة، وهذا أيضاً يتقدّر موضوعه بموضوع الثواب الانفعاليّ، فالعقل ينظر إلى الإثابات الطبيعيّة، ويقول في باب المولويّة: إنّها صدرت من أهلها، ووقعت في محلّها، من دون أن يضيف العقل إثابات جديدة، فهنا أيضاً لا يوجد إلّا سبب واحد للثواب، ولا يوجد إلّا ثواب واحد.