225

ظهور صيغة الأمر

في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة

الجهة الخامسة: في ظهور صيغة الأمر في النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة.

ينقسم الواجب إلى نفسيّ وغيريّ، وإلى تعيينيّ وتخييريّ، وإلى عينيّ وكفائيّ، فهل يقتضي إطلاق الصيغة كون الواجب نفسيّاً، أو تعيينيّاً، أو عينيّاً في مقابل الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة، أو لا؟

يقع الكلام في ذلك في عدّة مقامات:

دوران الأمر بين النفسيّة والغيريّة:

المقام الأوّل: في أنّه إذا دار الأمر بين النفسيّة والغيريّة، فماذا يقتضي إطلاق الصيغة؟

المعروف: أنّ الإطلاق يقتضي النفسيّة، وهذا المطلب يمكن أن يبيّن بعدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّنا نتمسّك بالإطلاق الأحواليّ لدليل الوجوب في قوله: «توضّأ» مثلا، فإنّ مقتضى إطلاقه وجوب الوضوء على كلّ حال: سواء وجبت الصلاة أو لا، وسواء زالت الشمس أو لا، وهذا يستلزم كونه واجباً نفسيّاً؛ إذ لو كان واجباً غيريّاً لاستحال إطلاقه لفرض عدم وجود الأمر بذي المقدّمة وعدم فعليّة

226

وجوبه، فالنفسيّة بهذا التقريب تكون مدلولا التزاميّاً للإطلاق، لا مطابقيّاً.

واستفادة النفسيّة من الإطلاق بهذا التقريب تتوقّف على تصوير الإطلاق الأحواليّ، وعدم كون الواجب ملازماً لذاك الوجوب النفسيّ لما احتمل كونه ذا المقدّمة.

أمّا لو أوجب الوضوء مثلا في أوّل زوال الشمس، أعني: أنّه قيّد وجوب الوضوء بقيد(1) نفرضه ملازماً دائماً لثبوت وجوب الصلاة، فهذا التقريب لا يتمّ؛ إذ لا يوجد ـ بحسب الفرض ـ إطلاق أحواليّ لصورة عدم وجوب الصلاة.

وقد يقال: إنّه وإن كان هذا الإطلاق قاصراً عن إثبات النفسيّة في هذا الفرض لكن لا أثر لذلك، فإنّ الأثر لكون وجوب الوضوء مثلا نفسيّاً فيما لو قال: «توضّأ» هو وجوبه في تمام الأحوال حتّى قبل الزوال، ولكن لو قيّد وجوب الوضوء بالزوال مثلا، فماذا يهمّنا أن يكون الواجب نفسيّاً أو غيريّاً؟! إذ لو لاحظنا حالة عدم الزوال، لم يجب الوضوء نفسيّاً كان أو غيريّاً، ولو لاحظنا حالة الزوال، فعلى أيّ حال يجب أن يؤتى به بحكم العقل، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً.

ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّه يبقى مع هذا أثر للنفسيّة، فإنّه بناءً على اقتضاء الإطلاق للنفسيّة يكون عليه واجبان نفسيّان بحيث لو تركهما معاً لعوقب بعقابين، بينما لو لم نستفد من إطلاق الصيغة النفسيّة، لم يثبت عليه واجبان نفسيّان بالدليل الاجتهاديّ، ولابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة.

التقريب الثاني لإثبات النفسيّة: هو أن نتمسّك بإطلاق المادّة لدليل «صلِّ»



(1) لا أنّه قيّده بنفس وجوب الصلاة، كأن يقول: «إذا وجبت الصلاة فتوضّأ»، وإلّا فلا إشكال في عدم استفادة النفسيّة، ولا يفي شيء من تقريبات استفادة النفسيّة باستفادتها في هذا الفرض، فلا يكون ذلك نقضاً لهذا التقريب.

227

مثلا، لا بإطلاق «توضّأ»، فيقال: إنّ مقتضى إطلاق المادّة في «صلِّ» هو عدم تقيّد الصلاة بالوضوء، إذن فالوضوء ليس واجباً غيريّاً ومقدّمة للصلاة، بل هو واجب نفسيّ، فتكون النفسيّة مدلولا التزاميّاً لإطلاق المادّة في الواجب الذي يحتمل كون هذا مقدّمة له.

وهذا التقريب يتوقّف على افتراض عدّة اُمور:

الأوّل: أن يكون لذلك الواجب النفسيّ الذي يحتمل كون الوضوء مثلا مقدّمة له دليل على وجوبه، لا أن يكون وجوبه أمراً محتملا بنفس دليل الوضوء، كما لو ورد «إذا زرت مسلماً فتوضّأ» ولم يرد أمر بالصلاة عند زيارة المسلم، ولكنّنا بسبب الأمر بالوضوء احتملنا وجوب الصلاة وكون الوضوء مقدّمة له، ففي هذا الفرض لا موضوع لاستفادة نفسيّة وجوب الوضوء من دليل الصلاة.

الثاني: أن يكون الوجوب الغيريّ المحتمل في المقام وجوباً غيريّاً بملاك التقييد الشرعيّ، من قبيل الوضوء بالنسبة للصلاة، لا بملاك التوقّف التكوينيّ، من قبيل نصب السلّم بالنسبة للكون على السطح، أو القيام بالنسبة للتعظيم مثلا، فإنّ الإطلاق إنّما ينفي التقييد الشرعيّ، لا التوقّف الخارجيّ كما هو واضح.

الثالث: أن لا يكون هذا البيان المجمل المردّد بين النفسيّ والغيريّ متّصلا بخطاب الواجب الذي نحتمل تقيّد مادّته به، وإلّا لسرى إجماله إلى ذلك الخطاب، ولم يمكن التمسّك بإطلاق المادّة.

الرابع: أن يكون دليل الواجب الذي يحتمل تقيّد مادّته بهذا الواجب المردّد بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً قد تمّ له الإطلاق ومقدّمات الحكمة في نفسه. أمّا لو كان دليلا لبّيّاً لا إطلاق له، أو نحو ذلك، فلا موضوع للتمسّك بإطلاق ذلك الواجب لإثبات نفسيّة الواجب الآخر.

التقريب الثالث: هو إجراء الإطلاق في نفس دليل «توضّأ» بنحو يثبت النفسيّة

228

ابتداءً، لا بالملازمة كما في التقريبين الماضيين، وذلك بأن يقال: إنّ النفسيّة والغيريّة خصوصيّتان في الوجوب، إحداهما عدميّة والاُخرى وجوديّة، فالنفسيّة خصوصيّة عدميّة؛ لأنّ النفسيّ هو الوجوب الذي لم ينشأ من وجوب آخر، والغيريّة خصوصيّة وجوديّة؛ لأنّ الغيريّ هو الوجوب الذي نشأ من وجوب آخر، وكلّما دار الأمر في مدلول كلام المتكلّم بين أن يكون هذا المدلول متخصّصاً بخصوصيّة وجوديّة أو عدميّة تعيّن الثاني، وكان عدم بيان الخصوصيّة الوجوديّة بياناً عرفاً للخصوصيّة العدميّة، ولهذا كان عدم بيان التقييد في اسم الجنس كما في (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) مثلا بياناً للإطلاق.

أقول: إنّ الصحيح في الإطلاق في أسماء الأجناس ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ: أنّ مقدّمات الحكمة ليست وظيفتها إثبات الإطلاق اللحاظيّ في مقابل التقييد اللحاظيّ، بل وظيفتها إثبات الحكم للجامع بين المطلق والمقيّد المسمّى بالمطلق الذاتيّ، فالأمر دائر بين الخصوصيّة واللاخصوصيّة، لا بين خصوصيّة وجوديّة أو خصوصيّة عدميّة، فلا يمكن جعل هذا قانوناً في بحث مقدّمات الحكمة.

وعلى أيّ حال، فكبرى تعيّن الخصوصيّة العدميّة في مقابل الوجوديّة متى ما دار الأمر بينهما ليست صحيحة على إطلاقها. نعم، سوف نشير إلى أنّنا نقبل هذه الكبرى في الجملة، لكن لا بهذا العنوان، بل بعنوان آخر، وسيأتي توضيح ذلك في التقريب الرابع.

وأمّا تطبيق هذه الكبرى على المقام صغرويّاً، فهو غير صحيح؛ لأنّ النفسيّة والغيريّة كلتاهما خصوصيّتان وجوديّتان، فالوجوب إن كان ناشئاً من ملاك في غيره، فهذا ما لا يحكم العقل باستحقاق العقاب عليه مستقلاًّ، وهو معنى الغيريّة، وإن كان ناشئاً من ملاك في نفسه، فهذا ما يحكم العقل باستحقاق العقاب عليه مستقلاًّ، وهو معنى النفسيّة، فالنفسيّة أيضاً خصوصيّة وجوديّة لا عدميّة، فإنّها متقوّمة بكون وجوب الشيء ناشئاً من ملاك في نفسه الذي هو أمر وجوديّ.

229

التقريب الرابع: ما يمكن أن يكون تعديلا للتقريب الثالث. وتوضيح ذلك: أنّ الكبرى التي ادّعيت في التقريب الثالث كانت عبارة عن أنّه متى ما دار الأمر بين التقييد بقيد وجوديّ والتقييد بقيد عدميّ، كان السكوت معيّناً للثاني في مقابل الأوّل.

وهذه الكبرى بهذا العنوان غير صحيحة، ولذا ترى: أنّه لو قال: «أكرم العالم»، وعلمنا أنّه مقيّد: إمّا بخصوصيّة العدالة، فلا يمكن إثباتها بالاستصحاب، أو بخصوصيّة عدم الفسق، فيمكن إثباتها بالاستصحاب، لم يمكن تعيين الثاني بالسكوت؛ إذ كلاهما أمر زائد، والإطلاق يدفع كليهما، فلا نكتة لاستظهار الأمر العدميّ في مقابل الوجوديّ، ومنشأ هذا التوهّم هو تخيّل كون هذا هو المنشأ لحمل اسم الجنس على المطلق، بينما قلنا: إنّ الإطلاق في اسم الجنس يدلّ على عدم لحاظ القيد، لا على رفضه ولحاظ عدمه، على أنّه حتّى لو اُريد تعيين الإطلاق اللحاظيّ في قبال التقييد اللحاظيّ، وغضّ النظر عن الإطلاق الذاتيّ، أمكن ذلك بتطبيق الكبرى الاُخرى التي نجعلها بديلا لهذه الكبرى، أو تعديلا لها، فإنّ هذه الكبرى يمكن التعبير عنها بنحو آخر، وهو: أنّه كلّما دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيّتين وكان كلّ واحدة منهما تناسب خصوصيّة في مقام الإثبات، فحينما نرى إحدى الخصوصيّتين الإثباتيّتين في الكلام نستكشف بذلك: أنّ الخصوصيّة الثبوتيّة هي تلك الخصوصيّة المناسبة لهذه الخصوصيّة الإثباتيّة، وذلك عملاً بأصل عقلائيّ يعطي ظهوراً للكلام، وهو أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت، فإذا دار الأمر مثلا بين التقييد اللحاظيّ والإطلاق اللحاظيّ وهو رفض القيد، وغضضنا النظر عن الإطلاق الذاتيّ، فلحاظ القيد ثبوتاً يناسب ذكره إثباتاً، ورفضه ثبوتاً يناسب السكوت إثباتاً؛ فإنّ رفض القيد في عالم الثبوت يعني شيئاً، لكن في عالم الإثبات لا يعني أكثر من السكوت، وقد فرضنا أنّه سكت، فيثبت الإطلاق بنكتة أصالة التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

وهذه الكبرى لا تجري فيما نقضنا به على الكبرى السابقة من دوران الأمر بين

230

أخذ خصوصيّة العدالة في العالم وخصوصيّة عدم الفسق؛ فإنّ السكوت لا يناسبشيئاً منهما، بل المناسب لكلّ منهما ذكره، وهذا هو شاهد صدق لما نقول: من أنّ الصحيح إنّما هو هذه الكبرى، وتلك الكبرى غير صحيحة.

ومبنيّاً على هذا يمكن أن يدّعى تطبيق هذه الكبرى في المقام فيما إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيريّ، بأن يقال: إنّ الوجوب النفسيّ والغيريّ يختلفان ثبوتاً في أنّ الأوّل ملحوظ بنحو المعنى الاسميّ وبالأصالة والاستقلال، والثاني ملحوظ بنحو المعنى الحرفيّ والتبعيّة واستطراقاً إلى غيره، ويناسب الأوّل في مقام الإثبات الأصالة في الإفادة والبيان، ويناسب الثاني في مقام الإثبات التبعيّة في الإفادة والبيان، فلو قال ابتداءً: «توضّأ» ولم يقل: «إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم» بحيث يجعل الوضوء تحت الشعاع وبالتبع، فقد جعل في مقام الإثبات لحاظ وجوب الوضوء لحاظاً استقلاليّاً، فمقتضى أصالة التطابق بين المقامين كونه بحسب مقام الثبوت أيضاً ملحوظاً استقلالا، ولهذا لا إشكال في أنّه نفهم من الأمر بالوضوء الوجوب النفسيّ ولو لم يكن فيه، أو في الأمر بالصلاة إطلاق أحواليّ ما لم يكتنف بما يوجب الظهور في التبعيّة أو الإجمال، كأن يقول: «إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم».

التقريب الخامس: التمسّك بإطلاق المادّة في الأمر بالوضوء للحصّة غير الموصلة بناءً على ما سوف نحقّقه ـ إن شاء الله ـ من أنّ الوجوب الغيريّ مخصوص بالحصّة الموصلة، فإنّه على هذا يكون إطلاقها للحصّة غير الموصلة مستلزماً لكون وجوبه نفسيّاً.

دوران الأمر بين التخيير والتعيين:

المقام الثاني: في الدوران بين التخيير والتعيين، كما لو قال: «أطعم ستّين مسكيناً» وشككنا في أنّه هل هو واجب تعيينيّ أو هو مخيّر بينه وبين العتق.

والكلام في ذلك يختلف باختلاف المباني في تصوير الواجب التخييريّ،ونحن نذكر هنا ثلاثة مباني:

231

المبنى الأوّل: أنّ مرجع الوجوب التخييريّ إلى الوجوبين المشروط كلّ منهما بترك الآخر، وعليه فمقتضى الإطلاق الأحواليّ هو التعيينيّة؛ إذ لو كان الإطعام مثلا واجباً تخييريّاً، لما وجب حتّى في حال العتق، بخلاف ما لو كان تعيينيّاً.

المبنى الثاني: أنّ مرجع الوجوب التخييريّ إلى وجوب الجامع، وحينئذ يمكن التمسّك بالإطلاق لإفادة التعيينيّة بأحد تعبيرين:

الأوّل: أنّ ظاهر ارتباط مدلول المادّة بمدلول الهيئة في قوله: «أطعم» هو تعلّق الوجوب بالإطعام بعنوانه، لا بعنوان آخر منطبق عليه، وهذا إنّما يتمّ لو كان تعيينيّاً. وأمّا لو كان تخييريّاً بينه وبين العتق مثلا، فالوجوب ليس متعلّقاً بعنوان الإطعام، بل بعنوان آخر منطبق عليه كالإحسان مثلا.

الثاني: التمسّك بالإطلاق الأحواليّ لصورة الإتيان بالفرد الآخر من الجامع بناءً على أنّ كلّ وجوب مقيّد بعدم الإتيان بمتعلّقه(1)، فلا يعقل شمول وجوب الجامع لفرض وقوع الفرد الآخر خارجاً، وهو العتق مثلا.

المبنى الثالث: أنّ الوجوب التخييريّ عبارة عن سنخ طلب مشوب بجواز الترك إلى البدل، فهو مرتبة متوسّطة بين الوجوب التعيينيّ والاستحباب. فالوجوب التعيينيّ كوجوب صلاة الصبح طلب لا يرخّص في تركه مطلقاً، والاستحباب كاستحباب صلاة الليل طلب يرخّص في تركه مطلقاً. والوجوب التخييري كوجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة المخيّر بينها وبين صلاة الجمعة طلب مقترن بالترخيص في الترك، لكن لا مطلقاً، بل بحصّة خاصّة من الترك، وهي الترك إلى البدل. وتمام الكلام في شرح ذلك وتحقيقه موكول إلى محلّه.



(1) إلّا أنّ هذا المبنى باطل عندنا وعند اُستاذنا الشهيد؛ لأنّ الذي يسقط بفعل المتعلّق هو فاعليّة الوجوب لا فعليّته.

232

وعليه، فنسبة الوجوب التخييريّ إلى التعيينيّ كنسبة الاستحباب إلى الوجوب، وتثبت التعيينيّة في مقابل التخييريّة بكلّ ما يثبت به الوجوب في مقابل الاستحباب، فمثلا يقال في باب الوجوب والاستحباب: إنّ الأمر إن لم يكن موضوعاً للوجوب فهو يدلّ على الوجوب بالإطلاق؛ لأنّ مفاده هو النسبة الإرساليّة والإلقائيّة. والإلقاء بوجوده التكوينيّ يسدّ كلّ أبواب العدم، فيكون ظاهر الكلام هو سدّ كلّ أبواب العدم تشريعاً. فهذا البيان يأتي لإثبات التعيينيّة؛ حيث إنّ في الوجوب التخييريّ يبقى بعض أبواب العدم مفتوحاً، بينما في الإلقاء التكوينيّ لا يبقى بعض أبواب العدم مفتوحاً(1).

دوران الأمر بين العينيّة والكفائيّة:

المقام الثالث: في الدوران بين العينيّة والكفائيّة. ونكتفي في ذلك بالتنبيه على أنّ الكلام هنا هو عين ما مضى في المقام الثاني، فيأتي في تصوير الكفائيّة في مقابل العينيّة عين المباني الثلاثة المتقدّمة، وعلى كلّ واحد منها يأتي ما ذكرناه.



(1) ونحن اخترنا فيما سبق دلالة الأمر على الوجوب بالوضع، وهنا أيضاً تكون دلالة الأمر على التعيين بعد فرض تفسير التخيير بمعنى طلب مشوب بجواز الترك إلى البدل بالوضع؛ فإنّ جواز الترك إلى البدل للعتق مثلا مستوىً من مستويات عدم وجوب العتق، فإنّ عدم وجوبيّة الطلب المطلق يكون بناءً على هذا المبنى عبارة عن مشوبيّة الطلب بجواز الترك مطلقاً، والتخيير عبارة عن المشوبيّة بجواز الترك إلى البدل، وهذا مستوىً أنزل من مستوى جواز الترك المطلق.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر وضع لإفهام سدّ جميع أبواب عدم الفعل تشريعاً، وهذا كما ينفي الاستحباب ينفي التخيير؛ لأنّ أحد بابي العدم وهو باب الترك إلى البدل معه مفتوح.

233

ورود الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه

الجهة السادسة: إذا ورد الأمر عقيب الحظر أو في مورد توهّمه، فكأنّما اتّفقوا على عدم ظهوره في الوجوب، ووقع الكلام في أنّه: هل يكون ظاهراً في الإباحة، أو الحكم السابق، أو لا ؟

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ الانسلاخ من الدلالة على الوجوب ثابت على كلّ حال، سواء قلنا: إنّ تلك الدلالة بحكم العقل، أو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، أو بالوضع؛ وذلك للاكتناف بما يحتمل القرينيّة(1)، وهو كونه في مورد توهّم الحظر، وهو يكفي لرفع الظهور وضعيّاً كان أو غيره، فمثلا لفظة «أسد» ظاهرة وضعاً في الحيوان المفترس، لكن لو اتّصلت بما يحتمل قرينيّته على إرادة الرجل الشجاع، ارتفع الظهور(2).



(1) لو كانت الدلالة بالإطلاق أو الوضع، فبطلانها بما تحتمل فيه القرينيّة واضح، ولكن لو كانت الدلالة بالعقل، فقد يقال: لا معنى لبطلانها بما يحتمل القرينيّة؛ لأنّ الظهور لم يكن لفظيّاً كي يكون اكتنافه بمحتمل القرينيّة موجباً لإجماله، إلّا أنّ السيّد الخوئيّ (رحمه الله)يدّعي: أنّ حكم العقل بالوجوب إنّما يكون إذا لم تقم قرينة على الترخيص، وبما أنّ وقوع الصيغة عقيب الحظر محتمل القرينيّة على ذلك فالوجوب لا يثبت.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 205 ـ 206 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

234

وهذا الكلام بهذا المقدار يمكن النقاش فيه بأنّه لماذا يكون وروده في موردتوهّم الحظر صالحاً للقرينيّة على عدم إرادة الوجوب، غايته أن يكون هذا موجباً لاحتمال عدم إرادة الوجوب، ومجرّد احتمال عدم إرادة الوجوب لا يسقط الظهور، وما أكثر الظهورات التي يحتمل عدم إرادتها، فلماذا وعلى أيّ أساس يكون ورود الأمر في مورد توهّم الحظر محتمل القرينيّة على عدم إرادة الوجوب؟

وتحقيق المطلب: أنّ الأمر له مدلول تصوّريّ وهو النسبة الإرساليّة والإلقائيّة ونحو ذلك من التعبيرات، ومدلول تصديقيّ وهو وجود الإرادة الطلبيّة في نفس المولى. والأمر في مورد توهّم الحظر مستعمل في نفس المدلول التصوّريّ، وليس كاستعمال كلمة «أسد» مجازاً في الرجل الشجاع مثلا، فالأمر حتّى في قوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) مستعمل في النسبة الإرساليّة، غاية الأمر: أنّ إخطار النسبة الإرساليّة في مورد توهّم الحظر يُناسب مدلولين تصديقيّين، فكما يُناسب إرادة إلقاء المخاطب على المادّة كذلك يناسب كسر تحرّجه من الوقوع على المادّة، فإنّ المتحرّج والمتردّد في الوقوع على المادّة يناسب عرفاً أن يكسر سورة تحرّجه وتحيّره بأن يؤخذ بيده ويلقى على المادّة، فإنّ أتمّ اُسلوب في كسر تحرّج العبد هو إلقاؤه على المادّة، فكون الأمر في مورد توهّم الحظر لم يشكّل قرينة على مستوى المدلول التصوّريّ للكلام حتّى يقال: إنّ وروده مورد الحظر لماذا يكون قرينة على الخلاف، غايته إيجاد احتمال إرادة الخلاف، وإنّما شكّل إمكانيّة مدلول تصديقيّ آخر، بينما إذا لم يكن وارداً في مورد توهّم الحظر، كان المدلول التصديقيّ المناسب له منحصراً في إبراز إرادة المولى وطلبه. أمّا كسر تحرّج العبد، فلا معنى له؛ إذ لم يكن له

235

تحرّج، فالورود مورد توهّم الحظر إنّما هو قرينة توجب الإجمال فيمرتبة المدلول التصديقيّ.

وبهذا يظهر: أنّ الخلاف في أنّه: هل يكون حينئذ له ظهور في الإباحة مثلا، أو لا بلا مورد، فإنّ المدلول التصوّريّ لم يختلف، وهو كما يناسب إرادة كسر التحرّج كذلك يناسب إرادة الطلب والإلقاء، فلا يتكوّن ظهور في إرادة حكم آخر غير الوجوب(1).



(1) هذا الطرز من البيان ناتج من بنائه (رحمه الله) على أنّ دلالة الأمر على الوجوب تكون على أساس دلالته التصوّريّة على النسبة الإرساليّة التكوينيّة السادّة لكلّ أبواب العدم، ودلالته التصديقيّة بحكم أصالة التطابق بين التصوّريّة والتصديقيّة على سدّ تمام أبواب العدم تشريعاً المساوق للوجوب، ولكنّه مضى منّا أنّ الصحيح: كون الدلالة التصوّريّة الوضعيّة للأمر ابتداءً هي النسبة الإرساليّة التشريعيّة السادّة لجميع أبواب العدم، وأنّ دلالة الأمر على الوجوب تكون بالوضع.

فيبقى هنا علينا تخريج عدم دلالة الأمر على الوجوب عند وروده مورد توهّم الحظر أو عقيب الحظر، وهو أنّ الدلالة التصوّريّة الوضعيّة ناتجة من شدّة الاقتران بين اللفظ والمعنى، والدلالة الجدّيّة لنفس المعنى التصوّريّ ناتجة من غلبة جدّيّة نفس ما اُلقيفي الذهن من المعنى التصوّريّ. وهذه الغلبة إذا انكسرت نتيجة وجود معنىً جدّيّآخر مناسب مناسبة قويّة لذاك المعنى التصوّريّ، تنكسر تلك الدلالة لا محالة. وهذا ما وقع في ما نحن فيه، أي: أنّ مناسبة قصد كسر الحاجز النفسيّ عن الفعل للأمر بالفعلبلغت مرتبة مانعة عن غلبة جدّيّة المعنى الأصليّ، فانكسرت الدلالة على الوجوب بلحاظ مرحلة الجدّ والتصديق لا بلحاظ مرحلة التصوّر. أمّا أن يدلّ عندئذ على الإباحة بالمعنى الخاصّ الذي هو مقابل الأحكام الأربعة الاُخر، أو على رجوع الحكم السابق،فلا نكتة فيه.

236

مورد من موارد إجمال صيغة الأمر:

وبمناسبة ذكرنا لكون الأمر في مورد توهّم الحظر قرينة نوعيّة توجب الإجمال سوف نحاول إبراز قرينة نوعيّة اُخرى توجب إجمال الصيغة.

فنقول: إنّ هناك نكتة نوعيّة توجب إجمال الظهور حينما تكتنف به طبّقناها في موارد عديدة من الفقه، وتوضيحها يكون بذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّه كما أنّ احتمال قرينيّة الموجود المتّصل يوجب الإجمال كما لو قال: «رأيت أسداً» وعقّب ذلك بكلمة لم نسمعها، فلم ندرِ هل قال: «يرمي» أو قال: «يزأر»، كذلك احتمال وجود القرينة يوجب الإجمال كما لو قال: «رأيت أسداً» ولم نستطع أن نستمع لنرى: هل عقّب الجملة بكلمة: «يرمي» أو لا خلافاً لما هو المشهور، أو على الأقلّ صاحب الكفاية ومن بعده. وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه.

الثانية: أنّ احتمال وجود القرينة المتّصلة لو بقي بلا دافع وإن كان يوجب الإجمال كما قلنا، ولكن إذا كانت القرينة المتّصلة المحتملة الوجود لفظيّة، أمكن دفع احتمال وجودها في رواية نحتمل أنّها كانت متّصلة بقرينة من هذا القبيل بشهادة الراوي، فإنّ ظاهر حاله نقل الرواية مع القرائن المكتنفة بها، فسكوته شهادة بالعدم. وأمّا إذا كانت القرينة المتّصلة المحتملة الوجود عبارة عن ارتكاز متشرّعيّ أو عرفيّ (حيث إنّ ارتكازاً من هذا القبيل باعتباره يعتبر مفروغ الوضوح والانتقاش في ذهن المتكلّم والسامع يعدّ قرينة متّصلة) فلا يمكن دفعه بسكوت الراوي؛ فإنّه ليس من عادته وطبعه نقل القرائن الارتكازيّة، وهذا يوجب إجمال جملة من الظهورات في الروايات؛ حيث يحتمل اكتنافها بارتكاز من هذا القبيل، فإنّ هذا الاحتمال لا يدفع بسكوت الراوي بحكم المقدّمة الثانية، فيوجب الإجمال بحكم المقدّمة الاُولى.

237

وطبعاً مقصودنا باحتمال ارتكاز من هذا القبيل ليس مطلق الاحتمال العقليّ الناشئ من مثل «كلّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان» حتّى ينفتح من ذلك باب لإجمال الظهورات في موارد كثيرة جدّاً، وإنّما المقصود الاحتمال العقلائيّ الناشئ من منشأ عقلائيّ يعتدّ به.

ومبنيّاً عليه نقول: إنّ صيغة الأمر وإن كانت بذاتها ظاهرة في الوجوب، ولكن قد يحتمل فيها بمنشأ عقلائيّ أنّها كانت مكتنفة بارتكاز يمنع عن ظهورها في الوجوب سنخ اكتناف أمر المجتهد لأحد اليومَ بصلاة الليل بارتكاز يمنع عن ظهورها في الوجوب، ويوجب حملها على النصيحة والإرشاد؛ لوضوح عدم معرضيّة صلاة الليل للافتاء بالوجوب، وأهمّ هذه المناشئ هو أن يكون الاتّجاه العامّ في الفقه الشيعيّ للعلماء قديماً وحديثاً عدم القول بالوجوب، فنرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بغضّ النظر عن مسألة الإجماع؛ وذلك لأنّنا نحتمل أنّه كان في زمان الإمام(عليه السلام) ارتكاز عدم وجوب ذلك ووضوحه المتشرّعيّ بشكل كان يعدّ ذلك قرينة متّصلة على عدم الوجوب، ولا يضرّ بهذا الاحتمال فرض خلاف شاذّ بين العلماء من قبل مثل ابن جنيد، أو ابن أبي عقيل، أو مثل الشيخ في أحد كتبه ونحو ذلك، وإنّما المهمّ كون الاتّجاه العامّ في الفقه هو عدم الوجوب، بينما لو وجد قول معتدّ به بين قدماء الأصحاب بالوجوب، كان ذلك مانعاً عن احتمال ارتكاز من هذا القبيل عند أصحاب الأئمّة احتمالا عقلائيّاً؛ إذ يقال: لو كان الأمر كذلك، كيف انقلب الحال في أوائل عصر الإفتاء من قبل العلماء إلى رأي معتدّ به يقول بالوجوب؟!

وبهذا نتخلّص من كثير من الأوامر الواردة في باب الصلاة والصوم والحجّ وغيرها الظاهرة بدواً في الوجوب بلا قرينة متّصلة أو منفصلة على الاستحباب أوجبت بلبلة عند الفقهاء؛ لأنّهم لا يلتزمون بالوجوب، فمن يقول بحجّيّة الشهرة،

238

أو الإجماع المنقول، أو نحو ذلك يعالج المطلب عن هذا الطريق، ولكن من ينكر حجّيّة الشهرة والإجماع المنقول، بل والإجماع المحصّل ما لم يفد الاطمئنان بالحكم، فطريق حلّ المعضل له هو أن يلتفت إلى ما قلناه، فيرى أنّ هناك احتمالا معتدّاً به لافتراض ارتكاز في زمان الإمام(عليه السلام) يمنع عن انعقاد ظهور الصيغة في الوجوب، فبهذا يرفع اليد عن ظهور أوامر غسل الجمعة وغسل الإحرام في الوجوب، وعن أوامر اُخرى كثيرة في الفقه خصوصاً في قسم العبادات.

239

دلالة الأمر على المرّة أو التكرار

الجهة السابعة: في دلالة الأمر على المرّة أو التكرار وعدمها.

والكلام في ذلك يقع في مقامين: أحدهما في دلالته على المرّة أو التكرار وضعاً، والثاني في ما يقتضيه الإطلاق بناءً على عدم الدلالة وضعاً:

دلالة الأمر على المرّة أو التكرار وضعاً

أمّا المقام الأوّل: فلا ينبغي الإشكال في عدم دلالة الأمر وضعاً على المرّة ولا على التكرار؛ إذ من الواضح بالوجدان: أنّه لا يستفاد عرفاً من صيغته عدا النسبة الإرساليّة، ومن مادّته عدا أصل الطبيعة.

ويؤيّد ذلك أمران:

الأوّل: أنّه لا يحسّ بمؤونة المجاز حينما يقيّد الأمر بما يخالف ما فرض وضعه له: من مرّة أو تكرار، كأن يقول: «صلِّ مرّة واحدة»، أو يقول: «صلِّ مكرّراً».

الثاني: أنّه لو فرض أخذ المرّة في مفاد الهيئة، وكذا أخذ التكرار فيه الذي معناه ـ طبعاً ـ طلب المكرّر، لا الطلب المكرّر، لزم كون طرف النسبة الذي هو معنىً اسميّ مأخوذاً في معنى الهيئة؛ حيث دلّت على طلب مرّة واحدة أو عدّة مرّات من الصلاة، وهذا معناه: أنّ الأداة التي دلّت على المعنى الحرفيّ والنسبة دلّت في نفس

240

الوقت على طرف النسبة، وهذا أمر غريب غير مألوف في سائر الأدوات الدالّة على المعنى الحرفيّ، ولو فرض أخذ ذلك في المادّة، لزم ـ بناءً على ما هو المعروف: من أنّ المادّة في جميع الصيغ بما فيها صيغة الأمر موضوعة بوضع نوعيّ واحد ـ أن يدلّ المصدر والماضي والمضارع وغير ذلك من اشتقاقاته أيضاً على المرّة أو التكرار، وهذا أيضاً غريب لا يلتزمون به.

هل يقتضي إطلاق الصيغة المرّة أو التكرار؟

وأمّا المقام الثاني: فهل يقتضي إطلاق الصيغة المرّة أو التكرار، أو ليس له ضابط نوعيّ كما قالوا؟

الصحيح: أنّ له ضابطاً نوعيّاً، فالطبع الأوّليّ لإطلاق الأمر في المتعلّق يقتضي المرّة بمعنى عدم الانحلال والتعدّد، وفي متعلّق المتعلّق يقتضي التكرار بمعنى الانحلال والتعدّد وإن كان أحياناً يوجد ما يحكم على هذا الطبع الأوّليّ، فلو قال: «أكرم العالم»، اقتضى ذلك بلحاظ الموضوع ـ وهو العالم ـ الانحلال، فيجب إكرام كلّ عالم، لكن بالنسبة إلى أيّ فرد من أفراد العالم لا يلزم أزيد من إكرام واحد.

وهذا أمر واضح عرفاً، إلّا أنّ الكلام في تفلسف ذلك ونكتته.

فنقول: ليست النكتة في ذلك: أنّ مقدّمات الحكمة في المتعلّق تقتضي الإطلاق البدليّ، وفي الموضوع تقتضي الإطلاق الشموليّ حتّى يقال: كيف يفرّق بينهما مع أنّ مقدّمات الحكمة فيهما واحدة؟! بل الصحيح: أنّ مقدّمات الحكمة لا تقتضي لا البدليّة ولا الشموليّة؛ ذلك لأنّ وظيفة مقدّمات الحكمة إنّما هي رفض القيود وإثبات أنّ الطبيعة إنّما لوحظت مجرّدة عن كلّ قيد، وأمّا أنّ هذه الطبيعة التي لا قيد فيها هل يكتفى بفرد واحد منها أو لا، فهذا غير مربوط بمسألة تجريد الطبيعة عن القيد التي هي الوظيفة لمقدّمات الحكمة لا أكثر من ذلك، إذن فالإطلاق

241

بالمعنى المستفاد من مقدّمات الحكمة نسبته إلى المرّة والتكرار على حدّ سواء،ولا يقتضي المرّة ولا التكرار.

وإنّما النكتة في ذلك: أنّ الموضوع قد افترض وجوده في المرتبة السابقة على الأمر، والمتعلّق إنّما يوجد بمحرّكيّة الأمر.

وتوضيح ذلك: أنّ المعروض بالذات للأمر بلحاظ عالم الجعل هي الصورة الذهنيّة للمتعلّق وللموضوع، ولا إشكال في أنّها صورة ذهنيّة واحدة، وأنّ الجعل جعل واحد، فلا معنى للانحلال بلحاظ عالم الجعل والمجعول بالذات ومعروضه في ذلك العالَم الذي هو المنظور لمقدّمات الحكمة، ولكن حينما نأتي إلى عالم التطبيق باعتبار أنّ الصورة الذهنيّة إنّما لوحظت فانية في المعروض بالعرض، وهو المتعلّق الخارجيّ والموضوع الخارجيّ نرى أنّ الموضوع قد فرض له الوجود الخارجيّ في المرتبة السابقة على الأمر، وعرض عليه الأمر، وحيث إنّ له وجودات عديدة وتطبيقات متكرّرة فلا محالة يتعدّد ويتكرّر المحمول عليه من الأمر والوجوب. وأمّا المتعلّق فليس مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الأمر، وإنّما يوجد بمحرّكيّة الأمر، فلا معنى لانحلال الأمر بتعدّد وجوده الخارجيّ؛ إذ لم يعرض على الوجودات الخارجيّة الثابتة في المرتبة السابقة على الأمر، وليس للمتعلّق تطبيقات متعدّدة في المرتبة السابقة على الأمر، وإنّما الأمر يحاول إيجاده.

وبهذا يتّضح: أنّ هذا الانحلال إنّما هو من شؤون عالم التطبيق والفعليّة، لا من شؤون عالم الجعل، فهو ليس من مداليل اللفظ الوضعيّة أو الإطلاقيّة؛ فإنّ اللفظ بكلّ دلالاته اللفظيّة إنّما ينظر إلى عالم الجعل دون عالم التطبيق والفعليّة.

وبنفس النكتة نقول في النهي أيضاً: إنّ مقتضى الطبع الأوّليّ في الموضوع هو

242

الانحلال(1)، وفي المتعلّق هو عدم الانحلال ووحدة الحكم، ففي النواهي التي لا موضوع لها من قبيل النهي عن القيام أو النطق مقتضى الطبع الأوّليّ عدم الانحلال. وهذا يقتضي أن لا يكون في عالم الفعليّة كعالم الجعل إلّا حكم واحد، ولكن في عالم الامتثال يكون امتثال هذا الحكم الواحد بترك تمام أفراد الطبيعة، بينما امتثال الحكم الواحد في الأمر يكون بالإتيان بفرد واحد؛ ذلك لما ذكره في الكفاية في بحث النواهي(2): من أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلّا بانعدام كلّ أفرادها، فيكون امتثال الأمر بإتيان فرد واحد، وامتثال النهي بترك كلّ الأفراد، فالفرق بين النهي والأمر إنّما هو بلحاظ عالم الامتثال، وليس راجعاً إلى مسألة كون الحكم في الأمر واحداً وفي النهي متعدّداً، كما لا يكون راجعاً إلى باب دلالة الألفاظ أو مقدّمات الحكمة، وإنّما هو راجع إلى أنّ إيجاد الطبيعة يتحقّق تكويناً بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلّا بانعدام كلّ الأفراد، فإذا قال: «أكرم العالم»



(1) لا يخفى: أنّ الموضوع في باب النواهي يكون عادةً قيداً للمتعلّق لا موضوعاً مقدّر الوجود؛ وذلك لقرينة عامّة في المقام، وهي: أنّ غرض المولى ـ الذي هو التجنّبُ عن مفسدة الفعل، أو تحصيل مصلحة الترك ـ يحصل عادةً وغالباً في الموارد العرفيّة بالترك الذي هو أعمّ من الترك مع وجود الموضوع، كمن ترك شرب السمّ مع وجود السمّ، والترك مع انتفاء الموضوع، كما لو ترك شرب السمّ قهراً لدى عدم وجود السمّ، ومن هنا ترى عرفاً أنّه يفهم من مثل النهي عن شرب الخمر حرمة إيجاد الخمر لمن لو أوجده لشربه قهراً واضطراراً.

نعم، نحن نلتزم ـ برغم ذلك ـ بالانحلال في باب النواهي في طرف الموضوع الذي هو في الواقع قيد المتعلّق، كما نلتزم به في أصل المتعلّق بالقرينة التي ستذكر في المتن لانحلال النهي بلحاظ المتعلّق.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب طبعة المشكينيّ.

243

كان كلّ عالم واجب الإكرام وجوباً واحداً غير منحلّ إلى وجوبات عديدة، وإذا قال: «لا تكرم الفاسق» كان مقتضى الطبع الأوّليّ أن يحرم إكرام كلّ فاسق حرمة واحدة غير منحلّة، بحيث لو أكرم فاسقاً مرّةً، سقط الحكم بالنسبة إلى ذلك الفاسق بالعصيان، إلّا أنّ هذا الوجوب الواحد يتحقّق امتثاله بإكرام واحد، وهذه الحرمة لا يتحقّق امتثالها إلّا بترك كلّ إكرام. هذا.

وقد أورد بعض المتأخّرين على ذلك بأنّ القول بكون الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلّا بانعدام كلّ الأفراد إنّما يتمّ بناءً على فكرة الكلّيّ الهمدانيّ القائلة بأنّ الكلّيّ موجود بوجود فردانيّ له نوع من السعة والعمق والشمول للأفراد، فإنّ الفلاسفة اختلفوا في وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج وعدمه، والقائلون بوجوده في الخارج؛ لكونه عين الفرد؛ أو كونه مشمولا للأفراد مثلا اختلفوا في أنّه: هل هو موجود بوجود فردانيّ وسيع، نسبته إلى الأفراد نسبة الأب الواحد إلى الأولاد، كما نقله الشيخ الرئيس عن رجل همدانيّ، أو موجود بعدّة وجودات بعدد الأفراد، ونسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء؟

فعلى الأوّل، يصحّ القول بأنّ الكلّيّ الطبيعيّ يوجد بوجود واحد، ولا ينعدم إلّا بانعدام كلّ الأفراد.

أمّا على الثاني، وهو أن تكون له عدّة وجودات بعدد الأفراد، ففي مقابل كلّ وجود يكون عدم لا محالة، لا أنّ له عدماً واحداً عند انعدام كلّ الأفراد(1).

والتحقيق: أنّ هذا الكلام غير صحيح، فإنّ فيه خلطاً بين التناقض بلحاظ عالم الخارج والتناقض بلحاظ عالم المفاهيم الذهنيّة.

توضيح ذلك: أنّه لو كان يصبّ المولى أمره ونهيه على ما في الخارج ابتداءً،



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 82 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

244

لا بتوسيط المفاهيم الذهنيّة ومرآتيّتها، لصحّ أن يقال: إنّه بناءً على كون الكلّيّ له وجودات عديدة في الخارج بعدد الأفراد، لا محالة تكون له أيضاً أعدام عديدة بعدد الأفراد، لكن هذا غير معقول، فإنّ الأمر والنهي من الاُمور الذهنيّة والنفسيّة، فيجب أن يعرض على المفاهيم الذهنيّة بلحاظ فنائها فيما في الخارج، وبحسب عالم المفاهيم الذهنيّة ليس للكلّيّ الطبيعيّ إلّا مفهوم واحد نسبته إلى المصاديق الخارجيّة نسبة الأب إلى الأولاد، فهو ـ لا محالة ـ يوجد في الخارج بوجود فرد واحد، ولا ينعدم إلّا بانعدام تمام الأفراد.

ثُمّ إنّه قد ظهر بما ذكرناه: أنّ الشموليّة والبدليّة بالمعنى الذي بيّنّاه بلحاظ الموضوع والمتعلّق يختلف عن الشموليّة والبدليّة الوضعيّة في باب العمومات.

وتوضيح ذلك: أنّه في باب العموم قد يفرض: أنّ أداة العموم وضعت للعموم الشموليّ، ككلمة «كلّ» في قوله: «أكرم كلّ عالم»، وقد يفرض: أنّها وضعت للعموم البدليّ، كما لو قيل: إنّ كلمة «أيّ» في قوله: «أكرم أيّ عالم» موضوعة لذلك، فالفرق بالشموليّة والبدليّة هنا داخل في مدلول الخطاب، وراجع إلى تشخيص كيفيّة لحاظ المولى؛ حيث إنّ المولى في باب العموم يصبّ نظره على الأفراد بنحو إجماليّ، لا إلى ذات الطبيعة بغضّ النظر عن الأفراد، فتارةً يلحظها شموليّاً، واُخرى بدليّاً.

وأمّا فيما نحن فيه، فالفرق بين المتعلّق والموضوع لا يرجع إلى باب دلالة الألفاظ، ولا إلى لحاظ المولى، فإنّ كلاًّ من الموضوع والمتعلّق في «أكرم العالم» قد دلّ على ذات الطبيعة من دون أن يكون أحدهما دالّاً على البدليّة والآخر على الشمول، والمولى أيضاً لم يلحظ عدا ذات الطبيعة، وإنّما الشموليّة والبدليّة هنا من شؤون عالم التطبيق والفعليّة؛ حيث إنّ الموضوع يكون مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم، فله تطبيقات متعدّدة سابقة، فتتعدّد بذلك ـ لا محالة ـ

245

تطبيقات الحكم، بينما لا يكون المتعلّق مفروض الوجود حتّى يتعدّد الحكم في عالم التطبيق والفعليّة بعدد وجوداته، وإنّما الأمر نفسه يدعو إلى الإيجاد، فلا معنى للانحلال.

نعم، ما قلناه: من عدم انحلال الحكم بلحاظ المتعلّق وانحلاله بلحاظ الموضوع إنّما هو بحسب الطبع الأوّليّ للمطلب، وقد يوجد ما يحكم على الطبع الأوّليّ فيوجب في الموضوع عدم الانحلال، أو يوجب في المتعلّق الانحلال.

أمّا ما يوجب في الموضوع عدم الانحلال، فنمثّل له بالتنوين في «أكرم عالماً»، فإنّ التنوين يدلّ على تقييد الطبيعة بقيد الوحدة، وعندئذ لا يقبل الانطباق على عدّة أفراد في عرض واحد؛ لأنّ الانطباق على عدّة أفراد خلف الوحدة، فلا محالة يقف الحكم على الماهيّة من دون انطباق وانحلال على الأفراد.

وأمّا ما يوجب في المتعلّق الانحلال فنمثّل لذلك بالنكتة الموجودة في النهي.

وتوضيح ذلك: أنّ مقتضى الطبيعة الأوّليّة للنهي أن يكون كالأمر غير منحلّ بلحاظ المتعلّق، فحينما يقول: «لا تقم» يحرم عليه القيام حرمة واحدة بلا انحلال، فإذا قام مرّة واحدة سقط التكليف بالعصيان، ولم يحرم عليه القيام مرّةً اُخرى، ولكن حيث إنّ الغالب في مبادئ النهي هو قيامها بالأفراد بنحو التعدّد بعددها، فالنهي: إمّا ينشأ من مفسدة في الفعل، والغالب: أنّ تلك المفسدة توجد في كلّ فرد مستقلاًّ، أو ينشأ من مصلحة في الترك، والغالب: أنّ تلك المصلحة توجد في ترك كلّ فرد مستقلاًّ، فقد أوجبت هذه الغلبة ظهوراً للكلام في إرادة تحريم الطبيعة بشكل الانحلال، بينما الأمر ينشأ: إمّا من مصلحة في الفعل، أو من مفسدة في الترك، وليس الغالب في مصلحة الفعل أو مفسدة الترك وجودها في كلّ فرد فرد مستقلاًّ، فلم ينعقد للأمر ظهور يحكم على مقتضى الطبيعة الأوّليّة له. هذا.

وما ذكرناه: من أنّ مقتضى الطبيعة الأوّليّة للأمر والنهي عدم الانحلال بلحاظ

246

المتعلّق، والانحلال بلحاظ الموضوع يجري أيضاً بنفس النكتة في الإخبار،فحينما يقال مثلا: «العالِم نافع»، فالعالِم موضوع للإخبار عنه بالنافعيّة مفروض الوجود، فهو لا يخبر عن وجود العالم، بل يقول: إنّ العالم على تقدير وجوده نافع، وذلك ينحلّ إلى عدّة إخبارات بعدد العلماء، بينما النفع متعلّق للإخبار؛ حيث إنّه هو المخبر به، وليس مفروض الوجود سابقاً، فلا ينحلّ ذلك إلى الإخبار بكلّ نفع، ولا يفيد أكثر من وجود نفع ما في الجملة للعالم.

وإن شئت بياناً أوضح لنكتة الانحلال في الموضوع وعدمه في المتعلّق، سواء كان في الإنشاء والطلب، أو في الإخبار والحكاية، قلنا: إنّ الموضوع يفرض مقدّر الوجود، فحينما يقول: «أكرم العالم» لا يطلب بهذا إيجاد العالم، ثُمّ إكرامه، بل يفترض وجود العالم، فيحكم بإكرامه، وحينما يقول: «العالم نافع» لا يتكفّل الإخبار بوجود العالم، بل يفترض وجوده ويخبر بنافعيّته على تقدير وجوده، وهذا معناه: أنّه ترجع القضيّة إلى قضيّة شرطيّة، فكأنّما يقول: «إذا كان العالم موجوداً، فأكرمه»، أو «إذا كان العالم موجوداً، فهو نافع»، وإذا رجعت القضيّة إلى قضيّة شرطيّة، تصبح فعليّة الجزاء تابعة ـ لا محالة ـ لفعليّة الشرط، وليس المتكلّم الآن يُملي ويفرض علينا فعليّة الجزاء بغضّ النظر عن الشرط؛ لأنّ هذا خلف القضيّة الشرطيّة، فإذا أصبحت فعليّة الجزاء مرتبطة بفعليّة الشرط وتابعة لها، فلا محالة تتعدّد فعليّة الجزاء بتعدّد فعليّة الشرط(1).

وأمّا المتعلّق فليس مفروض الوجود وراجعاً إلى الشرط، فليس معنى «أكرمه»: أنّه إذا وجد الإكرام فقد وجب، فإنّ هذا طلب للحاصل، وليس معنى «العالم نافع»: أنّه إذا وجد نفع للعالم فالعالم نافع، فإنّ هذه قضيّة بشرط المحمول، ولا تكشف عن وجود النفع للعالم، بينما المقصود هو الكشف عن وجود النفع له،



(1) لأنّ نسبة فعليّة الجزاء إلى تمام فعليّات الشرط على حدّ سواء.

247

فإذا لم ترجع القضيّة بلحاظ المتعلّق إلى قضيّة شرطيّة، إذن ففعليّتها لا تتبع فعليّة المتعلّق، بل المتكلّم هو يُملي علينا فعليّة الطلب أو الإخبار الآن، من دون ربط لفعليّة ذلك بفعليّة المتعلّق، ولا دليل من هذا الطلب أو الإخبار على تعدّد الفعليّة، فلا محالة لا توجد إلّا فعليّة واحدة. هذا.

والفارق الموجود بين الأمر والنهي من حيث إنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلّا بانعدام كلّ الأفراد، ولذا يكفي في امتثال الأمر الإتيان بفرد واحد، ولا يمتثل النهي إلّا بترك كلّ الأفراد موجود أيضاً في الإخبار بالإيجاب والإخبار بالنفي، فحينما يقال: «العالم موجود» لا يدلّ على أكثر من إثبات عالم واحد، وحينما يقال: «العالم ليس بموجود» يدلّ على نفي كلّ فرد من أفراد العلماء؛ لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلّا بانعدام كلّ الأفراد.

وإذا قال: «الجاهل ليس بنافع» فالنفي يستغرق كلّ أفراد الجاهل بنكتة الانحلال؛ لأنّه موضوع مقدّر الوجود، ويستغرق كلّ أفراد النفع، لا بنكتة الانحلال، بل بنكتة: أنّ النفع لا ينتفي إلّا بانتفاء كلّ أفراده، ولهذا لو وجد نفع واحد للجاهل تبيّن كذب هذا الخبر نهائيّاً؛ لعدم الانحلال، وفرض وجود نفع آخر أو عدمه ـ بعد أن فرض وجود نفع ما ـ نسبته إلى هذا الإخبار على حدّ سواء، بينما لو وجد جاهل واحد نافعاً، لم يتبيّن كذب هذا الخبر نهائيّاً بحيث يكون فرض وجود جاهل آخر نافع أو عدمه نسبته إلى هذا الإخبار على حدّ سواء.

ومقصودنا بالموضوع الذي نقول عنه: إنّ مقتضى الطبيعة الأوّليّة للحكم بلحاظه الانحلال ليس هو كلّما يكون مقدّر الوجود ثبوتاً، أو كلّما كان متعلّق المتعلّق، وإنّما المقصود خصوص ما يكون نفس الكلام بحسب الفهم العرفيّ دالّاً على كونه مقدّر الوجود، كالعالم في «أكرم العالم». وأمّا ما لم تكن للكلام دلالة عرفاً على كونه مقدّر الوجود، من قبيل التراب والماء في «تيمّم بالتراب، وتوضّأ بالماء» فلا ينحلّ الحكم بتعدّد أفراده وإن كان هو متعلّق المتعلّق؛ وإذا عرفنا من الخارج أنّ

248

هذا مقدّر الوجود ثبوتاً، لم يشفع ذلك للانحلال كما هو الحال في هذين المثالين، حيث إنّهم لا يفتون بوجوب إيجاد الماء أو التراب مع الإمكان عند عدم وجوده، وإنّما يقولون بوجوب الوضوء أو التيمّم إذا وجد الماء أو التراب، ولكن مع ذلك لا يكون الحكم بالتيمّم بالتراب أو الوضوء بالماء بحسب الفهم العرفيّ لهذا الكلام انحلاليّاً، بأن يجب التيمّم بكلّ تراب، والوضوء بكلّ ماء.

والسرّ في ذلك: أنّه بنفس دلالة هذا الكلام لم يفهم فرض وجود التراب أو الماء وإن فهمنا ذلك من الخارج، ولو كنّا نحن وهذا الكلام، لكنّا نقول بوجوب إيجاد الماء أو التراب مع الإمكان للوضوء أو التيمّم.

ثُمّ إنّ ما ذكرناه في النهي: من أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة بلحاظ المتعلّق هو عدم الانحلال، ووجود نهي واحد لا يمتثل إلّا بترك كلّ الأفراد، ومقتضى القرينة العامّة الثانويّة هو الانحلال لا فرق فيه بين الأفراد العرضيّة والطوليّة، فكما أنّه في الأفراد العرضيّة نقول بأنّه بحسب مقتضى القاعدة الأوّليّة هناك نهي واحد لابدّ لأجله ترك كلّها، وبحسب القرينة العامّة وهي تعدّد مبادئ النهي غالباً بتعدّد الأفراد ينحلّ النهي بعدد الأفراد، كذلك الحال تماماً في الأفراد الطوليّة، هذا في جانب النهي.

وأمّا في جانب الأمر فقد عرفت: أنّ مقتضى القاعدة فيه بلحاظ المتعلّق عدم الانحلال، وأنّه في امتثاله يكتفى بفرد واحد.

الامتثال بأكثر من فرد:

وهل يمكن الامتثال بأكثر من فرد واحد أيضاً، أو لا؟

لا ينبغي الإشكال في إمكان الامتثال بمجموع فردين عرضيّين؛ لأنّ المأمور به هو الطبيعة، وهي غير مقيّدة بقيد الوحدة، فهي موجودة في ضمن فرد وفي ضمن فردين، وجامعة بين الفرد والفردين، فيتمّ التخيير العقليّ بين الفرد والفردين، هذا في الفردين العرضيّين.

249

وأمّا في الفردين الطوليّين، فالتحقيق: أنّه لا يمكن الامتثال بمجموعهما بالرغم من أنّ الطبيعة هنا أيضاً نسبتها إلى الفرد والفردين على حدّ سواء؛ وذلك لأنّه وإن لم يكن ضيق في ذات الواجب يوجب عدم الانطباق على مجموع الفردين الطوليّين، لكن هناك ضيق في الوجوب، أو قل: في الواجب بما هو واجب؛ ذلك لأنّ الوجوب يسقط قهراً بمجرّد الإتيان بالفرد الأوّل؛ لتحقّق متعلّقه خارجاً، فلا يبقى مجال لافتراض امتثال الأمر بمجموع فردين، وافتراض التخيير العقليّ بين الفرد الواحد والفردين كما كنّا نفترضه في العرضيّين.

نعم، يمكن افتراض امتثال الأمر بمجموع فردين طوليّين على أساس التخيير الشرعيّ بالنحو الذي يتصوّره صاحب الكفاية في التخيير بين الأقلّ والأكثر، بأن يخيّرنا المولى بين التسبيحة الواحدة بشرط لا وثلاث تسبيحات مثلا(1)، لكن هذا يحتاج إلى مزيد مؤونة في البيان، وصياغة خاصّة في الخطاب، ولا يثبت بمجرّد إطلاق الأمر بالتسبيح مثلا. هذا.

تبديل الامتثال بفرد آخر:

وهل يمكن تبديل الامتثال من فرد إلى فرد آخر، أو لا؟

ذهب المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) إلى أنّ نسبة الغرض إلى المتعلّق لو كانت هي نسبة المعلول إلى العلّة، لم يمكن ذلك؛ لأنّه بمجرّد الإتيان بالفرد الأوّل يحصل الغرض، وبه يسقط الأمر، فلا مجال لتبديل الامتثال، ولكن حينما تكون نسبته إلى المتعلّق نسبة المقتضى إلى المقتضي، كما لو كان المولى عطشاناً فطلب الماء فقدّم العبد له الماء، وقبل أن يشربه ويرتفع العطش فكّر العبد في تبديل الماء بالإتيان بماء آخر،



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 227 ـ 228 بحسب طبعة المشكينيّ.