167

الثالث: أن تكون محرّكيّة هذا الأمر عبارة عن أنّه يريد إرادة الصلاة، فيريد الصلاة فيصلّي، وهذا معناه: أنّ محرّكيّة هذا الأمر متمثّلة في محرّكيّتين طوليّتين، بأن يكون أوّلاً محرّكاً نحو إرادة الصلاة بأن يصبح العبد مريداً لإرادة الصلاة، ثُمّ في طول ذلك تنشأ محرّكيّة ثانية نحو ذات الصلاة تتمثّل في إرادة نفس الصلاة، وهذه الإرادة الثانية هي متعلّق الإرادة الاُولى بحيث يصدق في المقام فاء الترتيب، بأن نقول: أراد أن يقصد الامتثال بالصلاة، فقصد الامتثال بالصلاة، وطبعاً لا يعقل كون إرادة الصلاة في عرض إرادة إرادة الصلاة؛ إذ في عرض حصول المراد لا معنىً لإرادته، وإلّا لزم طلب الحاصل، وإنّما المراد في طول الإرادة، وهذا أيضاً باطل؛ إذ معنى ذلك: أنّ اقتضاء أحد الأمرين الضمنيّين للتحريك كان في طول اقتضاء الأمر الضمنيّ الآخر للتحريك، وهذا غير معقول؛ لأنّهما أمران عرضيّان ببرهان أنّهما ضمنيّان، فنسأل عن أنّه هل يوجد في مرتبة الأمر الضمنيّ بقصد الامتثال الأمر الضمنيّ بذات الصلاة، أو لا؟ فإن قيل: لا، كان معنى ذلك الطوليّة بين نفس الوجوبات الضمنيّة، وهذا غير معقول. وإن قيل: نعم، فما معنى أن لا يقتضي هذا الأمر الضمنيّ التحريك في عرض اقتضاء الآخر للتحريك؟!

أخذ قصد القربة بغير معنى قصد الامتثال:

وأمّا المقام الثاني: ففي تحقيق حال أخذ قصد القربة بغير معنى قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر.

وأخذ قصد القربة بغير هذا المعنى يفرض فيه عدّة أنحاء:

النحو الأوّل: أن يؤخذ في متعلّق الأمر قصد طبيعيّ الأمر. وفرقه عمّا مضى أنّه كان الكلام حتّى الآن في أخذ قصد شخص الأمر في متعلّقه، بينما هنا يفرض أخذ قصد طبيعيّ الأمر الذي هو قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر في متعلّقه.

168

والتحقيق: أنّ الوجه الثاني من الوجوه الأربعة التي اخترناها في مقام إثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه لا يأتي في المقام، ولكن يأتي في المقام الوجه الأوّل والثالث والرابع، فلنا دعويان:

الدعوى الاُولى: أنّ الوجه الثاني لا يأتي في المقام، وقد كان حاصله: أنّه يلزم التهافت في رؤية المولى؛ فإنّه ـ بحسب اُفق أمره ـ يرى أنّ متعلّق الأمر شيء متقدّم على الأمر في التحصّل والتقوّم، فلا يعقل أن يكون الأمر مأخوذاً كقيد في هويّته، وهذا الوجه لا يمكن إسراؤه في المقام.

وتوضيح ذلك يكون بذكر تقريب بدائيّ لإسرائه في المقام، والجواب عنه:

أمّا تقريب الإسراء، فهو أن يقال: إنّ قصد الأمر له حصّتان:

1 ـ قصد امتثال شخص ذلك الأمر المتعلّق بالصلاة مثلاً.

2 ـ قصد امتثال أمر آخر.

وقد عرفنا أنّه لا يعقل أخذ الحصّة الاُولى في موضوع الأمر؛ لأنّه خلف ما يراه المولى من تقدّم المعروض على عرضه في اُفق حكمه، فلا يعقل أخذ الجامع بينهما؛ إذ بعد أن فرض: أنّ متعلّق الأمر يجب أن يكون تامّ التحصّل بقطع النظر عن الأمر، إذن فلا محالة يتحصّص بخصوص الحصّة الثانية؛ لأنّ الحصّة الاُولى لا تكون تامّة التحصّل بقطع النظر عن الأمر، ومن الواضح بطلان الحصّة الثانية؛ إذ لا أمر آخر بالصلاة غير شخص ذاك الأمر.

إلّا أنّ هذا التقريب غير صحيح؛ فإنّه: إمّا أن يكون خلطاً بين الرؤية التصوّريّة والتقييد التشريعيّ المولويّ، أو يكون خلطاً بين جمع القيود ورفض القيود.

وتوضيح ذلك: أنّه تارةً يفرض أنّ المولى يأخذ التحصّل ـ بقطع النظرعن الأمر ـ قيداً في المتعلّق كما يأخذ قيد الطهارة والاستقبال، فيقول:«صلِّ بقصد الامتثال»، أي: الامتثال الذي له تحصّل بقطع النظر عن الأمر، فلا

169

ينطبق على ما لا يتحصّل به كما لا ينطبق على الصلاة بلا طهور أو بلا استقبال، واُخرى لا يفرض: أنّ المولى أخذ هذا قيداً في المتعلّق، وإنّما يفرض: أنّ المولى يرى الشيء الذي يعرض عليه الأمر برؤيته التصوّريّة شيئاً له تحصّل بغضّ النظر عن الأمر؛ إذ لا يمكنه أن يرى في اُفق أمره ما يتحصّل بشخص الأمر ويعرض ذلك الأمر عليه، وهذا هو الذي قام عليه البرهان.

وهذا ليس معناه: أنّ معروض الأمر تقيّد بالحصّة المتحصّلة قبل الأمر، بل معناه: أنّ محطّ نظره التصوّريّ سنخ ماهيّة غير متقوّمة بالأمر، لأجل أن يتاح للمولى أن يراها قبل الأمر، فيجب أن تكون سنخ ماهيّة ليس الأمر نائماً في أحشائها، وهذا يكفي فيه أن تكون هذه الماهيّة هي الجامع بين الحصّتين، فإنّ الجامع بين الفرد المتقوّم بشخص الأمر والفرد غير المتقوّم به غير متقوّم به لا محالة؛ لأنّ انتزاع هذا الجامع بينهما إنّما يكون بإلغاء الخصوصيّة التي بها كان المتقوّم بالأمر متقوّماً به، فيمكن للمولى أن يراه رؤية تصوّريّة بما هو مفروغ عنه قبل الأمر دون أن يأخذ هذه المفروغيّة قيداً في متعلّق الأمر، فلا يستحيل انطباقه على الفرد المتقوّم بشخص الأمر.

وهذا مطلب عامّ يجري في تمام الموارد التي ينشأ المحذور فيها من ناحية الضيق التصوّريّ للمولى وعدم تعقّل انصبابه على الحصّة، فيعقل أخذ الجامع المنطبق على تلك الحصّة وغيرها، وانصباب تصوّر المولى عليه.

وهذا الإطلاق ليس معناه: أنّ تلك الحصّة منظورة للمولى ليلزم كونه يرى ما هو في طول الأمر في المرتبة السابقة؛ لأنّ الإطلاق ليس جمعاً بين القيود والحصص، وإنّما هو الغاء للخصوصيّات، ومرجع ذلك إلى الانطباق القهريّ على كلتا الحصّتين، فما هو متأخّر عن الأمر لم يقع بمفهومه تحت النظر، وإنّما هو مصداق لما وقع تحت النظر.

170

نعم، هذا الجامع صدفة ينحصر فرده بالفرد الذي يكون في طول الأمر ومتقوّماً به، ولا يلزم من ذلك محذور، فلو بقينا نحن والوجه الثاني، لقلنا بإمكان أخذ قصد طبيعيّ الأمر في متعلّق الأمر.

الدعوى الثانية: أنّ سائر الوجوه تأتي في المقام، وتثبت عدم إمكان أخذ قصد طبيعيّ الأمر في متعلّق الأمر:

أمّا الوجه الأوّل: فكان حاصله: أنّه لا يمكن قصد الأمر إلّا بوصول الأمر، فيرجع إلى أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر، وهو محال.

وهذا بروحه يأتي في المقام؛ إذ لو اُخذ في متعلّق الأمر قصد امتثال طبيعيّ الأمر، توقّف امتثاله على وصول طبيعيّ الأمر، فيرجع حاصل قوله: «صلِّ بقصد الأمر» إلى قضيّة شرطيّة، وهي: «إذا وصلك أمرٌ مّا بالصلاة، فصلّ بقصد الأمر»، وحيث إنّه ـ بحسب الخارج ـ لا أمر بالصلاة غير هذا الأمر، فالطبيعيّ انحصر خارجاً بهذا الفرد، فوجود الأمر الفعليّ بالصلاة موقوف بالأخرة على وصول شخص هذا الأمر الفعليّ ولو من باب انحصار الطبيعيّ الموقوف عليه بهذا الشخص خارجاً، فيلزم الدور مثلاً في عالم الفعليّة؛ لتوقّف وصول شخص هذا الأمر الفعليّ على وجوده.

نعم، لو فرض عدم انحصار الأمر في هذا الأمر بالصلاة، ووجود أمر آخر بالصلاة، لم يلزم الدور؛ إذ يمكن أن يصل ذلك الأمر، وتتحقّق به فعليّة هذا الأمر.

وأمّا الوجه الثالث: فكان حاصله: أنّ الأمر الضمنيّ بقصد الامتثال لا تعقل محرّكيّته؛ لأنّ الأمر الضمنيّ بالصلاة إن كفى لتحريك العبد نحو الصلاة لو كان وحده، حصل قصد الامتثال بذلك، ولا يعقل التأكيد في الأوامر الضمنيّة، وإلّا فهذا الأمر أيضاً لا يحرّك.

171

وهذا البيان بعينه يأتي هنا؛ فإنّه إن تحرّك العبد نحو الصلاة بمجرّد الأمر بالصلاة، فقد حصل ـ لا محالة ـ قصد امتثال طبيعيّ الأمر، وإلّا فلا يفيده الأمر الضمنيّ بقصد امتثال طبيعيّ الأمر.

وأمّا الوجه الرابع: فهو الذي كان يقال فيه: إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب من الصلاة وإرادة الأمر لا يعقل أن يحرّك نحو المجموع؛ لأنّ تحريكه نحو الصلاة عبارة عن قدح إرادة الصلاة، فلا تنبسط تلك الإرادة على نفسها إلى آخر ما مضى من الشقوق.

وهذا أيضاً يأتي هنا؛ لأنّه بمجرّد أن تعلّقت إرادته بالجزء الأوّل كانت هي مصداقاً لإرادة طبيعيّ الأمر، فلو انبسطت على الجزء الثاني، كان معنى ذلك: انبساط الإرادة على نفسها إلى آخر ما مضى من الشقوق.

النحو الثاني: ما نقله المحقّق النائينيّ (رحمه الله) عن اُستاذه السيّد الشيرازيّ(قدس سره)، وهو: أنّه إن استحال أخذ قصد الامتثال في موضوع الأمر، فليؤخذ عنوان ملازم لقصد الامتثال في موضوعه(1).

واعتُرض عليه:

أوّلاً: بأنّ فرض عنوان ملازم لقصد الأمر فرض أنياب الأغوال، فما هو ذلك العنوان الذي لا يتعقّل تحقّقه مع عدم تحقّق قصد الأمر، ولا عدم تحقّقه مع تحقّق قصد الأمر؟

وثانياً: بما عن المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من أنّه لو وجد عنوان من هذا القبيل ملازم



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 111 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، ولكن المطلب في فوائد الاُصول يختلف عن ذلك، راجع الجزء الأوّل منه، ص 152 ـ 153 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

172

لقصد الأمر، فالمتلازمان وإن استحال تفكيك أحدهما عن الآخر، ولكن فرض المحال ليس بمحال، فنقول: لو فرض محالاً التفكيك بينهما، فوجد ذاك العنوان ولم يوجد قصد الأمر، فما هو موقف المولى من ذلك؟ فهل يكتفي بهذا، أو لا؟

فإن قيل: نعم، كان خلف الضرورة؛ لضرورة احتياج الصلاة إلى قصد القربة. وإن قيل: لا، رجع إلى أخذ قصد الأمر، ففرض عنوان ملازم مجرّد تغطية للمطلب(1).

وكلا هذين الإشكالين ليس بشيء:

أمّا الأوّل: فلأنّه يوجد عندنا عنوان ملازم لقصد الامتثال، وهو عدم صدور الفعل بداع نفسانيّ، أي: سائر الدواعي غير قصد الامتثال، فهذا يلازم في صورة تحقّق الفعل وجود داعي الامتثال؛ لأنّ الفعل لا يصدر بلا داع.

وأمّا الثاني: وهو فرض الانفكاك، فلأنّه لو اُريد بذلك فرض المحال من قبيل فرض اجتماع الضدّين، أو ارتفاع النقيضين، فليس على المولى أن يجعل أمره وافياً بغرضه على جميع الفروض حتّى الفروض المستحيلة، وإنّما عليه أن يجعله وافياً بغرضه على الفروض المعقولة، وإلّا فما هو موقف المولى من فرض اجتماع النقيضين لو فرضنا: أنّ العبد صلّى ولم يصلِّ في وقت واحد، أفهل ثبت ضمان المولى وفاء أمره بغرضه في هذا الفرض مثلاً؟!

ولو اُريد بذلك فرض أمر معقول وإن كان نادر التحقّق، كما في التفكيك بين متلازمين يكون تلازمهما عاديّاً وغالبيّاً، لا عقليّاً، قلنا: إنّ التفكيك بين قصد الامتثال وعدم سائر الدواعي الذي فرضناه غير معقول؛ لأنّ ذلك معناه: حصول الفعل الاختياريّ بلا داع.



(1) راجع المصدر السابق.

173

والتحقيق: أنّ هذا النحو أيضاً يجب أن نحسب حسابه على ضوء الوجوه الأربعة التي اخترناها لاستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه، وهنا أيضاً نقول: إنّ الوجه الثاني لا يأتي في المقام، وسائر الوجوه تأتي في المقام.

أمّا عدم إتيان الوجه الثاني في المقام، فلأنّ معروض أمر المولى ليس مقيّداً بأمره حتّى يرى عروض أمره على ما هو متأخّر عن أمره ومتقوّم به؛ إذ لم يؤخذ في متعلّقه قصد الأمر، وإنّما اُخذ فيه عنوان ملازم لذلك، فقصد الأمر وإن كان يحصل قهراً، لكن المولى لا ينظر إليه في اُفق أمره، فلا يلزم التهافت في نظر المولى ولحاظه.

وأمّا سائر الوجوه، فالوجه الأوّل يأتي في المقام؛ لأنّ ملازم قصد الأمر لا يتأتّى إلّا ممّن وصل إليه الأمر، فلزم أخذ وصول الأمر في موضوعه، وكذلك الوجه الثالث؛ لأنّ الأمر بالصلاة: إن كفى للتحريك نحو الصلاة، حصل قصد الأمر وحصل ملازمه، فالأمر بالملازم لا يولّد تحريكاً تأسيساً ولا تأكيداً، وإن لم يكفِ للتحريك، فالأمر بملازم قصد الأمر أيضاً لا يكفي للتحريك، وكذا الوجه الرابع؛ لأنّه كما يستحيل انبساط الإرادة على نفسها كذلك يستحيل انبساطها على ملازمها المفروض الحصول، فإذا تعلّقت الإرادة بالصلاة وهي الجزء الأوّل من الواجب، فهي بنفسها عبارة عن ملازم الجزء الآخر، فكيف تنبسط على الجزء الآخر الذي هو مفروض الحصول، وهل هذا إلّا طلب الحاصل؟

النحو الثالث: ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام الفرار عن محذور أخذ قصد الأمر تحت الأمر، وهو فرض تعلّق الأمر بالحصّة التوأم، فيقال: إنّ الأمر يتصوّر فيه ثلاث فرضيّات:

الاُولى: أن يتعلّق بالصلاة المطلقة من ناحية قصد القربة.

والثانية: أن يتعلّق بالصلاة المقيّدة بقصد الأمر.

174

والثانية غير ممكنة بحسب الفرض، والاُولى خلاف غرض المولى.

والثالثة: أن يتعلّق بالحصّة التوأم مع قصد الأمر، فيكون تحت الأمر ذات المقيّد، ويكون القيد والتقيّد خارجاً، وحينما يؤخذ القيد فهو عنوان مشير إلى ذات المقيّد وحده، من قبيل أن يقال: «اتّبعوا خاصف النعل»، فهذا العنوان مشير إلى ذات الحصّة الخاصّة التي حضاها الله تعالى بنعمة الإمامة، والتقيّد والقيد خارجان عن وجوب الاتّباع، فهنا أيضاً حينما يؤخذ القيد يؤخذ على وجه مشير، إذن فالمولى يمكنه أن يتوصّل إلى غرضه بأمر متعلّق بالحصّة من دون لزوم محذور؛ إذ الأمر ثبت على الحصّة، ولا يسري إلى باقي الحصص(1).

وهذا أيضاً غير تامّ.

وتفصيل الكلام هو: أنّ موضوع القضيّة: تارةً يكون حصّةً لها تميّز وتعيّن في المرتبة السابقة على تقيّدها بالقيد، كما هو الحال في الأعيان الخارجيّة مثل ذات الإمام، فهو ـ بقطع النظر عن اتّصافه بخصف النعل ـ له تعيّن وتميّز عن باقي أفراد الإنسان، واُخرى لا يكون له تحصّص وتميّز إلّا بنفس التقيّد، كما هو الحال في الحصص المفهوميّة الكلّيّة، مثل الإنسان الأبيض، فليست هناك حصّة معيّنة في قبال بقيّة أفراد الإنسان بقطع النظر عن التقيّد بالبياض.

ففي القسم الأوّل الحصّة التوأم أمر معقول، بأن يكون كلّ من القيد والتقيّد خارجاً، وإن اُخذ فهو عنوان مشير فقط. وأمّا في القسم الثاني الذي يكون تحصّص بعضها في مقابل البعض بنفس التقيّد، فحينئذ إذا فرض: أنّ الحكم قد ركّب على ذات الطبيعة، والقيد والمقيّد كلاهما خارجان، فهل الحكم سوف يسري



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 243 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 192 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

175

إلى الحصص، أو يقف على الحصّة؟ هذا مربوط بأنّ الإطلاق هل يكفي فيه ذات الطبيعة، أو لابدّ من الإطلاق اللحاظيّ، فبناءً على ما هو الصحيح من سريان الطبيعة المهملة يستحيل وقوف الحكم على الحصّة، فلا تعقل الحصّة التوأم، فإنّ المقتضي للسريان موجود، وهو ذات الطبيعة، والمانع مفقود لخروج التقيّد والقيد.

نعم، لو قلنا: إنّه لا يكفي في السريان ذات الطبيعة، فهذا راجع إلى الطبيعة المهملة التي قال عنها المشهور: إنّها في قوّة الجزئيّة، وإنّها لا تسري إلى تمام الحصص، سمّيت هنا بالحصّة التوأم.

إذن فتبيّن: أنّ الحصّة التوأم في باب الحصص المفهوميّة التي يكون تميّزها بذات التقيّد أساساً غير معقول، إلّا بناءً على عدم السريان، وبناءً عليه يرجع إلى الطبيعة المهملة، حينئذ نقول: لو فرض تعلّق الأمر بالطبيعة المهملة من ناحية قصد الأمر، وفرضنا: أنّ الطبيعة المهملة في قوّة الجزئيّة، فلا يسري الأمر إلى الصلاة الخالية عن قصد الأمر، ورد على ذلك الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة التي أخترناها لإثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، وهو لزوم أخذ وصول الأمر في موضوعه؛ لأنّ الأمر بالطبيعة المهملة إذا كان في قوّة الأمر بالمقيّدة لا يمكن تطبيقه ـ بحسب الخارج ـ على غير المقيّد، إذن فلا يمكن للعبد العمل به، إلّا بأن يكون قادراً على الإتيان بالمقيّد، وقدرته على ذلك فرع وصول الأمر.

النحو الرابع: أن تفرض القصود القربيّة الاُخرى غير قصد الأمر، من قبيل قصد الملاك، وهذه القصود القربيّة الاُخرى تتصوّر على أربعة أنحاء:

1 ـ قصد المحبوبيّة.

2 ـ قصد المصلحة.

3 ـ قصد كونه حسناً ذاتاً.

4 ـ قصد كونه ـ سبحانه وتعالى ـ أهلاً للعبادة.

176

وينبغي حذف الوجه الرابع؛ إذ بقطع النظر عن هذا الداعي لو لم يكن عبادة، فلا معنى لأن يؤتى به لكون المولى أهلاً للعبادة، وكذا الوجه الثالث؛ لأنّ حسنه الذاتيّ إنّما يكون بعباديّته، فعباديّة الشيء لا يمكن أن تنشأ من هذين الداعيين.

فلم يبقَ إلّا الأوّلان، أعني: قصد المحبوبيّة وقصد المصلحة، ونحن نعلم أنّ للحكم ثلاثة عوالم: عالم الخطاب والجعل، وعالم المحبوبيّة، وعالم المصلحة، وقد عرفت أنّ قصد الخطاب لا يمكن أخذه في متعلّق الخطاب، فبقي أن نرى: أنّ قصد المحبوبيّة أو المصلحة هل يمكن أخذه في متعلّق الخطاب، أو لا؟

لا إشكال ـ بحسب عالم الإثبات ـ في أنّ خصوص قصد الإرادة أو المصلحة غير مأخوذ في متعلّق الخطاب؛ إذ من الواضح صحّة الصلاة بقصد الأمر، فلو كان خصوص قصد المصلحة أو الإرادة مأخوذاً في متعلّق الأمر، لما صحّت الصلاة بقصد الأمر، بل لاستحالت الصلاة بقصد الأمر؛ لأنّه لم يتعلّق بالصلاة أمر استقلاليّ حتّى يمكن الإتيان بها بقصد الأمر، وإنّما تعلّق بها أمر ضمنيّ، والواجب الضمنيّ إنّما يعقل الإتيان به بقصد الأمر إذا كان الجزء الثاني منضمّاً إليه ولو بنفس ذلك القصد، وهنا الجزء الثاني عبارة عن قصد المصلحة أو الإرادة، لا عن قصد الأمر، فليس الجزء الثاني منضمّاً إليه ولو بنفس ذلك القصد، فلم يعد من المحتمل إثباتاً أخذ قصد الإرادة أو المصلحة بخصوصه في متعلّق الأمر، لكن مع هذا نبحث عن أنّه هل يمكن ثبوتاً أخذ ذلك في متعلّق الأمر، أو لا، حتّى إذا ثبت إمكانه نبحث بعد ذلك عن أنّ الجامع بين هذا الممكن وهو أخذ قصد الإرادة أو المصلحة، وذاك المستحيل وهو أخذ قصد الأمر هل هو ممكن أو مستحيل.

إذن، فهنا مرحلتان من البحث:

المرحلة الاُولى: في أنّه هل يمكن أخذ قصد الإرادة أو المصلحة بالخصوص في متعلّق الأمر، أو لا؟

177

فنقول:

أمّا قصد الإرادة والمحبوبيّة، فالصحيح إمكان أخذه في متعلّق الأمر؛ لأنّه لا يلزم من ذلك شيء من المحاذير الأربعة التي أخترناها لإثبات استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه، لا بلحاظ عالم الأمر، ولا بلحاظ عالم الإرادة.

أمّا بلحاظ عالم الأمر:

فالمحذور الأوّل: وهو لزوم أخذ وصول الأمر في موضوعه لا يأتي هنا؛ لأنّه ليس الواجب قصد الأمر، وإنّما الواجب قصد الإرادة، فغاية ما يلزم هي أخذ وصول الإرادة في موضوع الأمر، ولا بأس به(1).



(1) قد يقال: إنّ وصول الإرادة يتوقّف غالباً على وصول الأمر، فعدنا مرّة اُخرى إلى أخذ وصول الأمر في موضوعه، إذن ففرض أخذ قصد الإرادة في المتعلّق (وكذلك ما سوف يأتي من فرض أخذ قصد المصلحة فيه) كفرض قصد الأمر فيه من ناحية المحذور الأوّل.

والجواب: أنّ الفرق بين الفرضين هو: أنّه إذا فرض أخذ قصد الأمر في متعلّقه، أصبح المجعول متوقّفاً على وصول المجعول؛ لأنّ مجرّد وصول الجعل إلى العبد من دون أن يعرف انطباقه عليه لا يصحّح له قصد الأمر. وأمّا إذا فرض أخذ قصد المحبوبيّة أو المصلحة في متعلّق الأمر، فليس المجعول متوقّفاً على وصوله، بل يكون المجعول متوقّفاً على وصول الجعل، ووصول انطباقه على العبد لا من جميع الجهات حتّى يرجع ذلك إلى وصول المجعول، بل من كلّ الجهات ما عدا جهة الوصول.

وتوضيح ذلك: أنّ العبد وإن كان يحتاج إلى وصول المحبوبيّة أو المصلحة إليه حتّى يقدر على قصدها، ففعليّة المجعول متوقّفة على وصول المحبوبيّة أو المصلحة إليه، لكن يكفي في وصول المحبوبيّة أو المصلحة إليه أن يصل إليه الجعل مع كلّ ما هو دخيل في

178

والمحذور الثاني: وهو أنّ المولى يرى معروض أمره سابقاً تحصّلاً وتعقّلاً على نفس الأمر، فلا يمكن أن ينام في أحشائه الأمر، فأيضاً لا يأتي هنا؛ إذ لم ينم في أحشائه الأمر، وإنّما نامت في أحشائه الإرادة؛ إذ اُخذ في متعلّقه قصد الإرادة، لا قصد الأمر.

والمحذور الثالث: وهو أنّ الأمر الضمنيّ بالصلاة إذا حرّك نحو الصلاة وجد الجزء الثاني، فلا معنى للتحريك نحو الجزء الثاني تأسيساً ولا تأكيداً، فأيضاً لا يأتي هنا؛ لأنّه لو تحرّك إلى الصلاة من الأمر بالصلاة لم يكن هذا معناه في المقام وجود الجزء الثاني؛ لأنّ الجزء الثاني هو قصد الإرادة، فيجب على العبد أن يجعل نفسه بمستوىً بحيث يتحرّك من نفس إرادة المولى ولو فرض أنّ المولى لم يأمره، وهذا شيء جديد غير مجرّد التحرّك نحو الصلاة عند أمر المولى بها، إذن فتبقى محرّكيّة الأمر الضمنيّ الآخر.



الفعليّة عدا وصول المحبوبيّة أو المصلحة؛ لأنّ المحبوبيّة أو المصلحة في أيّ شيء كانت فهي ثابتة حتّى لو لم تصل؛ لاستحالة دخل وصول الشيء في الشيء، إذن فالعبد بمجرّد أن يسمع المولى يقول: «يجب على كلّ من هو واجد للشرائط الفلانيّة وعارف بالمصلحة أو المحبوبيّة في العمل الفلانيّ» يجب عليه أن يفعل، فاطّلاعه على هذا الجعل وعلى وجدانه لتلك الشرائط كاف في أن يقطع بالمصلحة أو المحبوبيّة، من دون توقّف ذلك على معرفة فعليّة المجعول من ناحية وصول المصلحة أو المحبوبيّة؛ لأنّ المصلحة أو المحبوبيّة غير متوقّفة على وصولها وإن اُخذ وصولها في فعليّة الأمر من باب عدم القدرة على امتثاله لدى عدم وصولها.

إذن فمجرّد اطّلاعه على الجعل وعلى سائر الشرائط ما عدا الوصول كاف في وصول المصلحة أو المحبوبيّة إليه، وبنفس هذا الوصول تكتمل شرائط فعليّة المجعول، فيمتثل.

179

والمحذور الرابع: وهو أنّ إرادة المجموع تستلزم انبساط الإرادة على نفسها؛ لأنّه بإرادة الصلاة تكوّن الجزء الثاني، فأيضاً لا يأتي في المقام؛ لما عرفت من أنّ الجزء الثاني هنا لا يتكوّن بمجرّد إرادة الصلاة، بل لابدّ من أن يتحرّك نحو الصلاة من ذات إرادة المولى، بحيث لو لم يكن قد أمره المولى بها، وعرف أنّ المولى أراد الصلاة وأحبّها، كفاه ذلك في التحرّك نحو الصلاة.

وأمّا بلحاظ عالم الإرادة والمحبوبيّة، فالمحذور الأوّل والثالث والرابع لا موضوع لها؛ لأنّ هذه الوجوه مبنيّة على أنّ الأمر لابدّ أن يكون محرّكاً وباعثاً نحو أمر مقدور، وهذا إنّما هو شأن الأمر، وأمّا المحبوبيّة فلا بأس بفرض تعلّقها بأمر غير مقدور، أو عدم قابليّتها للتحريك.

وأمّا المحذور الثاني، فهو يلزم في المقام لو فرض أخذ قصد شخص الإرادة في المتعلّق؛ فإنّه كما لا يعقل عروض الأمر في اُفقه النفسيّ على ما يتقوّم بشخص الأمر كذلك لا يعقل عروض الإرادة في اُفقها النفسيّ على ما يتقوّم بشخص تلك الإرادة، إلّا أنّنا نفرض أخذ قصد طبيعيّ الإرادة لا شخصها، حتّى يرتفع المحذور، كما عرفت فيما مضى: من أنّ فرض أخذ قصد طبيعيّ الأمر واف بعلاج المحذور الثاني.

وأمّا قصد المصلحة، فأيضاً لا يلزم محذور من أخذه في متعلّق الأمر، لا بلحاظ عالم الأمر، ولا بلحاظ عالم المصلحة:

أمّا بلحاظ عالم الأمر، فالكلام فيه هو الكلام فيما ذكرناه في أخذ قصد الإرادة.

وأمّا بلحاظ عالم المصلحة، فالمحذور الأوّل والثالث والرابع لا موضع لها؛ لما عرفت أيضاً في أخذ قصد الإرادة: من أنّ هذه الوجوه مبنيّة على لزوم كون الأمر محرّكاً نحو المقدور، بينما لا بأس بافتراض وجود المصلحة في أمر غير مقدور، أو عدم قابليّة المصلحة للتحريك.

180

والمحذور الثاني أيضاً لا موضوع له هنا؛ لأنّه إنّما يتصوّر فيما له عروض بحسب عالم نفس المولى، فيقال: يلزم التهافت في لحاظ المولى؛ لأنّه يرى معروضه قبل العارض، وأمّا المصلحة فأمر تكوينيّ واقعيّ ليس عروضها بلحاظ عالم نفس المولى.

وأمّا ما جاء في تقرير بحث المحقّق النائينيّ (رحمه الله): من استحالة ذلك، بدعوى: أنّ المصلحة إذا قامت بالفعل المأتيّ به بداعي المصلحة، لزم الدور في مقام الإتيان؛ لأنّ الإتيان به بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به الذي هو فرع أن يؤتى به بداعي المصلحة(1)، فهذا البيان وأمثاله يمكن الجواب عليه على ضوء ما تقدّم في الأبحاث السابقة؛ إذ يكفينا أن يقال: إنّ الإتيان بداعي المصلحة لا يتوقّف على قيام المصلحة بذات الفعل بأن يكون ذات الفعل هو تمام ما يحصّل المصلحة، بل يتوقّف على أن يكون للفعل دخل في إيجاد المصلحة، فهو يأتي بالفعل لكي يسدّ بذلك باب عدم المصلحة الذي ينفتح بترك الفعل، وإذا أتى به بهذا الداعي كان هذا بنفسه عبارة عن قصد المصلحة الذي به ينسدّ الباب الآخر للعدم.

وبذلك تلخّص: أنّ أخذ قصد الإرادة أو المصلحة بالخصوص في متعلّق الأمر لا يلزم منه محذور،لا بلحاظ عالم الأمر ولا بلحاظ عوالم ما قبل الأمر.

نعم، هذا غير محتمل إثباتاً كما بيّنّا، وإنّما ذكرناه استطراقاً إلى البحث في الجهة الثانية عن إمكان أخذ الجامع وعدمه.

وقبل الشروع في البحث عن الجهة الثانية نسجّل هنا شكّاً صغرويّاً، وهو: أنّه لعلّ قصد المصلحة ليس قصداً قربيّاً؛ فإنّ المصلحة في أوامر الموالي العرفيّة قد



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 108 إلى 109 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 151 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

181

تكون مصلحة للمولى، فيمكن أن يقصدها العبد، ويتقرّب بذلك إلى مولاه وإن فرض: أنّ المولى كان سنخ شخص لا يهتمّ بمصالحه بمثل إصدار الأمر على طبقها، وأمّا في المولى الحقيقيّ تعالى شأنه، فمصالح الأحكام كلّها مصالح للعباد لا له تعالى، فلو أتى العبد بالفعل بقصد المصلحة ولم ينسبها إلى المولى، فكيف يكون هذا للمولى ومقرِّباً إليه؟! ولو أتى به بقصد المصلحة باعتبار أنّ المصلحة يهتمّ بها المولى، فقد رجع إلى قصد الإرادة والمحبوبيّة.

المرحلة الثانية: في حال أخذ الجامع بين القصود القربيّة في متعلّق الأمر بما فيها ما يستحيل أخذه فيه وهو قصد الأمر، وما لا يستحيل أخذه فيه وهو قصد المحبوبيّة، وكذلك قصد المصلحة إن سلّمنا كونه من القصود القربيّة، فهل يكون أخذ هذا الجامع مستحيلاً، أو لا؟

هذا أيضاً ينبغي أن نعرف حاله على ضوء الوجوه الأربعة للاستحالة التي مضت فنقول:

أمّا الوجه الأوّل: وهو توقّف الإتيان بالصلاة بقصد الأمر على وصول الأمر، فيلزم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر، فلا يأتي في المقام؛ لأنّ قصد الجامع لا يتوقّف على وصول الأمر، بل يكفي فيه وصول المحبوبيّة أو المصلحة، فيمكن للمولى أن يقول مثلاً: «إذا وصلتك المحبوبيّة فصلِّ بجامع القصود القربيّة».

وأمّا الوجه الثاني: وهو لزوم التهافت في عالم لحاظ المولى، حيث يرى معروض أمره متقوّماً بأمره، فهذا أيضاً لا يجري في المقام؛ لأنّ معروض الأمر اُخذ فيه الجامع بين القصود القربيّة، فلا يُرى قصد الأمر بعنوانه في المعروض، بل غاية ما يرى في المعروض هو عنوان الجامع، فمن كان وجه الاستحالة عنده هذان الوجهان، ينبغي أن لا يقول بالاستحالة في أخذ جامع القصود القربيّة.

وأمّا الوجه الثالث: وهو أنّ الأمر الضمنيّ بقصد الأمر لا يؤكّد التحريك، فإن

182

كفى الأمر بالصلاة للتحريك، حصل قصد الأمر، ولم يبقَ مجال لتحريك الأمر بقصد الأمر تأسيساً كما لا يحرّك تأكيداً، وإلّا فهذا الأمر أيضاً لا يحرّك؛ لأنّ مرجع الأمرين إلى روح واحدة، فهذا الوجه يأتي في المقام، فإنّ الأمر بالصلاة إن كفى للتحريك نحو الصلاة، حصل الجامع بين القصود القربيّة ولو في ضمن فرده الذي هو قصد الأمر، فلا يبقى للأمر بالجامع تحريك، لا تأسيساً كما هو واضح، ولا تأكيداً لعدم تعقّل التأكيد في التحريك في الأوامر الضمنيّة، وإن لم يكفِ للتحريك، فالأمر الثاني أيضاً لا يكفي له.

وأمّا الوجه الرابع: وهو أنّ الأمر بالمجموع لا يمكن أن يحرّك نحو المجموع؛ لأنّ التحرّك من الأمر نحو الجزء الأوّل هو عبارة عن الجزء الثاني، فأيضاً يأتي في المقام؛ لأنّ الجامع قد تحقّق بنفس إرادة الصلاة ولو في ضمن قصد الأمر، فما معنى انبساط الإرادة عليه؟! هذا.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر مستحيل وفاقاً لما أشتهر بين المحقّقين، فالتفرقة بين الواجب التعبدّيّ والتوصّليّ بأخذ قصد القربة في متعلّق الأمر في الأوّل دون الثاني لا ترجع إلى محصّل.

الوجه الثاني للفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ الأمر في الواجب التوصّليّ أمر واحد متعلّق بذات الفعل، بينما في الواجب التعبّديّ يوجد أمر بذات الفعل، ويوجد أمر آخر بأن يأتي به بقصد الأمر الأوّل.

وهذا الكلام ـ قبل أن نصل إلى تفصيلات القوم بالنسبة إليه ـ ينبغي أن يقال بشأنه: إنّه كأنّه محاولة للتخلّص من محذور الوجهين الأوّلين للاستحالة؛ إذ بذلك يندفع إشكال لزوم أخذ وصول الأمر في موضوع نفسه؛ لأنّه هنا غاية ما يلزم أخذ

183

وصول أمر في موضوع أمر آخر، ويندفع أيضاً إشكال لزوم تقوّم المعروض بالعارض في نظر الآمر؛ لأنّ معروض أحد الأمرين تقوّم بأمر آخر، ولا محذور فيه، إلّا أنّ الوجهين الآخرين لا يمكن علاجهما بفرض تعدّد الأمر؛ لأنّ الأمرين وإن كانا بجعلين وإنشاءين مثلاً لكنّهما ـ بحسب الروح ـ أمران ضمنيّان؛ لأنّهما نشأا من ملاك واحد وغرض واحد، غاية الأمر: أنّ المولى لم يمكنه أن يُنشِئهما في ضمن أمر واحد لمحذور في ذلك، فجعلهما في ضمن أمرين، فنقول: إن كان الأمر الأوّل كافياً للمحرّكيّة، وموجداً لإرادة الصلاة، إذن فالأمر الثاني لا محرّكيّة له، لا تأسيساً كما هو واضح، ولا تأكيداً؛ لعدم معقوليّة التأكّد بين الأوامر التي هي في روحها ضمنيّة، فإنّ تعدّد الأمر إن كان على أساس تعدّد الملاك، فالأمر الثاني يزيد في التحريك، أي: أنّه قد يوجد من لا يتحرّك بأمر واحد، ويستعدّ لتفويت ملاك واحد على المولى، لكنّه غير مستعدّ لتفويت ملاكين لأمرين عليه، فيتحرّك بالأمر الثاني، وأمّا إذا لم يكن على أساس تعدّد الملاك، وإنّما كان مجرّد تعدّد في الصورة والجعل، فهذا لا يوجب ازدياداً في المحرّكيّة، فالوجه الثالث من الإشكال يسري إلى المقام.

وكذلك الوجه الرابع يسري إلى المقام؛ لأنّ الأمر الأوّل إذا أوجد في النفس إرادة الصلاة، فقد تحقّق متعلّق الأمر الثاني؛ لأنّه أراد الصلاة لامتثال الأمر الأوّل، وهذا هو متعلّق الأمر الثاني، فالأمر الثاني لا يوجب بسط تلك الإرادة على نفسها؛ لاستحالة ذلك، ولا يَفرُض إرادةً اُخرى متعلّقة بتلك الإرادة؛ لأنّ الأمرين في روحهما ضمنيّان، فلا يولّدان إرادتين طوليّتين.

وتمام فذلكة الموقف: أنّ البرهان الثالث والرابع لا يفرّق فيهما بين أن يكون الأمر الضمنيّ ضمنيّاً صورةً وحقيقةً، أو ضمنيّاً حقيقةً واستقلاليّاً صورةً.

فتحصّل: أنّه بناءً على الوجهين الأخيرين يكون فرض تعلّق أمر بذات الصلاة

184

وتعلّق أمر آخر بالإتيان به بداعي الأمر مستحيلاً. اللهمّ إلّا إذا اُخرج الأمر الثاني عن حقيقته كأمر، وفرض شيئاً آخر، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله.

وأمّا تحقيق الحال في هذا الوجه على ضوء كلمات الأصحاب، فيوجد هناك أشكال ثلاثة لفرض تعدّد الأمر في كلماتهم:

أشكال فرض تعدّد الأمر في كلمات الأصحاب:

الأوّل: أنّ الأمر الأوّل تعلّق بالصلاة المطلقة الجامعة بين القربيّة وغيرها، والأمر الثاني تعلّق بإتيان ذلك الجامع بقصد القربة.

والثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1): من أنّ الأمر الأوّل لم يتعلّق بالمقيّدة بالقربة ولا بالمطلقة؛ لأنّ التقييد غير معقول بحسب الفرض، والإطلاق في نظره(قدس سره) غير معقول أيضاً عند عدم معقوليّة التقييد، فالأمر الأوّل متعلّق بالمهمل، وهذا الإهمال معقول، ولا يلزم منه الإهمال في الواقع؛ لأنّ الأمر الأوّل ليس هو تمام الواقع، بل شقّ من الواقع، وشقّه الآخر هو عبارة عن الأمر الآخر، وهذا الأمر يكون موظّفاً برفع الإهمال وتعيين ما هو لبّ الأمر الأوّل، فإمّا أن يرفع الإهمال بالتقييد أو يرفعه بالإطلاق، ويسمّى ذلك بمتمّم الجعل؛ لأنّ الأمر الأوّل ـ بالأخرة ـ لابدّ من تتميمه بما يرفع إهماله حتّى لا يلزم الإهمال في الواقع.

والثالث: ما ذكره المحقّق العراقيّ (رحمه الله) من فرض تعدّد المجعول مع وحدة



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 116 ـ 117 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وراجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 159 ـ 162 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

185

الجعل(1)، بينما في الشكلين الأوّلين كان الجعل أيضاً متعدّداً.

فهذه أشكال ثلاثة لفرض تعدّد الأمر.

أمّا الشكل الأوّل: وهو تعلّق الأمر الأوّل بالصلاة المطلقة، والأمر الثاني بالإتيان بها بقصد القربة، فقد استشكل فيه كما في الكفاية(2) وغيرها.

ويمكن تقريب الإشكال ببيان: أنّه لو أتى بذات الصلاة بدون قصد القربة، فهذا مصداق لمتعلّق الأمر الأوّل؛ لأنّه تعلّق بالمطلق، والمطلق كما ينطبق على الواجد كذلك ينطبق على الفاقد، فنسأل: هل سقط الأمر الأوّل، أو لا؟ فإن قيل: لم يسقط ويبقى محرّكاً، فهذا غير معقول؛ لأنّ الأمر إنّما يحرّك بمقدار ما تعلّق به، وقد تعلّق بمقدار الجامع، وقد وجد في الخارج، فالتحريك نحوه مرّةً اُخرى تحريك نحو الحاصل. وإن قيل: سقط للإتيان بمتعلّقه، لم يبقَ موضوع لامتثال الأمر الثاني؛ لأنّه متعلّق بإتيان الفعل بقصد امتثال الأمر الأوّل، وقد سقط الأمر الأوّل، فلا معنى لقصد امتثاله، وهذا يؤدّي إلى أنّ من أتى بالصلاة بلا قصد القربة، سقط عنه كلا الأمرين، وهو خلف.

وحينما يصاغ الإشكال بهذه الصياغة يمكن الجواب عليها بأنّنا نختار الشقّ الثاني، ونقول بسقوط الأمر الأوّل، ولكن حيث إنّ هذا السقوط ليس سقوطاً استيفائيّاً قد استوفي غرضه، بل سقوط اضطراريّ من باب أنّه لا يعقل بقاء شخص الأمر مع حصول متعلّقه، وأمّا الغرض فهو لا يزال غير حاصل؛ لأنّ كلا الأمرين



(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 196 ـ 197 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وكذلك ص 190 ـ 191، وراجع المقالات، ج 1، ص 238 ـ 239 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 111 بحسب طبعة المشكينيّ.

186

مسوقان لتحصيل غرض واحد وهو لم يعمل بالأمر الثاني، إذن فنفس هذا الغرضيستدعي تعلّق الأمر من جديد بالصلاة كما استدعى ذلك أوّلا، فإن ابتلي الأمر في المرّة الثانية بنفس ما ابتلي به في المرّة الاُولى، استدعى الغرض أمراً ثالثاً، وهكذا إلى أن يصلّي بقصد الأمر، فالأمر الثاني لم ينتفِ موضوعه؛ لأنّ موضوعه الأمر بذات الصلاة وهو موجود ولو في ضمن شخص آخر غير الشخص الأوّل من الأمر، فهذا الإشكال غير وارد.

نعم، يأتي إشكالنا عليه، وهو: أنّ الأمر الثاني غير قابل للمحرّكيّة أصلا؛ لأنّ الأمر الأوّل كلّما مات اُحيي من جديد، فهو الذي يحرّك.

وإن شئتم قلتم: إنّ الأمر الأوّل إن سقط بنوعه أيضاً كما سقط بشخصه، أي: أنّه حينما مات شخصه الأوّل لم يتجدّد له شخص آخر، إذن فالأمر الثاني يبقى بلا موضوع، فيسقط، ويلزم من ذلك سقوط الصلاة بالإتيان بها بلا قربة، وهو خلف. وإن سقط بشخصه ولم يسقط بنوعه، فالأمر الثاني ليس محرّكاً، وحينما يصاغ الإشكال بهذه الصياغة يكون صحيحاً.

وأمّا الشكل الثاني: وهو ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من تعلّق الأمر الأوّل بالطبيعة المهملة، وتعلّق الأمر الثاني بالإتيان بتلك الطبيعة بداعي امتثال الأمر الأوّل، وبذلك يرتفع الإهمال، فالذي دعى المحقّق النائينيّ (رحمه الله) إلى العدول عن الشكل الأوّل إلى هذا الشكل هو قوله بأنّ الإطلاق يستحيل باستحالة التقييد، فلا يبقى إلّا الإهمال، إلّا أنّ هذا ليس إهمالا بحسب الواقع، وإنّما هو إهمال في مرحلة من مراحل بيان الواقع، ويرتفع بضمّ المرحلة الثانية إليها، وهي الأمر الثاني.

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بإيرادين:

187

الأوّل: الإيراد المبنائيّ(1)، بدعوى عدم استحالة الإطلاق باستحالة التقييد، بل استحالة التقييد قد توجب ضرورة الإطلاق، وهذا نقاش في المبنى سوف يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ عند الدخول في صلب مسألة التعبّديّ والتوصّليّ.

الثاني: أنّ الإهمال في الأمر الأوّل(2) غير معقول، ويتذبذب بيانه ـ دامت بركاته ـ لهذا الادّعاء بين بيانين؛ فإنّ استحالة الإهمال يمكن بيانها تارةً بلحاظ نفس الحكم، واُخرى بلحاظ الحاكم، ويسلّم السيّد الاُستاذ بأنّه لو تعقّلنا الإهمال في الأمر الأوّل، أمكن رفعه بالأمر الثاني.

أمّا البيان الأوّل: فبأن يقال: إنّ الحكم له حظّ من الوجود في اُفق ذهن الحاكم، وكلّ شيء له حظّ من الوجود لابدّ أن يكون له في اُفق وجوده تعيّن؛ لاستحالة المردّد والمبهم في اُفق الوجود. نعم، لا بأس بأن يكون للشيء إبهام وتردّد في مرتبة تالية لوجوده، أي: بحسب مقام الإثبات، أمّا بلحاظ وعاء وجوده والاُفق الذي يكون فيه حظّه من الوجود، فلابدّ أن يكون متعيّناً ومتحدّداً.

وأمّا البيان الثاني: فبأن يقال: إنّ تعلّق الأمر الأوّل بالمهمل مستحيل؛ لأنّ هذا معناه: أنّ المولى في عالم الجعل لا يدري مدى سعة ما يطلب، هل هي المطلق أو المقيّد، ومن الواضح: أنّه لا يعقل أن يشكّ المولى في دائرة طلبه، ولابدّ أن تكون حدود ما يطلب بالنسبة إليه واضحة. نعم، غير المولى قد يشكّ فيما يطلبه المولى.



(1) راجع تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله) في أجود التقريرات، ج 1، ص 117 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ، وراجع المحاضرات، ج 2، ص 176 ـ 177 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) راجع المحاضرات، ج 2، ص 177 ـ 178 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

188

وكلا البيانين روحهما واحدة وإن اختلف طرز التعبير، وبه يختلف طرز التعبير في الجواب:

أمّا البيان الأوّل: فجوابه: أنّ الحكم في اُفق ذهن الحاكم متعيّن في حكم عرض على ذات الطبيعة بلا ضمّ لحاظ التقييد أو رفض التقييد، وهذا ليس معناه تعلّق الأمر بالمردّد بين المطلق والمقيّد بحيث يكون متعلّق الأمر هو: إمّا المطلق، وإمّا المقيّد بأن تكون كلمة «إمّا» ثابتة في لوح الأمر والواقع، فمتعلّق الأمر لا هو المطلق بعينه، ولا المقيّد بعينه، بل الفرد المردّد بينهما، وإنّما معناه: أنّ هناك وجوداً متعيّناً للأمر بذات الطبيعة، إلّا أنّ هذا الوجود المعيّن لم يضمّ إليه التقييد ولا الإطلاق؛ حيث إنّ التقييد عبارة عن لحاظ الطبيعة مع القيد، والإطلاق عبارة عن رفض القيد، فإذا لوحظت الطبيعة ولم يلحظ معها القيد ولا عدمه، سمّينا ذلك بالإهمال، وهذا ليس معناه: أنّ الحكم في اُفقه مردّد، بل نفس الأمر بالطبيعة متعيّن، ولكن لم يضمّ إليه الإطلاق ولا التقييد، وهذا أجنبيّ عن الفرد المردّد.

وأمّا البيان الثاني: وهو لزوم كون المولى بما هو جاعل للأمر الأوّل وبغضّ النظر عن الأمر الثاني جاهلا بمدى سعة مطلوبه، فالجواب: أنّ مطلوبه المعلوم له هو الطبيعة بما لها من سعة عند الإهمال.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد أن اتّضح في دفع البيان الأوّل: أنّه يمكن تعلّق أمر المولى بذات الطبيعة بلا ضمّ لحاظ القيد ولا رفضه، نقول: إنّ الطبيعة بلا ضمّ لحاظ القيد ولا رفضه لها درجة من السعة، فالمولى مطلوبه هذه الطبيعة بمقدار ما لها من سعة في مقام الانطباق، وحيث إنّ هذه السعة متعيّنة فمطلوب المولى متعيّن، فإن قلنا: إنّ المهمل في قوّة المقيّد، فمطلوب المولى لا يسري إلى غير المقيّد. وإن قلنا: إنّه في قوّة المطلق، فالطبيعة تسري إلى الأفراد، فمطلوب المولى أيضاً يسري. وعلى أيّ حال فحدود مطلوب المولى بالأمر الأوّل واضحة عنده.

189

والحاصل: أنّ في سريان الطبيعة إلى تمام أفرادها نظريّتين:

1 ـ إنّ الطبيعة بذاتها لو خلّيت ونفسها لا تقتضي السريان ولا عدمه، وإنّما السريان من شؤون الإطلاق اللحاظيّ، أيّ: رفض القيود، وعدم السريان من شؤون لحاظ التقييد.

2 ـ إنّ الطبيعة بذاتها تقتضي السريان ما لم يمنع مانع، والمانع لحاظ القيد.

وفرق النظريّتين: أنّ المقتضي للسريان في الاُولى أمر خارج عن الطبيعة، وهو الإطلاق اللحاظيّ، وفي الثانية ذات الطبيعة ما لم تقترن بمانع، وهو لحاظ القيد. والفرق العمليّ بينهما يظهر في الطبيعة المهملة التي لم يلحظ معها القيد ولا رُفض معها القيد، فإن قلنا: إنّ الطبيعة بذاتها لا تقتضي السريان، فالطبيعة المهملة في قوّة المقيّدة، وإن قلنا: إنّها بذاتها تقتضي السريان ـ كما هو الصحيح ـ فالطبيعة المهملة في قوّة المطلقة؛ لأنّ المقتضي للسريان موجود وهو ذات الطبيعة، والمانع مفقود وهو لحاظ القيد.

وقد ظهر: أنّه لا يرد إشكال التردّد، لا في عالم الوجود الذهنيّ وبلحاظ عالم عروض الحكم؛ فإنّه متعيّن في وجود الأمر بذات الطبيعة لا مطلقة ولا مقيّدة، ولا في عالم الانطباق والسريان؛ لأنّ الطبيعة المهملة إن كانت في قوّة المطلقة يسري إلى تمام الأفراد، وإلّا لم يسرِ إلّا بمقدار المقيّد، وهذا يختلف باختلاف النظريّتين في باب المطلق والمقيّد.

والسرّ في ذلك كلّه هو حمل الإهمال في كلام المحقّق النائينيّ (رحمه الله) على الإهمال اللحاظيّ، بمعنى عدم لحاظ التقييد ولا رفضه، لا على الفرد المردّد، وأمّا لو حمل على الفرد المردّد، فهذا الإهمال لا يزول بضمّ الأمر الثاني؛ فإنّ الأمر الثاني إنّما يكمّل مهمّة الكشف عن الغرض، لا أنّه يجعل متعلّق الجعل الأوّل متعيّن الحدود، فإنّ الواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه، مع أنّه ـ دامت بركاته ـ يسلّم أنّه لو فرض

190

الإهمال في الأمر الأوّل، صحّت الاستعانة بالأمر الثاني لرفعه. هذا.

وقد انقدح من تضاعيف ما ذكرناه إشكال على ما فرضه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) من تصوير التعبّديّة بوجود أمرين: أحدهما تعلّق بالطبيعة المهملة، والآخر بإتيان متعلّق الأمر الأوّل بقصد الأمر، وهو: أنّنا إن قلنا: إنّ الطبيعة المهملة في قوّة المطلقة، فقد رجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى الشكل الأوّل، وهو فرض تعلّق الأمر الأوّل بالمطلق؛ لأنّنا أخذنا بالنظريّة القائلة: إنّ الإطلاق من شؤون ذات الطبيعة، فقد أصبح متعلّق الأمر الأوّل مطلقاً. نعم، أصبح مطلقاً بالإطلاق الذاتيّ دون اللحاظيّ، وإذا رجع إلى الشكل الأوّل، فتحقيق الحال فيه هو ما مضى في تحقيق حال الشكل الأوّل.

وإن قلنا: إنّ الطبيعة المهملة في قوّة المقيّدة، إذن لا حاجة إلى الأمر الثاني، بل يكفي الأمر الأوّل، فإنّه إذا كان المهمل في قوّة المقيّد فلابدّ للعبد في مقام التطبيق أن يأتي بالفعل بقصد القربة حتّى ينطبق عليه المهمل؛ لأنّ المفروض: أنّه كالمقيّد لا ينطبق إلّا على واجد القيد، فالأمر الأوّل وحده كاف لإلزام العبد بالقربة بلا حاجة إلى الأمر الثاني، ومن دون أن يرد أكثر الوجوه الأربعة التي قدّمناها لاستحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر جزءاً أو قيداً؛ لأنّ قصد القربة لم يؤخذ في متعلّق الأمر، فمثلا المولى لم يلحظ الأمر حتّى يلزم التهافت في اللحاظ ورؤية عروض الأمر على ما هو متعلّق الأمر، وليس هناك أمر متعلّق بقصد الأمر حتّى يقال: إنّ هذا غير محرّك؛ إذ المفروض: أنّه ليس هنا إلّا أمر واحد متعلّق بالطبيعة المهملة التي هي في قوّة المقيّدة بحسب الفرض، فصار العمل عباديّاً بلا حاجة إلى أمر آخر متعلّق بقصد الأمر الأوّل.

نعم، يرد عليه الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة، وهو لزوم أخذ وصول الأمر في موضوعه؛ لأنّ الأمر بالطبيعة المهملة إذا كان في قوّة الأمر بالمقيّدة، لا يمكن

191

تطبيقه ـ بحسب الخارج ـ على غير المقيّد، إذن، فلا يمكن للعبد العمل به إلّا بأن يكون قادراً على الإتيان بالمقيّد، وقدرته على ذلك فرع وصول الأمر، وإلّا لم يمكنه الإتيان بالمقيّد بغير الابتلاء بالتشريع. وهذا إشكال آخر على الشكل الذي افترضه المحقّق النائينيّ (رحمه الله)من كون الأمر الأوّل متعلّقاً بالمهمل، والثاني بقصد امتثال الأوّل، يرد عليه لو جعل المهمل في قوّة المقيّد. أمّا لو جعله في قوّة المطلق، فقد عرفت أنّه يرجع إلى الشكل الأوّل ولم يكن وجهاً في قباله.

وأمّا الشكل الثالث لتعدّد الأمر في مقابل الشكلين السابقين، فهو ما اقترحه المحقّق العراقيّ (رحمه الله)، وذلك: أنّ الشكلين السابقين كانا مجتمعين في خصيصة واحدة، وهي: أنّ هناك جعلين ومجعولين. وهذا الشكل الثالث يختلف عنهما في أنّه يرى تعدّد الأمر لا تعدّد الجعل، فهناك أمران طوليّان: أحدهما تعلّق بذات العمل، والآخر تعلّق بقصد الأمر، ويكون الأمر الأوّل مأخوذاً في موضوع الثاني، فالأمر الأوّل موضوعه متحقّق بغضّ النظر عنه، وهو يحقّق موضوع الأمر الثاني، والتعدّد إنّما هو في المجعول دون الجعل. فهذان الأمران على رغم طوليّتهما مجعولان بجعل واحد، فإنّ الطوليّة بين المجعولين لا تنافي عرضيّتهما في مقام الجعل وكونهما مجعولين بجعل واحد، وشَبَّه(قدس سره) ذلك بمثل خطاب «صدّق العادل» بالقياس إلى الأخبار مع الواسطة، وقد مضى شرحه فيما سبق، حيث إنّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله) ذكر هذا المطلب في موضعين(1): أحدهما هذا الموضع، وهو تصوير الواجب التعبّديّ بتعدّد الأمر، والثاني فيما مضى من تصوير ردٍّ على الوجه الثاني من الوجوه التي اخترناها في مقام بيان استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر.



(1) ورد هذا في نهاية الأفكار في موضعين: الأوّل في ص 190 ـ 191، والثاني في ص 196 ـ 197 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.