497

المناطقة لم يكونوا بصدد بيان مفاهيم الألفاظ كالاُصوليين، وقد صاروا بصدد بيان: أنّ الفكر كيف يتوصّل إلى أمر مجهول، فقالوا: إنّ التفكير هو ترتيب اُمور معلومة للتوصّل إلى أمر مجهول. ونوقش في ذلك بأنّ الفكر قد يتوصّل إلى شيء مجهول بترتيب أمر واحد وهو الفصل في التعريف بالحدّ الناقص. وأجاب عن ذلك شارح المطالع بأنّ الفصل أيضاً ينحلّ إلى أمرين؛ إذ ينحلّ إلى شيء له النطق، فهنا صار المحقّق الشريف بصدد الردّ على كلام شارح المطالع، فذكر: أنّه يلزم من ذلك دخول العرض العامّ في الفصل(1).

وهذا الكلام بهذا المقدار صحيح، ولا ربط له بما نحن فيه، فكلامهم ناظر إلى ذوات المعاني وعمليّة التفكير، وأنّ الفصل من حيث هو فصل هل هو أمر واحد أو أمران؟ فيقول المحقّق الشريف: إنّه أمر واحد: وهذا غير دعوى كون معنى «شيء» غير داخل في المدلول اللغويّ والعرفىّ لهيئة ناطق.

وأمّا الثاني: وهو أخذ مصداق الشيء في المشتقّ، فقد برهن على عدم إمكانه بأنّه يلزم منه انقلاب القضيّة المتسالم على إمكانها إلى ضروريّة، فقولنا: «الإنسان كاتب» يرجع إلى قولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة» فيصير من حمل الشيء على نفسه، وهو ضرورىّ مع أنّه لا إشكال في أنّها قضيّة ممكنة.

وهذا المقدار من البيان اُشكل عليه حلاًّ ونقضاً:

أمّا الحلّ، فبأنّ حمل الإنسان على الإطلاق على الإنسان على الإطلاق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 68 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 109 ـ 110 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع شرح المطالع لقطب الدين الرازي، ص 7 ـ 8 الطبعة الحجريّة بإيران، وحاشية الشريف على شرح المطالع، هامش ص 9.

498

ضرورىّ كقولنا: «الإنسان إنسان»، ولكنّ الإنسان المأخوذ في «كاتب» إنسان مقيّد بقيد الكتابة الذي ليس قيداً ضروريّاً، والمقيّد بغير الضروريّ، ليس ضروريّاً.

وأمّا النقض، فبأنّه لو تمّ هذا المطلب، فلماذا خصّصتم هذا الإشكال بالشقّ الثاني مع أنّه على تقدير تماميّته يجري في الشقّ الأوّل أيضاً؟ فإنّه إذا اُخذ مفهوم الشيء في «كاتب» صار معنى الكلام: «الإنسان شيء له الكتابة»، وثبوت الشيئيّة للإنسان أيضاً ضروريّ.

وهناك محاولات لتصحيح البرهان، بعضها إن تمّ يفي بدفع الحلّ والنقض، وبعضها إن تمّ يفي بدفع الحلّ فقط، ونحن نختار للذكر منها ثلاث محاولات:

1 ـ أن يقال: إنّ مصداق الشيء قد يتّفق فرداً جزئيّاً خارجيّاً لا يقبل التقييد كما في «زيد كاتب»، فليس عندنا زيدان حتّى يكون قيد الكتابة محصّصاً لزيد المأخوذ في مفهوم «كاتب» وإنّما اُخذت الكتابة مجرّد إشارة وتعريف، فلئن لم يتمّ الإشكال فيما إذا كان الموضوع كلّيّاً تكفي تماميّته فيما إذا كان جزئيّاً حقيقيّاً.

وهذا الكلام لو تمّ، دَفَع الحلّ والنقض معاً: أمّا الأوّل فلأنّه في مثل «الإنسان كاتب» وإن لم يلزم المحذور لتقيّد الإنسان في طرف المحمول بقيد غير ضرورىّ، ولكن في مثل «زيد كاتب» يتمّ المحذور؛ لأنّ زيداً غير قابل للتقييد حتّى يقال: إنّ حمل زيد المقيّد بقيد غير ضرورىّ ليس ضروريّاً. وأمّا الثاني فلأنّ مفهوم «شيء» كلّىّ قابل للتقييد، فيأتي فيه: أنّ المقيّد بغير الضرورىّ غير ضروريّ.

ولكنّه غير تامّ:

أمّا أوّلاً، فلأنّه مبنىّ على أن يراد بمصداق الشيء ما وصف في القضيّة بالمشتقّ، وأمّا إذا كان المراد تلك الطبيعة التي من شأنها في عالم الأعيان والتكوين الاتّصاف بذلك المحمول، فيكون معنى «زيد كاتب»: «زيد إنسان له

499

الكتابة» والإنسان قابل للتقييد بالكتابة، وهو قيد ممكن له، فلا يتمّ فيه هذا الجواب.

وأمّا ثانياً، فلأنّنا لا نسلّم أنّ زيداً لا يقبل التقييد؛ فإنّه إنّما لا يقبل التقييد الأفراديّ؛ لأنّه ليس كلّيّاً، لكنّه يقبل التقييد الأحوالىّ؛ لأنّه يتّصف بأحوال مختلفة، ويقبل الإطلاق من ناحية الأحوال، والمقيّد بقيد غير ضرورىّ يخرج عن كونه ضروريّاً سواء كان التقييد أفراديّاً أو أحواليّاً.

2 ـ أن يقال: إنّنا حينما نقول: «الإنسان كاتب» ونفسّر ذلك بقولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة»، فقيد الكتابة في المحمول إن فرض مجرّد مشير ومعرّف إلى الإنسان من قبيل: (خاصف النعل)(1) فعندئذ يرجع كلامنا إلى «الإنسان إنسان» فتصبح القضيّة ضروريّة. وإن فرض أخذه قيداً حقيقيّاً بحيث كان المحمول هو


(1) راجع البحار، ج 20، ص 344 و 360، و ج 32، ص 300 و 302 و 307، و ج 38، ص 250.

وإنّني أنقل هنا نصّاً واحداً من هذه النصوص، وهو الوارد في البحار، ج 32، ص 302:

«إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) انقطع شسع نعله، فدفعها إلى عليّ(عليه السلام) ليصلحها، فقال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم، فقال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن هو خاصف النعل، يعني: عليّاً. قال أبو سعيد: فخرجت فبشّرته بما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلم يكترث به فرحاً كأنّه سمعه».

وهذا النصّ موجود في مستدرك الحاكم، ج 3، ص 122 ـ 123 كالتالي: «عن أبي سعيد قال: كنّا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فانقطعت نعله، فتخلّف عليّ يخصفه، فمشى قليلاً، ثُمّ قال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبوبكر وعمر رضي الله عنهما. قال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل، يعني: عليّاً، فأتيناه فبشّرناه فلم يرفع به رأسه كأنّه قد كان سمعه من رسول الله».

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

500

المقيّد بما هو مقيّد، يلزم الانقلاب، ولكن يلزم حينئذ محذور حمل الخاصّ من حيث المفهوم على العامّ من حيث المفهوم(1)؛ إذ المحمول هو نفس المفهوم المأخوذ في الموضوع مقيّداً بقيد زائد، مع أنّ المحمول لا يجوز أن يكون أخصّ مفهوماً من الموضوع، بل يجب أن يكون مساوياً أو أعمّ، فيصحّ: «الإنسان حيوان»، ولا يصحّ «الحيوان إنسان».

وهذا البيان لو تمّ يدفع الحلّ والنقض معاً: أمّا الحلّ فلأنّه دار الأمر بين أحد محذورين: إمّا انقلاب القضيّة ضروريّة، أو حمل الخاصّ على العامّ. وأمّا النقض فلأنّه لو قيل: «الإنسان شيء له الكتابة»، لم يلزم حمل الأخصّ؛ لأنّه لم يؤخذ في المحمول نفس المفهوم المأخوذ في الموضوع، بل مفهوم أعمّ وهو شيء وقيد بالكتابة.

ولكنّ هذا الوجه أيضاً غير صحيح؛ إذ لا نقبل عدم جواز كون المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع. وتوضيح ذلك: أنّ هناك تصوّرين للقضيّة الحمليّة:

التصوّر الأوّل: أنّ دور الموضوع والمحمول في القضيّة الحمليّة واحد، وهو الفناء في وجود واحد، ويكون معنى حمل أحد المفهومين على الآخر ملاحظتهما بما هما مرآتان إلى الواقع الخارجيّ أو النفس الأمر، ونسبة كلّ واحد من المفهومين إلى هذا الواقع الواحد واحدة، فكلاهما يفنيان في الواقع بنهج واحد.

وبناء على هذا التصوّر يكفي في صحّة الحمل اتّحادهما في الوجود، سواء كان المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع أو بالعكس، أو لم يكن أحدهما أخصّ من


(1) أي: أنّ المحمول وإن لم يكن أخصّ من الموضوع مصداقاً فالمفروض أن يكون المقصود بالكاتب مثلاً ما يصدق على موضوعه، وهو الإنسان بتمام مصاديقه، كأن يكون المقصود: ما من شأنه الكتابة، ولكنّه أخصّ من الموضوع مفهوماً؛ لأنّه يشمل مفهوم الإنسان حسب الفرض زائداً قيد الكتابة.

501

الآخر، فإنّ وظيفتهما هي فناؤهما في وجود واحد وهو ثابت، فاشتراط أن لا يكون المحمول أخصّ مفهوماً بلا موجب.

التصوّر الثاني: أن يقال: إنّ دور الموضوع يختلف سنخاً عن دور المحمول، فالموضوع ينظر إليه (حتّى فيما إذا كان مفهوماً لا ذاتاً خارجيّة) بما هو ذات، وبما هو عين مصاديقه ومرآة إليها، فالموضوع في قولنا: «الإنسان كاتب» وإن كان هو مفهوم الإنسان، لكنّه كأنّما اُحضرت المصاديق؛ لأنّه لوحظ فانياً فيها. وأمّا المحمول فيلحظ بما هو مفهوم، ويكون معنى الحمل: أنّ هذا المصداق يندرج تحت هذا المفهوم.

وهذان التصوّران تترتّب عليهما نكات كثيرة في فلسفة القضيّة من الناحية المنطقيّة.

وعلى هذا التصوّر أيضاً يمكن أن يكون المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع، فإنّ الأعمّيّة والأخصّيّة إنّما هي بين المفهومين بما هما مفهومان، والمفروض: أنّ الموضوع لم يؤخذ بما هو مفهوم، بل بما هو فان في مصاديقه، ومصاديقه ليست أعمّ من المحمول على كلّ حال.

3 ـ إنّه أصبح المحمول مركّباً من جزءين، فتنحلّ القضيّة إلى قضيّتين: الاُولى: الموضوع مع الجزء الأوّل، وهو: الإنسان إنسان، والثانية: الموضوع مع الجزء الثاني، وهو: الإنسان له الكتابة. والاُولى ضروريّة.

وهذا لو تمّ دفع الحلّ فقط، فإنّ عين المحذور يلزم في قولنا: «الإنسان شيء له الكتابة».

إلاّ أنّ هذا البيان غير صحيح في نفسه؛ لأنّ تعدّد القضيّة مساوق لتعدّد الحكم، وهنا لا يوجد حكمان من قبل الحاكم، بل حكم واحد، وذلك باعتبار أنّ المحمول إنّما يكون منحلاًّ إلى جزءين باعتبار أخذ النسبة الناقصة فيه، وهذا تحليل خارج اُفق الذهن؛ لما برهنّا عليه فيما مضى من أنّ النسبة الناقصة تصيّر الشيئين شيئاً

502

واحداً في الذهن، وأنّها ليست نسبة في عالم الذهن، وإنّما بالتحليل تكون نسبة، فالمحمول في اُفق ذهن الحاكم واحد.

وقد تحصّل: أنّ هذا البرهان على عدم أخذ مصداق الشيء في المشتقّ غير صحيح.

نعم، أخذ مصداق الشيء في المشتقّ في نفسه غير صحيح أيضاً؛ لأنّه إن اُريد بمصداق الشيء ما حكم عليه في القضيّة بالمشتقّ، فمن الواضح: أنّه قد لا يكون المشتقّ محكوماً به، بل يكون محكوماً عليه كما في قولنا: «أكرم الكاتب». وإن اُريد به تلك الطبيعة التي من شأنها في عالم الأعيان والتكوين أن تتّصف بالكتابة، فهذا أيضاً باطل بالوجدان؛ إذ يصحّ بالوجدان استعمال الكاتب في غير الإنسان بأن يقال: «غير الإنسان كاتب» فهذا وإن كان كذباً، ولكن الاستعمال صحيح وليس مستبطناً للتناقض، بينما لو اُخذ فيه طبيعة الإنسان لرجع إلى قولنا: «غير الإنسان إنسان»، وهذا تناقض.

وبهذا تمّ البحث في المشتقّ، وبذلك تمّ الكلام في المقدّمة بتمامها. وبعد ذلك يقع الكلام في مقاصد.