403

 

 

 

 

 

 

الأمر الحادي عشر: في المشتقّ.

لا إشكال في صحّة استعمال المشتقّ في المتلبّس بالمبدأ فعلاً، وفيما انقضى عنه المبدأ، وفيما يتلبّس به في المستقبل، كما أنّه لا إشكال في كونه حقيقة في الأوّل ومجازاً في الثالث، وإنّما الكلام في أنّه: هل هو حقيقة في الثاني أيضاً، أي: حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدأ بالفعل وممّا انقضى عنه المبدأ، أو حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ بالفعل؟ فمنهم من يقول بالأوّل، ومنهم من يقول بالثاني، ومنهم من يفصّل بين بعض المشتقّات وبعض. وتحقيق الكلام يتوقّف على مقدّمات:

 

مقدّمات

 

تحرير محلّ النزاع:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع.

لا يخفى: أنّه توجد لدينا ثلاث دوائر من الأسماء بعضها أعمّ من بعض:

1 ـ دائرة الأوصاف الاشتقاقيّة.

404

2 ـ دائرة مطلق الأسماء الاشتقاقيّة، فتشمل المصادر مثلاً، مع أنّه لا توصف الذات بها إلاّ بنحو المسامحة.

3 ـ مطلق الأسماء ولو كان جامداً، كالإنسان والحيوان.

ولابدّ أن نعرف أنّ كلّ دائرة من هذه الدوائر بأيّ مقدار تدخل في محلّ النزاع؟ فهل النزاع يشمل هذه الدوائر بكاملها أو بعضها، أو يشمل قسماً خاصّاً ممّا يدخل في هذه الدوائر؟

ولكي نعرف ذلك يجب أن نرى ما هو الملاك والميزان الفنّيّ في تعقّل النزاع حتّى نطبّقه بعد ذلك على هذه الدوائر.

وقد قالوا: إنّ الضابط الفنّيّ في جريان النزاع وتعقّله مركّب من ركنين:

الأوّل: أن يكون جارياً على الذات، أي: ممّا يحمل على الذات ويوصف به، كاسم الفاعل والمفعول دون المصدر، فلا يقال: «زيد ضربٌ» إلاّ بنحو من المجاز مثلاً والمسامحة، فما لا يحمل على الذات لا معنى لأن يقال: هل هو حقيقة في خصوص المتلبّس بالفعل، أو الأعمّ؟

الثاني: أن تكون الحيثيّة المصحّحة للحمل المسمّاة بالمبدأ ممكنة الانفكاك عن الذات مع بقاء الذات. أمّا إذا ارتفعت الذات بارتفاعها، فما معنى كون المشتقّ حقيقة فيها أو مجازاً؟! ففي مثل «العالم» و«الضارب» يعقل النزاع؛ إذ يمكن ارتفاع العلم والضرب مع بقاء الذات. وهذا بخلاف ما إذا كانت الحيثيّة ذاتيّة بمعنى الذاتيّ في كتاب الكلّيّات، كما في النوع والجنس والفصل.

وقد أرادوا هم بهذا الضابط أن يخرجوا بالركن الأوّل المصادر، وبالركن الثاني مثل الشجر والحجر والحيوان ممّا يكون مبدؤه ذاتيّاً، وهو الحالّ في النوع والجنس والفصل، إلاّ أنّهم وقعوا في مشكلة، وهي: أنّ الركن الثاني يخرج

405

الصفات العرضيّة التي هي لازم للذات، وذلك كالواجب والممكن والممتنع والسبب والمولِّد والمولَّد ونحو ذلك، فإنّه لا يعقل زوال هذا العرضيّ مع بقاء الذات.

ومن هنا اضطرّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ لدفع هذا الإشكال أن يقول: إنّنا نتكلّم في وضع الهيئات الاشتقاقيّة، ووضعها نوعيّ، فهيئة (واجب) مثلاً بشخصها لم توضع حتّى يقع هذا الإشكال، ويقال: إنّه لا يعقل زوال المبدأ وبقاء الذات، وإنّما الموضوع هو طبيعة هيئة فاعل، ولا إشكال في أنّ هذه الهيئة قابلة لزوال المبدأ فيها عن الذات ولو بلحاظ بعض الأفراد(1).

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذه البلبلة نشأت من عدم تحديد الركن الثاني، فوقع خلط بين الاستحالة الفلسفيّة والاستحالة المنطقيّة. ونقصد بالاستحالة المنطقيّة: الاستحالة على أساس التناقض، كانفكاك الإنسان عن الإنسانيّة بأن تبقى الذات بالرغم من زوال المبدأ، فإنّ هذا معناه اجتماع النقيضين، وبالاستحالة الفلسفيّة: كلّ استحالة لا ترجع إلى التناقض، كانفكاك النار عن الحرارة، وذات الواجب عن الوجوب، أو ذات الممكن عن الإمكان ونحو ذلك، فإذا فرض: أنّ الركن الثاني يجب أن يكون هو عدم استحالة زوال المبدأ مع بقاء الذات استحالة منطقيّة لا فلسفيّة ارتفع الإشكال، فإنّ هذه الاستحالة إنّما هي في الذاتيّات، حيث إنّ زوالها مع بقاء الذات تناقض؛ إذ هي عين الذات أو جزؤها. وأمّا في العرضيّات اللازمة، فلا تناقض في فرض زوالها مع بقاء الذات، وإنّما الاستحالة في ذلك فلسفيّة. وبناء على هذا الفرض يكون الأولى أن نعبّر عن الركن الثاني بأن يكون


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 228 بحسب طبعة مطبعة النجف.

406

المبدأ غير الذات؛ إذ متى ما كان عينه كان الارتفاع مع بقاء الذات مستحيلاً على أساس التناقض، ومتى ما كان غيره فليس في فرض ارتفاع المبدأ مع بقاء الذات تناقض، فالركن الثاني لو عبّر عنه بالصياغة المشهورة، وهي: عدم استحالة انفكاك المبدأ عن الذات، جاء هذا الإشكال، ولو عبّر عنه بهذه الصياغة، وهي: أن يكون المبدأ غير الذات، لم يكن موضوع لهذا الإشكال.

يبقى الكلام في أنّ أيّ الصياغتين أحقّ بالركنيّة؟

فنقول: إنّ النزاع في المقام إنّما هو في الوضع، وإنّه هل وضع للأعمّ أو لا؟ ومن المعلوم أنّ الغرض من توسعة دائرة الوضع بنحو يشمل الذات المنقضية عنها المبدأ ليس هو توسعة دائرة الوجود الخارجيّ بأن يصحّ أن يقال: هذا موجود، وإنّما الغرض توسعة دائرة الاستعمال بحيث يمكن الاستعمال في المنقضي عنه المبدأ. ومن المعلوم أنّ الاستعمال موقوف على التصوّر، لا على الوجود الخارجيّ، فضابط إمكان الاستعمال إمكان التصوّر، لا إمكان الوجود الخارجيّ. وفي موارد مغايرة المبدأ للذات يمكن تصوّر الذات المنفكّة عن المبدأ، وإن كان المبدأ من الأوصاف اللازمة للذات، فبالإمكان تصوّر ذات انقضى عنها الوجوب، أو الإمكان، أو العلّيّة، أو غير ذلك من الصفات اللازمة للذات، فإذا أمكن التصوّر تعقّل الاستعمال، وإذا تعقّل الاستعمال تعقّل الوضع، وإذا تعقّل الوضع تعقّل النزاع. وأمّا في موارد كون المبدأ عين الذات تماماً أو جزءها، من قبيل: الإنسان والإنسانيّة، أو الإنسان والحيوانيّة فلا يمكن تصوير الوضع للأعمّ، فإنّه إذا اُريد بالقول بالوضع للأعمّ: أنّ كلمة «الإنسان» موضوعة مثلاً للأعمّ من الإنسان المتلبّس بالإنسانيّة بالفعل والمنقضية عنه الإنسانيّة، فهذا غير متصوّر، فإنّنا بمجرّد أن فرضنا الذات فرضنا فعليّة التلبّس؛ لأنّ المبدأ محتوىً في الذات، والجمع بين

407

فرض الإنسان وعدم فرضه مستحيل، فهذا الذي تصوّرناه يكون في اُفق التصوّر متلبّساً بالمبدأ، وإن اُريد الجمع بين تصوّر الإنسان وتصوّر اللاإنسانيّة بحيث اُخذ النفي في المتصوّر لا في التصوّر فهذا معقول، لكنّ التلبّس هنا موجود؛ فإنّ فرض الذات هو فرض فعليّة التلبّس.

فتحصّل: أنّه ينبغي أن يكون مقصودهم بالاستحالة هنا الاستحالة المنطقيّة لا الاستحالة الفلسفيّة.

وبعد أن تحقّق ما هو ملاك النزاع نأتي إلى الدوائر الثلاث لنرى مدى جريان النزاع فيها:

ولنبدأ بالدائرة الأوسع، وهي دائرة مطلق الأسماء وإن كانت من الجوامد، فنقول: قد فصّلوا في الأسماء الجوامد بين قسمين، فقالوا: إنّ ما يكون موضوعاً لما هو منتزع من مرتبة الذات، كالماء والنار والشجر والحجر ومثل هذا لا يجري فيه النزاع؛ لعدم معقوليّة انفكاك المبدأ عن الذات، وما يكون موضوعاً لعناوين عرضيّة منتزعة بلحاظ أمر خارج عن الذات، كالزوج والزوجة والسيف والمنشار والسرير ونحو ذلك يجري فيه النزاع؛ لتعقّل انفكاك المبدأ عن الذات.

أقول: أمّا القسم الثاني، فدخوله في محلّ النزاع صحيح؛ لأنّ كلا الركنين موجود فيه، فالعنوان جار على الذات، والمبدأ مغاير للذات. وأمّا القسم الأوّل فيجب أن نتساءل: أنّهم ماذا يريدون بالذات التي قالوا: إنّها غير محفوظة بعد زوال الشجريّة أو الحجريّة؟ هل المراد: المركّب النوعيّ أو الجسم؟

ولنوضّح ذلك في مثال، وهو السيف، فلنشرح تصوّرات الفلاسفة حتّى نعرف كلمات علماء الاُصول. فقد قال: الفلاسفة: إنّ السيف مثلاً مركّب من قوّة صرف ـ سمّيت بالهيولى ـ وصورة جسميّة، وتوجد فوق الصورة الجسميّة صورة اُخرى

408

تسمّى بالصورة النوعيّة، وهي كونه حديداً، فالصورة الجسميّة مشتركة بين الماء والحديد وسائر الأجسام، والمائز هي الصورة الحديديّة، ويوجد هنا أمر رابع وهي الحالة المخصوصة المائزة بين السيف وسائر القطع الحديديّة كالمنشار.

أمّا الأمر الأوّل، وهو المادّة الصرف والقوّة الصرف، فلا إشكال عندهم في جوهريّته، وأنّ وجود المادّة محفوظ بإحدى الصور الجسميّة على البدل.

وأمّا الأمر الثاني، وهو الصورة الجسميّة، فأيضاً لا إشكال عندهم في جوهريّته. واختلفوا في أنّها: هل تتبدّل بتبدّل الصورة النوعيّة، فالخشب مثلاً حينما يصبح فحماً، أو النبات يصبح خشباً بالقطع، فصورته الجسميّة أيضاً تبدّلت بصورة جسميّة اُخرى؛ لتقوّمها وتحصّلها بالصورة النوعيّة على حدّ تحصّل الجنس بالفصل، أو أنّ صورة جسميّة واحدة تنحفظ عبر الصور النوعيّة المختلفة، وأنّها متقوّمة ومتحصّلة بأحدها، لا بشخص صورة نوعيّة حتّى تتبدّل بتبدّلها؟

وأمّا الأمر الثالث، وهو الصورة النوعيّة، فالمشهور بينهم أنّه جوهر، وهناك قول بالعرضيّة.

وأمّا الأمر الرابع، وهو التمايز الصنفيّ بين السيف والمنشار مثلاً، فيرونه عرضيّاً. هذا.

وعنوان الحديد لا إشكال في أنّه منتزع عن السيف، ومحمول عليه بلحاظ الأمر الثالث، وهو الصورة النوعيّة، فالصورة النوعيّة بمثابة مبدأ الاشتقاق لاسم الحديد، فيقال: إنّ هذا المبدأ ذاتيّ وبزواله تزول الذات، فلا يبقى مجال للبحث عن الانطباق بعد الانقضاء.

وهنا يجب أن نعرف ماذا يقصدون بالذات التي يقولون: إنّها ترتفع بارتفاع المبدأ؟

409

فان أرادوا بالذات المركّب الثلاثي الذي هو نوع حقيقيّ، أي: المركّب من الأوّل والثاني والثالث، فصحيح ما يقال من أنّ الذات ترتفع بارتفاع المبدأ؛ لأنّ المبدأ جزء من أجزاء هذا المركّب الثلاثي، ولكن لا مُلزِم لقصر النظر على هذه الذات المصاغة من المركّب الثلاثي حتّى يقال: لا تبقى بعد ارتفاع الجزء الثالث، بل هناك ذات اُخرى يمكن تصوّرها، وهي المركّب الثنائيّ، أي: المركّب من الأوّل والثاني، وهو القدر المشترك بين جميع الأجسام، فإنّه ذات، ولا إشكال في أنّه يحمل عليه عنوان الحديد، فيقال: «هذا الجسم حديد»، أو يقال: «الجسم تارةً يكون حديداً واُخرى خشباً» فلنبحث عن أنّ ارتفاع الحديديّة هل يوجب ارتفاع هذا المركّب الثنائيّ، أو لا؟ فنقول:

أمّا على ما بيّنّاه من أنّ الركن الثاني عبارة عن مغايرة المبدأ للذات، فمن الواضح: أنّ هذا الركن ثابت؛ لأنّ الحديديّة مغايرة للمركب الثنائيّ، كما أنّ الركن الأوّل ـ وهو الجري على الذات ـ ثابت؛ إذ لا إشكال في أنّ عنوان الحديد يحمل على الجسم.

وأمّا إذا سلكنا في الركن الثاني مسلكهم، وعبّرنا بإمكان الانفكاك بين المبدأ والذات، وأخذنا هذه العبارة على إطلاقها، ولم نميّز بين الإمكان المنطقيّ والإمكان الفلسفيّ، أو بين الاستحالة المنطقيّة والاستحالة الفلسفيّة، فعندئذ يقع الكلام في أنّه: هل يمكن الانفكاك في المقام، أو لا؟ فنقول:

أمّا بحسب النظر الدقّيّ والفلسفيّ، فهناك بحث بين الفلاسفة، فمن ذهب إلى أنّ الصورة الجسميّة متقوّمة وجوداً بأشخاص الصور النوعيّة قال بعدم إمكان الانفكاك، وأنّ الجسم يتبدّل بتبدّل الصورة النوعيّة؛ ولذا التزموا بتبدّل الصورة الجسميّة في النخلة بقطعها؛ إذ بعد القطع تصبح خشباً. ومن ذهب إلى أنّ الصورة

410

الجسميّة تتقوّم بإحدى الصور النوعيّة على البدل قال بإمكان الانفكاك، وأنّ الصورة الجسميّة محفوظة على كلّ حال ولو تبدّلت الصورة النوعيّة؛ لأنّ المقوّم لها هو الجامع، أو قل: إحداها وهو محفوظ، وهناك من ذهب من الفلاسفة إلى أنّ الصورة الجسميّة غير متقوّمة بالصور النوعيّة لا بأشخاصها ولا بإحداها على البدل، وهو مذهب من يقول بعرَضيّة الصورة النوعيّة، وعليه فأيضاً يمكن الانفكاك. هذا كُلّه بحسب تخيّلات الفلاسفة.

وأمّا بحسب تخيّل الإنسان العرفيّ، فالإنسان العرفيّ لا يشكّ في أنّ النخلة مثلاً بالقطع لا تتبدّل صورتها الجسميّة، وأنّ الخشب إذا صار فحماً فالجسم هو الجسم السابق. والتصوّر العرفيّ هو المفيد في المقام؛ فإنّنا نبحث بحثاً لغويّاً، وهو قائم على أساس الفهم العرفيّ، لا الفلسفيّ الدقّيّ العقليّ.

فقد تحصّل: أنّ التفصيل بين العناوين الذاتيّة من قبيل: الحجر والشجر وغيرهما بدعوى عدم تعقّل النزاع في الأوّل غير صحيح، سواء سلكنا في تصوير الركن الثاني مسلكنا أو ما يُتراءى من الجمود على حاقّ عبائرهم. نعم، بحسب الخارج لم يقع نزاع في الأوّل، أعني: العناوين الذاتيّة، كالحجر والشجر والحديد وغير ذلك، فلم يدّعِ أحد أنّ لفظة «الحديد» موضوعة للجسم الذي تلبّس بالحديديّة ولو آناً ما وبعد ذلك صار ناراً مثلاً، فالقصور إثباتيّ لا ثبوتيّ(1).

 


(1) يمكن أن يقال: إنّ العرف يفرّق بين تحوّل النخلة خشباً أو الإنسان ميّتاً، فيحكم فيه بأنّ الجسم هو الجسم السابق، وتحوّل الخشب فحماً أو الكلب ملحاً، فيحكم فيه بأنّ الجسم قد تبدّل إلى جسم آخر، وبناءً على هذا، فعدم وقوع النزاع هنا في عدم صدق العنوان بعد انقضاء المبدأ ليس من باب مخالفة الفهم العرفيّ الإثباتيّ مع ما هو مقياس إمكان النزاع

411


ثبوتاً؛ وذلك لأنّه وإن كان المقياس الذي أفاده اُستاذنا(رحمه الله) في تفسير الركن الثاني من مغايرة المبدأ للذات منطبقاً على المقام، فيمكن النزاع في أنّ جسم الخشب أو الكلب إن بقي بعد تحوّل الصورة النوعيّة، فهل يصدق عليه العنوان الأوّل، أو لا ؟ ولكنّ اتّفاقهم على عدم الصدق لعلّه على ما هو الواقع خارجاً بعد التحوّل من تبدّل الجسم عرفاً، سواء فرض تبدّله فلسفيّاً، أو لا، فلعلّ محتوى اتّفاقهم هو الاتّفاق على أنّ الجسم الثاني لا يصدق عليه عنوان الخشب أو الكلب، ولا يمكن دعوى صدقه عليه ثبوتاً كما لا يحتمل ذلك إثباتاً. ولعلّ الإيمان بتبدّل الجسم ـ ولو عرفاً ـ هو الذي أوجب اشتهار القول بمطهّريّة الاستحالة حتّى للمتنجّس.

وتوضيح ذلك: أنّ مطهّريّة الاستحالة للنجس يمكن الإيمان بها حتّى لو لم نقل بتبدّل الجسم، وذلك بدعوى كفاية تبدّل العنوان؛ لأنّ النجاسة كانت حكماً ثابتاً على عنوان الكلب مثلاً وقد زال: إمّا بدعوى: عدم صدق المشتقّ حقيقة بعد انقضاء المبدأ، أو بدعوى: أنّ احتمال الصدق غير وارد في الجوامد مثلاً حتّى على تقدير بقاء الجسم، فالمرجع عندئذ هي الاُصول المؤمّنة بعد سقوط إطلاق دليل النجاسة. ولا يتوهّم جريان استصحاب النجاسة؛ وذلك لأنّه سقط أيضاً بنفس نكتة سقوط إطلاق دليل النجاسة، وهو تبدّل العنوان؛ لأنّ العنوان كان هو موضوع الحكم، فبانتفائه سقط إطلاق الدليل، وسقط الاستصحاب أيضاً؛ لتبدّل الموضوع.

أمّا في المتنجّس، فالقول بمطهّريّة الاستحالة ـ لو فرضنا عدم تبدّل الجسم عرفاً ـ يواجه إشكالاً؛ وذلك لأنّ الخشب المتنجّس لو صار فحماً، فصحيح: أنّ عنوان الخشبيّة زال عنه، ولكنّ موضوع النجاسة لم يكن هو عنوان الخشبيّة، بل كان هو عنوان: ما لاقى النجس، فبناءً على عدم تبدّل الجسم يكون هذا الجسم المحفوظ ضمن الفحم نفس الجسم الذي لاقى النجس، فإطلاق دليل النجاسة يشمله، واستصحاب النجاسة أيضاً جار؛ لأنّ الموضوع لم يتبدّل.

وينحلّ الإشكال لو آمنّا بتبدّل الجسم ولو عرفاً، فعندئذ يكون موضوع دليل النجاسة

412


منتفياً، ويكون استصحاب النجاسة أيضاً ساقطاً بتبدّل الموضوع، فتصل النوبة إلى الاُصول المؤمّنة.

وقد حاول اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحثه في الاستحالة البرهنة على تبدّل الجسم ولو عرفاً، وذلك بما يمكن تجزئته إلى عدّة مقدّمات:

الاُولى: لا إشكال في أنّ مثل الخشبيّة أو الفحميّة تعتبر في الإلهام العرفيّ اُموراً جوهريّة لا عرضيّة، سواء صحّ ذلك فلسفيّاً، أو لا.

والثانية: لا إشكال في أنّ الصورة الجسميّة تعتبر في الإلهام العرفيّ أمراً جوهريّاً لا عرضيّاً، سواء صحّ ذلك فلسفيّاً، أو لا.

والثالثة: لا إشكال في أنّ كلّ فرد من الخشب أو الفحم أو نحو ذلك في نظر العرف فرد واحد من الجوهر، وحقيقة فاردة، وليس جوهرين عرضيّين مستقلّين.

وإذن، فبعد فرض جوهريّة كلٍّ من الصورة الجسميّة من ناحية، والصورة النوعيّة التي هي من قبيل: الخشبيّة أو الفحميّة من ناحية اُخرى ـ ولو في نظر العرف ـ لابدّ من افتراض: أنّ كلّ فرد من تلك الصورة النوعيّة مقوّم للفرد الذي في ضمنه من الصورة الجسميّة لدى نفس من يرى أنّ هذا الفرد من الخشب أو الجسم الفلانيّ جوهر واحد، لا جوهران عَرْضيّان ومحصِّل له، وإلاّ لكانا جوهرين عرضيّين مستقلّين.

والنتيجة: أنّه إذا تبدّلت الصورة النوعيّة في نظر من يحكم بتبدّلها ولو كان هو العرف، فقد تبدّل فرد الجسم في ذاك النظر.

وعليه فيحكم بطهارة المتحوّل إليه ولو بمعنى الأخذ بالاُصول المؤمّنة، بل يمكن استنتاج طهارة المتنجّس لو رجع مرّة اُخرى بعد الاستحالة، فالماء المتنجّس إذا تحوّل بخاراً ثُمّ رجع ماءً بالتعرّق بعد التبخّر، كان هذا الماء طاهراً؛ لأنّ هذا جسم جديد غير ما حكم عليه بالنجاسة؛ وذلك لأنّه حينما تحوّل بخاراً فقد تبدّل الجسم إلى جسم آخر بالبرهان الذي نقلناه عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فحينما يرجع مرّة اُخرى ماءً سيكون هذا فرداً ←

413


جديداً من الماء لم يلاقِ النجاسة؛ لأنّه كما أنّ الانفصال الفلسفيّ يساوق التعدّد الفلسفيّ، والمعدوم فلسفيّاً يستحيل عوده فلسفيّاً، كذلك الانفصال العرفيّ يساوق التعدّد العرفيّ، والمعدوم عرفاً لا يقبل العود في نظر العرف.

وقد يُقابل هذا البرهان ببيان ينتج خلاف نتيجته، وهو: أنّه لو صحّ أنّ جسم الخشب قد تبدّل لدى العرف بتحوّله إلى الفحم بجسم آخر، لَما كان العرف يعبّر عن هذه العمليّة بقوله: «تحوّل الخشب فحماً»، بل كان يعبّر بتعبير: «أنّ الخشب قد انعدم ووجد الفحم»، في حين أنّه لا شكّ في أنّ هذه العمليّة تعتبر في نظر العرف تحوّلاً للخشب إلى الفحم، لا فناء شيء ووجود شيء آخر مستقلّ عن الأوّل.

وأجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن ذلك بأنّ هذا التعبير لا يدلّ على أكثر من وجود خيط ممتدّ بين الحالتين، وقاسم مشترك متّصل يحسّ به العرف ـ ولو إجمالاً ـ بين الخشب والفحم، وقد تبادلت عليه صورتا الخشب والفحم، فليست الصورتان منفصلة أحداهما عن الاُخرى تماماً. أمّا أنّ ذاك القاسم المشترك عبارة عن الجسم، فغير معلوم، فليكن ذاك القاسم المشترك المحسوس إجمالاً عبارة عمّا أسماه الفلاسفة بالهيولى، والتي لا تقبل عرفاً أن تكون هي المعروضة للنجاسة؛ ولهذا ترى أنّه لدى تحويل المادّة إلى الطاقة يقول العرف أيضاً: «تحوّلت المادّة إلى طاقة»، ولا يقول: «انعدمت المادّة ووجدت طاقة مستقلّة عن تلك المادّة»، مع أنّ الجسم في هذا الفرض غير منحفظ(1) لدى تحوّلها إلى الطاقة.

ثُمّ إنّنا إذا لم نسلّم تبدّل الجسم عرفاً في المقام لدى تحوّل الخشب فحماً أو رماداً فقد يستدلّ على مطهّريّة الاستحالة بوجوه اُخرى نذكر بعضها:

الأوّل: أنّ دليل تنجّس ملاقي النجاسة بالسراية ليس عبارة عن دليل لفظيّ له إطلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وحتّى لو فرضت وحدة الجسم والطاقة بالدقّة، فلا إشكال في أنّ الجسم غير منحفظ عرفاً لدى التحوّل إلى الطاقة.

414


أو عموم، بل هو منتزع عن روايات متفرّقة في موارد متفرّقة، كالثوب والبدن والفراش ونحو ذلك، وهذه الروايات كما تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة الجسم بما هو ذو صورة جسميّة محفوظة ـ حسب الفرض ـ حتّى بعد الاستحالة كذلك تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة هو الجسم بما هو ذو صورة نوعيّة تبدّلت بالاستحالة، ومع عدم تعيّن الاحتمال الأوّل لا يمكن التعدّي من موارد تلك الروايات إلى ما بعد الاستحالة، كما أنّ استصحاب النجاسة أيضاً لا مورد له؛ لاحتمال تبدّل الموضوع. أمّا إذا رجعت العين الاُولى كما في الماء المتنجّس الذي تبخّر ثُمّ عاد ماءً، فمقتضى هذا الوجه لمطهّريّة الاستحالة أيضاً عدم تماميّة الإطلاق لدليل النجاسة بالنسبة لما بعد رجوع العين؛ وذلك لأنّ مورد النصوص هو ما قبل الاستحالة، واحتمال الفرق موجود. وأمّا استصحاب النجاسة: فإن قلنا بعدم عود المعدوم عرفاً، فهذا ماء آخر لا يجري فيه استصحاب النجاسة، وإن قلنا بعوده فبالإمكان أن يقال: إنّ استصحاب النجاسة جار؛ لأنّ موضوع النجاسة حتّى لو كان هو الجسم بما له من صورة نوعيّة فالموضوع قد عاد. نعم، يحتمل كون الحكم مقيّداً بما قبل الاستحالة والعود، لكن هذا لا يعدّ عرفاً من مقوّمات الموضوع التي بفقدها يبطل الاستصحاب، وانقطاع الحكم في فترة الاستحالة لا يمنع عن هذا الاستصحاب؛ لأنّه لم يكن انقطاعاً للحكم عن الموضوع، وانّما كان انقطاعاً بزوال الموضوع، وهذا النحو من انقطاع لا يضرّ بصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ على عدم ترتيب الحكم على موضوعه بعد العود.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه يمكن أن يجاب عليه بما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من وجود إطلاق في المقام، وهو قوله في موثّقة عمّار (الوسائل، ج 1، باب 4 من أبواب الماء المطلق، ح 1، ص 142 بحسب طبعة آل البيت): «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، فهنا إذا أصاب الخشب ذلك الماء ثُمّ صار فحماً وقد فرضنا انحفاظ الجسم السابق، فهذا الجسم يصدق عليه: أنّه أصابه ذلك الماء، فيكون محكوماً بالنجاسة.

415

وأمّا الدائرة الثانية وهي المشتقّات، فهل تدخل بتمامها في محلّ النزاع، أو أنّ بعضها خارج عن محلّ النزاع؟ من الواضح: أنّ بعض المشتقّات لا يدخل في محلّ


الثاني: أن يقال: إنّنا لئن بنينا على مطهّريّة الاستحالة في عين النجس، ففي المتنجّس بطريق اُولى، فإنّ المتنجّس إنّما تنجّس بالسراية من عين النجس، فهل يحتمل أنّ الكلب حينما يُحرَق فيصبح فحماً أو رماداً يطهر، لكن الخشب الذي تنجّس بملاقاة الكلب حينما يحرق فيصبح فحماً أو رماداً لا يطهر؟! وهذا الوجه ـ كما ترى ـ لا يبطل إطلاق دليل النجاسة في مورد عود العين كما لو رجع بخار الماء المتنجّس ماءً، ولا استصحابها؟!

والجواب: ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام من أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لو كانت ثابتة بالدليل اللفظيّ، لأمكن التعدّي من عين النجس إلى المتنجّس بالأولويّة العرفيّة مثلاً، وبالملازمة العرفيّة، وذلك عملاً بلوازم الأمارات، ولكن الواقع: أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لم تكن بدليل لفظيّ، بل كانت بقاعدة الطهارة أو بالاُصول المؤمّنة، ولوازمها غير حجّة، بل يمكن أن يعكس الأمر، وذلك بأن يتمسّك أوّلاً لإثبات عدم مطهّريّة الاستحالة للمتنجّس بإطلاق قوله في موثّقة عمّار: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء» ثُمّ يتعدّى من ذلك إلى عين النجس بالأولويّة، فيقال: لئن كانت الاستحالة لا تطهّر المتنجّس، فهي لا تطهّر عين النجس بطريق أولى.

الثالث: أن يقال: إنّ دليل تنجّس المتنجّس المحمول عرفاً على سراية بعض آثار وخصوصيّات النجس إليه ليس له إطلاق في نظر العرف لفرض الاستحالة التي هي في فهم العرف استحالة لتلك الآثار والخصوصيّات أيضاً، فلا يمكن التمسّك بعد تحوّل الخشب فحماً أو رماداً بإطلاق قوله: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، كما أنّ السراية مقوّمة عرفاً لموضوع التنجّس، فباحتراق كلّ الآثار السارية ينقطع استصحاب النجاسة أيضاً.

وأمّا إذا عادت العين بعد الاستحالة كما في الماء المتنجّس الذي تحوّل بخاراً ثُمّ تحوّل مرّة اُخرى ماءً، وافترضنا موافقة العرف على عود المعدوم، فشمول هذا الوجه للعين المعادة لإثبات الطهارة وعدمه مبنيّ على معرفة أنّ ما يعود هل هو الماء الزلال المصفّى عن كلّ الآثار التي سرى إليها بملاقاة النجاسة، أو أنّه يعود بما كان معه من التلوّثات؟

416

النزاع، كالمصادر وأسماء المصادر والأفعال؛ لفقدان الركن الاُوّل، وهو الجري على الذات، فيختصّ النزاع بخصوص الأوصاف الاشتقاقيّة، كأسماء الفاعلين والمفعولين والزمان والمكان والآلة والصفة المشبّهة.

وأمّا الدائرة الثالثة وهي الأوصاف الاشتقاقيّة، فقد ادّعي خروج بعضها عن محلّ النزاع، فمثلاً ادّعي في بعض كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) أنّ اسم الآلة خارج عن محلّ النزاع؛ إذ لا إشكال في عدم اشتراط بقاء التلبّس؛ بدليل: أنّه يصحّ الإطلاق حقيقة حتّى قبل التلبّس، فما ظنّك به بعد التلبّس، فالمفتاح قبل الفتح به يسمّى مفتاحاً.

وهذا الكلام جوابه واضح؛ وذلك لأنّ التلبّس إنّما هو باعتبار مبدئه، ومبدأ المفتاح إن كان هو الفتح لم نقبل صدق المفتاح حقيقة قبل الفتح، ولا نقبل خروجه عن محلّ النزاع. وإن كان هو شأنيّة الفتح، فأيضاً يكون داخلاً في محلّ النزاع؛ إذ قد يخرج المفتاح عن الشأنيّة كما إذا حصل تآكلٌ فيه، وتناقص في أسنانه بحيث خرج عن شأنيّة الفتح.

ومن جملة ما توهّم خروجه: أسماء الزمان؛ إذ بانقضاء المبدأ ينقضي الزمان، فلا معنى للتكلّم في أنّه بعد الانقضاء يصدق العنوان، أو لا؟

وقد تُخلِّص عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره في الكفاية(2) من أ نّا نسلّم أنّ الذات يستحيل بقاؤها بعد


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 83 ـ 84 بحسب الطبعة التي عليها تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) ج 1، ص 60 بحسب طبعة المشكينيّ.



417

انقضاء المبدأ، لكن مع هذا لا بأس بالوضع للأعمّ، غاية ما هناك: أنّ أحد فردي هذا المعنى الأعمّ مستحيل، وأيّ مانع للوضع للجامع بين الممكن والمستحيل؟! بل لا مانع للوضع لخصوص المستحيل، فإنّ المقصود من وراء وضع اللفظ لمعنىً ما ليس وجوده، بل تصوّره، وتصوّر المستحيل ممكن. فكأنّ صاحب الجواب يريد أن يبيّن بياناً قريباً للبيان الذي بيّنّاه من أنّ الاستحالة الفلسفيّة لا تمنع عن الوضع للأعمّ، فيقول: إنّ المقصود من الوضع: الاستعمال لا الإيجاد خارجاً، والاستعمال يتوقّف على التصوّر وهو ثابت.

ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الاستحالة هنا بالدقّة ليست استحالة فلسفيّة


وقد ذكر الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) تعليقاً على هذا الجواب: أنّ هذا وإن كان يحلّ الإشكال، إلاّ أنّ تحرير النزاع في الزمان لا تترتّب عليه ثمرة البحث؛ لأنّ ثمرة البحث تظهر فيما انقضى عنه المبدأ، والمفروض أنّه لا مصداق لذلك في اسم الزمان. نعم، إذا قلنا: إنّ اسم الزمان واسم المكان واحد، وإنّ المقتل مثلاً يدلّ على وعاء القتل من دون ملاحظة خصوصيّة الزمان أو المكان، فعدم المصداق بلحاظ الزمان لا يوجب لغويّة النزاع؛ لكفاية المصداق بلحاظ المكان (راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائي بقم).

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام بطلان النزاع، وعدم إمكانه في اسم الزمان (لو لم نقل باتّحاده مع اسم المكان) لانحصار المصداق عندئذ في المتلبّس، فمن الواضح: أنّ فقدان الثمرة لا يوجب بطلان النزاع وعدم إمكانه. وإن كان المقصود الاعتراض على تعميم النزاع بنكتة لغويّته، وأنّ مجرّد إمكانه لا يبرّر تعميم النزاع بعد أن كان ذلك لغواً وبلا فائدة، فمن الواضح: أنّ النزاع لا يجعل في خصوص اسم الزمان كي يرد عليه اللغويّة، وإنّما يكون النزاع في المشتقّ، وأنّه: هل هو حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، أو لا؟ ويكفي في صحّة هذا النزاع وعدم لغويّته ثبوت الثمرة في بعض أقسامه، ولا يضرّ بإطلاق النزاع انعدام الثمرة في بعض الأقسام؛ فإنّ الإطلاق لم يكن مشتملاً على مؤونة زائدة حتّى يجب الفحص لها عن الثمرة.

418

فحسب، بل ترجع إلى الاستحالة المنطقيّة؛ للاشتمال على التناقض؛ إذ إنّ انقضاء المبدأ يشتمل على التجدّد الذي هو الزمان، وانقضاء الزمانيّ إنّما هو بانقضاء الزمان، فالانقضاء أوّلاً وبالذات للزمان، وثانياً وبالعرض للزمانيّ، فانقضاء المبدأ هو عبارة عن تجدّد زمان آخر، وانتهاء زمانه، وإلاّ ففي لوح غير زمانيّ الحوادث غير منقضية، وبنظرة لا زمانيّة الحوادث كلّها موجودة، فإذا كان انقضاء المبدأ هو عين انقضاء الزمان، ففرض انقضاء المبدأ مع بقاء الزمان تناقض.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة من المحقّقين، كالمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) وغيرهما: من أنّ اسم الزمان بنفسه هو اسم المكان، أي: أنّ لفظاً واحداً وضع لظرف الفعل سواء كان زماناً أو مكاناً، ويكفي في جريان النزاع فيه تعقّل انقضاء المبدأ، وانحفاظ الذات ولو في بعض المصاديق.

وهذا الجواب ممّا لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ أسماء الزمان والمكان إنّما هي متداخلة في اللفظ فقط، من دون أن يعني هذا التداخل: أنّ كلمة (مقتل) مثلاً لها معنىً واحد بوضع واحد، بل هنا معنيان. وتوضيح ذلك: أنّ كلمة «مقتل» مثلاً لابدّ أن توضع لذات ملحوظة ظرفاً للقتل، فإذا فرض أنّ المأخوذ في المعنى الموضوع له لذلك هو عنوان الظرفيّة بما هو معنىً اسمي أمكن تصوير معنىً جامع ينطبق على ظرف الزمان وظرف المكان؛ لأنّ عنوان ظرف القتل ينطبق على كليهما، ولكن من الواضح: عدم أخذ المفهوم الاسمي للظرفيّة في ذلك؛ لوضوح: أنّ مفهوم الظرفيّة كمفهوم الفاعليّة والمفعوليّة والآليّة تنتزع من الصورة التي نفهمها من المشتقّ، لا أنّها تدخل في مفهومه، فلا ينتقل


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب طبعة مطبعة النجف، وراجع أيضاً أجود التقريرات، ج 1، ص 56 ـ 57 تحت الخطّ.

419

ذهننا ابتداءً من كلمة «مقتل» إلى مفهوم الظرفيّة، وإنّما كلمة «مقتل» تدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وننتزع من صورة ذلك المفهوم الظرفيّة، كما أنّ اسم الفاعل يدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وبعد هذا ننتزع منه مفهوم الفاعليّة، وعندئذ فإذا كانت نسبة المكان إلى المكين مع نسبة الزمان إلى الزمانيّ من سنخ واحد، أمكن أن يقال: إنّ لفظ «مقتل» موضوع للذات الجامع بين الزمان والمكان مع نسبته إلى القتل، ولكن الصحيح: أنّهما نسبتان متباينتان فلسفيّاً وعرفاً، وليستا من سنخ واحد، أمّا فلسفيّاً فلأنّ نسبة الشيء إلى مكانه عبارة عن مقولة الأين، أو مقوّم مقولة الأين، ونسبة الشيء إلى زمانه عبارة عن مقولة المتى، أو مقوّم مقولة المتى، ومن المعلوم: أنّ هاتين المقولتين من المقولات العالية التي اعتبروها ماهيات متباينة سنخاً وذاتاً، وليس حالهما حال فردين من ماهية. وأمّا عرفاً فلأنّه لا إشكال في التباين الوجدانيّ بينهما، فحينما نتصوّر واقع احتواء يوم عاشوراء للقتل، واُخرى نتصوّر واقع احتواء كربلاء له، نرى أنّ سنخ أحد الاحتواءين غير سنخ الآخر، ولا جامع بينهما، فلابدّ من الوضع لكلتا النسبتين بأن يكون للمقتل مدلولان: أحدهما للزمان، والآخر للمكان، فيبقى الإشكال في اسم الزمان على حاله.

وصفوة القول: إنّ هنا خلطاً بين مفهوم الظرفيّة وواقعها، فلو كان اُخذ فيه مفهوم الظرفيّة، وكان موضوعاً للذات التي هي ظرف (بهذا المفهوم الاسميّ) لأمكن الوضع للجامع، لكن هذا غير صحيح، وإنّما المأخوذ واقع النسبة الظرفيّة، والنسبتان متباينتان.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1) وهو: أنّ الزمان الذي ينقضي


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 179 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 129 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

420

بانقضاء المبدأ إنّما هو تلك اللحظة التي وقع فيها القتل، وتلك القطعة الخاصّة من الزمان، ولكن تلك القطعة من الزمان باعتبار اتّصالها مع باقي القطعات تكون موجودة بوجود وحدانيّ؛ فإنّ الاتّصال يساوق الوحدة، وهذا الوجود الوحدانيّ الطويل له بقاء بعد انقضاء المبدأ.

وهذا لا يرد عليه ما أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) من دعوى: أنّ المتّصف حقيقة بالحدث إنّما هو تلك القطعة، لا هذا الواحد الاتّصاليّ كما هو الحال أيضاً في الأجسام الخارجيّة، فلو وقعت حمرة على جزء من الفراش مثلاً، فخصوص ذلك الجزء يتّصف بالاحمرار، لا الجسم بتمامه، وكذلك الأمر في المقام.

فإنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ هناك فرقاً بين الواحد المتّصل العرْضيّ الأجزاء والواحد المتّصل التدريجيّ الأجزاء، ففي الأوّل ليست حمرة الجزء حمرة لذلك الوجود الاتّصاليّ؛ لأنّ هذا الجزء ليس هو تمام وجوده الآن، بل جزء وجوده. وأمّا الواحد المتّصل التدريجيّ كعمود الزمان، فتمام وجوده في ذلك الحال هو ذلك الجزء، ودائماً يكون وجوده بوجود جزئه، فإذا اتّصف هذا الجزء الزمانيّ بالمقتليّة فقد اتّصف الواحد الطويل بالمقتليّة؛ لأنّ وجود هذا الواحد الطويل في هذا الحال بوجود هذا الجزء، بينما وجود الواحد العرضيّ ليس بوجود هذا الجزء، فكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) باق على وجاهته.

نعم، قد تأتي هنا شبهة اُخرى، وهي: أنّه يلزم من هذا الكلام كون القائل بالأعمّ ملتزماً بصحّة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى يوم القيامة، فنقول عن هذا الوقت: إنّه مقتل زكريّا(عليه السلام)؛ لأنّه متّصل بزمان قتله، بينما لا يكون الأمر هكذا.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 98 ـ 99 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

421

والجواب: أنّ المناط هو النظر العرفيّ، والعرف يقطّع الزمان إلى قطع: من الشهور والأسابيع والأيّام والساعات والسنوات وغير ذلك، ويرى أنّ كلّ قطعة لها وجود مستقلّ، فيرى العرف أنّ الذات تزول بزوال قطعة، فالمقتليّة ليست وصفاً للدهر؛ لأنّ العرف يجزّء الدهر، ولا يفرضه وجوداً واحداً، وليست وصفاً لقطعة متأخّرة عن لحظة القتل؛ لأنّها بالتقطيع ترى عرفاً وجوداً مستقلاّ، وإنّما هي وصف لقطعة تدخل فيها لحظة القتل، كساعة القتل أو يومه أو اُسبوعه أو سنته، وهكذا. فبهذا يتحصّل وجه صحيح لحلّ الإشكال في جريان النزاع في اسم الزمان(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ فكرة وحدة الزمان التي يفترض أنّها تحلّ الإشكال في اسم الزمان يمكن أن تفسّر بأحد تفسيرين:

الأوّل: أن يكون المقصود بذلك أخذ مقطع من الزمان مشتمل على الفترة المشتملة على المبدأ، كالقتل في مثال المقتل، من قبيل أن يقال: إنّ هذا القرن مثلاً كان مقتلاً للحسين(عليه السلام)، وقد انقضى عنه المبدأ، أو يؤخذ عنوان الدهر والزمان وما شابه ذلك، ويقال: إنّه كان مقتلاً للحسين(عليه السلام) وقد انقضى عنه المبدأ.

إلاّ أنّ هذا ليس مقصوداً للمحقّق العراقيّ(رحمه الله)؛ لأنّه قد ذكر هو ذلك على ما ورد في نهاية الأفكار (ج 1، ص 128 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم) بعنوان ما كان ينبغي للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يذكره كحلٍّ لمشكلة تصوير انقضاء المبدأ عن اسم الزمان، فقال: إنّ صاحب الكفاية الذي حلّ مشكلة الاستصحاب في باب الزمان بتصوير الحركة التوسّطيّة، أو ما بين المبدأ والمنتهى كان بإمكانه أن يأتي بهذا الحلّ في المقام أيضاً، فيقول مثلاً: إنّ هذا القرن كان مقتلاً وقد انقضى عنه القتل. ثُمّ قال(رحمه الله): إنّ هذا الجواب من قبل صاحب الكفاية غير صحيح، لا في بحث استصحاب الزمان ولا في المقام؛ وذلك لأنّ الوحدة المنتزعة عمّا بين المبدأ والمنتهى إنّما هي وحدة اعتباريّة منتزعة عن تعاقب الأفراد وتلاحقها، وفي الخارج لا يكون إلاّ أشخاص تلك الحصص المتبادلة المتعاقبة. نعم، إذا كان عنوان انتزاعيّ كالسنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة ونحوها موضوعاً للأثر في

422


لسان الدليل، فعندئذ لابدّ من ملاحظة ذاك العنوان.

وكذلك أشار الشيخ العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته (ج 1، ص 179 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم) إلى بطلان الجواب بوحدة الحركة التوسّطيّة بنفس النكتة التي ذكرها في نهاية الأفكار من أنّ هذه الوحدة ليست إلاّ أمراً انتزاعيّاً، لا واقعيّاً حقيقيّاً.

أقول: إنّ هذا الجواب ـ على تقدير تماميّته في بحث الاستصحاب ـ لا يتمّ في بحث المشتقّ؛ وذلك لأنّ ما بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالسنة أو الشهر أو القرن أو غير ذلك المشتمل على فترة المبدأ لا ينقضي عنه المبدأ إلاّ بانقضائه هو، فسنة القتل هي سنة القتل إلى الأخير، وقرن القتل هو قرن القتل إلى الأخير وهكذا، كما أشار إلى ذلك نفس المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات (ص 180 بحسب الطبعة المشار إليها آنفاً)، وأشار إليه الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية (ج 1، ص 99).

والثاني: ما هو المقصود للشيخ العراقيّ(رحمه الله) في المقام من أنّ الاتّصال يساوق الوحدة، وذلك بقطع النظر عن لحاظ أيّ عنوان انتزاعيّ لمقطع زمنيّ.

وأمّا ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما أوردناه في المتن، فهو ـ في الحقيقة ـ أمر بين الأمرين، فهو من ناحية فرض موضوع الأثر قطعةً منتزعة من الزمن مشتملة على المقطع الذي وقع فيه المبدأ، ومن ناحية اُخرى افترض الوحدة عبارة عن الوحدة الفلسفيّة التي يساوقها الاتّصال.

وهذا البيان يكون من ناحية بعيداً عن الاعتراض عليه بعدم تقبّل العرف لتوصيف يومنا هذا مثلاً بكونه مقتل زكريّا(عليه السلام) ولو مجازاً وبعنوان استعمال المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ؛ لأنّه يجاب على هذا الإشكال بما أفاده(رحمه الله)من أنّ العرف ملتزم بالتقطيع في الزمن، ويرى القطعة غير المشتملة على المقطع الذي وقع فيه المبدأ غير متلبّس بالمبدأ أصلاً.

ومن ناحية اُخرى لا يرد عليه الإشكال بعدم كون القطعة الانتزاعيّة هي موضوع الأثر؛ وذلك لأنّه بعد ما فرضنا من التزام العرف بتقطيع الزمن، ولا يجعل المقتليّة وصفاً

423

كلمة «الحال» في عنوان المسألة:

المقدّمة الثانية: ذكر في عنوان المسألة: (أنّ المشتقّ هل هو حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال أو الأعمّ؟) فاُخذ في ذلك كلمة «الحال»، وكلمة «الحال» كلمة تدلّ على الزمان، فكأنّه تُوُهِّم أنّ القائل بالوضع لخصوص المتلبّس يقول: إنّ الزمان مأخوذ في المشتقّ. ولكن المحقّقين المتأخّرين أوضحوا: أنّه لا ينبغي توهّم أخذ الزمان فيه، ولا يكون هذا مقصود القائل بالوضع للمتلبّس، بل حال المشتقّ حال الجوامد: كالإنسان والمصادر كالضرب التي لا دلالة لها على الزمان، بمعنى: أنّه لم يؤخذ الزمان في مفهومها. وإذا أردنا أن نحلِّل كلمة «عالِم» فسوف نصل إلى هذا المدلول التركيبي: (شيء له التلبّس بالعلم)، فهو مركّب من جوامد ومصادر وحروف، ومن المعلوم أنّ الزمان غير مأخوذ في شيء منها، ومدلول كلمة «عالم» ليس إلاّ مفاد هذه الجملة بنحو اللفّ والاندماج. نعم، مفهوم كلمة «عالم» سنخ مفهوم لا ينطبق على الذات إلاّ حين وجدانه للمبدأ، كما أنّ الإنسان لا يصدق إلاّ حين تصبح النُطفة واجدة للجنس والفصل. وهذا غير أخذ


للدهر مثلاً، بل يجعلها وصفاً للسنة أو لليوم أو للساعة أو نحو ذلك تكون النتيجة: أنّ موضوع الأثر لدى العرف دائماً هي قطعة انتزاعيّة.

ومن ناحية ثالثة لو فرضنا أنّ الوحدة الانتزاعيّة غير كافية في المقام (وهي كافية مادام الموضوع هي قطعة انتزاعيّة) فالوحدة الحقيقيّة موجودة في المقام؛ لأنّ الاتّصال يساوق الوحدة.

إلاّ أنّك ترى أنّ هذا التصوير لا يخلو ممّا مضى من الإيراد عليه بأنّ القطعة المشتملة على المقطع الذي هو زمان المبدأ لا ينقضي عنها المبدأ إلاّ بانقضائها، فالإشكال في دخول اسم الزمان في مورد النزاع باق على قوّته.

424

الزمان في مفهوم المشتقّ.

وبعد الفراغ عن أنّ المشتقّ يدلّ على المتلبّس من دون دلالة له على الزمان يقع كلام آخر في أنّه: هل المشتقّ موضوع للمتلبّس بلا أيّ قيد للتلبّس، أو موضوع للذات المتلبّسة بالمبدأ تلبّساً مقارناً للنطق؟ وهذا لا يعني أخذ زمان النطق في مفهوم المشتقّ، بل أخذ نفس النطق الذي هو زمانيّ، أي: أنّ التلبّس بالمبدأ يقيّد بالمقارنة مع النطق، فالذات المتلبّسة بالعلم مثلاً تلبّساً مقارناً للنطق مدلول لكلمة «عالم» أو موضوع للذات المتلبّسة بالمبدأ تلبّساً مقارناً للحكم والجري؛ إذ قد يختلف الحكم مع النطق، فحينما أقول: «زيد قائم بالأمس» يكون نطقي اليوم وحكمي بلحاظ الأمس.

وهذه الاحتمالات الثلاثة يظهر بينها فارق في اُسلوب الاستظهار، فمثلاً حينما يقال: «زيد عالم» و«زيد حيّ يرزق» يفهم منه: أنّه عالم الآن، أي: في زمان النطق. فإن قلنا بالاحتمال الثاني إذن فكلمة «عالم» تدلّ على ذلك بالظهور الوضعيّ. وإن قلنا بالاحتمال الثالث فكلمة «عالم» إنّما تدلّ بالظهور الوضعيّ على كونه عالماً حين الحكم والجري، ولكن يفهم بالإطلاق وانصراف الكلام أنّ زمان الحكم والجري هو زمان النطق، فعن هذا الطريق يصبح الكلام ظاهراً في كونه عالماً في زمان النطق. وإن قلنا بالاحتمال الأوّل، فكلمة «عالم» لا تدلّ إلاّ على أصل التلبّس، وظهور الجملة في الهوهويّة والاتّحاد بين الموضوع والمحمول يدلّ على أنّ زيداً هو عين العالم (والعالم هو الذات التي لها التلبّس)، فهذا لا يصدق إلاّ إذا كان في ظرف الجري والحكم متلبّساً، فيكون إثبات التلبّس في زمان الجري بظهور القضيّة، لا ظهور المشتقّ، ثُمّ نثبت بالإطلاق والانصراف أنّ زمان الجري هو زمان النطق، فبالتالي يصبح الكلام ظاهراً في كونه عالماً في زمان النطق.

425

فعندنا ثلاثة دوالّ: دالٌّ على التلبّس بنحو مهمل مجمل وهو المشتقّ، ودالّ على أنّ التلبّس في ظرف الجري وهو ظهور الجملة في الهوهويّة، ودالّ على أنّ ظرف الجري هو ظرف النطق وهو الإطلاق. فهذه هي الفوارق الاستظهاريّة بين الاحتمالات الثلاثة. والصحيح منها هو الاحتمال الأوّل.

أمّا إبطال الاحتمال الثاني، فيكون بأمرين:

الأوّل: هو أنّ التلبّس لو كان مقيّداً بالنطق، لزم كون قولنا: «زيد ضارب بالأمس» أو «زيد ضارب غداً» مجازاً، مع أنّه لا إشكال في كونه حقيقة حينما يكون قد صدر عنه الضرب بالأمس، أو سيصدر منه غداً.

والثاني: أنّه إن اُريد بأخذ النطق قيداً: أخذ مفهوم النطق، فهذا باطل؛ إذ لا يخطر على البال حينما نسمع كلمة «عالم» نفس ما يخطر على البال من كلمة «نطق». وإن اُريد أخذ واقع النطق، لزم أن تكون كلمة «عالم» في حال عدم النطق لا معنى لها؛ لأنّ واقع النطق لا يتحصّل إلاّ حينما يوجد خارجاً، بينما ليس الأمر كذلك.

وأمّا إبطال الاحتمال الثالث، فأيضاً يكون بأمرين:

الأوّل: سنخ الإشكال الثاني على الاحتمال الثاني. وحاصله: أنّ المأخوذ: هل هو مفهوم الجري أو واقعه؟ فإن قيل بالأوّل، فهو باطل بالضرورة؛ لأنّ هذا المفهوم بما هو مفهوم لا نلتفت إليه حينما نسمع كلمة «عالم» مثلاً. وإن قيل بالثاني، فإذا أتى بكلمة «عالم» لا في جملة تامّة، فقيل: «عالم» لزم أن لا يكون لها معنىً؛ إذ لا حكم ولا جري، بينما ليس الأمر كذلك.

الثاني: أنّ الجري في طول المحمول والموضوع، فإنّ معناه إثبات هذا لذاك، فكيف يؤخذ في المحمول؟! فإذن الصحيح: هو الاحتمال الأوّل، وهو أنّه بناءً على كون المشتقّ موضوعاً للمتلبّس يكون موضوعاً للمتلبّس بلا قيد.

426

تعقّل جامع على القولين:

المقدّمة الثالثة: لابدّ من تحقيق الكلام في تعقّل جامع على القولين، فعلى القول بكونه حقيقة في المتلبّس نريد جامعاً ينطبق على كلّ متلبّس، ولا ينطبق على المنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بكونه حقيقة في الأعمّ نريد جامعاً ينطبق على المنقضي عنه المبدأ أيضاً انطباقاً حقيقيّاً. وأمّا إذا لم يمكن تصوير الجامع على أحد القولين، فقد بطل ذلك القول ثبوتاً، ولم نحتج بعد ذلك إلى البحث الإثباتيّ؛ ولأجل ذلك كان هذا من مقدّمات المطلب، فنقول:

أمّا الجامع على القول بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، فلا إشكال في ثبوته كما ظهر من المقدّمة الثانية؛ فإنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ مفهوم ينطبق على المتلبّس دون المنقضي، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ المشتقّ مفهوم تركيبيّ أو مفهوم بسيط، أي: أنّه نفس المبدأ، غاية الأمر: أنّه اُخذ لا بشرط، فصحّ فيه الحمل. أمّا على التركيب(1) من ذات ونسبة ومبدأ، فالجامع هو ما قلناه، أي: ذات لها التلبّس بالعلم مثلاً في كلمة «عالم» فينطبق على المتلبّس دون المنقضي عنه المبدأ. وأمّا على البساطة وأنّ مفاد «عالم» هو مفاد علم، وإنّما الفرق بينهما من ناحية أنّ أحدهما اُخذ بشرط لا، والآخر لا بشرط على ما يأتي تفسيره إن شاء الله،


(1) لا يخفى: أنّه ليس المقصود بالتركيب التركيب الحقيقيّ؛ إذ لا ريب أنّ مفهوم المشتقّ ليس مركّباً من مفاهيم تفصيليّة، وهي مفهوم ذات ثبت لها المبدأ، وإنّما المقصود: التركيب والبساطة بحسب التحليل العقليّ، فالقائل بالبساطة يقول مثلاً: إنّ مفاده نفس المبدأ، لكنّه يحمل على الذات باعتباره اُخذ لا بشرط، والقائل بالتركيب يقول مثلاً: إنّ المشتقّ موضوع للذات، لكن لا على إطلاقها، بل للحصّة المنتسبة إلى المبدأ، وهذه الحصّة بالتحليل ترجع إلى ذات ومبدأ ونسبة بينهما.

427

فالجامع نفس العلم، فإنّه محفوظ في تمام موارد ثبوت التلبّس، وليس محفوظاً بعد الانقضاء.

وأمّا على الأعمّ فتصوير الجامع لا يخلو من إشكال. وتوضيحه: أنّه إن بنينا على بساطة المفهوم الاشتقاقيّ، وأنّه نفس الحدث، فتصوير الجامع غير معقول أصلاً؛ لأنّ مدلول كلمة «عالم» ليست الذات دخيلة فيه وإنّما مدلوله العلم، إلاّ أنّه اُخذ لا بشرط، ومن المعلوم: أنّ العلم غير محفوظ في المنقضي عنه المبدأ، ولا يعقل تطبيقه حقيقة عليه، فإنّه على أساس ثبوت نوع اتّحاد بينهما، ومع الانقضاء لا اتّحاد بينهما.

وأمّا إن بنينا على التركيب، فيمكن تصوير الجامع بأحد وجوه:

الأوّل: أن يقال: إنّ الجامع هو الذات في أحد الزمانين، أي: زمان التلبّس وزمان الانقضاء في مقابل زمان ما قبل التلبّس.

وهذا الجامع وإن كان في نفسه أمراً معقولاً، إلاّ أنّه يستلزم أخذ الجامع بين الزمانين في مفهوم المشتقّ، وقد فرغنا فيما سبق عن أنّ الزمان غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ، إذن فهذا الوجه باطل.

الثاني: أنّ الجامع هو الذات المتلبّسة بتلبّس قبل الجري أو بعده، أي: الذات المتلبّسة بتلبّس ليس بعد الجري. وهذا الجامع أيضاً غير صحيح؛ إذ اُخذت فيه المقارنة بين التلبّس والجري، فلوحظ فيه التلبّس غير المتأخّر عن الجري، أي: الجامع بين المقارن والسابق عليه. وقد فرغنا سابقاً عن أنّ التلبّس المأخوذ في المشتقّ غير مأخوذ فيه الجري، وإنّما المأخوذ فيه نفس التلبّس مطلقاً، والمشتقّ قد يستعمل ولا جري أصلاً: لا قبله ولا حينه ولا بعده، كما لو استعمل لفظ «عالم» وحده لا في جملة تامّة؛ فإنّ الجري من شؤون الجملة التامّة.