301

المقدّمة

9

 

 

 

 

 

 

الصحيح والأعمّ

 

 

 

○ الصحيح والأعمّ في العبادات.

○ الصحيح والأعمّ في المعاملات.

 

303

 

 

 

 

 

 

الأمر التاسع: في الصحيح والأعمّ.

وقع الكلام في أنّ الألفاظ الشرعيّة هل هي أسامي لخصوص الصحيح، أو للجامع بين الصحيح والفاسد؟

وبحثنا في ذلك يقع أوّلاً في باب العبادات ثُمّ في باب المعاملات:

 

الصحيح والأعمّ في العبادات

 

أمّا في باب العبادات فالكلام في ذلك يقع في جهات:

 

تصوير البحث بناءً على إنكار الحقيقة الشرعيّة

الجهة الاُولى: في إمكان تصوير هذا النزاع بناءً على إنكار الحقيقة الشرعيّة، وأنّ هذه الألفاظ كانت مجازات في معانيها الجديدة.

لا إشكال في أنّ هذا النزاع له مجال بناءً على الإيمان بالحقيقة الشرعيّة، وكذا لو أنكرنا الحقيقة الشرعيّة، ولكن قلنا: إنّ هذه الألفاظ كانت حقائق في هذه المعاني قبل الإسلام، فأيضاً يقال: هل هي حقائق في الصحيح، أو في الأعمّ؟

304

ولكن يقع الكلام في تصوير النزاع بنحو يكون كلّ من القولين دعوىً معقولة، ومحتملة في نفسها بناءً على كون تلك الألفاظ مجازات في المعاني الشرعيّة؛ إذ قد يقال: لا معنى للنزاع عندئذ، لا في تحديد المعنى الموضوع له؛ لأنّه لم يوضع اللفظ لا للصحيح ولا للأعمّ بحسب الفرض، ولا في تحديد المعنى المجازيّ؛ إذ لا إشكال في صحّة الاستعمال في الصحيح وفي الأعمّ والفاسد مجازاً، ومن هنا اتّجه البحث إلى تصوير صيغة معقولة للنزاع على هذا التقدير، والصيغ المتصوّرة في المقام عديدة:

منها: أنّ النزاع يكون في تعيين المجاز الأوّل الذي له علاقة بالمعنى الحقيقيّ مباشرةً، فيتعيّن حمل اللفظ عليه بعد العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقيّ ما لم تقم قرينة على صرفه عنه حتّى تصل النوبة إلى المجاز الثاني الذي يكون مناسباً للمجاز الأوّل.

وقد تخيّل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) أنّ مجرّد كون أحد المجازين هو ذو العلاقة مع المعنى الحقيقيّ مباشرة، وكون المجاز الآخر ذا علاقة مع المجاز الأوّل لا يكفي لتقديم الأوّل على الثاني، بل لابدّ من افتراض أنّ الشارع جعل القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ قرينة عامّة على إرادة المجاز الأوّل، فالمجاز الثاني هو الذي يحتاج إلى قرينة معيّنة، وإلاّ فإذا تعذّرت الحقيقة فلابدّ من المجاز، وكلاهما مجازان، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر من دون قرينة معيّنة.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ فإنّ نفس نكتة تقدّم المعنى الحقيقيّ على المعنى


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 34 ـ 35 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكينيّ.

305

المجازيّ توجب أيضاً تقدّم المعنى المجازي الأوّل على الثاني، فكأنّه تُخيّل أنّ تقديم المعنى الحقيقي وأصالة الحقيقة كان كتعبّد من قِبَل العقلاء، فحينما تتعذّر الحقيقة ينتفي ذاك التعبّد، ويكون كلا المجازين على حدّ واحد، بينما ليس الأمر كذلك، بل كان تقديم المعنى الحقيقيّ على المجازيّ على أساس أشدّيّة علاقته مع اللفظ وآكديّة قرنه معه، فكان هو الذي يتبادر إلى الذهن، وكان يجعل المعنى المجازيّ تحت الشعاع؛ لكون اقترانه باللفظ على أساس اقترانه بالمعنى المقترن باللفظ، فذاك اقتران بلا واسطة، وهذا اقتران بواسطة ذاك، فإنّما يتجلّى ظهور اللفظ في المعنى المجازي بعد فرض عدم إرادة المعنى الحقيقيّ، وكذلك الحال عيناً في المجازين الطوليّين؛ فإنّ المجاز الأوّل مقترن بالمعنى الحقيقيّ بلا واسطة، فيقترن باللفظ بواسطة المعنى الحقيقي، والمجاز الثاني يقترن بالمعنى الحقيقيّ بواسطة المجاز الأوّل، فيكون اقترانه باللفظ أقلّ وابتعاده أكثر، فلا محالة يصبح ظهور اللفظ في المجاز الثاني تحت الشعاع بالنسبة لظهوره في المجاز الأوّل بعد تعذّر الحقيقة، ولا يصار إليه إلاّ بقرينة خاصّة، ومع عدمها يكون اللفظ ظاهراً في المعنى المجازيّ الأوّل(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ اختلاف المجازات في الدرجة، وكون بعضها يجعل البعض الآخر تحت الشعاع ـ كما أنّ المعنى الحقيقيّ يجعل المعنى المجازيّ تحت الشعاع ـ يمكن أن يكون بأحد وجهين: إمّا بالبيان المذكور في المتن، من أنّ المجاز الأوّل كان ذا علاقة مع المعنى الحقيقيّ، والمجاز الثاني كان ذا علاقة مع المعنى المجازيّ، الأوّل، ويكون بابه باب سبك مجاز من مجاز، وإمّا ببيان: أن تكون علاقة كلا المجازين بالمعنى الحقيقيّ، إلاّ أنّ علاقة الأوّل به آكد من الثاني إلى حدّ يجعل الثاني تحت الشعاع.

ولكن يبدو لي من ظاهر عبارة الشيخ الآخوند(رحمه الله) في الكفاية أنّه لم يقصد شيئاً من

306

إلاّ أنّه مع ذلك لا تتمّ هذه الصيغة للنزاع في المقام؛ إذ لا يعقل فرض كون الأعمّ هو المناسب للمعنى الحقيقيّ مباشرة، وكون الصحيح أقلّ مناسبةً للمعنى الحقيقيّ، حتّى يكون الأعمّ هو المجاز الأوّل، والصحيح هو المجاز الثاني؛ فانّ الصحيح هو فرد من أفراد الأعمّ، وليست الخصوصيّة الموجودة فيه زيادة على الجامع أمراً يُبعّده عن الشبه والعلاقة مع المعنى الحقيقيّ، كما أنّ كثيراً من الأفراد الفاسدة أيضاً ليست أقلّ شبهاً وعلاقةً بالمعنى الحقيقيّ من الصحيح، حتّى يفرض الصحيح هو المجاز الأوّل، والأعمّ هو المجاز الثاني.

ومنها: ما تصوّره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) من فرض: أنّ الصحيحيّ يقول: إنّ اللفظ دائماً يستعمل في الصحيح، وحينما يقصد الأعمّ فالمتكلّم يعمل عناية عقليّة في تنزيل الفاسد منزلة الصحيح، والأعمّيّ يقول: إنّه يستعمل دائماً في الجامع، وحينما يراد خصوص الصحيح يفهّم ذلك بنحو تعدّد الدالّ والمدلول بأن تفهم


الأمرين، بأن يكون المجازان طوليّين في حدّ ذاتهما، بل قصد افتراض: أنّ الشارع هو الذي تعمّد لحاظ العلاقة بأحد المجازين دون الآخر رغم تساويهما ذاتاً في العلاقة بالمعنى الحقيقيّ. أمّا حينما يستعمله في المجاز الثاني، فإنّما يستعمله فيه بمناسبة المجاز الأوّل وبتبعه، ولهذا أورد عليه بأنّ القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ لا تكفي لتعيين ما هو ذو العلاقة الملحوظة للشارع، بل لابدّ من نصب قرينة اُخرى تعيّن ذا العلاقة الملحوظة، وأنّى لهم بإثبات ذلك؟!

ولعلّ الوجه في عدوله عن فرض الطوليّة بين المجازين في ذاتهما إلى فرض تعمّد الشارع للحاظ العلاقة بأحدهما دون الآخر هو التفاته إلى ما بيّنه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المتن، من نفي الطوليّة بين الصحيح والأعمّ في كيفيّة العلاقة بالمعنى الحقيقيّ.

(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 48 ـ 49.

307

الخصوصيّة بالقرينة، من قبيل: استعمال «الإنسان» في حصّة خاصّة بتعدّد الدالّ والمدلول، وعلى هذا يتوصّل المتنازعان إلى الثمرة المقصودة، وهي حمل الكلام على الصحيح أو الأعمّ عند عدم القرينة، فالصحيحيّ يحمله على الصحيح؛ لأنّ حمله على الأعمّ يحتاج إلى عناية زائدة، وهي التنزيل العقلي، والأعمّيّ يحمله على الأعمّ؛ لأنّ حمله على الصحيح يحتاج إلى عناية زائدة، وهي الإتيان بقيد آخر دالّ على الخصوصيّة، ولا يوجد حسب الفرض.

وهذه الصيغة أيضاً غير صحيحة، بمعنى: أنّه من البعيد أن يدّعي المتنازعان هاتين الدعويين: إمّا على الأعمّ، فما ذكر من افتراض استعمال اللفظ في الجامع، وتفهيم الخصوصيّة بدالّ آخر وإن كان عقلائيّاً في أسماء الأجناس، من قبيل: الإنسان والحيوان، لكنّه ليس عقلائيّاً في خصوص المقام؛ وذلك لأنّ الدافع العقلائيّ في أسماء الأجناس للعدول عن الاستعمال في الحصّة إلى الاستعمال في الأعمّ مع الإتيان بقرينة دالّة على الخصوصيّة هو التخلّص من المجاز، وأن يكون اسم الجنس مستعملاً في نفس ما وضع له. وأمّا في المقام، فنسبة اللفظ إلى الصحيح والأعمّ بعد عدم كونه حقيقة في شيء منهما على حدّ سواء، فالتقيّد والالتزام بالعدول من استعماله رأساً في الحصّة الخاصّة، وهي الصحيح إلى الاستعمال في الجامع مع القرينة على الخصوصيّة ليس عقلائيّاً. وأمّا على الصحيح، فأيضاً لا ينبغي فرض الاستعمال في الصحيح دائماً، وتنزيل الفاسد منزلته؛ فإنّ خلافه واضح، ونسبة اللفظ إلى الصحيح والأعمّ بعد عدم كونه حقيقة في شيء منهما على حدّ سواء، فأيّ حاجة إلى هذا التنزيل العقليّ؟! وفي مثل قولنا: «الصلاة إمّا صحيحة وإمّا فاسدة» كيف لم تستعمل الصلاة في الجامع؟ وكيف يفرض أنّه نزّلت الفاسدة منزلة الصحيحة، مع أنّ ذلك

308

خلف التقسيم؟!

ومنها: أن يقال: إنّ المنكر للحقيقة الشرعيّة في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله) إن كان يؤمن بأنّ تلك الألفاظ صارت حقائق في زمن الأئمّة(عليهم السلام) أو بعدهم في معانيها الشرعيّة، إذن أمكن النزاع بلحاظ ذاك المعنى الحقيقيّ، وبالتالي قد يحدس أنّ ذاك المعنى الحقيقيّ من الصحيح أو الأعمّ كان هو الذي يراد بالقرينة العامّة؛ ولذا صار بالتدريج حقيقة، وأمّا المعنى الآخر فكان بحاجة إلى قرينة اُخرى خاصّة تعيّنه. وإن كان لا يؤمن حتّى بهذا، إذن فلابدّ من افتراض: أنّ استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني الجديدة يكون على أساس قرينة عامّة تصرف تلك الألفاظ من معانيها الأصليّة إلى معانيها الجديدة، فينفتح باب ما جاء في الكفاية في تصوير النزاع على مذهب الباقلاّنيّ، من أنّ النزاع يكون في مفاد تلك القرينة العامّة، فهل يكون مفادها هو الأعمّ، وقصد خصوصيّة الصحيح يحتاج إلى قرينة خاصّة تدلّ عليه، أو يكون مفادها هو الصحيح، وقصد الأعمّ يحتاج إلى قرينة خاصّة معيّنة لذلك؟

وقد يتخيّل أنّ هذا النزاع يكون بلا مدرك، فيكون غير عقلائيّ؛ إذ من الذي أخبر الأعمّيّ بأنّ مفاد تلك القرينة العامّة هو الأعمّ، أو الصحيحيّ بأنّ مفادها هو الصحيح؟!

إلاّ أنّ هذا التوهّم غير صحيح؛ لأنّ هناك وسيلة لإثبات المدّعى، وهو التبادر، فحينما يؤتى بلفظ «الصلاة» وتنصب القرينة على عدم إرادة المعنى اللغويّ، نرى ما هو المتبادر: هل هو الأعمّ أو الصحيح؟ فأ يّهما كان متبادراً عرفنا أنّه هو مفاد القرينة العامّة؛ فإنّك عرفت أنّ التبادر يكون معلولاً لأحد أمرين: الوضع والقرينة، فمتى ما انتفى أحدهما كان التبادر دليلاً إنّيّاً على الآخر، فكما أنّ التبادر مع عدم

309

القرينة دليل الوضع كذلك التبادر مع عدم الوضع دليل القرينة(1).

 

تحقيق حال الصحّة في عنوان المسألة

الجهة الثانية: في تحقيق حال الصحّة المأخوذة في عنوان المسألة.

وهنا يقع الكلام في عدّة مقامات:

 

تفسير الصحّة:

المقام الأوّل: في تفسير الصحّة. فكأنّه قيل تارةً: إنّها عبارة عن موافقة الأمر، واُخرى: إنّها عبارة عن موافقة الغرض، وثالثة: إنّها عبارة عن إسقاط الإعادة والقضاء.

وقد ذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(3): أنّ هذه التفسيرات تفسيرات باللوازم، وأنّ حاقّ معناها ليس هو هذه الاُمور، بل هو التماميّة في مقابل النقصان، ومن أجل هذا لا تتعقّل الصحّة إلاّ في المركّبات التي لها أجزاء وشرائط، فإنّها هي التي تكون تامّة تارة، وناقصة اُخرى، دون البسيط


(1) لا يخفى: أنّ النتيجة النهائيّة التي انتهينا إليها في المتن تقترب أو ترجع إلى ما فهمناه نحن من كلام الآخوند(رحمه الله) من افتراض: أنّ أحد المجازين كان هو المختار للشارع الأقدس في استعمال اللفظ مجازاً فيه، مع الإجابة على الاعتراض الوارد في كلامه عليه ـ من أنّ هذا بحاجة إلى قرينة معيّنة، وأنّى لهم بإثبات ذلك ـ بدعوى التبادر فإنّ التبادر كما يثبت الوضع لدى فرض العلم بعدم القرينة كذلك يثبت القرينة مع فرض العلم بعدم الوضع.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 135 ـ 137.

(3) الكفاية، ج 1، ص 35 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكينيّ.

310

الذي ليس له جزء وشرط. والمراد بالتماميّة والنقصان هو التماميّة والنقصان بلحاظ ذات الشيء، أي: استجماعه للأجزاء والشرائط، وعدم استجماعه لها. وأمّا موافقة الأمر، أو الغرض، أو إسقاط القضاء والإعادة، فهي شؤون التماميّة ولوازمها، لا مقوّماتها.

وهذا الكلام لنا حوله تعليقان:

الأوّل: أنّ الصحّة والفساد بحسب الدقّة ليسا بمعنى التماميّة والنقصان، بل بمعنى الواجديّة للخصوصيّة الملحوظة المطلوبة والمرغوبة في الشيء وعدم واجديّته؛ ولهذا توصف البسائط عرفاً بذلك، فيقال عن التفكير البسيط: إنّه صحيح أو فاسد، وذلك بلحاظ واجديّته للجهة المطلوبة، وهي الإيصال إلى الواقع وعدم واجديّته لها، فما نرى من صحّة نسبة الصحّة والفساد إلى البسائط دليل على أنّ مفادهما ليس هو التماميّة والنقصان، بل الوجدان للجهة المطلوبة وعدمه. نعم، هذا الوجدان وعدمه في المركّبات يكون بالتماميّة والنقصان.

الثاني: أنّ الصحّة ـ سواء كان معناها الواجديّة أو التماميّة ـ لا معنى لأن يقال: إنّ معناها الواجديّة أو التماميّة بلحاظ أجزاء وشرائط الشيء نفسه، بل إنّ التماميّة فضلاً عن الواجديّة دائماً تلحظ بلحاظ شيء آخر، فدائماً نحتاج إلى شيء آخر نجعله مقياساً في مقام فرض هذا صحيحاً أو فاسداً، وأمّا إذا لاحظنا الشيء في نفسه، فكلّ شيء في العالم واجد لتمام أجزائه وشرائطه، ويستحيل عليه النقصان وعدم التماميّة من هذه الناحية؛ فإنّ الشيء ـ لا محالة ـ واجد لذاته، وذاته عبارة عن كلّ أجزائه وشرائطه، فالمسطرة مثلاً تامّة دائماً في نفسها، لكن بالقياس إلى مقياس مصمّم قد تكون تامّة وقد تكون ناقصة، إذن ففي المقام ليس الاتّصاف بالصحّة والفساد كما تصوّروه وصفاً ذاتيّاً يلحظ بلحاظ ذات الشيء دون أن

311

يضاف إلى الشيء الآخر. وعليه، فما يضاف إليه ليكون مقياساً لصحّته وفساده هو أحد هذه العناوين، أعني: إسقاط القضاء والإعادة، أو موافقة الأمر، أو موافقة الغرض. وهذا معنى ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ التماميّة تتحصّل بهذه العناوين(1).

ولا وجه لإيراد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عليه بدعوى: أنّ المقصود: التماميّة بلحاظ الأجزاء والشرائط، لا بمعنى موافقة الأمر، أو الغرض، أو إسقاط الإعادة والقضاء(2).

 


(1) نهاية الدراية ج 1 ص 50 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 135 ـ 136.

والموجود في المحاضرات في المقام بنصّه ما يلي:

«والظاهر: أنّه وقع الخلط في كلامه(قدس سره) ـ يعني كلام الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) ـ بين تماميّة الشيء في نفسه، أعني بها تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء، فإنّه لا واقع لهذه التماميّة مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم، أو وقع الخلط بين واقع التماميّة وعنوانها، فإنّ عنوان التماميّة عنوان انتزاعيّ منتزع عن الشيء باعتبار أثره، فحيثيّة ترتّب الآثار من متمّمات حقيقة ذلك العنوان، ولا واقع له إلاّ الواقعيّة من حيث ترتّب الآثار، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام، فإنّ كلمة «الصلاة» مثلاً لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه، وهو الأجزاء والشرائط، ومن الظاهر: أنّ حيثيّة ترتّب الآثار ليست من متمّمات حقيقة تماميّة هذه الأجزاء والشرائط».

أقول: إنّ الخلط الأوّل المفروض الذي أشار إليه متن المحاضرات، وهو الخلط بين تماميّة الشيء في نفسه وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال يوحي إلى الذهن بما فهمه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من كلام السيّد الخوئيّ، من أنّه يرى التماميّة والنقصان أمرين يمكن انتسابهما إلى ذات الشيء لا بلحاظ مقياس آخر، وعندئذ يرد عليه ما أورده اُستاذنا

312


الشهيد من أنّ الشيء دائماً يكون واجداً لذاته، فكلّ شيء هو تامّ بلحاظ ذاته، ولا معنى لفرض النقصان فيه.

ولكن الخلط الثاني الذي جاء فرضه في عبارة المحاضرات، وهو الخلط بين واقع التمام وعنوان التماميّة، فهو يوحي إلى الذهن بأنّ مقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لم يكن ما مضى ذكره، بل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) وقع هو في الخلط بين مبحث: أنّ «الصلاة» مثلاً ـ بناءً على القول بالصحيح ـ هل هو اسم لواقع التمام، أي: لمنشأ انتزاع عناوين موافقة الأمر، أو الغرض، أو المسقطيّة للقضاء والإعادة؟ أو أنّ هذه العناوين المنتزعة داخلة في المسمّى، وبين مبحث تفسير الصحّة والفساد؟ فما ذكره الشيخ الإصفهانيّ(قدس سره) من دخول هذه الاُمور وعدمها في هويّة الصحّة والفساد راجع إلى تفسير عنوان الصحّة والفساد، وما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّنا يجب أن ننظر إلى واقع التمام لا إلى عنوان التماميّة يناسب أن يكون بياناً للمسمّى، واستظهاراً لكون الاسم اسماً لواقع التمام، من دون دخل عنوان التماميّة في المسمّى.

هذا، ولا يخفى: أنّ ما ذكره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أنّ الصحّة والفساد لا يتصوّران في البسيط؛ إذ ليست له أجزاء وشرائط حتّى تتمّ التماميّة والنقصان إنّما يناسب كون مقصوده(رحمه الله) ما فهمه اُستاذنا الشهيد(قدس سره) من كلامه، من افتراض تماميّة ونقصان للشيء بلحاظ ذاته في مقابل التماميّة والنقصان بلحاظ مقياس آخر. وهذا هو الذي قلنا: إنّ عبارته في ذكر الخلط الأوّل لو فصلت عن عبارته في ذكر الخلط الثاني توحي به؛ إذ لو لم يكن المقصود ذلك، وفرضنا أنّه كان ملتفتاً إلى أنّ الصحّة والفساد دائماً يلحظان بلحاظ مقياس آخر، لم يكن وجه لحصر معنى الصحّة والفساد في التماميّة والنقصان بالمعنى الذي لا يتصوّر إلاّ في المركّب دون البسيط.

وعلى أيّة حال، فالكلام الوارد في المحاضرات لا يخلو من تشويش.

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) حينما ذكر: أنّ حيثيّة إسقاط

313

هل يؤخذ العنوان الانتزاعيّ في معنى الصحيح؟

المقام الثاني: أنّ هذه العناوين الثلاثة ـ أعني: موافقة الأمر أو موافقة الغرض أو إسقاط القضاء والإعادة ـ اُمور منتزعة عن معنوناتها، وهي الواجد لكذا مقدار من الاُمور والخصوصيّات، فالقائل بالصحيح يحتمل في حقّه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد هو الوضع لمنشأ انتزاع هذه العناوين، وهو الفعل الذي يكون بحيث ينتزع عنه عنوان موافقة الأمر، أو الغرض، أو إسقاط القضاء والإعادة، فهذه العناوين معرّفة ومشيرة إلى ذات الشيء. وهذا الاحتمال


القضاء، أو موافقة الأمر، أو تماميّة الأثر مقوّمات للتماميّة، فلا يمكن أن تكون من لوازمها، أمر بالتدبّر، ثُمّ فسّر هو(رحمه الله) تحت الخطّ أمره بالتدبّر بأنّه إشارة إلى أنّ اللازم إن كان من لوازم الوجود صحّ ما ذكر من أنّ كون الشيء مقوّماً لشيء مع كونه لازماً له لا يجتمعان. وأمّا إن كان من لوازم الماهية وأعراضها فلا بأس بصدق الأمرين معاً، كما هو الحال في الفصل بالإضافة إلى الجنس، فإنّه عرض خاصّ له، مع أنّ تحصّل الجنس بتحصّله.

وأورد عليه السيّد الخوئيّ(رحمه الله) (على ما في المحاضرات، ج 1، ص 136) بأنّ اللازم للشيء لا يعقل أن يكون مقوّماً له، سواء كان ذلك بلحاظ عالم الوجود أو بلحاظ عالم الماهية، وماهية الفصل بما هي من لوازم ماهية الجنس لا يعقل أن تكون من متمّماتها بالضرورة. نعم، الفصل بحسب وجوده محصّل لوجود الجنس ومحقّق له، ولكنّه بهذا الاعتبار ليس لازماً له. فهذا الكلام من الشيخ الإصفهانيّ(قدس سره) خلط بين عالم التقرّر الماهويّ وعالم الوجود الخارجيّ.

أقول: الظاهر: إنّ الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) يقصد أنّ الفصل محصِّل للجنس، سواء في عالم الوجود أو في عالم التقرّر الماهويّ، غاية ما هناك أنّه بحسب التحليل العقليّ ينفصل عنه، فيعتبر لازماً له.

314

هو الاحتمال الذي نعقد البحث على أساسه.

الاحتمال الثاني: أن يقصد إدخال أحد هذه العناوين بنفسه في المسمّى.

ولا يخفى: أنّنا لو قصرنا النظر على عالم التسمية والوضع، كان أخذ أحد هذه العناوين في المسمّى ممكناً ومعقولاً، ولكنّنا يجب أن نفترض مسمّىً يعقل تعلّق الأمر به، فإنّ الشارع وضع لفظ «الصلاة» مثلاً لمعنىً استطراقاً إلى الأمر به، فإن لم يعقل ذلك لا تصحّ التسمية. وعليه، فنقول: إنّ عنوان موافقة الأمر والمسقطيّة للإعادة والقضاء لا ينتزعان من الفعل إلاّ في طول ثبوت الأمر، فلا يعقل تعلّق الأمر بهما. نعم، عنوان محصّليّة الغرض ليس في طول الأمر، وإنّما هو في طول الغرض، فيعقل تعلّق الأمر به، فيعقل أن يكون هو المسمّى(1)، إذن فالقائل بالصحيح مدعوّ إلى أن يصوّر سنخ مسمّىً يعقل تعلّق الأمر به، وذلك إمّا بأن يختار الاحتمال الأوّل، أو يختار عنوان محصّل للغرض.

 

هل تراد الصحّة بلحاظ جميع الأجزاء والشرائط؟

المقام الثالث: أنّ الصحّة لها حيثيّات عديدة، فلا تكون الصلاة صحيحة على الإطلاق، إلاّ إذا حفظت فيها الأجزاء والشرائط، وقصد القربة، والقيود اللبّيّة، كعدم النهي، وعدم المزاحم على تقدير ما إذا كان المزاحم مخلاًّ بصحّة المأمور به عقلاً، فهل يشترط القائل بالصحيح في المسمّى تمام هذه الحيثيّات، أو يشترط الصحّة بلحاظ بعضها؟


(1) ولكنّه بعيد؛ إذ لو كان كذلك للزم الإحساس بمؤونة التجريد في موارد نسبة الآثار المطلوبة إلى الصلاة مثلاً، من قبيل: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾(سورة العنكبوت، الآية: 45)، كي لا ترجع إلى القضيّة بشرط المحمول.

315

أمّا الأجزاء، فلا إشكال في كونها منظورة للقائل بالصحيح.

وأمّا الشرائط، فالظاهر: أنّ الأمر فيها أيضاً كذلك؛ فإنّه أيضاً يعتبرها مقوّمة للمسمّى كالأجزاء، إلاّ أنّ مقوّميّة كلّ شيء بحسبه، ففي الجزء تكون بدخول القيد، وفي الشرط تكون بدخول التقيّد مع خروج القيد.

ونقل السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) عن تقرير الشيخ الأعظم(رحمه الله) اشكالاً وهو: أنّه لا يعقل دخل الشرائط في عرض دخل الأجزاء؛ لأنّ الأجزاء مرتبتها مرتبة المقتضي، والشرائط شرائط لتأثير المقتضي والمقتضي مع الشرط طوليّان وفي مرتبتين، فكيف يعقل أخذهما معاً في المسمّى؟!

وأجاب السيّد الاُستاذ عن ذلك بأنّه وإن كانا طوليّين، ولكن أيّ محذور في وضع لفظ واحد لمجموع أمرين طوليّين، كأن يسمّى مجموع الأب والابن باسم واحد؟

أقول: إنّ فرض الطوليّة هنا غريب منهما، فكأنّهما تخيّلا أنّ المقتضي والشرط بينهما طوليّة، وأنّ الشرط في طول المقتضي، فوقع الكلام في أنّه: هل يعقل الجمع بينهما، أو لا؟ بينما لا طوليّة بين ذات المقتضي والشرط، وإنّما هنا نحو ترتّب بين تأثيرهما، حيث إنّ المقتضي يكون تأثيره بأن يخرج من أحشائه المقتضى، وسنخ تأثير الشرط هو مساعدة المقتضي في هذا التأثير بتتميم فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل.

وأمّا قصد القربة(2)، فإن قيل: إنّه لا يعقل أخذه في متعلّق الأمر، فلا ينبغي أن يقال بدخله في المسمّى؛ لما عرفت من أنّ الصحيحي مدعوّ إلى تصوّر مسمّىً


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 137 ـ 138 بحسب طبعة مطبعة النجف.

(2) ونحوه قصد الوجه.

316

يمكن الأمر به؛ لأنّ التسمية استطراق للأمر. وإن قيل بالمعقوليّة فلا بأس بدخله فيه.

وأمّا الشروط اللبّيّة، فعدم المزاحم، أو عدم النهي تارةً يضاف إلى المسمّى، فيقال: عدم المزاحم للصلاة، أو عدم النهي عن الصلاة، ففرض ذلك هو فرض تماميّة الصلاة في مرتبة سابقة، فلا يعقل دخله في المسمّى، واُخرى يضاف إلى ذوات الأجزاء، كفاتحة الكتاب والركوع والسجود، لا إلى المسمّى بما هو مسمّىً، وعندئذ من المعقول دخله في المسمّى.

 

تصوير الجامع

الجهة الثالثة: في تصوير الجامع على الصحيح تارةً وعلى الأعمّ اُخرى، ففيه مقامان:

 

تصوير الجامع على الصحيح:

المقام الأوّل: في تصوير الجامع على الصحيح، فقد يستشكل في إمكانه، وهذا الإشكال صياغته الفنّيّة أن يقال: إنّ احتمال الجامع لا يخرج من احتمالات خمسة، وكلّها غير معقولة:

1 ـ أن يكون جامعاً تركيبيّاً، كالفعل المشتمل على الفاتحة والركوع والسجود وغير ذلك. وهذا غير معقول؛ لأنّ أيّ مركّب نفرضه قد يتّصف بالصحّة وقد يتّصف بالفساد حسب اختلاف الأحوال والخصوصيّات.

2 ـ أن يكون الجامع عنواناً بسيطاً منطبقاً على الصلوات الخارجيّة الصحيحة انطباق الذاتيّ على فرده على حدّ انطباق الإنسان على زيد وخالد وغيرهما من

317

أفراد الإنسان. وهذا أيضاً غير معقول لأنّنا نسأل: هل الفرد من الصحيح يكون مصداقاً للجامع الذاتيّ بعد فرض طروء نوع وحدة عرضيّة، أو اعتباريّة عليها، أو يكون مصداقاً له بدون هذا الفرض؟

فإن قيل بالثاني، فهو غير معقول؛ إذ يستحيل أن يكون الكثير بما هو كثير مصداقاً لذلك البسيط بما هو بسيط. وإن قيل بالأوّل، فهو أيضاً غير معقول؛ لأنّه خلف؛ لأنّ معنى ذلك: أنّه ليس مصداقاً بالذات لذاك الجامع، بل هو مصداق بالعرض له؛ إذ يجب أن يكتسب وحدة من الخارج ليصير مصداقاً له، فالجامع عرضيّ.

3 ـ أن يكون جامعاً بسيطاً، لكنّه ليس ذاتيّاً بالمعنى المصطلح في كتاب الكلّيّات كما كان في الاحتمال الثاني، بل هو أمر انتزاعيّ، ولكنّه من لوازم الماهية، وهو المسمّى عندهم بالذاتي في كتاب البرهان، فنسبته إلى الأفراد كنسبة عنوان الزوج إلى الأربعة، فإنّه ليس ذاتيّاً كذاتيّة الإنسان لزيد وعمرو، لكنّه من لوازم ماهية الأربعة، وكذلك الإمكان بالنسبة للإنسان، فإنّه عنوان بسيط انتزاعيّ ذاتيّ بمعنى الذاتيّ في كتاب البرهان، لا بمعنى كونه جنساً له، أو فصلاً، أو نوعاً. وهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ لازم الماهية معلول بمعنىً من المعاني لتلك الماهية، وفي المقام حيث إنّ الصلاة مركّبة من أجزاء متعدّدة، فلو كان هناك أمر بسيط يكون لازماً ذاتيّاً لهذه الصلاة، لزم أن يكون معلولاً لمجموعها، فتلزم معلوليّة البسيط للمركّب، وهذا مستحيل(1).

 


(1) قد تقول: كيف تفترض استحالة ثبوت لازم ذاتيّ بسيط للماهية المركّبة، مع أنّ الإمكان مثلاً ذاتيّ لجميع الماهيات حتّى المركّبات كجسم الإنسان مثلاً؟

ويمكن الجواب على ذلك: بأنّ المفروض في المقام كون ذاك العنوان البسيط لازماً


318

4 ـ أن يكون جامعاً انتزاعيّاً بسيطاً، ولا يكون من لوازم الماهيّة، بل يكون منتزعاً عن الصلاة، لا بلحاظ ذاتها، بل بلحاظ جهة عرضيّة قائمة بها، من قبيل: عنوان الأبيض، أو الفوق المنتزع من الشيء بلحاظ جهة عرضيّة كالبياض، أو إضافته إلى الأرض الواقعة تحته. وهذا أيضاً ساقط؛ لأنّ لازمه: أنّ هذا الفرد من الصلاة الذي بدأ بالتكبيرة وانتهى بالتسليم لا يستحقّ اسم الصلاة، إلاّ في مرتبة تلك الجهة العرضيّة، من قبيل: عنوان الأبيض والفوق، فإنّه في مرتبة عروض البياض يقال: أبيض، وفي مرتبة الإضافة إلى الأرض يقال: فوق، لا قبل هذا، فيكون استحقاقه للاسم في مرتبة متأخّرة عن ذاته، مع أنّه من المعلوم ـ بحسب ارتكاز المتشرّعة الذي هو المحكّم في أسماء هذه العبادات ـ أنّ هذا العمل الذي يبدأ بالتكبير وينتهي بالتسليم بما هو هو صلاة لا بلحاظ إضافة جهة عرضيّة من الخارج إليه.

5 ـ أن يكون هذا الجامع جامعاً بسيطاً اعتباريّاً من العناوين التي يخيطها الذهن البشري، ويُلبسها على ما في الخارج عند ضيق خناقه في مقام التعبير عمّا في الخارج، وهو عبارة عن عنوان «أحدها»، حيث إنّ الذهن يريد أحياناً أن يعبّر عن أشياء عديدة بجامع بينها؛ بسبب أنّه لا يريد أن يخصّص أحدها المعيّن


ذاتيّاً للمركّب، فلا توجد لدينا صلاة صحيحة ينحصر عملها في أمر بسيط، والمفروض: أنّ ذاك اللازم جامع مانع، إذن ليس لازماً لأمر بسيط وإنّما هو لازم للمركّب بما هو مركّب. وهذا هو الذي ادّعينا استحالته. وأمّا الإمكان فليس لازماً للمركّب بما هو مركّب، وإنّما هو منتزع من مطلق الماهيات، أو مطلق ما ليس واجب الوجوب.

وإن شئت فعبّر بأنّ الإمكان لازم منبسط في لزومه على كلّ أجزاء المركّب لا متقوّم بالمجموع، فقياس المقام به قياس مع الفارق.

319

بالحكم؛ لأنّ الباقي مثله، ولا يريد أن يثبّت الحكم عليها جميعاً بنحو الاستغراق والشمول، فينتزع عنوان «أحدها»، ففي ما نحن فيه نفترض أنّ الصلوات على اختلاف أشكالها ننتزع جامعاً لها، وهو عنوان «أحدها»، ونسمّي هذا الجامع بالصلاة.

وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنّ عنوان «أحدها» لا يصلح أن يكون موضوعاً لحكم شموليّ واستغراقيّ، بينما كلمة «الصلاة» كما قد يحكم عليها بالمطلق البدليّ كذلك قد يحكم عليها بالمطلق الشموليّ، من قبيل: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾(1) وبكلمة اُخرى: أنّ مفهوم الصلاة لم تؤخذ فيه البدليّة، بل هو سنخ مفهوم حياديّ تجاه البدليّة والشموليّة، فلابدّ من تصوير جامع حياديّ تجاههما، وعنوان «أحدها» يشتمل على البدليّة(2).

هذه هي الصيغة الفنّيّة في مقام تقرير إبطال الجامع، وهناك تخلّصات عنها،


(1) سورة العنكبوت، الآية: 45.

(2) لا يخفى: أنّ البدليّة ليست من لوازم كلّ عنوان انتزاعيّ يخيطه الذهن للإشارة إلى ما في الخارج، فلو أنّ واضع اللغة أخذ قيد البدليّة في مفهوم «أحدها» كما أخذ قيد البدليّة في التنوين الداخل على مثل كلمة «العالم» في مثل «أكرم عالماً» مثلاً، فهذا لا يعني أنّه لا يمكن للواضع أن يضع كلمة لعنوان انتزاعيّ يخيطه الذهن (لا بمعنى الخياطة الخياليّة البحت من قبيل بحر من زئبق) لإلباسه على ما في الخارج من دون إشرابه بمفهوم البدليّة، فمثلاً لو بُدّلت كلمة «أحدها» بكلمة الفرد منها، نرى أنّها تصلح للحكم عليه بحكم شمولي، فلو قيل: الفرد من هذه العبادات المخصوصة ينهى عن الفحشاء والمنكر، يصحّ قصد الشمول بذلك، وعليه فالمدّعى في المقام: أنّ كلمة «الصلاة» مثلاً موضوعة لمعنىً من هذا القبيل، وهذا جامع انتزاعيّ غير ذاتيّ، ولم تلحظ فيه البدليّة، ولم يلحظ فيه عَرَض خارجيّ بالمعنى الذي يخالف الارتكاز القائل بأنّ هذه الأسماء أسماء لذوات العبادات لا بلحاظ مرتبة أمر عرضيّ خارجيّ يعرض عليه.

320

أهمّها تخلّصان:

التخلّص الأوّل: هو الوجه المختار، وهو: أنّ الجامع جامع تركيبي، وكان الإشكال في ذلك هو: أنّ أيّ مركّب نفرضه قد يتّصف بالصحّة وقد يتّصف بالفساد، وليس صحيحاً دائماً ومحفوظاً في كلّ الأفراد. وبكلمة اُخرى: أنّ كلّ جزء من الأجزاء لو أخذناه في المسمّى أخرجنا الصحيح الفاقد له، ولو لم نأخذه فيه أدخلنا الصلاة التي بطلت بفقده.

وهذا الإشكال في المورد الذي يتخيّل وروده في بادئ النظر يمكن دفعه بالتأمّل، وتوضيح ذلك:

أنّنا يمكننا بهذا الصدد تقسيم أجزاء الصلاة وشرائطها إلى خمسة أقسام:

1 ـ ما يكون ركناً دخيلاً على الإطلاق بحيث لا يتصوّر الصحّة بدونه، كقصد القربة، وإسلام المصلّي. وفي هذا القسم لا تتطرّق العويصة من أساسها، فإنّه لا يلزم من أخذه في المسمّى أيّ محذور؛ لأنّه كلّما انعدم انعدمت الصحّة بلا استثناء، فلا يلزم من أخذه إخراج ما هو الصحيح.

2 ـ أن يكون للجزء أو الشرط بدل عرضيّ تخييريّ، من قبيل: الفاتحة والتسبيحات مثلاً في الأخيرتين، أو الغسل والوضوء بناءً على أنّ كلّ غسل يغني عن الوضوء، وفي مثل هذا أيضاً لا ينبغي الإشكال؛ فإنّه يظهر بأدنى التفات أنّه هنا لا يؤخذ البدل بالخصوص، أو المبدل بالخصوص في المسمّى حتّى يخرج بذلك الصحيح الفاقد له، بل يؤخذ الجامع بين البدل والمبدل، أعني: عنوان «أحدهما»، ولا محذور في ذلك؛ لأنّ واجد الجامع صحيح دائماً، وفاقده بعد فرض الركنيّة باطل دائماً.

3 ـ أن يفرض له بدل عرضيّ، إلاّ أنّه ليس تخييريّاً، بل كلّ من البدل والمبدل

321

مخصوص بحالة معيّنة، كالغسل والوضوء بناءً على أنّ الغسل وظيفة المحدث بالأكبر، والوضوء وظيفة المحدث بالأصغر، وكعدد التثنية للمسافر والتربيع للحاضر. ومن هنا تبدأ العويصة، فنقول: إنّ هذا الجامع لو اُخذ فيه البدل خاصّة، لزم خروج الصلاة الصحيحة المشتملة على المبدل دون البدل. ولو اُخذ فيه المبدل خاصّة، لزم خروج الصلاة الصحيحة المشتملة على البدل دون المبدل. ولو اُخذ الجامع، لزمت صحّة كلتا الصلاتين في كلا الحالتين، مع أنّ كلاًّ من الصلاتين صحيحة في حال وباطلة في حال اُخرى.

والحلّ هو: أنّنا لا نأخذ الجامع بينهما على الإطلاق، بل نأخذ الجامع بين هذا في حاله وذاك في حاله، أي: الجامع بين التثنية في السفر والتربيع في الحضر، أو بين الوضوء عند الحدث الأصغر فحسب والغسل عند الحدث الأكبر، وهكذا، فينطبق المسمّى عندئذ على صلاة من اختار أحد الأمرين في محلّه، ولا ينطبق على صلاة من اختار أحدهما في غير محلّه.

4 ـ أن يكون له بدل طوليّ، أي: عند تعذّر المبدل، من قبيل: التيمّم مع الوضوء. والحلّ في ذلك هو عين الحلّ في الصورة السابقة، أي: أنّه يؤخذ الجامع بين الوضوء عند القدرة عليه والتيمّم عند العجز، وكذلك الحال في الفاتحة مع إشارة الأخرس، والركوع القياميّ مع الجلوس أو الإيمائيّ.

5 ـ أنّ هذا الجزء أو الشرط كان بنحو تصحّ الصلاة بدونه أحياناً بلا بدل، كما هو الحال في سقوط البسملة للتقيّة مثلاً، فهنا يكون التخلّص من العويصة أشكل؛ إذ فيما سبق كنّا نأخذ الجامع بين البدلين العرضيّين، أو الطوليّين، أمّا هنا فلا بدل في البين. فلو أخذنا البسملة مثلاً في الصلاة لزم خروج الصلاة الصحيحة بلا بسملة عند التقيّة، ولو أخذنا الجامع بين البسملة وحالة التقيّة لم يصحّ ذلك؛ لأنّ حالة

322

التقيّة أمر خارجيّ تكوينيّ لا فعل من أفعال المكلّف حتّى يعقل كونه عدلاً لما هو دخيل في الصلاة. ويمكن التخلّص عن ذلك بإحدى صيغتين:

الاُولى: أن يبدّل فرض أخذ جانب الوجود من الجزء أو الشرط في المسمّى بالالتفات إلى جانب العدم والفقدان، فيقال: إنّ هذا الجامع التركيبيّ مقيّد بأن لا يكون فاقداً فقداً اختياريّاً للبسملة، فهذا جامع مانع؛ إذ من يترك عمداً لا يصدق على صلاته عدم الفاقديّة فقداً اختياريّاً، فتبطل صلاته، ومن يترك عند التقيّة، أو يبسمل عند عدم التقيّة يصدق على صلاته عدم فقدان البسملة فقداً اختياريّاً، فالإشكال إنّما كان ناشئاً من أنّهم قصروا النظر على جانب الوجود، فوجود الجزء: إمّا أن يؤخذ في الجامع، فيخرج الفاقد الصحيح، أو لا يؤخذ، فيدخل الفاقد الباطل، بينما يمكننا أن ننتقل من جانب الوجود إلى جانب العدم، والعدم يتحصّص بعدد الحالات، فنقيّد الجامع بنفي تلك الأعدام التي تكون الصلاة عندها باطلة، ولا نقيّده بغير تلك الأعدام، فيكون جامعاً مانعاً.

الثانية: أن يقال: إنّنا أيضاً نطبّق فكرة الجامع كما طبّقناها في الأقسام السابقة، وذلك لا بمعنى الجامع بين البسملة وحال التقيّة حتّى يقال: إنّ حال التقيّة ليست فعلاً من أفعال المكلّف، بل بمعنى الجامع بين البسملة وتقيّد الصلاة بحال التقيّة، والتقيّد فعل للمكلّف داخل تحت الأمر في باب الشروط، فهذا أيضاً راجع بحسب الحقيقة إلى ما له البدل(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ سقوط جزء أو شرط لعذر ما بلا بدل يتصوّر بعدّة أنحاء، والحلّ الأوّل الوارد في المتن يتمّ فيها جميعاً، وهو الحلّ بالانتقال من جانب الوجود إلى جانب العدم، وتقييد المسمّى بنفي أحد أنحاء العدم أو الترك، ولكن قد يتراءى عدم تماميّة الحلّ

323


الثاني في بعض الأنحاء، وهو اختيار الجامع بين ذلك الجزء أو الشرط في غير وقت الحالة الاستثنائيّة، وقرن العمل بحالة العذر في ذلك الوقت. وتلك الأنحاء ما يلي:

1 ـ أن يكون العذر الموجب للعجز التكوينيّ كما في حالة الاضطرار، أو الموجب لحرج أو مشكلة ما، كما في غالب موارد التقيّة غير مستوعب للوقت إلى آخر، بل يكون سنخ عذر سينتهي قبل انتهاء الوقت، ولنفترض أنّ العذر رغم عدم استيعابه للوقت كان مجوّزاً شرعاً للاكتفاء بالعمل الناقص في وقت العذر. وهنا من الواضح تأتّي الحلّ الثاني في المقام؛ لأنّ قرن العمل بحالة العذر أمر مقدور للمكلّف، ويمكن تحريكه نحوه؛ إذ بإمكانه أن يقرن العمل بتلك الحالة، وبإمكانه أن لا يقرن العمل بها ولو بتأخيره إلى زمان انتهاء العذر.

2 ـ أن يكون العذر بالمعنى الذي أشرنا إليه في الصورة الاُولى مستوعباً لتمام الوقت. فهنا قد يتراءى عدم تأتّي الحلّ الثاني في المقام؛ لأنّ قرن العمل بحالة العذر أمر ضروريّ الحصول، وليس أمراً تحت قدرة المكلّف، أو ممّا يمكن التحريك نحوه، والعدل الآخر، وهو ذلك الجزء أو الشرط إنّما هو لغير هذه الحالة، بل قد يكون غير مقدور له في هذه الحالة، فما معنى توجيه الأمر بالجامع بينهما إليه؟!

ولكنّه يكفي هنا في الجواب أن يقال: إنّ القرن بحالة العذر أمر اختياريّ له ويمكن تحريكه نحوه؛ وذلك لأنّه بإمكانه أن يفعل ذلك وبإمكانه أن لا يفعل ذلك ولو بترك أصل العمل.

3 ـ أن لا يكون العذر عبارة عن العجز أو الصعوبة، أو ترتّب مشكلة على الإتيان بذلك الجزء أو الشرط، بل يكون العذر عبارة عن النسيان الموجب لعدم إمكانيّة محرّك الأمر بالجامع بين العدلين إيّاه؛ لأنّه لا يلتفت لا إلى العدل الأوّل، وهو الجزء أو الشرط، ولا إلى العدل الثاني، وهو قرن العمل بالنسيان؛ إذ هو غير ملتفت إلى النسيان.

والجواب في المقام هو: أن يقال: إنّه لمّا لم يكن عدم إمكانيّة التحريك نحو الجامع،

324

التخلّص الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية(1)، من أنّ هذا الجامع جامع بسيط منتزع عن هذه المركّبات المختلفة أشدّ الاختلاف. وذكر في تصوير هذا الجامع ما ينحلّ إلى أمرين:

الأوّل: أنّ هذه الأفراد على اختلافها مشتركة في أثر واحد نوعيّ، كالنهي عن الفحشاء والمنكر، ويثبت ذلك بما ورد من: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ﴾.

 


بمعنى: أنّه سيترك الجامع عن غير التفات، بل كان بمعنى: أنّه سيأتي بالجامع عن غير التفات، أي: أنّه ـ بعد فرض كونه بانياً على الطاعة ـ سيقرن العمل بالنسيان عن غير التفات، فعندئذ يكون الأمر النفسيّ المتعلّق بمجموع العمل والقرن قابلاً للمحركيّة؛ لأنّ المجموع المركّب ممّا يمكن التحريك نحوه وما لا يمكن التحريك نحوه يمكن التحريك نحوه، فإنّ النتيجة هنا تتبع أشرف المقدّمتين. نعم، لو كان ما لا يمكن التحريك نحوه عبارة عمّا يتركه المكلّف بلا التفات، لا عبارة عمّا يفعله بلا التفات، لكانت النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين، أي: أنّ المجموع المركّب ممّا يمكن التحريك نحوه وما لا يمكن التحريك نحوه لا يمكن التحريك نحوه.

يبقى هنا سؤال عرفيّ، وهو: أنّه بعد أن كان الأمر الضمنيّ بالجامع غير محرّك للناسي، والأمر الضمنيّ بنفس ذلك الجزء أو الشرط كافياً في تحريك غير الناسي نحو المطلب، فما هي النكتة العرفيّة في عدول المولى عن الأمر بذلك الجزء أو الشرط إلى الأمر بالجامع؟ فإنّه كان بإمكان المولى الاكتفاء بالأمر بذلك الجزء أو الشرط مع تخصيص ذلك الأمر بغير الناسي.

وهذا يكفي في الجواب عليه: أن يفترض أنّ نكتة العدول عن الأمر بالعدل الأوّل إلى الأمر بالجامع كانت عبارة عن أنّ الملاك كان في الجامع لا في خصوص العدل الأوّل، فأراد المولى أن يتطابق الأمر مع الملاك.

(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 36 ـ 37 بحسب طبعة المشكينيّ.

325

والثاني: أنّه إذا ثبت اشتراكها جميعاً في أثر واحد، وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فلابدّ أن يثبت ببرهان (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد) جامع واحد هو المؤثّر، ولولا الجامع لزم تأثير كلّ واحد منها بخصوصيّته في ذلك الأثر، فيلزم تأثير الكثير في الواحد، وهو مستحيل، وهذا الجامع الواحد النوعيّ لابدّ أن يكون بسيطاً؛ لما بيّن من استحالة الجامع التركيبيّ.

ومن الواضح: أنّه ليس مقصوده بهذا الجامع البسيط العنوان البسيط الانتزاعيّ الذي ينتزع بلحاظ جهة عرضيّة خارجيّة، وهو الاحتمال الرابع؛ إذ لو كان مقصوده ذلك لأمكن أن يكتفي بالمقدّمة الاُولى فقط؛ إذ بمجرّد الاعتراف فيها بأنّ تمام الصلوات تشترك في إيجاد أثر واحد، وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر يقال: إنّه ينتزع عنها بلحاظ ترتّب هذا الأثر عنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ولو فرض: أنّ الواحد يصدر عن أكثر من واحد، فبهذه القرينة يعرف أنه يريد أن يدّعي جامعاً بسيطاً منطبقاً على الصلوات لا في طول ترتّب الأثر، بل في المرتبة السابقة على الأثر، وهو علّة الأثر، وهو عنوان بسيط ذاتيّ: إمّا بمعنى الذاتيّ في كتاب الكلّيّات، أي: على حدّ ذاتيّة الإنسان لزيد، أو بمعنى الذاتيّ في كتاب البرهان، أي: علىّ حدّ ذاتيّة الإمكان للإنسان.

وقد اعترضوا على ذلك باعتراضات، نذكر أهمّها:

1 ـ أنّ الواحد: إمّا هو واحد بالشخص، أي: بالعدد كزيد، أو واحد بالنوع، أي: ماهية نوعيّة واحدة مشتركة في ذاتيّاتها المحفوظة في تمام أفرادها، من قبيل: ماهية الحرارة بلحاظ أفرادها، أو واحد بالعنوان، أي: أنّ لنا عنواناً انتزاعيّاً واحداً ينطبق على الأفراد مع تعدّدها، وقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد) إمّا تختصّ بالواحد بالشخص، أي: أنّ الواحد بالشخص لا يصدر إلاّ عن الواحد