172

14 ـ السيّد عبد الرحيم الياسريّ.

15 ـ الشيخ خزعل السودانيّ.

16 ـ الشيخ عبد الأمير محسن الساعديّ.

17 ـ السيّد عِزّالدين الخطيب.

وغيرهم من الوكلاء في مختلف المناطق، كما شمل الاعتقال عدداً من العلماء من غير وكلاء السيّد الشهيد، ممّن ساهم في انتفاضة رجب.

واستمرّت حملات الاعتقال في كافّة أوساط الشعب العراقيّ بصورة وحشيّة وقاسية بما لا يوصف، ولايمكن معه عدّ المعتقلين أو إحصاؤهم.

 

جواب السيّد الشهيد(رحمه الله) عن برقيّة الإمام

 

إنّ الكثيرين أصرّوا على السيّد الشهيد أن يتجنّب الدخول في صراع مع البعثيّين بهذا المستوى، وكانت حجّتهم هي الطبيعة الدمويّة والعدوانيّة لهذه الزمرة، فهم لن يتردّدوا في اتّخاذ أقسى الإجراءات لأدنى معارضة أو موقف يشمّ منه ذلك. وفي هذا السياق رجّح البعض أن يكون جواب السيّد الشهيد عن برقيّة إمام الاُمّة بشكل لايؤدّي إلى إثارة السلطة وتحفيزها على اتّخاذ موقف حاد.

إلاّ أنّ السيّد الشهيد رفض الاستماع إلى هذه النصائح، وقرّر أن يكون الجواب بالشكل الذي يناسب وضع إمام الاُمّة ومقامه، وكذلك وضع المرحلة الجديدة من الصراع، خاصّة بعد أن عرف

173

الجميع مستوى العلاقة بين السيّد الشهيد(قدس سره) والإمام الخمينيّ دام ظلّه، وبالتدقيق في عبارات البرقيّة الجوابيّة ندرك حجم العلاقة ومستوى الوفاء والإخلاص والتفاني الذي يكنّه السيّد الشهيد للثورة الإسلاميّة ولقائدها العظيم. وهذا نصّ البرقيّة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد روح الله الخمينيّ، دام ظلّه.

تلقَّيت برقيّتكم الكريمة التي جسّدت اُبوّتكم ورعايتكم الروحيّة للنجف الأشرف الذي لايزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإنّي أستمدّ من توجيهكم الشريف نفحة روحيّة، كما أشعر بعمق المسؤوليّة في الحفاظ على الكيان العلميّ للنجف الأشرف، وأودّ أن اُعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيّات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز، الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كلّه، وطاقة روحيّة لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكيّ خاصّة، ولتحرير العالم عن كلّ أشكاله الإجراميّة، وفي مقدّمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدّسة فلسطين، ونسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الخامس من رجب ( 1399 هـ )النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

لقد أخبرني (رضوان الله عليه) أنّ من النقاط التي ركّزوا عليها

174

أثناء التحقيق في رجب كان بعض فقرات البرقيّة الجوابيّة التي بعثتها إلى الإمام الخمينيّ دام ظلّه، وانصبّت الأسئلة على اُمور ثلاثة:

1 ـ ما هو المقصود برعاية الإمام الخمينيّ للنجف؟ هل هناك مساعدات ماليّة، أو عسكريّة وصلت من إيران لمساعدتك في التحرّك ضدّنا؟

2 ـ من خوّلك نقل تحيّات ملايين العراقيّين إلى السيّد الخمينيّ؟

3 ـ ما معنى التوجيه الذي تتلقّاه من السيّد الخمينيّ؟

يقول السيّد الشهيد كنت قد أجبت عن أسئلتهم بما يناسب حجم التحرّك، وحجم الثورة الإسلاميّة، فقد كنت مصمِّماً على الاستشهاد في سبيل الله؛ ولذا كنت أتعمّد أن لا اُجيب عن بعض الأسئلة بغرض إقلاقهم وإرعابهم، ولكن ظلّ البرّاك يلحّ على إجابة محدّدة، وبقيت ـ أيضاً ـ أتعمّد الغموض، وكلّما انتقل البرّاك إلى أسئلة اُخرى بعيدة عن موضوع البرقيّة عاد مرّة اُخرى إلى البرقيّة، وكرّر الأسئلة بشكل وآخر.

 

اعتقال السيّد الشهيد(قدس سره)

 

لم يكن اعتقال السيّد الشهيد بعد أحداث رجب أمراً محتملاً فحسب، بل كان السيّد الشهيد يتوقّع في أيّ لحظة أن يعتقل، ولكن لاللتحقيق أو لإذلال المرجعيّة كما في المرّات السابقة، بل للاستشهاد في سبيل الله، وكان (رضوان الله عليه) قد هيّأ نفسه لذلك، وكان من عادته قبل كلّ اعتقال أن يسلّم (الخاتم) إلى من يثق

175

به؛ لكي لايقع بيد السلطة بعد الاستشهاد. وهكذا فعل في رجب بعد ثلاثة أيّام من بداية تقاطر الوفود إلى مبايعته.

في يوم الاثنين المصادف 16 رجب عام (1399 هـ ) بدأت قوّات الأمن تكثّف دوريّاتها ومراقبتها لمنزل السيّد الشهيد، والأزقّة القريبة منه، وبقيت أرقب الوضع حتّى الساعة التاسعة مساءً، حيث منعت السلطة التجوّل في الزقاق، ومنعت المارّة تمهيداً لاعتقال السيّد الشهيد.

أخبرت السيّد الشهيد واُختة العلويّة الشهيدة، وقلت للسيّد: إنّ المجرمين ينوون اعتقالكم غداً، فالدلائل تشير إلى ذلك.

لم يتأثّر السيّد الشهيد، ولم يأبه للعشرات من الأمن المدجّجين بالسلاح الذين يجوبون الزقاق، فذهب إلى مضجعه، ونام وهو في غاية الاطمئنان، بعد أن استعدّ وتهيّأ لكلّ ما يمكن أن يقع له على أيدي هؤلاء الجلاّدين.

 

قرار المواجهة المباشرة:

قرّر السيّد الشهيد أن يتعامل مع المسؤولين بمستوىً جديد، فصمّم على أن ينهج نَهْجَ جدّه الحسين(عليه السلام)، ويتمسّك بمبدأ «لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد». إنّ موقف السيّد الشهيد هذا ناشئ من تصميمه على الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة؛ إذ لامعنىً للثورة بدون ذلك. وكان ـ رضوان الله عليه ـ يستهدف من ذلك تهيئة الأجواء للشعب العراقيّ للسير معه في نفس

176

الاتّجاه، على رغم يقين شهيدنا الغالي بأنّ الشهادة هي المحطّة التي سينتهي إليها في آخر المطاف، ولم يكن هذا المصير يقلق مفجّر الثورة؛ لأنّه لم يكن يفكّر إلاّ بقضيّته ورسالته التي هي رسالة الإسلام.

إنّ السيّد الشهيد يعرف السلطة وطبيعتها الإجراميّة، وكان يعرف أنّ لغتها الوحيدة هي المشانق والسجون، ولم يكن بحاجة إلى التكهّن بمصيره لو أراد مواجهتها؛ لأنّه يعرف مسبقاً النتيجة، وما أشبهه بجدّه الحسين(عليه السلام)حين كان يجسّد أمامه مصرعه «كأ نّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات». وهكذا كان شهيدنا العظيم يرى مصرعه، يرى الأيدي الأثيمة تمتدّ إلى قلبه الطاهر لتقطعه بسيوف حقدها، ومع ذلك كان(رحمه الله) يرى أنّ ذلك يهون ويسهل إذا كان ينتهي إلى إقامة حكومة إسلاميّة في العراق.

لا أقول هذا الكلام بسبب علاقتي أو حبّي للسيّد الشهيد(رحمه الله)، بل الوقائع والأدلّة هي الشاهد، وهي البرهان على ما أقول، وسنعيش معاً تلك اللحظات في خلال فترة الحجز حين رفض شهيدنا العظيم كلّ العروض التي قدّمتها السلطة كشرط لفكّ الحجز ولإرضائه، وإنهاء الخصومة معه، ووقف كالجبل الأشمّ حتّى كأنّك تراه وقد نزع الله ـ عزّ وجلّ ـ من كيانه غريزة حبّ الحياة، وأبدلها بغريزة حبّ الاستشهاد، فكان من الطبيعيّ أن يتّخذ(رحمه الله)هذا الموقف ما دام قد بدأ الثورة، وأذِنَ لشعلتها أن تتوهّج، وتستمرّ حتّى إقامة حكومة الإسلام في العراق.

177

الاعتقال:

في صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من رجب جاء المجرم مدير أمن النجف، وطلب اللقاء بالسيّد الشهيد، في هذا اللقاء قال مدير الأمن: إنّ السادة المسؤولين يريدون الاجتماع بكم في بغداد. فأجابه السيّد الشهيد بانفعال شديد، وقال له: إن كنت تحمل أمراً باعتقالي، فنعم أذهب، وإن كانت مجرّد زيارة، فلا.

وأضاف: أنّكم كَممتم الأفواه، وصادرتم الحرّيّات، وخنقتم الشعب، تريدون شعباً ميّتاً يعيش بلا إرادة ولاكرامة، وحين يعبّر شعبنا عن رأيه، أو يتّخذ موقفاً من قضيّة ما، حين تأتي الاُلوف لتعبّر عن ولائها للمرجعيّة وللإسلام، لاتحترمون شعباً، ولاديناً، ولاقيماً، بل تلجأون إلى القوّة؛ لتكمّوا الأفواه، وتصادروا الحرّيّات، وتسحقوا كرامة الشعب.

أين الحرّيّة التي تدّعونها؟! أين هذا الشعب الذي تدّعون أنّكم تدافعون عنه؟! أليس هؤلاء الآلاف الذين جاؤوا ليعبّروا عن ولائهم للمرجعيّة هم أبناء العراق؟! ماذا ستقولون للجماهير وأنتم تسحقون قيمهم بأيديكم؟! وظلّ الشهيد الغالي يصرخ بوجه هذا المجرم، وكانت مفاجأة عظيمة له أذهلته وجعلته يلوذ بالصمت، ولم يتمكّن من الردّ ولو بكلمة واحدة.

ثُمَّ قال (رضوان الله عليه): هيّا لنذهب إلى حيث تريد.

خرج السيّد الشهيد وكنت برفقته، وكذلك الأخ الشيخ طالب الشطريّ، والشهيدة السعيدة بنت الهدى، وعقيلته الطاهرة اُمّ جعفر،

178

ورافقنا ـ أيضاً ـ خادم السيّد (الحاجّ عباس).

كانت قوّات الأمن أكثر من مئتي شخص، تتألّف من قوّات الأمن، والجيش الشعبيّ، وأعضاء منظّمة حزب البعث العميل في النجف، وكلّهم مدجّجون بالسلاح والعتاد.

 

بنت الهدى تهزم الجموع:

خلال مسيرنا في الزقاق المؤدّي إلى شارع الإمام زين العابدين(عليه السلام)سبقتنا الشهيدة بنت الهدى؛ لتأخذ مكانها هناك استعداداً لإلقاء خطبتها التي هزّمت فيها الجموع التي تحشّدت لاعتقال السيّد الشهيد.

وقفت كأنّها زينب لم تأبه بالمجرمين الذين تتقطّر وجوههم شرّاً وحقداً ووحشيّة، لم ترهبها رشّاشات الكلاشنكوف، وبدأت خطبتها التأريخيّة التي تعتبر وثيقةً مهمّةً من وثائق الثورة الإسلاميّة في العراق، قالت رضوان الله عليها:

انظروا... أخي وحده، بلاسلاح، بلامدافع ورشّاشات، أمّا أنتم بالمئات... انظروا، وأشارت إلى الجموع هنا وهناك، فهل سألتم أنفسكم: لِمَ هذا العدد الكبير؟ ولِمَ كلّ هذه الأسلحة؟ لأنّكم تخافون... إي والله تخافون؛ لأنّكم تعلمون أنّ أخي ليس وحده، بل معه كلّ العراقيّين.

إنّكم تخافون، ووالله لولا ذلك لما جئتم لاعتقال أخي في هذه الساعة المبكِّرة من هذا الصباح... لماذا لاتجيئون إلاّ والناس نيام؟

179

لماذا تختارون هذا الوقت؟ هل سألتم أنفسكم؟ هل هذا إلاّ دليل على ما أقول؟

وما أن أتمّت الشهيدة خطبتها حتّى تفرّق الحشد الأثيم، واختفى في الأزقّة، وبقيت سيارات الأمن ومن فيها في سكون وثبات، لم يتحرّك أحد حين خطبت الشهيدة، وكأنّ على رؤوسهم الطير. ثُمَّ توجّهت بخطابها إلى شهيدنا العظيم، وقالت: اذهب يا أخي، الله معك، فهذا هو طريقنا، وهذا هو طريق أجدادك الطاهرين.

استمرّ خطاب الشهيدة الخالدة أكثر من خمس عشرة دقيقة، فلم يجرؤ أحد من الجلاوزة على منعها، فقد كان صوتها الزينبىّ وكلماتها الثائرة أقوى من كلّ قوّة، لقد أربكت الجلاوزة وأرعبتهم، ولم تدع لهم من سبيل إلاّ الاختفاء في الأزقّة.

 

الشهيدة قرّرت الاستشهاد

 

بعد أن اعتُقل السيّد الشهيد(رحمه الله) عادت الشهيدة إلى المنزل، فقلت لها: كان المفروض أن تتريّثي قليلاً؛ كي تتبيّن الاُمور وتتوضّح، إنّ هذا الخطاب من الممكن أن يؤثّر عليكم سلباً، ويفتح صفحة جديدة لكم في سجلاّت الأمن، وتزداد مراقبة الأمن لكم، إضافة إلى الآثار التي ستترتّب على السيّد.

فقالت الشهيدة رحمها الله: إنّ المسؤوليّة الشرعيّة والواجب الدينيّ هو الذي دفعني إلى اتّخاذ هذا الموقف، إنّ زمن السكوت

180

انتهى، ولابدّ أن نبدأ صفحة جديدة من الجهاد، لقد سكتنا طويلاً، وكلّما طال سكوتنا كبرت محنتنا، وازدادت أتعابنا، لماذا أسكت وأنا أرى مرجعاً مظلوماً يقع في قبضة هؤلاء المجرمين؟

قلت: إنّ هولاء المجرمين لايتورّعون من أن تمتدّ أيديهم القذرة إليكم، ويمكن أن ينالك الإعدام.

فقالت: والله إنّي أتمنّى الشهادة في سبيل الله، ولقد قرّرت أن اُستشهد منذ اليوم الأوّل الذي جاءت فيه الوفود، فأنا أعرف هذه السلطة، وأعرف وحشيّتهم وقساوتهم، وأعلم أنّ الرجل والمرأة عندهم سواء، أمّا أنا فسيّان عندي أن أعيش أو أموت، ما دمت واثقة بأنّ موقفي كان لله ومن أجله تعالى.

لقد كنت أستمع للشهيدة وكأ نّي أستمع لزينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) إنّها تتكلّم من أعماقها كلام الواثقة كلّ الثقة بعقيدتها وقضيّتها. لقد جسّدت بنت الهدى إيمانها العظيم وصلابتها الهائلة، ليس في حادث اعتقال السيّد الشهيد فقط، بل وفي طيلة فترة الاحتجاز وفي يوم اعتقالها كما سيأتي.

 

الشهيدة تثير الجماهير

 

عادت الشهيدة إلى المنزل، ولكن لتبدأ صفحة اُخرى من جهادها العظيم؛ إذ إنّها لم تكتفِ بموقفها الشجاع الأوّل، وبقيت تفكِّر فيما يجب أن تفعله في هذه الساعات الحرجة والحاسمة، وكأنّها تقول:

181

أنا ابنة علىّ (عليه السلام)لن أسكت، ولن أصبر على الضيم.

لقد رأيتها تمشي وتتكلّم، ولكنّها كانت تعيش بروحها في عالم آخر، تفكّر في الخطوة القادمة والحلقة الاُخرى، واستطاعت أن تهزّ المشاعر، وتثير في نفوس المؤمنين العزم والتصميم على التحرّك وفعل كلّ شيء ثأراً للمرجع المظلوم شهيد السجون السيّد الصدر(رحمه الله)، فكانت التظاهرة الاحتجاجيّة العظيمة التي أرعبت حكّام بغداد الخونة، وجعلتهم في مأزق صعب اضطرّهم إلى الإفراج عن السيّد الشهيد(رحمه الله).

ولكن كيف بدأت هذه الخطوة؟ وكيف استطاعت شهيدتنا العظيمة أن تنجح في الإعداد لتظاهرة في يوم وساعة وظرف تكاد تكون فيه مثل هذه الأعمال مستحيلة، بسبب الوضع الأمنيّ الخانق والطوق الإرهابيّ المفروض على شعبنا؟

حين اعتُقل شهيدنا العظيم في ساعة مبكّرة كان الناس نياماً، والشوارع خالية، ولم يشهد حادث الاعتقال إلاّ نفر يسير ممّن وجد صدفةً في ذلك الوقت.

مع ذلك فكّرت شهيدتنا العظيمة بالذهاب إلى الحرم العلويّ الطاهر؛ لإعلام الناس بالحادث، ولكنّها لم تجد العدد المطلوب، فذهبت ثانيةً بعد أن أشرقت الشمس واستيقظ الناس، وهناك عند جدّها أمير المؤمنين علىّ(عليه السلام) علا صوتها الزينبيّ، وبدأت تخاطب جدّها، كما فعلت زينب(عليها السلام)بعد قتل أخيها الحسين بعبارات مؤثِّرة، وكلمات من قلب صادق.

واستطاعت أن تحشّد الناس، وتثير في نفوسهم الغيرة للانتقام من

182

معتقلي المرجع المظلوم.

إلى جانب الشهيدة العظيمة كانت هناك مجموعة من الطلبة والمؤمنين(1) قد هزّهم الحدث، ورفعهم الإيمان إلى التحرّك بنفس


(1) وأحدهم السيّد علي أكبر الحائريّ الذي كتب يقول في شرح القِصّة ما يلي:

عند ما اعتُقل السيّد الشهيد(رحمه الله) في ساعة مبكّرة من صباح يوم السابع عشر من رجب سنة (1399 هـ ) كانت الشهيدة (بنت الهدى) أوّل من خرجت لإشاعة هذا النبأ، وكسر طوق التعتيم البعثىّ الذي كانوا يخيّمونه على جرائمهم، فنطقت نطقها صارخة فى حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأدّت دورها البطولىّ الرائع فى إبلاغ خبر اعتقال هذا المرجع العظيم من قبل جلاوزة السلطة الغاشمة، وسرعان ما اشتهر هذا النبأ فى أوساط المؤمنين المخلصين للسيّد الشهيد(رحمه الله) فى النجف الأشرف، وكان الخبر فى بادئ الأمر على شكل شائعة غير مؤكّدة، وكان جلاوزة الأمن واقفين على باب دار السيّد الشهيد يراقبون الأوضاع عن كثب خشية وقوع حادثة أو ردّ فعل معيّن.

وبعد التأكّد من الخبر وقع الاضطراب والبلبلة فى أوساط المؤمنين، وكانت تخيِّم علينا جميعاً حالة التحيّر والشكّ فى الوظيفة العمليّة، رغم إحساس الجميع بضرورة وقوع ردّ فعل جماهيريّ عظيم تجاه هذه الجريمة النكراء التى قامت بها السلطة الظالمة، ولكن كلّ يقول: ماذا نصنع؟ كيف نتحرّك؟ ما هي الوظيفة؟ ما هو الاُسلوب؟... وأنا بدوري شعرت ـ أيضاً ـ بأنّ هذه ساعة حرجة لابدّ فيها من اتّخاذ موقف سريع، فذهبت مع أحد الإخوة المؤمنين ـ من طلاب السيّد الشهيد(رحمه الله) ـ إلى بيت شخص آخر من زملائنا الأعزاء، فعقدنا هناك اجتماعاً ثلاثيّاً للتخطيط حول ما يجب صنعه فى هذه الساعات الحرجة، فكانت نتيجة هذا الاجتماع هو التصميم القاطع بتنظيم مظاهرة جماهيريّة للاحتجاج على هذه الجريمة النكراء، مع وضع الخطة الكاملة من حيث: تعيين مكان التجمّع، وساعة الانطلاق، وكيفيّة الإعداد. فقد عيّنا الحرم الشريف مكاناً للتجمّع وصمّمنا على الانطلاق من هناك على رأس الساعة العاشرة بعد قراءة دعاء الفرج. وانّما اخترنا دعاء الفرج ضمن الأدعية المأثورة باعتبار أنّ هذا الدعاء ينتهي باسم الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، وسيقوم الناس بطبيعتهم احتراماً لاسم الإمام(عليه السلام)، فيكون هذا القيام إعداداً للانطلاق فى المظاهرة، وهكذا كان، فقد خرجت أنا وصاحبى من بيت ثالثنا؛ لنبلّغ المؤمنين بهذا القرار، فمررنا بأكثر المدارس العلميّة فى النجف، وبلّغنا من وجدنا فيها من الطلاّب والمؤمنين، والتقينا بمن التقينا من المؤمنين ـ أيضاً ـ فى الطرق والشوارع، وبلّغناهم بالأمر، ولمّا قرب الموعد ذهبت إلى الحرم الشريف، وانتظرت هناك إلى أن حان الوقت، واجتمع عدد من المؤمنين، ولم أجد صاحبى الذي كنت أتعاون معه

183

الاتّجاه، فتجمّعوا في الحرم الشريف، وبدؤوا بقراءة دعاء الفرج كاُسلوب للتجمّع والتهيّؤ، وكان الأخ حجّة الإسلام السيّد علي أكبر الحائريّ ـ وهو أحد تلاميذ السيّد الشهيد والمقرّبين إليه ـ هو أوّل من جاء إلى منزل السيّد الشهيد، واستفسر عن حادث الاعتقال،


فى القضيّة، ولاذاك الثالث الذي انطلق القرار من بيته، فصمّمت على أن أبدأ بالأمر، فشرعت بقراءة دعاء الفرج، وكان الجميع يردّدون معي جملة جملة، إلى أن بلغنا اسم الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، فقمنا جميعاً إجلالاً له(عليه السلام)، ثُمّ بدأت الشعارات: الله أكبر، الله أكبر، نصر من الله وفتح قريب، عاش عاش عاش الصدر... وانطلقت المظاهرة بركضة سريعة.

وهنا لابدّ لي من الإشارة إلى مشاركة المرأة المسلمة العراقيّة في هذه الانتفاضة، حيث تواجد عدد من المؤمنات الرساليّات في الحرم الشريف، واشتركن في بداية المظاهرة، إلاّ أنّ سرعة حركة المظاهرة منعتهنّ عن إمكان الالتحاق بالرجال عند الخروج من الحرم الشريف، فتفرّقن بطبيعة الحال، وتعرّض بعضهنّ إلى المراقبة والملاحقة من قبل أعضاء جهاز الأمن الإرهابيّ في العراق.

ولمّا انطلقت المظاهرة التحق بنا جمع غفير من المؤمنين من خارج الحرم الشريف، وسرعان ما اتّسع العدد ـ أيضاً ـ عند ما دخلت المظاهرة شارع الإمام الصادق(عليه السلام). وحاولت أجهزة الأمن الإرهابيّة بشتّى الأساليب أن تفرّق المتظاهرين منذ خروجهم من الصحن الشريف فلم تستطع، حتّى اقتحمت سيارة الأمن جموع المتظاهرين وهم في شارع الإمام الصادق(عليه السلام)، فلم تحصل إلاّ على ضربات قاسية على زجاجها من قبل المتظاهرين.

ثُمّ واصلت المظاهرة طريقها في شارع الإمام الصادق(عليه السلام) إلى أن واجهت قوىً أمنيّة مكثّفة من جهة الأمام، فحرفت مسيرها إلى جهة السوق الكبير من أحد الأزقّة المؤدّية إليه، ولمّا دخلنا السوق وجدنا المحلاّت كلَّها معطّلة، فواصلنا السير في داخل السوق إلى أواخر السوق حيث وقع الاشتباك بين المتظاهرين وجهاز الأمن الإرهابيّ، رغم تجرّد المتظاهرين من كلّ سلاح. وتعالت أصوات إطلاق الرصاص من قبل الجلاوزة، ثُمّ رجع المتظاهرون في داخل السوق باتّجاه الحرم الشريف حيث كان الجلاوزة ينتظروننا على مدخل السوق، فاضطررنا الرجوع مرّةً اُخرى من إحدى الأزقّة إلى شارع الإمام الصادق(عليه السلام). وبدأ التفرّق من هناك حيث هرب من هرب، واُلقي القبض على من اُلقي.

ثُمّ بدأت عملية إلقاء القبض على الناس بصورة عشوائيّة في أكثر شوارع النجف الأشرف، ممّا يدلّ على مدى الرعب والوحشة التي ابتلت بها الجلاوزة على أثر هذه المظاهرة.

184

وهو الذي قرأ دعاء الفرج في الحرم الشريف. وبدأ الناس بالتجمّع، وبعد ذلك انطلقوا في تظاهرة، أقول: إنّها عظيمة ليس في كمّها، بل في الآثار التي نتجت منها، وترتّبت عليها، وفي روح التحدّي التي اتّسمت بها.

انطلقت التظاهرة من الحرم الشريف، وبدأت التظاهرة صغيرة، فهي لاتضمّ إلاّ الصفوة من أبناء الشهيد الصدر، ولكن سرعان ما كبرت واتّسعت، فقد انضمّ إليها عدد من الناس الذين اتّفق وجودهم هناك، وكانت شعارات المتظاهرين تندّد بالسلطة وأعمالها الإجراميّة، وتطالب بالإفراج عن الشهيد الغالي، رضوان الله عليه.

 

المواجهة المسلّحة

 

في السوق بدأت أجهزة الأمن محاولتها لتطويق المتظاهرين الأبطال أبناء الصدر الشهيد، وقبل ذلك قام تجّار النجف في السوق الكبير بإغلاق محلاّتهم، بعد أن علموا أنّ التظاهرة حدثت احتجاجاً على اعتقال المرجع المظلوم، وقد عطّلت النجف في ذلك اليوم أسواقها كتعبير عن استيائهم واحتجاجهم على اعتقال السيّد الصدر، رضوان الله عليه.

في السوق الكبير حاولت قوّات الأمن تطويق المتظاهرين تمهيداً لاعتقالهم، ولكنّهم واجهوا من أبناء الصدر مقاومة شجاعة، حيث اشتبك رجال الأمن والمتظاهرون، وعلى رغم أنّ المتظاهرين

185

لايملكون حتّى أبسط أنواع الأسلحة الناريّة إلاّ أنّهم هزموا قوّة الإرهاب بعد أن كبّدوهم عدداً من الجرحى، واستطاع عدد كبير منهم الإفلات من قبضة السلطة المجرمة، في حين تمكّنت بعض مفارز الأمن من اعتقال آخرين.

إلى جانب تظاهرة النجف المتميّزة انطلقت تظاهرات اُخرى في مدينة الكاظميّة المقدّسة والبصرة وديالى وغيرها من مدن العراق الاُخرى.

وهنا يجب أن لاننسى دور بنات الزهراء(عليها السلام)، فقد كانت هناك مجموعة من خيرة المؤمنات قد اشتركن في هذه التظاهرات، على رغم علمهنّ بالعواقب الخطيرة التي تترتّب فيما لو وقعن في قبضة السلطة، وكانت الشهيدة ـ رحمها الله ـ تذكرهنّ بالأسماء باعتزاز وتقدير وإكبار، وهكذا كان شهيدنا الغالي يرفع يديه إلى السماء يدعو الله تعالى لهنّ، ولكلّ المخلصين والمجاهدين الذين وقفوا مع الإسلام في محنته في رجب، وما تلاه من أشهر الحصار والمعاناة.

 

لماذا اُفرج عن شهيدنا الغالي؟

 

قد أشرنا سابقاً: أنّ اعتقال السيّد الشهيد في رجب كان بهدف التصفية الجسديّة، وليس مجرّد التحقيق عن أحداث رجب العظيمة، فقد أكّد سيّدنا الشهيد أنّ كلّ الدلائل كانت تشير إلى ذلك: منها اُسلوب التعامل، الكلمات البذيئة التي يسمعها من هذا وذاك، التهديد

186

القاسي، وغير ذلك.

وحين حضر المجرم فاضل البرّاك، وبدأ باستجواب السيّد كان الجوّ يؤكّد تلك الحقيقة، ولكن بعد ساعة واحدة من بداية التحقيق دخل أحد ضباط الأمن، وسلّم فاضل البرّاك ورقة صغيرة تغيّر بعدها اُسلوب التحقيق، واعتذر البرّاك للسيّد من اعتقاله، وقال له: في الحقيقة لم يكن هدفنا الاعتقال، بل التفاهم في هذه الاُمور التي وقعت، وبدأ يلاطف السيّد الشهيد(رحمه الله).

يقول السيّد الشهيد (رضوان الله عليه): لقد أحسستُ من التغيّر المفاجئ أنّ حدثاً ما قد وقع، ولكن ما هو؟ ولماذا تغيّر الاُسلوب بهذه السرعة؟

لم يُخفِ البرّاك الحقيقة، فقال للسيّد الشهيد: إنّ تظاهرات كبيرةً جدّاً في النجف والكاظميّة قد خرجت احتجاجاً على اعتقالكم، في حين حقيقة الأمر أنّ مجيئكم إلى هنا لم يكن اعتقالاً، وإنّما وقع اشتباه من قبل الرفيق (أبو سعد) حيث فسّر طلبنا بالاجتماع بكم بالاعتقال، في حين نحن لم نقصد ذلك، وأنت الآن حرّ في البقاء أو الذهاب. ثُمَّ قال: ولأجل أن نبرهن لكم عن حسن نيّاتنا فإنّكم ستذهبون إلى النجف بسيّارتي الخاصّة.

نعم، إنّ التظاهرات التي نظّمها أبناء الصدر الشهيد كانت السبب في الإفراج عن السيّد الشهيد، ولولاها لنُفّذت جريمة الإعدام في ذلك التأريخ.

لقد أفادتنا مصادر قريبة من بعض رجال السلطة أنّ برقيّة

187

اُرسلت من النجف إلى المقبور أحمد حسن البكر، أكّدت له خطورة الوضع في النجف، والعواقب التي ستترتّب على استمرار اعتقال السيّد الصدر، وأشارت إلى تظاهرة النجف، وتعطيل الأسواق فيها، إلى غير ذلك. وعلى أثر هذه البرقيّة تراجعت السلطة مرغمة، وأفرجت عن السيّد الشهيد.

مساعد مدير الشعبة الخامسة في مديريّة الأمن قال لبعض من يخصّ السيّد الشهيد: ليعلم السيّد محمّد باقر الصدر أنّه إذا كانت الظروف لاتسمح فعلاً بإعدامه، فإنّنا نعرف كيف ننتقم من أنصاره وأتباعه، ونجعله مقصوص الجناحين.

إنّ السيّد علي بدرالدين نقل للسيّد الشهيد خلال فترة الحجز تفاصيل الوضع عن أحداث رجب في داخل ما يسمّى بالقيادة، حيث كانت له صلات صداقة مع بعضهم، وقال: إنّ (القادة) أرعبتهم هذه التظاهرات، وأدهشتهم جرأة المتظاهرين، والروح العالية التي جعلتهم يتجاهلون وحشيّة السلطة، وإجراءاتها القاسية.

حين أراد شهيدنا العظيم مغادرة مديريّة الأمن وجد أنّ السلطة قد احتجزت مرافقيه، وهما: الأخ الشيخ طالب الشطريّ، والأخ السيّد محمود الخطيب، حيث كانا قد رافقا السيّد الشهيد إلى بغداد، فرفض (رحمه الله) الذهاب إلاّ بعد الإفراج عنهما، والسماح لهما بالعودة إلى النجف، فقال مدير الشعبة الخامسة المجرم أبو أسماء: سيّدنا بعد ساعات يطلق سراحهما، والمسألة مجرّد إجراءات روتينيّة. ولكن السيّد الشهيد رفض ذلك، وأصرّ على الإفراج عنهما، وفعلاً عاد

188

السيّد الشهيد، وعادا معه أيضاً.

حين اعتُقل السيّد الشهيد اتّصل أحد المؤمنين(...) هاتفيّاً بأحد المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة، وأطلعه على قضيّة اعتقال السيّد الشهيد، والأوضاع المتأزّمة والخطيرة التي تحيط به، وما يتهدّد شهيدنا الغالي من أخطار، وقد أعلنت إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة (القسم الفارسيّ) خبر اعتقال السيّد الشهيد، وشهيدُنا العظيم مازال في الطريق متّجهاً إلى بغداد.

 

كيف بدأ الاحتجاز؟

 

قد ذكرنا سابقاً: لم يكن الإفراج عن السيّد الشهيد قد حصل باختيار السلطة وإرادتها، أو أنّ الحسابات قد صفّيت معه، بل الضرورة والظروف المعقّدة أجبرتهم على امتصاص جزء من غضب الجماهير المسلمة الثائرة حتّى حين، وذلك بالإفراج عن سيّدنا الشهيد الصدر.

ولنترك السلطة والإجراءات التي تعتزم اتّخاذها ضدّ شهيدنا العظيم؛ لنتعرّف انطباعات السيّد الشهيد عن هذا الموضوع، وما لمسه منهم في مديريّة الأمن العامّة:

قال لي(رحمه الله): كنت واثقاً بأنّ السلطة تعتزم إعدامي، وكانت مجريات التحقيق تدلّ على ذلك، وخاصّةً التأكيد على نوع وحجم الصلة والعلاقة بالسيّد الخمينيّ دام ظلّه، وتفسيرهم لها تفسيراً

189

سياسيّاً، أو (تآمراً) للإطاحة بالسلطة البعثيّة العميلة، ومن الطبيعيّ ـ في قوانين البعث ـ أن ينال الإعدام كلّ من يُتّهم بهذه التهمة.

قال المجرم البّراك مخاطباً السيّد الشهيد: لو كان أحد غيرك ـ ومهما كان ـ لنفّذنا فيه عقوبة الإعدام، ولكن لاعتبارات خاصّة تتريّث القيادة في اتّخاذ قرار الإعدام.

هذا الكلام أو نظيره سمعه السيّد الشهيد منهم مرّات عديدة خلال فترة اعتقاله في شهر رجب، ولم يكن يخفى على شهيدنا العظيم مغزاه، إذن فالإعدام هو القرار الذي كانت تفكّر به السلطة؛ لحسم الثورة وقائدها العظيم.

ولم يكن السيّد الشهيد (رحمه الله) يخشى هذا المصير، وهذه هي النقطة المهمّة، فالسيّد الشهيد(رحمه الله) كان يتمنّى الاستشهاد في سبيل الله، بسبب قناعته بأنّ أهمّ عنصر لنجاح الثورة الإسلاميّة في العراق هو أن يراق دمه الزكيّ؛ لتبقى الشعلة التي تنير الطريق، ويؤجّج الحماس في نفوس العراقيّين للإطاحة بسلطة البعث العفلقيّة، وهو القائل: «إنّ العراق بحاجة إلى دم كدمي».

وعلى هذا الأساس صمّم السيّد الشهيد على أن يبدأ مرحلة جديدة من التعامل مع السلطة تناسب المرحلة الجديدة للثورة، وهذا ما حدث، وأحسّت به السلطة خلال اعتقاله واستجوابه في شهر رجب.

فمثلاً: حين جاء مدير أمن النجف الأشرف مع أكثر من أربع مئة من أزلامه وأعوانه لاعتقال شهيدنا العظيم، واجهه السيّد الشهيد

190

مواجهة عنيفة. وفي مديريّة الأمن كان يرفض ويمتنع من الإجابة عن بعض الأسئلة على رغم إصرار البرّاك مدير الأمن العامّ وتهديده له بالإعدام إذا لم يقنع (القيادة السياسيّة) بإجابة وافية وكاملة عنها. وكان شهيدنا المظلوم يقول: «كنت قد هيّأتُ نفسي للاستشهاد، فلااُبالي أوقع الموت علىّ أم وقعت على الموت».

بعد الإفراج عن السيّد الشهيد إثر التظاهرات الاحتجاجيّة التي خرجت في النجف والكاظميّة والثورة والخالص وغيرها أخبرته بأنّ المؤمنين حين علموا باعتقالكم خرجوا في تظاهرات احتجاجاً على اعتقالكم، واستطاعت السلطة أن تعتقل عدداً منهم، وتزجّهم في السجون... فتأثّر السيّد الشهيد كثيراً، فأمر أحد الأشخاص القريبين منه أن يتّصل هاتفيّاً بمدير الأمن العامّ، ويبلغه: أنّ السيّد الصدر يطالب بالإفراج عن جميع المعتقلين دون استثناء، وإلاّ فالسيّد الصدر سوف يغلق داره، ويمتنع عن العودة إلى حياته الاعتياديّة احتجاجاً على ذلك. بعد هذا الاتّصال طلب البرّاك فترة قصيرة ليبلغ (القيادة) بالموضوع، وبعد ذلك سيبلغ السيّد الصدر بالجواب، وقال: أنا أتوقّع خيراً إن شاء الله.

وقبل أن نتعرّف جواب (القيادة) يجب أن نشير إلى أنّ عدداً من قوّات الإرهاب في النجف قد قُتلوا أو جُرحوا على أيدي المؤمنين المتظاهرين، فكان من الصعب على السلطة أن تغضّ النظر عن ذلك، فالتغاضي سيشجّع المؤمنين على أعمال أكثر جرأة وشجاعة هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ تهديد السيّد الصدر لهم بإغلاق داره

191

يشكّل خطورة اُخرى أعظم من سابقتها، خاصّة وإنّ الاُمور ما زالت غامضة ومجهولة عن حجم التحرّك الثوريّ في رجب؛ لذلك كان جواب مدير الأمن العامّ إيجابيّاً، فقد اتّصل هاتفيّاً، وأبلغ السيّد الشهيد: أنّ (القيادة) قرّرت الإفراج عن جميع المعتقلين.

أمّا الواقع فلم يكن كذلك: فالذي ظهر فيما بعد هو: أنّ السلطة العفلقيّة أرادت أن تناور كعادتها، ففي الوقت الذي (تقنع) السيّد الصدر بالعودة إلى حياته الطبيعيّة تقوم بالإفراج عن بعض المعتقلين ممّن اعتقلوا لمجرّد الظنّ والتهمة، أو ممّن ليست لهم علاقة بالتظاهرة الاحتجاجيّة؛ تحاشيّاً من نقمة جماهيريّة اُخرى، في حين تستمرّ السلطة في الوقت نفسه باعتقال آخرين، وبدأت الأخبار تتواتر عن عمليات اعتقال مكثّفة لأعداد كبيرة من المؤمنين، ومن وكلاء السيّد الشهيد، والعلماء الذين ساهموا أو اشتركوا في الوفود، وفي مقدّمة هؤلاء: سماحة الحجّة السيّد قاسم شبّر (رحمه الله)، وحجج الإسلام: الشيخ عفيف النابلسيّ، والشيخ حسن عبد الساتر، والسيّد المبرقع، وغيرهم، حيث كانت السلطة قد رصدتهم، وسجّلت أسماءهم في نقاط التفتيش بواسطة العملاء المحلّيّين في مناطقهم.

أحسّت السلطة بأنّ لعبتها انكشفت، ولم ينخدع السيّد الصدر بالوعود الكاذبة، فقرّر إغلاق الباب احتجاجاً على السلطة.

إضافة إلى ذلك فإنّ السلطة أوعزت إلى قوّاتها باعتقال كلّ داخل وخارج من وإلى منزل السيّد الشهيد، ومراقبة منزله والأزقّة المحيطة والقريبة منه، مراقبة دقيقة ومستمرّة ليلاً ونهاراً.

هذا الإجراء كشف عن جانب من مخطّط السلطة، فهي تنتظر

192

اللحظة المناسبة للقضاء على الثورة وتصفية مفجّرها السيّد الصدر، فقرّر(رحمه الله)الاحتجاج على ذلك بالاعتصام وعدم العودة إلى الحياة الطبيعيّة؛ ليعلم الشعب أنّ المواجهة مستمرّة بين المرجعيّة والسلطة الحاكمة.

 

التخطيط لمحاولة اغتيال السيّد الصدر(قدس سره)

 

حينما أصبح واضحاً للسلطة قرار السيّد الشهيد الاحتجاجيّ اتّصل مدير الأمن العامّ فاضل البرّاك، وقبله مساعده المجرم المعروف بــ (أبي أسماء) مدير الشعبة الخامسة، وطلبا من السيّد الصدر التخلّي عن قراره، وقالا: إذا كنّا لم نفرج عن عدد من المعتقلين، فإنّ ذلك يعود إلى أمرين.

الأوّل: أنّ هناك إجراءات روتينيّة تفرض التأخير قليلاً، والمسألة مجرّد وقت فقط.

والثاني: أنّ بعض هولاء (اعتدوا) على بعض قوى الأمن الداخليّ بالأسلحة والرمي، ومع ذلك فأنا شخصيّاً ـ والكلام للبرّاك ـ سأبذل كلّ جهدي من أجل الإفراج عن هؤلاء أيضاً، وقال: إنّ هدفنا هو: أن لاتسوء العلاقات، أو تتعكّر الأجواء.

أمّا الحقيقة فليست كذلك؛ إذ وصلت السيّد الشهيد معلومات موثّقة: أنّ السلطة إنّما أرادت أن يعود السيّد الصدر إلى حياته الطبيعيّة، فيذهب كعادته في كلّ يوم إلى الحرم الشريف وإلى مسجد الشيخ الطوسيّ للبحث؛ ليتاح للسلطة اغتياله في حادث شجار

193

يفتعل بين بعض المرتزقة المجرمين من قوى الأمن، في الوقت الذي يتّفق فيه وجود السيّد الشهيد بالقرب منهم، إمّا في سوق العمارة، أو في شارع الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فيقوم أحدهم بإطلاق النار على صاحبه، ويكون ـ على حسب الخطّة ـ ضحيّةُ هذا الشجار السيّدَ الصدر(رحمه الله)، ثُمَّ يتمّ بعد ذلك إعدام المجرمين على أساس قتلهم للسيّد الصدر، وبذلك يتخلّصون من السيّد الشهيد دون أن يتحمّلوا مسؤوليّة أو تبعات إعدامه، والذي زاد الشكوك، وعزّز هذه المعلومات هو أنّ مساعد مدير الأمن المجرم أبو أسماء اتّصل هاتفيّاً مرّات عديدة، وطلب من السيّد أن يباشر الدراسة، وكانت الاتّصالات لهذا الغرض فقط.

والأمر الآخر هو: أنّ بعض شرطة الأمن سألوا خادم السيّد: متى سيباشر السيّد أبحاثه ودروسه؟ ولهذا السبب ـ أيضاً ـ تظاهروا بفكّ الحجز عن السيّد الشهيد في الشهر الأخير من الاحتجاز، فقد استهدفوا إعادة الكرّة لعلّهم يفلحون في اغتيال المرجع المظلوم بدل إعدامه بشكل مباشر.

 

الإبلاغ الرسميّ بالاحتجاز

 

بعد أن فشلت السلطة العميلة في محاولاتها الإجراميّة لاغتيال السيّد الشهيد أبلغتنا السلطة الاحتجاز، فقد اتّصل مساعد مدير الأمن العامّ المجرم (أبو أسماء) مدير الشعبة الخامسة، وأخبر: بأنّ السيّد محتجز، ولايحقّ له الخروج من المنزل.

194

وقد قامت السلطة المجرمة بقطع الماء والكهرباء والتلفون عن منزل السيّد الشهيد، وبقينا أيّاماً بهذه الحال».

انتهى ما أردت نقله هنا من الشيخ النعمانيّ (حفظه الله) بتغيير يسير.

وقبل أن أنتقل إلى ذكر الاعتقال الرابع أذكر هنا اتّصالاً هاتفيّاً لاُستاذنا الشهيد(قدس سره)في أيّام احتجازه في البيت: اتّصل بأحد الأشخاص في إيران، وقرأ عليه ما يكون كجواب عن برقيّة أرسلها السيّد الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ إليه يستفسره عن حاله، وأكبر الظنّ أنّ الاُستاذ الشهيد قد سمع البرقيّة بتوسّط إذاعة إيران.

وعلى أيّة حال، فنصّ الجواب ما يلي:

«سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد الخمينيّ دام ظله: استمعت إلى برقيّتكم التي عبّرتم بها عن تفقّدكم الأبوىّ لي، وإنّي إذ لايتاح لي الجواب على البرقيّة ـ لأ نّي مودع في زاوية البيت، ولايمكن أن أرى أحداً أو يراني أحد ـ لايسعني إلاّ أن أسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يديم ظلّكم مناراً للإسلام، ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيّتكم القائدة، أسأله تعالى أن يتقبّل منّا العناء في سبيله، وأن يوفّقنا للحفاظ على عقيدة الاُمّة الإسلاميّة العظيمة، وليس لحياة أىّ إنسان قيمة إلاّ بقدر ما يعطي لاُمّته من وجوده وحياته وفكره، وقد أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم وفكركم ما سيظلّ به على مدى التأريخ مثلاً عظيماً لكلّ المجاهدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

195

 

الاعتقال الرابع

 

اعتقل (رحمه الله) بعد ظهر يوم السبت في الساعة الثانية والنصف يوم ( 19 / جمادى الاُولى 1400)، وجاء بعض الجلاوزة في ليلة الأربعاء بعد نصف الليل المصادف (23 / جمادى الاُولى 1400) إلى بيت أحد أبناء عمّ اُستاذنا الشهيد، وهو المرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر(قدس سره) لغرض إحضاره في عمليّة دفن اُستاذنا الشهيد بعد إراءتهم لجثمانه الطاهر إيّاه، وقد واروه في مضجعه بحضور السيّد محمّد صادق(رحمه الله).

وإليك تفصيل الكلام عن استشهاده، وعن دوافع السلطة الجائرة إلى قتله: