147

 

 

 

 

اعتقل (رضوان الله عليه) بسبب ظلم البعث الكافر الحاقد على الدين المسيطر على العراق أربع مرّات:

 

الاعتقال الأوّل

 

اعتقل في سنة (1392 هـ )، وكان ذلك ـ في الظنّ الغالب ـ في شهر رجب، أو في أواخر جمادى الآخرة، والقِصّة كما يلي:

ذكر (رضوان الله عليه) ذات يوم أنّه بلغني خبر يقول: إنّ البعثيّين سيعتقلونني في هذه الليلة، وفي صبيحة تلك الليلة عرفنا أنّه لم يقع شيء من هذا القبيل.

وفي الليلة الثانية ابتلي صدفةً بالتسمّم أو ما يشبهه، ممّا كان يحتمل أداؤه إلى الموت، فطلب إيصاله إلى المستشفى، وكنت أنا والمرحوم السيّد عبد الغنيّ(رحمه الله)بخدمته، ولا أذكر ما إذا كان شخص آخر ـ أيضاً ـ معنا أو لا، فأخذناه إلى مستشفى النجف، وبعد فترة من الزمن جاءت زوجته اُمّ جعفر واُخته بنت الهدى إلى المستشفى لعيادته، ثُمَّ رجعتا إلى البيت، ورجعت أنا ـ أيضاً ـ إلى بيتي، وبقي معه في المستشفى المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ(رحمه الله)، واطّلعنا

148

بعد ذلك على أنّ الأمن العراقيّ طوّق في تلك الليلة بيت الاُستاذ، واقتحم البيت لغرض اعتقاله، فقال لهم الخادم (وكان خادمه وقتئذ محمّدعلي المحقّق): إنّ السيّد غير موجود، ولا أعلم أين ذهب السيّد.

فبدؤوا بضرب الخادم؛ ليعترف لهم بمكان السيّد، إلاّ أنّه أبى وأصرّ على إنكاره برغم علمه بمكان السيّد، وجاءت اُختة (بنت الهدى)، وقالت لهم:

إنّ السيّد مريض، وقد انتقل إلى مستشفى النجف، فانتقل الأمن إلى مستشفى النجف، وطوّقوا المستشفى، وطالبوا المشرفين على المستشفى بتسليم السيّد، فقالوا لهم: إنّ السيّد مريض وحالته خطرة، وإذا أردتم نقله فنحن لانتحمّل مسؤوليّة ذلك إذا ما مات بأيديكم، وأخيراً وقع الاتّفاق على أن ينقل السيّد تحت إشراف الأمن إلى مستشفى الكوفة، على أن يكون معه المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ بعنوان مرافق المريض، وهكذا كان، فقد نقلوا السيّد الاُستاذ إلى مستشفى الكوفة، ووضعوه في ردهة المعتقلين، وعند الصباح ذهب السيّد محمّد الغرويّ إلى مستشفى الكوفة؛ كي يطّلع على حال السيّد الاُستاذ، فالتقى بالمرحوم السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله)، فقال له: إنّ الأمن قد وضعوا قيد الحديد على يده الكريمة، فأخبرني السيّد الغرويّ بذلك، فذهبت أنا إلى بيت السيّد الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ حيث كان ـ وقتئذ ـ يعيش في النجف الأشرف، وتشرّفت بلقائه، وحكيت له القِصّة.

149

ثُمَّ كثرت في صبيحة ذاك اليوم مراجعة الناس ـ بالخصوص طلاّب العلوم الدينيّة والعلماء العظام، أمثال المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر ـ إلى مستشفى الكوفة يطالبون بلقاء السيّد، والجلاوزة يمنعونهم عن ذلك، ودخل البعض على السيّد برغم منع الجلاوزة، وكاد أن يستفحل الاضطراب في وضع الناس، فخشيت الحكومة من نتائج الأمر، فرفعت القيد عن يد السيّد، وبعد فترة وجيزة أطلقت سراح السيّد الاُستاذ، ووضع في القسم العادي (غير ردهة المعتقلين) في مستشفى الكوفة، وبعد ذلك رجع إلى مستشفى النجف، وبعد أن تحسّنت حالته الصحيّة رجع إلى البيت، وازدادت زيارة الناس والوفود إليه، واستمرّ الأمر بهذا الوضع إلى أيّام شهادة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، حيث أقام السيّد الشهيد في بيته مأتماً للإمام الكاظم(عليه السلام)كعادته في كلّ سنة، وكان المجلس يغصّ بأهله، وكان الخطيب في ذاك المأتم السيّد جواد شبّر. وكان يقول السيّد الاُستاذ(رحمه الله): إنّ هذا الاعتقال قد أثّر في انشداد الاُمّة إلينا أكثر من ذي قبل، وتصاعد تعاطفها معنا.

وكان المفهوم لدينا ـ وقتئذ ـ أن مرض السيّد (رحمه الله) كان رحمةً وسبباً في تأخير تنفيذ ما يريده البعثيّون من أخذه معتقلاً إلى بغداد، إلى أن اشتهرت القِصّة، وضجّ الناس، واضطرّت الحكومة إلى إطلاق سراحه من دون الذهاب به إلى بغداد.

150

 

الاعتقال الثاني

 

اعتقل(رحمه الله) سنة (1397 هـ )، في شهر صفر، في أعقاب انتفاضة الأربعين، وكنت أنا ـ وقتئذ ـ في إيران.

قال الشيخ محمّدرضا النعمانيّ: «لقد اهتمّ السيّد الشهيد بالتخطيط لانتفاضة صفر سنة (1397 هـ )؛ ولذا كان (رضوان الله عليه) أمرني بتقديم الأموال إلى المواكب كافّة، وأن لا أردّ أيّ طلب من أيّ موكب أو (تكية) صغيرة كانت أو كبيرة، وكان يقول: إنّ هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إنّ هذه المواكب وهذه المظاهر هي التي زرعت في نفوس وقلوب الأجيال حبّ الحسين(عليه السلام) وحبّ الإسلام، فيجب أن تبقى على رغم حاجتها إلى تهذيب وتعديل يناسب العصر.

كان السيّد الشهيد يتابع أحداث الانتفاضة متابعة دقيقة، سواء في داخل النجف أو في الطريق بين النجف وكربلاء، وكان ـ رضوان الله عليه ـ في غاية السرور حين تتوارد عليه الأنباء بنجاح الانتفاضة وشجاعة الزوّار في تحدّي السلطة الجائرة، وكذلك أنباء وقوف بعض قطعات الجيش العراقيّ، وعدد من أعضاء حزب البعث الحاكم إلى جانب الثوار الأبطال، وكان (رضوان الله عليه) يأمل أن يستفيد في المستقبل من هذه العواطف والمواقف.

لكنّ السلطة البعثيّة الجائرة كعادتها في قمع الانتفاضات بالنار

151

شنّت حملة واسعة من الاعتقالات والتصفيات الجسديّة، ولم تكن لتتخطّى شهيدنا العظيم، رضوان الله عليه، و لكن كيف؟ ولماذا قرّرت السلطة اعتقاله، في الوقت الذي لم تكن للسيّد الشهيد نشاطات محسوسة، أو ظاهرة يمكن أن تبرّر بها جريمة الاعتقال أمام الاُمّة؟

إنّ ممّا لاشكّ فيه أنّ السلطة كانت مضطربة وخائفة من أحداث النجف، خائفة من روح التحدّي العظيمة التي أبداها زوّار سيّد الشهداء عليه الصلاة والسلام.

وخائفة من إصرارهم على تنفيذ قرار الذهاب مشياً على الأقدام من النجف إلى كربلاء.

وخائفة من مواقف الغيارى والشرفاء من أبناء النجف الذين وقفوا وجهاً لوجه قبال محافظ النجف ـ آنذاك ـ المجرم جاسم الركابيّ، حين أبلغهم بقرار السلطة منع المشاة من الذهاب إلى كربلاء، ليقولوا له: والله سنذهب مشياً على الأقدام، ونزور الحسين(عليه السلام)، وكان في طليعتهم الشهيد السعيد عبّاس عجينة(رحمه الله).

وعبّرت عن خوفها حين تراجعت عن قرار المنع على لسان محافظ النجف في الساعات الأخيرة قبل انطلاق مسيرة المشاة إلى كربلاء، وحين ظلّ رجال السلطة يتوسّلون بالعلماء والمراجع لدعوة المشاة إلى عدم التنديد بالسلطة وسبّ الرئيس المقبور البكر ونائبه المجرم صدام...

لقد شعرت السلطة أنّها اُهينت ولطّخت سمعتها وكسرت شوكتها بإقدام أبناء العراق البررة، أنصار الحسين(عليه السلام) الذين قدّموا العديد من الشهداء في هذه المناسبة، وكان لابدّ للسلطة الحاقدة أن تنتقم،

152

وتفرّغ حقدها وغضبها، وتثأر من الاُمّة، ومن أبناء النجف بالذات، ومن المرجعيّة الواعية الرشيدة وما تمثّله من قيم، وما ترمز إليه من معان، فأرادت أن تنتقم من الاُمّة، فشنّت حملات إرهابيّة واسعة من الاعتقالات، أدّت إلى استشهاد عدد من أنصار الحسين(عليه السلام)، نظير الشهيد (صاحب آلبو گِلل) ورفاقه، والحكم بالسجن المؤبّد على عدد آخر من الأنصار.

وأرادت أن تنتقم بحقد من المرجعيّة، فكان اعتقال السيّد الشهيد، رضوان الله عليه، ففي الساعة التاسعة صباحاً جاء أحد ضبّاط الأمن المجرمين إلى دار السيّد الشهيد تمهيداً لمجيء مدير أمن النجف المجرم (أبو سعد)، وحين اجتمع هذا الأخير بالسيّد الشهيد قال له: إنّ السيّد عزّت الدوريّ ـ وكان وزيراً للداخليّة آنذاك ـ يودّ لقاءك في بغداد.

ذهب السيّد الشهيد (رحمه الله) إلى بغداد معتقلاً. وهناك التقى بمدير الأمن العامّ؛ ليبلغه رسالة حقد من القيادة العفلقيّة، وسيلاً من كلمات التهديد والوعيد بألوان من الانتقام. وفي هذه المرّة عذّب السيّد الشهيد وضرب، وبقيت آثاره عليه بعد الإفراج عنه حتّى كان لايقوى على صعود السلّم إلاّ بصعوبة كان يخفيها. لقد سمعت هذا منه، وكان يقول: كنت أحرص على كتمان ذلك؛ كي لايؤدّي إلى انهيار أو خوف البعض ممّن لم يوطّن نفسه على الصمود والثبات.

وفي نفس اليوم اُفرج عن السيّد الشهيد، فعاد إلى النجف، وكتم ما أصابه.

وحين عاد السيّد الشهيد من الاعتقال سألته عمّا جرى له في

153

التحقيق حول انتفاضة صفر، فكان من جملة ما قال: إنّ مدير الأمن العامّ قال له: إنّنا نعلم أنّك وراء هذه الأعمال العدوانيّة، ونعلم أنّك قدّمت إليهم الأموال، لكنّنا نعرف كيف ننتقم منك في الوقت المناسب، وظلّ يهدّدني بالإعدام، ويقول:

لو لا انشغالنا بالقضاء على هؤلاء المشاغبين، لنفّذنا الإعدام الآن، ولكن سترى بعد حين مصيرك». انتهى النقل عن الشيخ النعمانيّ.

154

 

الاعتقال الثالث

 

اعتقل(رحمه الله) في سنة (1399 هـ )، في السادس عشر أو السابع عشر من رجب على حسب الاختلاف الواقع في الهلال آنذاك، واُطلق سراحه في نفس اليوم.

ولعلّ خير ما كتب عن اعتقال السيّد الشهيد(رحمه الله) في رجب، وما اكتنفه من أحداث سابقة ولاحقة، هو ما كتبه الشيخ محمّدرضا النعمانيّ حفظه الله. وإليك نصّ كلام الشيخ مع تغيير يسير:

 

توجّس السلطة وخوفها

 

في الفترة التي سبقت أحداث رجب، وتلت انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، منيت السلطة البعثيّة العميلة بخوف ورعب شديدين، فقد أحسّت أنّ حدث انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران يشكّل خطورة كبرى تهدّد مستقبل الحكم، ولانعجب من ذلك؛ لأنّ العراق هو البلد الأوّل المرشّح لثورة إسلاميّة اُخرى، فكلّ شيء في العراق كان يسير بهذا الاتّجاه، ولعلّ موقف السلطة من مرجعيّة السيّد الشهيد، ومن الحوزة العلميّة، ومن الحركة الإسلاميّة في العراق عام (1974 م) وما قبله، أوضح مؤشّر على هذه الحقيقة، فالأحداث كانت تسير باتّجاه إقامة حكومة إسلاميّة، ولم يكن

155

يخفى ذلك على السلطة.

ومن ظواهر الرعب: تأكيد السلطة العميلة على لسان مدير الأمن العامّ (البرّاك) للسيّد الشهيد، أنّ (القيادة) تؤيّد الثورة الإسلاميّة في إيران، ولاتقف منها إلاّ موقف المساند، وأشار إلى البرقيّة التي بعثها البكر المقبور إلى الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ بعد انتصار الثورة، وقال: إنّ العراق كان من الدول الاُولى التي أيّدت الثورة الإسلاميّة في إيران، وفي هذا اللقاء قال السيّد الشهيد: إذا كان موقفكم من الثورة الإسلاميّة في إيران بهذا المستوى، فلماذا منعتم العراقيين عن تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران من خلال التظاهرات التي منعتموها، واعتقلتم المتظاهرين، على رغم كونهم لم يستهدفوا إلاّ تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران؟!...

فقال البرّاك: إنّ المواقف السياسيّة ومنها الموقف تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران تحدّد من قبل (القيادة السياسيّة)، فهي وحدها المسؤولة عن ذلك، وليس من حقِّ أحد أن يعارض أو يؤيّد إلاّ من خلال القرار السياسيّ الذي تتّخذه القيادة السياسيّة.

فقال السيّد الشهيد: إنّك قلت قبل قليل: إنّ القيادة السياسيّة أيّدت الثورة، وإنّ العراق كان من أوائل الدول المؤيّدة لها، أ ليس موقف الجماهير ينسجم مع هذا القرار؟!

فقال البرّاك: نعم، ولكنّ اتّخاذ مواقف سياسيّة من مسؤوليّتنا، وليس لأحد أن يتدخّل في هذه الاُمور.

ومن الواضح: أنّ صدور هذا الكلام عن السلطة المغرورة

156

والغارقة في بحر الكبرياء والعظمة الفارغة لايصدر إلاّ بسبب الخوف والرعب الذي خيّم على قلوبهم، وإلاّ فإنّ أعمالهم وممارساتهم تدلّ على عكس ذلك، فهم الذين تجاهلوا الثورة الإسلاميّة وأحداثها الرائعة، ولم تواكب وسائل إعلامهم أحداث الثورة، إلاّ بعد أن أصبحت الثورة الخبر الأوّل الذي يتصدّر كلّ نشرات الأخبار العالميّة، وأصبح تجاهلها يعتبر نكسة إعلاميّة وحالة شاذّة.

وهم الذين قالوا على لسان المجرم صدام التكريتيّ: «الشاه باق باق» على أمل أن يبقى الشاه.

وهم الذين أرادوا منع الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ من قيادة الثورة من النجف، واضطرّوه إلى مغادرة العراق.

وهم الذين قمعوا التظاهرات التي أيّدت الثورة الإسلاميّة في إيران، والتي خرجت بعد صلاة المغرب من جامع الخضراء في النجف الأشرف. فكيف يمكن أن نوفِّق بين ما يدّعيه البرّاك وغيره وبين الممارسات العمليّة السلبيّة تجاه الثورة ومؤيّديها؟! ومن مظاهر الرعب هو تشويش إذاعة طهران الناطقة باللّغة العربيّة التي تُسمَع في كافّة أنحاء العراق.

إنّ إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة (القسم العربيّ) أصبحت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المحطّة الاُولى والرئيسيّة بالنسبة إلى العراقيّين، وبدأت تشقّ طريقها في التأثير بالعراقيّين، ليس في أوساط المتديّنين والموالين للثورة الإسلاميّة فقط، بل حتّى في

157

أوساط البعثيّين أنفسهم، فقبل قرار منع الاستماع إليها ومعاقبة المخالفين كانت مجاميع كبيرة من كوادر حزب البعث الحاكم يستمعون لها في مقرّات الحزب نفسه، وبلغ تعلّق العراقيّين بإذاعة طهران حدّاً أقلق السلطة، فقد بدأت المفاهيم والأفكار التي تطرحها الإذاعة تنتشر بسرعة وتَشيع، وظلّ نشيد (خميني أي إمام، خميني أي إمام) يتردّد في مدارس العراق، على رغم كونه باللّغة الفارسيّة، ولم تجد السلطة من سبيل إلاّ إصدار قرار بمنع الاستماع لإذاعة طهران، ومعاقبة المخالفين، وكذلك تشويش المحطّة؛ كي لايتيسّر الاستماع إليها.

ومن المؤشّرات المهمّة في هذا المجال: الزيارات المتكرّرة التي قام بها مختلف المسؤولين للسيّد الشهيد، بهدف إظهار حالة من الودّ والمحبّة، على أمل بناء علاقات جيّدة يُستهدف منها إنهاء حالة المعارضة لهم من قبل المرجعيّة بعد ذلك الشوط الطويل من السعي المتواصل لتصفية السيّد الشهيد، والقضاء على مرجعيّته الرشيدة قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. وفي الوقت نفسه كثّفت مديريّة الأمن العامّة مراقبتها للسيّد الشهيد بشكل لم يسبق له نظير.

وأتذكّر في هذا المجال أنّ السلطة بعثت أحد عملائها في بداية حرب نفسيّة؛ ليخبر السيّد الشهيد بأنّه علم من مصادر موثوقة أنّ السلطة تنوي عدم التساهل مع السيّد الشهيد لو أنّه حاول القيام بأعمال ضدّ السلطة، وأنّ نهاية السيّد الصدر ستكون حتميّة في أوّل اعتقال يقع، ثُمَّ التمس من السيّد الشهيد ـ حرصاً على حياته

158

وسلامته!! ـ أن لايقوم بشيء. وفي تلك الفترة كثرت أمثال هذه الأعمال من قبل أشخاص كنّا نعرف خبث سريرة بعضهم، وسذاجة البعض الآخر ممّن لايعي أبعاد الدور الذي كلّف به.

وعلى كلّ حال، فإنّ الظواهر والمؤشّرات التي برزت في تلك الفترة كانت تدلّل ـ بمالا يقبل الشكّ ـ على أنّ حالة من الخوف والذعر قد سيطرت على الحكّام، وأفقدتهم رشدهم، وجعلتهم يتخبّطون ويتناقضون في مواقفهم وتصريحاتهم. ومن الجدير أن نشير إلى التعميم الذي أصدرته قيادة الحزب العميل عن موقفها الحقيقيّ تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران بعد أن تفشّت ظاهرة تأييد الثورة الإسلاميّة حتّى في داخل صفوف حزب البعث، فقد أكّد التعميم أنّ مواقف (بعض الرفاق) من الثورة الإسلاميّة لايوافق موقف الحزب والقيادة السياسيّة، وطلب منهم اتّخاذ موقف سلبيّ من الثورة الإسلاميّة باعتبارها (رجعيّة)، وحرّضهم على ترويج الإشاعات ضدّ الثورة، وذكر نموذجاً لذلك: هو مطالبة الجمهوريّة الإسلاميّة الدول الاستكباريّة بإرجاع الأموال التي سرقها الشاه المقبور، وأودعها في بنوكهم، فصوّر (التعميم) هذا الحدث بأنّه السبب الأساس الذي دفع الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ إلى الثورة ضدّ الشاه، وطلب منهم (توعية) الشعب على هذه الحقيقة.

كلّ ذلك من أجل إطفاء وهج الثورة في نفوس مختلف صفوف الشعب العراقيّ، بما فيها أوساط حزب البعث الحاكم.

ولكنّ الحقيقة: أنّ السلطة لم تحقّق من أعمالها المكاسب التي

159

توخّتها، بل يمكن أن نقول: إنّ المردودات السلبيّة كانت كبيرة جداً، فقد توضّحت الصورة، وعرفت الجماهير الموقف الحقيقيّ للسلطة من الثورة الإسلاميّة، ممّا زاد من إصرار الجماهير المسلمة على التمسّك بموقفها المؤيّد والمساند للثورة الإسلاميّة في إيران.

 

لماذا ركّزت السلطة مراقبتها للسيّد الشهيد(قدس سره)؟

 

السلطة البعثيّة العميلة وأجهزتها الإرهابيّة ركّزت مراقبتها ـ بعد انتصار الثورة الإسلاميّة ـ للسيّد الشهيد، وراقبته مراقبة شديدة ودقيقة؛ فقد بذلت السلطة كلّ ما يمكن، واعتمدت مختلف الوسائل والأساليب لمعرفة كلّ صغيرة وكبيرة عن السيّد الصدر، رضوان الله عليه، وتركّزت الجهود في تعرّف نوع الصلة بين السيّد الشهيد وبين الثورة الإسلاميّة وقائدها العظيم الإمام الخمينيّ دام ظلّه ... هل ستقوم الثورة بدعم الحركة الإسلاميّة في العراق بهدف قيام جمهوريّة إسلاميّة في العراق؟ هل سيتمّ تنسيق وتعاون بين الشهيد الصدر وبين الإمام الخميني دام ظلّه؟ هل ستقوم إيران بتحرير العراق عسكريّاً وإسقاط الحكم البعثيّ العميل بعلم السيّد الصدر وإشرافه؟

أسئلة كثيرة كانت تراود السلطة عن نوع العلاقة ومستوى التنسيق بين السيّد الشهيد والإمام القائد... وهي بلا شكٍّ تُقلق السلطة، وتجعلها تحسب كلّ صيحة عليها.

160

ولنا أن نتسائل: هل توجّس السلطة وموقفها الحائر مجرّد تصوّرات واحتمالات، أو يستند إلى أدلّة ملموسة، أو ظواهر لايمكن تفسيرها أو تبريرها إلاّ بهذا الاتّجاه؟

ولا اُريد أن اُجيب عن ذلك إلاّ بمضمون بعض مجريات التحقيق والاستجواب الذي اُجري مع السيّد الشهيد حين اعتقل في (17 رجب عام 1399 هـ ).

وملخّص مجريات التحقيق مع شهيدنا الغالي في هذا المجال تركّزت على ما يلي:

1 ـ حين رفض الإمام السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ شروط السلطة العميلة التي أرادت فرضها عليه في مقابل البقاء في العراق، قرّر سماحته مغادرة العراق إلى الكويت، وتمّ سفره المبارك في ساعة مبكِّرة صباحاً، وحين علم السيّد الشهيد بقرار الإمام القائد قرّر (رضوان الله عليه) زيارة الإمام برغم ما يترتّب على ذلك من آثار وحسّاسيّات أمنيّة من ناحية السلطة العميلة، حيث كانت قوّات الأمن قد طوّقت منزل السيّد الإمام والشارع والأزقّة المؤدّية إليه. وقرّر السيّد الشهيد الذهاب إلى منزل الإمام قبل أن يطّلع على سفر الإمام إلى البصرة، وتحدّث في ذلك الوقت بكلام معناه: أنّ الذهاب إلى منزل الإمام في هذه الظروف ضرورة دينيّة؛ لأنّه تأييد ومساندة للإمام في هذا الظرف الصعب.

وذهب الشهيد الغالي إلى منزل الإمام، وجلس مدّة من الزمن، وهو المرجع الوحيد الذي وقف هذا الموقف المشرّف في وقت عزّ

161

فيه من يجرؤ على التقرّب من الزقاق الذي يقع فيه منزل الإمام، فضلاً عن الدخول فيه.

وأتذكّر أنّ البعض قالوا للسيّد الشهيد: إنّ قوّات الأمن يمنعون من يريد الوصول إلى منزل السيّد الإمام، فردّ السيّد الشهيد قائلاً: على كلّ حال سأذهب، وليحدث ما يحدث.

وقد سئل السيّد الشهيد حين اعتقل في رجب عن السبب الذي جعله يتحدّى السلطة في تلك الظروف العصيبة، ويذهب إلى زيارة بيت الإمام.

2 ـ السلسلة القيّمة التي كتبها السيّد الشهيد (الإسلام يقود الحياة) كلمحة فقهيّة تمهيديّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وصورة عن اقتصاد المجتمع الإسلاميّ، وغير ذلك.

إنّ هذه السلسلة عبرّت بوضوح عن موقف السيّد الشهيد، وتفاعله مع الثورة الإسلاميّة في إيران وقائدها العظيم الإمام الخمينيّ دام ظلّه، وإن شئت فاقرأ ما جاء في (لمحة فقهيّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة)، حين يبيّن السيّد الشهيد المسؤوليّة التأريخيّة للثورة الإسلاميّة في إيران على صعيد الجمهوريّة، وعلى صعيد العالم، فيقول:

«وفي الخارج تستهدف الدولة:

أوّلاً: حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كلِّه.

ثانياً: الوقوف إلى جانب الحقّ والعدل في القضايا الدوليّة،

162

وتقديم المَثَل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.

ثالثاً: مساعدة كلّ المستضعفين والمعذَّبين في الأرض، ومقاومة الاستعمار والطغيان وبخاصّة في العالم الإسلاميّ الذي تعتبر إيران جزءاً لايتجزّأ منه. إنّ دولة القرآن العظيمة لاتستنفد أهدافها...».

ولم يكن يخفى على السلطة مغزى هذه الكلمات القيّمة عن مسؤوليّة الجمهوريّة الإسلاميّة تجاه العراق، وباقي دول العالم الإسلاميّ؛ ولذا سئل السيّد الشهيد عن دوافع كتابة هذه الحلقات.

3 ـ بعث السيّد الشهيد أحد تلاميذه(1) إلى الجمهوريّة الإسلاميّة؛ ليكون حلقة وصل بين السيّد الشهيد والإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه؛ لغرض التنسيق ومواكبة حركة الثورة الإسلاميّة، وقد أحسّت السلطة بذلك فأثارها؛ ولذلك ركّز في التحقيق مع السيّد الشهيد على هذه النقطة.

وقد سألت السيّد الشهيد (رحمه الله) عن جوابه، فقال: لم أجب بشيء؛ لأنّي أعلم أنّ السلطة تعرف هذا الموضوع، اكتفيت بالقول: فسِّروه بما شئتم. فقال مدير الأمن: إنّ معلوماتنا تؤكّد أنّ الهدف كان التنسيق بينكم وبين السيّد الخمينيّ دام ظلّه، فردّ السيّد الشهيد: فليكن ذلك.

فقلت للسيّد الشهيد (رضوان الله عليه): أ ليس هذا الجواب اعترافاً بتلك الحقيقة؟! فقال(رحمه الله): حين اُعتقلت حسبت أنّ الشهادة


(1)وهو السيّد محمود الهاشميّ، حفظه الله.

163

تنتظرني في بغداد، وأحسست أنّ المسؤوليّة التي كانت تثقل كاهلي، وتسبّب لي الهموم والآلام قد انتهت، فلم أكن أحسب للآثار التي ستترتّب على جوابي هل تشكّل خطورة علىّ، أو لا؟

4 ـ مجموعة الرسائل والبرقيّات التي بعثها سماحته إلى الإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه، وإلى الشعب الإيرانيّ الشقيق. فقد قال البّراك (مدير الأمن العامّ): ما هو السبب الذي جعلك تنفرد دون باقي العلماء لتقف هذا الموقف الصريح متجاهلاً أنّ هناك سلطة وحزباً يحكمون القطر، لهم الكلمة الحاسمة والأخيرة في المواقف السياسيّة وغيرها؟!

من ناحية اُخرى: أنّ السلطة تدرك أهمّيّة السيّد الشهيد، وقابليّاته الهائلة في مجال الفكر والتخطيط، والحسّ السياسيّ، وقدرته العظيمة في مجال التأثير بالشعب العراقيّ، ولم يكن بوسع السلطة تجاهل تجربتها المعقّدة والطويلة مع السيّد الشهيد قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، هذه التجربة التي كانت حصيلتها للسلطة فشلاً على فشل، وهزيمة إثر هزيمة، فما من جولة ـ على رغم آثارها وجراحها المؤلمة ـ إلاّ وكان النصر إلى جانب السيّد الشهيد(رحمه الله).

إنّ السلطة العميلة كانت مقتنعة بأنّ السيّد الصدر هو مركز البركان، وهو الخطر الوحيد الذي يتهدّدها، خاصّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، والآثار النفسيّة والمعنويّة التي أوجدتها في نفوس العراقيّين، وفي مقدّمتها حالة التهيّؤ والاستعداد لثورة إسلاميّة في العراق بقيادة الشهيد السعيد السيّد الصدر، رضوان الله عليه.

164

 

برقيّة الإمام

 

وجاءت برقيّة إمام الاُمّة السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ لتقطع الشكّ باليقين عن العلاقة بين الشهيد الصدر والإمام الخمينيّ، دام ظلّه.

إنّ السيّد الشهيد لم يستلم البرقيّة التي بعثها الإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه، فقد احتُجزت، ولم تسلّم للسيّد الشهيد، ولكنّي كنت قد سجّلتها من إذاعة طهران، وأسمعتها السيّد الشهيد بعد إذاعتها بدقائق، وهذا نصّها:

«سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد محمّدباقر الصدر، دامت بركاته:

علمنا أنّ سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلاميّة، وإنّي قلق من هذا الأمر، آمل ـ إن شاء الله ـ إزالة قلق سماحتكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

روح الله الموسويّ الخمينيّ»

 

الموقف التأريخيّ المشرّف للعراقيّين

 

في تلك الفترة كانت إذاعة طهران العربيّة هي الإذاعة الاُولى من حيث استماع العراقيّين لها، فكان من الطبيعيّ أن يستمع الشعب

165

لبرقيّة إمام الاُمّة، ويتعرّف مغازيها وما تعنيه. والبرقيّة لم تكن عاديّة بحيث لاتلفت الانتباه، فقد أكّد إمام الاُمّة نقطتين أساسيّتين:

1 ـ مغادرة السيّد الشهيد (رحمه الله) للعراق، وما تعنيه من فراغ كبير للنجف والعراق.

2 ـ ما يتعرّض له السيّد الشهيد من مضايقات وضغط من قبل السلطة البعثيّة العميلة.

للأسباب هذه كان وقع البرقيّة عظيماً في كافّة أوساط الشعب العراقيّ، فكانت بداية جديدة لمرحلة جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر، فبدأت تتقاطر الوفود إلى النجف الأشرف من كافّة أنحاء العراق تطالب السيّد الشهيد بالبقاء في العراق وعدم مغادرته له.

 

وقفة مع الوفود:

من الضروريّ أن نقف عند هذه الظاهرة التي تستحقّ الدراسة والتقييم، فالوفود كانت متميّزة، متميّزة في أشخاصها وشعاراتها وهتافاتها واستمراريّتها وتحدّيها للسلطة الجائرة:

أوّلاً: الشمول، من الملاحظ أنّ طابع الشمول كان ظاهرة بارزة، فلم تقتصر على محافظة دون اُخرى، أو شريحة دون اُخرى، بل شملت معظم محافظات العراق، ومختلف شرائح المجتمع العراقيّ.

وللتاريخ اُسجّل للقارئ نماذج من الوفود التي زارت السيّد الشهيد، وجدّدت له البيعة، وعاهدته على التأييد والمساندة حتّى آخر قطرة دم.

166

بغداد:

جاءت عدّة وفود من بغداد، نذكر منها:

1 ـ وفد الشهيد السعيد حجّة الإسلام السيّد قاسم المبرقع، من مدينة الثورة.

2 ـ وفد الشهيد السعيد حجّة السلام الشيخ قاسم ضيف، من مدينة البيّاع.

3 ـ وفد حجّة الإسلام الشيخ النمديّ، من مدينة الكاظميّة.

 

محافظة واسط:

1 ـ وفد الشهيد السعيد آية الله السيّد قاسم شبر، من قضاء النعمانيّة.

2 ـ وفد أهالي الكوت مع سماحة حجّة الإسلام الشيخ عفيف النابلسيّ.

3 ـ وفد أهالي العزيزيّة وناحية الزبيديّة وضواحيها مع سماحة الشهيد السعيد حجّة الإسلام السيّد عزّالدين الخطيب.

 

البصرة:

وفد على رأسه حجّة الإسلام السيّد عصام شبّر.

 

العمارة:

وفد حجّة الإسلام الشهيد السعيد الشيخ عبدالأمير محسن العماريّ.

167

وغيرها من الوفود، من قبيل: وفد الناصريّة وديالى وكركوك والديوانيّة وكربلاء والسماوة.

ثانياً: من الملاحظ أنّ الوفود كما أنّها شملت مختلف محافظات وأنحاء العراق كذلك شملت مختلف أوساط المجتمع، فتجد الكهل والشابّ والمرأة والطفل، وتجد العامل والفلاّح والكاسب والاُستاذ والطالب الجامعيّ، وطالب الإعداديّة والابتدائيّة. وإضافةً إلى ذلك تجد مختلف الرُّتَب العسكريّة، حتّى ضمّ أحد الوفود من المناطق الجنوبيّة عدداً من الطيّارين العسكريّين، أو العاملين في القوّة الجويّة.

ثالثاً: الشعارات التي ردّدتها الوفود كانت رائعة، ومعبّرة عمّا في نفوس أبناء العراق تجاه السيّد الشهيد(قدس سره)والإمام الخمينيّ دام ظلّه: (باسم الخميني والصدر، الإسلام دوماً منتصر) و(عاش عاش عاش الصدر، والدين دوماً منتصر). لقد عبّرت الوفود من خلال شعاراتها عن تمسّكها بالإسلام، وتأييدها للثورة الإسلاميّة، والمرجعيّة الرشيدة.

رابعاً: الظاهرة الاُخرى الملفتة للانتباه هي الكثافة العظيمة، حيث اكتظّت النجف بالاُلوف من خيرة أبناء العراق، وكان السيّد الشهيد يستقبل هذه الوفود من الصباح الباكر حتّى ساعة متأخّرة من الليل، حتّى ظهرت عليه علامات الإرهاق والتعب الشديد، لدرجة أنّه في بعض الأحيان كان يعجز من مجرّد الكلام.

خامساً: التحدّي الصارخ للسلطة، وهذا ما اعترف به أكثر من

168

مسؤول بعثيّ كبير.

سادساً: استمراريّة تقاطر الوفود كانت ميزة، ولو لابعض الآثار التي حدت بالسيّد الشهيد إلى الاكتفاء بهذا القدر لاستمرّ زخم الوفود وتقاطرها إلى فترة طويلة، حيث كانت تصل إلينا الأخبار تباعاً عن تهيّؤ وفود اُخرى من مختلف أنحاء العراق، ولكن السيّد الشهيد أمر وكلاءه إبلاغ الاُمّة بأنّه لن يغادر العراق، وسيبقى معكم حتّى النفس الأخير، ولاداعي لتجشّم عناء السفر.

إنّ أهمّ الأسباب التي دعت السيّد الشهيد لاتّخاذ هذا الموقف هو:

أوّلاً: أنّ الآلاف من المؤمنين والمجاهدين استطاعوا أن يعبِّروا بوضوح عن موقف الشعب العراقيّ الأصيل من المرجعيّة الرشيدة والثورة الإسلاميّة.

ثانياً: حرص السيّد الشهيد على عدم كشف كافّة الأوساط الموالية والمؤمنة بالمرجعيّة وبالثورة الإسلاميّة؛ إذ إنّ سلطات الإرهاب كانت تراقب الوفود بدقّة، وهي لن تتورّع ـ إن قرّرت الانتقام ـ من تصفية الملايين.

 

تقييم السيّد الشهيد(رحمه الله) للوفود:

أكثر من مرّة عبّر السيّد الشهيد عن موقفه تجاه كلّ الوفود التي زارته، عبّر عن اعتزازه وتقديره وشكره، وكان الأمل يملأ قلبه في أن يعود الإسلام إلى مسرح الحياة على أيدي هؤلاء الأبطال.

واُشير هنا إلى ما جاء في نداء السيّد الشهيد(قدس سره):

169

«أيّها الشعب العراقيّ المسلم، إنّي اُخاطبك أيّها الشعب الحرّ الأبيّ الكريم، وأنا أشدّ الناس إيماناً بك وبروحك الكبيرة، وبتأريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً لما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحبّ والولاء والبُنوّة للمرجعيّة؛ إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحميّة والتقوى، يطلبون منّي أن أظلّ اُواسيهم، وأعيش آلامهم عن قرب؛ لأنّها آلامي، وإنّي أودّ أن اُؤكّد لك يا شعب آبائي وأجدادي، أ نّي معك وفي أعماقك، ولن أتخلّى عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك».

وأعتقد أنّ هذا المقطع من النداء لايحتاج إلى تعليق، فهو يطفح بمشاعر السيّد الشهيد تجاه أبناء العراق البررة، ويجسّدها تجسيداً حيّاً.

 

موقف السلطة:

لم تحسب السلطة المجرمة أن يكون ردّ الشعب العراقيّ المسلم بهذا المستوى؛ إذ كان زخم الوفود مفاجأة بكلّ معنى الكلمة، ولذلك أحجمت عن اتّخاذ أىّ إجراء قمعيّ فوريّ؛ لأنّها لاتعرف مستوى التحرّك، وهل للجيش صلة بالموضوع، أو لا؟. وفضّلت مراقبة الوضع والتريّث إلى حين.

ولنا أن نتساءَل عن رأي السلطة كيف كانت تنظر إلى هذا الوضع؟ وما ذا كان يعني في رأيها تقاطر الوفود إلى النجف لتأييد السيّد

170

الشهيد ومبايعته؟ وهنا اُشير إلى تصريحين بهذا الشأن:

الأوّل: اعتراف مدير أمن النجف بأنّ ما حدث كان ثورة، وأوشكت أن تنجح لو لا (حزم) السلطة(1).

الثاني: ما نقله السيّد علي بدر الدين عن أحد أعضاء ما يسمّى بمجلس قيادة الثورة، فقد قال: إنّ السيّد محمّد باقر الصدر قام بثورة كادت أن تنجح، ونحن من الآن نتعامل معه على هذا الأساس، ولو لا أنّه فاجأنا بهذا التحرّك، لعرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء (العملاء) الذين حرّكهم ضدنا... إلى آخره.

والحقيقة: أنّ هذا التقييم هو عين الواقع، فما حدث في رجب كان ثورة حقيقيّة ضدّ السلطة، ولو لا العجز عن توفير السلاح والعتاد، لنجحت الثورة في جانبها العسكريّ بعد أن نجحت في الجوانب الاُخرى.

أمّا الإجراءات التي اتّخذت لقمع التحرّك في رجب، فهي كالتالي:

أ ـ استدعاء عشرات الاُلوف من قوّات الأمن والجيش اللاشعبيّ للتواجد في النجف، وتطويق شوارعها وأزقّتها، وفرض السيطرة عليها.

ب ـ فرض حالة التأهّب والاستعداد في الجيش، والجيش اللاشعبيّ، والحزب.


(1)وسيأتى ذكر هذه القِصّة لدى ذكر المفاوضات التى جرت مع السيّد الشهيد فى فترة الاحتجاز.