128

صورة واضحة محدّدة لهذه الأهداف، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي تتصرّف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرّفات عشوائيّة، وبروح تجزيئيّة، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة.

وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كلّ الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.

 

أهداف المرجعيّة الصالحة:

ويمكن تلخيص أهداف المرجعيّة الصالحة رغم ترابطها وتوحّد روحها العامّة في خمس نقاط:

1 ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدىً ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.

2 ـ إيجاد تيّار فكريّ واسع في الاُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلاميّة الواعية، من قبيل المفهوم الأساسيّ الذي يؤكّد أنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة، واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3 ـ إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلاميّ، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقيّة

129

المذاهب الاجتماعيّة، وتوسيع نطاق الفقه الإسلاميّ على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككلٍّ إلى مستوى هذه المهامّ الكبيرة.

4 ـ القيمومة على العمل الإسلاميّ، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ: من مفاهيم، وتأييد ما هو حقّ منها، وإسناده وتصحيح ما هو خطأ.

5 ـ إعطاء مراكز العالميّة من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القياديّة للاُمّة بتبنّي مصالحها، والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

ووضوح هذه الأهداف للمرجعيّة وتبنّيها وإن كان هو الذي يحدّد صلاح المرجعيّة، ويحدث تغييراً كبيراً في سياستها العامّة، ونظراتها إلى الاُمور، وطبيعة تعاملها مع الاُمّة، ولكن لايكفي مجرّد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعيّة الصالحة؛ لأنّ الحصول على ذلك يتوقّف ـ إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه واستهدافه ـ على عمل مسبق على قيام المرجعيّة الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات على اُسلوب المرجعيّة ووضعها العمليّ من ناحية اُخرى.

أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعيّة الصالحة، فهي تعني: أنّ بداية نشوء مرجعيّة صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلّب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الاُمّة، وإعدادها فكريّاً وروحيّاً للمساهمة في خدمة

130

الإسلام وبناء المرجعيّة الصالحة؛ إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح في أفكاره وتصوّراته، وتنظر إلى الاُمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كاف لإيجاد المرجعيّة الصالحة حقّاً، وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.

وبهذا كان لزاماً على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعيّة إلى مرجعيّة صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـ بالرغم من صلاحهم ـ يشعرون عند تسلّم المرجعيّة بالعجز الكامل عن التغيير؛ لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحدّدوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعيّة والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.

 

تطوير اُسلوب المرجعيّة:

وأمّا فكرة تطوير اُسلوب المرجعيّة وواقعها العمليّ، فهي تستهدف:

أوّلاً: إيجاد جهاز عمليّ تخطيطيّ وتنفيذيّ للمرجعيّة يقوم على أساس الكفاءة، والتخصّص، وتقسيم العمل، واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعيّ الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة.

ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً من الحاشية التي تعبّر عن جهاز عفويّ مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة؛ لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة وبدون أهداف

131

محدّدة واضحة.

ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كلّ إمكانات العمل المرجعيّ. ويمكن أن نذكر اللجان التالية كصورة مُثلى وهدف أعلى ينبغي أن يصل إليه الجهاز العمليّ للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله:

1 ـ لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسيّ في الحوزة العلميّة، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل (الخارج)، والإشراف على دراسات الخارج، وتحدّد الموادّ الدراسيّة، وتضع الكتب الدراسيّة، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزويّة بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة، وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.

2 ـ لجنة للإنتاج العلميّ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث، ومتابعة سيرها، والإشراف على الإنتاج الحوزويّ الصالح وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالميّ بما يتّصل بالإسلام، والتوافر على إصدار شيء كمجلّة أو غيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.

3 ـ لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتبّع سيرهم وسلوكهم واتّصالاتهم، والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجماليّ في وقت رتيب أو عند طلب المرجع.

132

4 ـ لجنة الاتّصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات بالمرجعيّة في المناطق التي لم تتّصل بالمركز، ويدخل في مسؤوليّتها إحصاء المناطق، ودراسة إمكانات الاتّصال بها، وإيجاد سفرة تفقّديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم، وتولّي متابعة السير بعد ذلك، ويدخل في صلاحيّتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات كفرصة الحجّ.

5 ـ لجنة رعاية العمل الإسلاميّ والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلاميّ، وتكوين فكرة عن كلّ مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.

6 ـ اللجنة الماليّة التي تعني بتسجيل المال وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليِّين، والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط.

ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد، ومن الطبيعيّ أن يبدأ الجهاز محدوداً وبدون تخصّصات حدّية تبعاً لضيق نطاق المرجعيّة، وعدم وجود التدريب الكافي.

والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسيع والتخصّص.

وثانياً: إيجاد امتداد اُفقيّ حقيقيّ للمرجعيّة يجعل منها محوراً

133

قويّاً تنصبّ فيه قوى كلّ ممثّلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم؛ لأنّ المرجعيّة حينما تتبنّى أهدافاً كبيرةً، وتمارس عملاً تغييريّاً واعياً في الاُمّة لابدّ أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ؛ لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كلّ ممثّليها في العالم.

وبالرغم من انتساب كلّ علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتساب نظريّ وشكليّ لايخلق المحور المطلوب كما هو واضح.

وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجع تأريخيّاً يمارس عمله المرجعيَّ كلّه ممارسة فرديّة؛ ولهذا لاتشعر كلّ القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤوليّة، والتضامن الجادّ معه في المواقف، وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة والقوى الممثّلة له دينيّاً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعيّ موضوعيّاً، وإن كانت المرجعيّة نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع، غير أنّ هذه النيابة القائمة بشخصه لم تُحدّد له اُسلوب الممارسة، وإنّما يتحدّد هذا الاُسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامّة.

وبهذا الاُسلوب الموضوعيّ من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعيّ من التأثّر بانفعالات شخصه، ويعطي له بعداً وامتداداً واقعيّاً كبيراً؛ إذ يشعر كلّ ممثّلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل

134

مسؤوليّات العمل المرجعيّ وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس. وسوف يضمّ هذا المجلس تلك اللجان التي يتكوّن منها الجهاز العمليّ للمرجعيّة، وبهذا تلتقي النقطة السابقة بهذه النقطة.

ولئن كان في اُسلوب الممارسة الفرديّة للعمل المرجعيّ بعض المزايا ـ كسرعة التحرّك، وضمان درجة أكبر من الضبط، والحفظ، وعدم تسرّب عناصر غير واعية إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعيّ ـ فإنّ مزايا الاُسلوب الآخر أكبر وأهمّ.

ونحن نطلق على المرجعيّة ذات الاُسلوب الفرديّ في الممارسة اسم المرجعيّة الذاتيّة، وعلى المرجعيّة ذات الاُسلوب المشترك والموضوعيّ في الممارسة اسم المرجعيّة الموضوعيّة.

وهكذا يظهر أنّ الفرق بين المرجعيّة الذاتيّة والمرجعيّة الموضوعيّة ليس في تعيين شخص المرجع الشرعيّ الواقعيّ؛ فإنّ شخص المرجع دائماً هو نائب الإمام، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة، وهذا يعني: أنّ المرجعيّة من حيث مركز النيابة للإمام ذاتيّة دائماً، وإنّما الفرق بين المرجعيّتين في اُسلوب الممارسة.

وثالثاً: امتداداً زمنيّاً للمرجعيّة الصالحة لاتتّسع له حياة الفرد الواحد.

فلابدّ من ضمان نسبيّ لتسلسل المرجعيّة في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعيّة الصالحة؛ لئلاّ ينتكس العمل بانتقال

135

المرجعيّة إلى من لايؤمن بأهدافها الواعية، ولابدّ ـ أيضاً ـ من أن يُهيَّأ المجال للمرجع الصالح الجديد؛ ليبدأ ممارسة مسؤوليّاته من حيث انتهى المرجع العامّ السابق، بدلاً من أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاقّ هذه البداية وما تتطلّبه من جهود جانبيّة، وبهذا يتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.

ويتمّ ذلك عن طريق شكل المرجعيّة الموضوعيّة؛ إذ في إطار المرجعيّة الموضوعيّة لايوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات، ويوجد الموضوع، وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعيّ الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأمّا الموضوع فهو ثابت، ويكون ضماناً نسبيّاً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلوّ المركز، وللمجلس وللجهاز ـ بحكم ممارسته للعمل المرجعيّ، ونفوذه وصلاته، وثقة الاُمّة به ـ القدرة دائماً على إسناد مرشّحه، وكسب ثقة الاُمّة إلى جانبه.

وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريقة الحلّ.

 

مراحل المرجعيّة الصالحة:

وللمرجعيّة الصالحة ثلاث مراحل:

1 ـ مرحلة ما قبل التصدّي الرسميّ للمرجعيّة المتمثّل بطبع رسالة عمليّة، وتدخل في هذه المرحلة ـ أيضاً ـ فترة ما قبل المرجعيّة إطلاقاً.

136

2 ـ مرحلة التصدّي بطبع الرسالة العمليّة.

3 ـ مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الدينيّ.

وأهداف المرجعيّة الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث، وفي المرحلة الاُولى يتمّ إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا سابقاً إلى ضرورته؛ لقيام المرجعيّة الصالحة.

وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعيّة ممارسة أقرب إلى الفرديّة بحكم كونها غير رسميّة، ومحدودة في قدرتها، وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجعيّة في هذه المرحلة ذاتيّة، وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعيّة الموضوعيّة عن طريق تكوين أجهزة استشاريّة محدودة، ونوع من التخصّص في بعض الأعمال المرجعيّة.

وأمّا في المرحلة الثانية، فيبدأ عمليّاً تطوير الشكل الذاتيّ إلى الشكل الموضوعيّ، لكن لا عن طريق الإعلان عن اُطروحة المرجعيّة الموضوعيّة بكاملها، ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين؛ لأنّ هذا وإن كان يولّد زخماً تأييديّاً في صفوف بعض الراشدين في التفكير، ولكنّه من ناحية يفصل المرجعيّة الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المرحلة، ومن ناحية اُخرى يضطرّها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعيّة الموضوعيّة، وهذا الميسور لايكفي كمّاً ولاكيفاً لملء حاجة المرجعيّة الموضوعيّة.

بل الطريق الطبيعيّ في البدء بتحقيق المرجعيّة الموضوعيّة

137

ممارسةُ المرجعيّة الصالحة لأهدافها ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعدّدة بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعيّة، وقدرات المرجعيّة البشريّة والاجتماعيّة، ويربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات، ويوسّع منها حتّى تتمخّض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعيّ.

ويتأثّر سير العمل في تطوير اُسلوب المرجعيّة وجعلها موضوعيّة بعدّة عوامل في حياة الاُمّة: فكريّة وسياسيّة، وبنوعيّة القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعيّة الموضوعيّة، ومدى وجودها في الاُمّة، ومدى علاقتها طرداً أو عكساً بأفكار المرجعيّة الصالحة، ولابدّ من أخذ كلّ هذه العوامل بعين الاعتبار والتحفّظ من خلال مواصلة عمليّة التطوير المرجعيّ عن تعريض المرجعيّة ذاتها لانتكاسة تقضي عليها، إلاّ إذا لوحظ وجود مكسب كبير في المحاولة ولو باعتبارها تمهيداً لمحاولة اُخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتّب على تفتّت المرجعيّة الصالحة التي تمارس تلك المحاولة.

انتهى ما جرى على قلم اُستاذنا الشهيد لترسيم وضع المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة، وقد طبع هذا البحث أكثر من مرّة، إحداها ما جاء في مجلّة صوت الاُمّة العدد الخامس للسنة الاُولى.

أمّا المقترحات التي كان قد أردف البحث بها ولم يكتبها، فنحن هنا نتعرّض لخلاصة من تلك المقترحات، وهي ما يلي:

1 ـ اقتراح إنشاء حوزات علميّة فرعيّة في المناطق التي تساعد

138

على ذلك، ترفد بها الحوزة العلميّة الاُمّ.

2 ـ اقتراح إيجاد علماء في الفقه والاُصول والمفاهيم الإسلاميّة في سائر أصناف الناس، فليكن لنا في ضمن الأطبّاء علماء، وفي ضمن المهندسين علماء، وما إلى ذلك من الأصناف، ولا يشترط في هؤلاء العلماء التخصّص والاجتهاد في الفقه والاُصول، ويكون كلّ من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، يبثّ العلم والمعرفة وفهم الأحكام الشرعيّة والمفاهيم الإسلاميّة فيما بينهم(1).

3 ـ ربط الجانب الماليّ للعلماء والوكلاء في الأطراف بالمرجعيّة الصالحة، فلايعيش الوكيل على ما تدرّ عليه المنطقة من الحقوق الشرعيّة، بل يسلّم الحقوق كاملة إلى المرجعيّة، وتموّله المرجعيّة ليس بالشكل المتعارف في بعض الأوساط من إعطاء نسبة مئويّة من تلك الأموال كالثلث أو الربع، ممّا يجعل علاقة الوكيل بالمرجعيّة سنخ علاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال، بل بالشكل الذي


(1) قال الشيخ محمّدرضا النعمانىّ حفظه الله: «وقد بدأ السيّد الشهيد بتنفيذ هذه الفكرة ولو بشكل متواضع حين كبرت مرجعيّته وامتدّت؛ إذ بدأ يشجّع عدداً من الأطباء والمهندسين والأساتذة على دراسة الفقه والاُصول والمنطق وكافّة الموادّ الدراسيّة المقرّرة والمتعارفة فى الحوزة العلميّة، وبنفس الوقت شجّع بعضهم على الانخراط فى الحوزة العلميّة، وترك تخصّصاتهم السابقة، وكان السيّد الشهيد يستهدف من تشجيع بعضهم على الانخراط فى الحوزة العلميّة ما يلى:

1 ـ الإسراع فى تربية علماء يملكون ثقافة عصريّة إلى جانب ثقافتهم الحوزويّة.

2 ـ الارتفاع بالمستوى الاجتماعيّ للحوزة العلميّة؛ إذ إنّ وجود عناصر ذات مستوىً رفيع فى نظر المجتمع كالأطبّاء والمهندسين سوف يغيّر من نظرة اُولئك الذين يحملون انطباعاً سلبيّاً عن الحوزة العلميّة».

139

يغطي مصاريف الوكيل عن طريق عطاءَين من قبل المرجعيّة:

الأوّل: راتب شهريّ مقطوع يكفل له قدراً معقولاً من حاجاته الضروريّة.

والثاني: عطاء مرن وغير محدّد يختلف من شهر إلى شهر، وربّما لايعطى في بعض الأشهر، وقد يضاعف أضعافاً مضاعفةً في بعض الأشهر، ويكون المؤثّر في تقليل وتكثير هذا العطاء عدّة اُمور:

أحدها: احتياجاته بما هو إنسان، أو بما هو عالم في المنطقة؛ فإنّها تختلف من شهر إلى شهر.

والثاني: مقدار ما يقدّمه للمرجعيّة من أموال وحقوق شرعيّة.

والثالث: مقدار ما يقدّمه للمنطقة من أتعاب وجهود.

والرابع: مقدار ما ينتج في تلك المنطقة من نصر للإسلام.

هذه الاُمور الأربعة قد تؤثّر ـ أيضاً ـ في تحديد مقدار العطاء المتمثِّل في الراتب المقطوع(1).


(1)قال الشيخ محمّدرضا النعمانىّ حفظه الله: «وفعلاً فقد نفّذ شهيدنا العظيم هذه الفكرة، ولم تبقَ مجرّد فكرة، فبعد أن تحسّن الوضع المالىّ للمرجعيّة بدأ السيّد الشهيد بإعطاء رواتب لوكلائه ولو بشكل محدود، وقد كانت لتنفيذ هذه الفكرة آثار إيجابيّة عظيمة، يمكن تلخيصها بما يلى:

1 ـ استقلال العالم استقلالاً تامّاً، فهو لم يعد بحاجة إلى محاباة أصحاب الأموال الذين كانوا قد يحوّلون العالم إلى أداة بأيديهم، وأصبح العالم ينفّذ إرادة المرجعيّة وما تتطلّبه مصلحة الإسلام.

2 ـ بدأ الكثير من المدن والمناطق تطالب المرجعيّة بعالم يقيم لديها؛ إذ إنّ العقبة التى كانت تقف أمامهم هو الفقر والحاجة الماليّة لكثير من أهالى هذه المناطق؛ إذ لم تكن لديهم القدرة الماليّة على تغطية شؤون العالم الدينيّة، ومن الواضح للجميع الآثار السلبيّة التى تترتّب على عدم وجود ممثِّل للمرجعيّة فى المدن والمناطق».

140

4 ـ دعم المرجعيّة الصالحة لمكتب صالح ونظيف من بين المكاتب، وهي التي كانت تسمّى في النجف (بالبرّانيّات)، بحيث يصبح ما يصدر عن ذاك المكتب ممثّلاً في نظر الناس بدرجة ضعيفة لرأي المرجعيّة، وفائدة ذلك: أنّ المرجعيّة الصالحة قد تريد أن تنشر فكرة سياسيّة أو اجتماعيّة أو غير ذلك من دون أن تتبنّاها مباشرة؛ لمصلحة في عدم التبنّي المباشر، أو تريد أن تفاوض السلطة في أمر من الاُمور بشكل غير مباشر، فذاك المكتب يتبنّى أمثال هذه الاُمور.

 

الحوزة العلميّة والتحزّب

 

وأمّا الثالث: وهو رأيه في مدى صحّة اشتراك الحوزة العلميّة في الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة، فقد رسم (رضوان الله عليه) في تلك الأبحاث الاُسبوعيّة خطوطاً ثلاثة، ذكر أنّ اثنين منها خطّان ثابتان، وواحداً منها خطّ متحرّك:

الخطّ الأوّل: ضرورة الفصل بين جهاز المرجعيّة الصالحة والعمل الحزبيّ.

والخطّ الثاني: عدم البأس باشتراك طلاّب الحوزة العلميّة غير المرتبطين بجهاز المرجعيّة الصالحة في العمل الحزبيّ الإسلاميّ.

وهذان خطّان ثابتان.

والخطّ الثالث: ـ وهو ما أسماه بالخطّ المتحرّك ـ أنّ من كان

141

عضواً في جهاز المرجعيّة الصالحة وهو في نفس الوقت عضو في حزب الدعوة الإسلاميّة، ويكون انسحابه من صفوف الحزب مؤدّياً إلى إرباك الوضع في داخل الحزب، يبقى محتفظاً بارتباطه بالحزب إلى حينما يرى أنّ انفصاله لايؤدّي إلى مثل هذا الارتباك، فعندئذ ينفصل عن الحزب.

وكان تأريخ تحديده(رحمه الله) لهذه الخطوط الثلاثة بحدود أوائل سنة ( 1393هـ ).

وبعد هذا حينما اعتقلت السلطة الكافرة في العراق ثلّةً من العلماء الأعلام، وثلّةً من المؤمنين الكرام، وكان في ضمنهم الشهداء الخمسة الشيخ عارف وصحبه، وكان في ضمنهم ـ أيضاً ـ السيّد الهاشميّ، وكنت أنا وقتئذ في إيران، وأفرجت السلطة بعد ذلك عن جماعة منهم السيّد الهاشميّ، وبقي جماعة آخرون في الاحتجاز، أصدر الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)كلمته المعروفة التي ذكر فيها فصل الحوزة العلميّة كاملة عن العمل الحزبيّ، وكان هذا بتأريخ (10 / شعبان / 1394 هـ ).

وكتبت ـ بعدئذ ـ رسالةً إلى اُستاذنا الشهيد أستفسره فيها عمّا هو المقصود الواقعيّ بهذه الكلمة، فذكرت له: أنّ المحتملات عندي أربعة:

1 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: لحاظ مصلحة في أصل ذِكرها ونشرها كتقيّة (وعلى حسب تعبير علماء الاُصول تكون المصلحة في الجعل).

142

2 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: اُولئك العلماء والطلاّب المرتبطون بمرجعيّتكم، وإن اقتضت المصلحة إبرازها على شكل العموم.

3 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: فصل طلاّب الحوزة العلميّة في العراق عن العمل الحزبيّ درءاً للخطر البعثيّ الخبيث عنهم، الذي يؤدّي إلى إبادتهم.

4 ـ أن يكون المقصود بها: فصل جميع الحوزات العلميّة في كلّ زمان ومكان عن العمل الحزبيّ الإسلاميّ (وعلى حسب تعبير الاُصوليّين: تكون القضيّة قضيّة حقيقيّة، وليست خارجيّة). وعلى الاحتمال الأخير يكون تعليقي على هذه الكلمة: أنّ هذا الإجراء سيؤدّي في طول الخطّ إلى انحراف الحركة الإسلاميّة الحزبيّة عن مسار الإسلام الصحيح نتيجة ابتعادهم في أجوائهم الحزبيّة عن العلماء الأعلام.

فكتب لي (رضوان الله عليه) في الجواب: أ نّي قصدت المعنى الأوّل والثاني والثالث، دون الرابع.

وكان هذا كلّه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

أمّا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، فقد عزم الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)على تصعيد معارضته لحكومة البعث في العراق، ونزوله إلى الميدان بشكل سافر نسبيّاً، وبهذا لم يبقَ مورد لمسألة الاهتمام بدرء الخطر البعثيّ الذي كان أحد ملاكات تلك الكلمة (أعني: فصل

143

الحوزة العلميّة عن العمل الحزبيّ)؛ فإنّ الحوزة العلميّة الواعية ستقع لامحالة وجهاً لوجه أمام السلطة الجائرة، والخطر محدق على أىّ حال. وفي هذا التأريخ جاء السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ إلى إيران، وأخبرني بأنّ السيّد الاُستاذ بعث على أحد الوجوه البارزة آنئذ لحزب الدعوة الإسلاميّة، وقال له فيما قال: إنّ كلمتي التي أصدرتها في انفصال الحوزة عن العمل الحزبيّ قد انتهى أمدها.

أقول: إنّي لاأفهم من هذا الكلام انتهاء أمد هذه الكلمة بالقياس إلى جهاز المرجعيّة الصالحة المفروض فيها أن تكون فوق الحركات والأحزاب، وتكون في موقع الاُبوّة والقيادة للاُمّة بجميع أجنحتها وأفرادها، وإنّما أفهم منه انتهاء أمد هذه الكلمة باعتبار المعنى الثالث من المعاني الثلاثة التي قصدها بها.

 

أساس الحكم

 

أمّا رأي الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في أساس الحكومة الإسلاميّة في زمان غيبة المعصوم، فقد مرّ ـ أيضاً ـ بمراحل عديدة، فحينما أسّس حزب الدعوة الإسلاميّة كان يرى أنّ أساس الحكومة الإسلاميّة في زمن الغيبة هي الشورى، وهذا ما أثبته فيما كتبه لحزب الدعوة باسم (الاُسُس)، مستدلاًّ بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وبعد ذلك ترك هذا الرأي، وقال أخيراً بمبدأ ولاية الفقيه تمسّكاً بالتوقيع

144

المعروف عن الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم»، وقد انعكس هذا الرأي في رسالتيه العمليّتين: (الفتاوى الواضحة، والتعليق على منهاج الصالحين).

وقد بحثنا هذين المبدأين، وهما: مبدأ الشورى، ومبدأ ولاية الفقيه في كتابنا (أساس الحكومة الإسلاميّة) بتفصيل.

 

 

 

145

 

 

اعتقالاتـه

 

 

الاعتقال الأوّل.

الاعتقال الثاني.

الاعتقال الثالث.

الاعتقال الرابع.

 

 

 

 

 

147

 

 

 

 

اعتقل (رضوان الله عليه) بسبب ظلم البعث الكافر الحاقد على الدين المسيطر على العراق أربع مرّات:

 

الاعتقال الأوّل

 

اعتقل في سنة (1392 هـ )، وكان ذلك ـ في الظنّ الغالب ـ في شهر رجب، أو في أواخر جمادى الآخرة، والقِصّة كما يلي:

ذكر (رضوان الله عليه) ذات يوم أنّه بلغني خبر يقول: إنّ البعثيّين سيعتقلونني في هذه الليلة، وفي صبيحة تلك الليلة عرفنا أنّه لم يقع شيء من هذا القبيل.

وفي الليلة الثانية ابتلي صدفةً بالتسمّم أو ما يشبهه، ممّا كان يحتمل أداؤه إلى الموت، فطلب إيصاله إلى المستشفى، وكنت أنا والمرحوم السيّد عبد الغنيّ(رحمه الله)بخدمته، ولا أذكر ما إذا كان شخص آخر ـ أيضاً ـ معنا أو لا، فأخذناه إلى مستشفى النجف، وبعد فترة من الزمن جاءت زوجته اُمّ جعفر واُخته بنت الهدى إلى المستشفى لعيادته، ثُمَّ رجعتا إلى البيت، ورجعت أنا ـ أيضاً ـ إلى بيتي، وبقي معه في المستشفى المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ(رحمه الله)، واطّلعنا

148

بعد ذلك على أنّ الأمن العراقيّ طوّق في تلك الليلة بيت الاُستاذ، واقتحم البيت لغرض اعتقاله، فقال لهم الخادم (وكان خادمه وقتئذ محمّدعلي المحقّق): إنّ السيّد غير موجود، ولا أعلم أين ذهب السيّد.

فبدؤوا بضرب الخادم؛ ليعترف لهم بمكان السيّد، إلاّ أنّه أبى وأصرّ على إنكاره برغم علمه بمكان السيّد، وجاءت اُختة (بنت الهدى)، وقالت لهم:

إنّ السيّد مريض، وقد انتقل إلى مستشفى النجف، فانتقل الأمن إلى مستشفى النجف، وطوّقوا المستشفى، وطالبوا المشرفين على المستشفى بتسليم السيّد، فقالوا لهم: إنّ السيّد مريض وحالته خطرة، وإذا أردتم نقله فنحن لانتحمّل مسؤوليّة ذلك إذا ما مات بأيديكم، وأخيراً وقع الاتّفاق على أن ينقل السيّد تحت إشراف الأمن إلى مستشفى الكوفة، على أن يكون معه المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ بعنوان مرافق المريض، وهكذا كان، فقد نقلوا السيّد الاُستاذ إلى مستشفى الكوفة، ووضعوه في ردهة المعتقلين، وعند الصباح ذهب السيّد محمّد الغرويّ إلى مستشفى الكوفة؛ كي يطّلع على حال السيّد الاُستاذ، فالتقى بالمرحوم السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله)، فقال له: إنّ الأمن قد وضعوا قيد الحديد على يده الكريمة، فأخبرني السيّد الغرويّ بذلك، فذهبت أنا إلى بيت السيّد الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ حيث كان ـ وقتئذ ـ يعيش في النجف الأشرف، وتشرّفت بلقائه، وحكيت له القِصّة.

149

ثُمَّ كثرت في صبيحة ذاك اليوم مراجعة الناس ـ بالخصوص طلاّب العلوم الدينيّة والعلماء العظام، أمثال المرحوم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرحوم الحجّة السيّد محمّد صادق الصدر ـ إلى مستشفى الكوفة يطالبون بلقاء السيّد، والجلاوزة يمنعونهم عن ذلك، ودخل البعض على السيّد برغم منع الجلاوزة، وكاد أن يستفحل الاضطراب في وضع الناس، فخشيت الحكومة من نتائج الأمر، فرفعت القيد عن يد السيّد، وبعد فترة وجيزة أطلقت سراح السيّد الاُستاذ، ووضع في القسم العادي (غير ردهة المعتقلين) في مستشفى الكوفة، وبعد ذلك رجع إلى مستشفى النجف، وبعد أن تحسّنت حالته الصحيّة رجع إلى البيت، وازدادت زيارة الناس والوفود إليه، واستمرّ الأمر بهذا الوضع إلى أيّام شهادة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، حيث أقام السيّد الشهيد في بيته مأتماً للإمام الكاظم(عليه السلام)كعادته في كلّ سنة، وكان المجلس يغصّ بأهله، وكان الخطيب في ذاك المأتم السيّد جواد شبّر. وكان يقول السيّد الاُستاذ(رحمه الله): إنّ هذا الاعتقال قد أثّر في انشداد الاُمّة إلينا أكثر من ذي قبل، وتصاعد تعاطفها معنا.

وكان المفهوم لدينا ـ وقتئذ ـ أن مرض السيّد (رحمه الله) كان رحمةً وسبباً في تأخير تنفيذ ما يريده البعثيّون من أخذه معتقلاً إلى بغداد، إلى أن اشتهرت القِصّة، وضجّ الناس، واضطرّت الحكومة إلى إطلاق سراحه من دون الذهاب به إلى بغداد.

150

 

الاعتقال الثاني

 

اعتقل(رحمه الله) سنة (1397 هـ )، في شهر صفر، في أعقاب انتفاضة الأربعين، وكنت أنا ـ وقتئذ ـ في إيران.

قال الشيخ محمّدرضا النعمانيّ: «لقد اهتمّ السيّد الشهيد بالتخطيط لانتفاضة صفر سنة (1397 هـ )؛ ولذا كان (رضوان الله عليه) أمرني بتقديم الأموال إلى المواكب كافّة، وأن لا أردّ أيّ طلب من أيّ موكب أو (تكية) صغيرة كانت أو كبيرة، وكان يقول: إنّ هذه المواكب شوكة في عيون حكّام الجور، إنّ هذه المواكب وهذه المظاهر هي التي زرعت في نفوس وقلوب الأجيال حبّ الحسين(عليه السلام) وحبّ الإسلام، فيجب أن تبقى على رغم حاجتها إلى تهذيب وتعديل يناسب العصر.

كان السيّد الشهيد يتابع أحداث الانتفاضة متابعة دقيقة، سواء في داخل النجف أو في الطريق بين النجف وكربلاء، وكان ـ رضوان الله عليه ـ في غاية السرور حين تتوارد عليه الأنباء بنجاح الانتفاضة وشجاعة الزوّار في تحدّي السلطة الجائرة، وكذلك أنباء وقوف بعض قطعات الجيش العراقيّ، وعدد من أعضاء حزب البعث الحاكم إلى جانب الثوار الأبطال، وكان (رضوان الله عليه) يأمل أن يستفيد في المستقبل من هذه العواطف والمواقف.

لكنّ السلطة البعثيّة الجائرة كعادتها في قمع الانتفاضات بالنار

151

شنّت حملة واسعة من الاعتقالات والتصفيات الجسديّة، ولم تكن لتتخطّى شهيدنا العظيم، رضوان الله عليه، و لكن كيف؟ ولماذا قرّرت السلطة اعتقاله، في الوقت الذي لم تكن للسيّد الشهيد نشاطات محسوسة، أو ظاهرة يمكن أن تبرّر بها جريمة الاعتقال أمام الاُمّة؟

إنّ ممّا لاشكّ فيه أنّ السلطة كانت مضطربة وخائفة من أحداث النجف، خائفة من روح التحدّي العظيمة التي أبداها زوّار سيّد الشهداء عليه الصلاة والسلام.

وخائفة من إصرارهم على تنفيذ قرار الذهاب مشياً على الأقدام من النجف إلى كربلاء.

وخائفة من مواقف الغيارى والشرفاء من أبناء النجف الذين وقفوا وجهاً لوجه قبال محافظ النجف ـ آنذاك ـ المجرم جاسم الركابيّ، حين أبلغهم بقرار السلطة منع المشاة من الذهاب إلى كربلاء، ليقولوا له: والله سنذهب مشياً على الأقدام، ونزور الحسين(عليه السلام)، وكان في طليعتهم الشهيد السعيد عبّاس عجينة(رحمه الله).

وعبّرت عن خوفها حين تراجعت عن قرار المنع على لسان محافظ النجف في الساعات الأخيرة قبل انطلاق مسيرة المشاة إلى كربلاء، وحين ظلّ رجال السلطة يتوسّلون بالعلماء والمراجع لدعوة المشاة إلى عدم التنديد بالسلطة وسبّ الرئيس المقبور البكر ونائبه المجرم صدام...

لقد شعرت السلطة أنّها اُهينت ولطّخت سمعتها وكسرت شوكتها بإقدام أبناء العراق البررة، أنصار الحسين(عليه السلام) الذين قدّموا العديد من الشهداء في هذه المناسبة، وكان لابدّ للسلطة الحاقدة أن تنتقم،

152

وتفرّغ حقدها وغضبها، وتثأر من الاُمّة، ومن أبناء النجف بالذات، ومن المرجعيّة الواعية الرشيدة وما تمثّله من قيم، وما ترمز إليه من معان، فأرادت أن تنتقم من الاُمّة، فشنّت حملات إرهابيّة واسعة من الاعتقالات، أدّت إلى استشهاد عدد من أنصار الحسين(عليه السلام)، نظير الشهيد (صاحب آلبو گِلل) ورفاقه، والحكم بالسجن المؤبّد على عدد آخر من الأنصار.

وأرادت أن تنتقم بحقد من المرجعيّة، فكان اعتقال السيّد الشهيد، رضوان الله عليه، ففي الساعة التاسعة صباحاً جاء أحد ضبّاط الأمن المجرمين إلى دار السيّد الشهيد تمهيداً لمجيء مدير أمن النجف المجرم (أبو سعد)، وحين اجتمع هذا الأخير بالسيّد الشهيد قال له: إنّ السيّد عزّت الدوريّ ـ وكان وزيراً للداخليّة آنذاك ـ يودّ لقاءك في بغداد.

ذهب السيّد الشهيد (رحمه الله) إلى بغداد معتقلاً. وهناك التقى بمدير الأمن العامّ؛ ليبلغه رسالة حقد من القيادة العفلقيّة، وسيلاً من كلمات التهديد والوعيد بألوان من الانتقام. وفي هذه المرّة عذّب السيّد الشهيد وضرب، وبقيت آثاره عليه بعد الإفراج عنه حتّى كان لايقوى على صعود السلّم إلاّ بصعوبة كان يخفيها. لقد سمعت هذا منه، وكان يقول: كنت أحرص على كتمان ذلك؛ كي لايؤدّي إلى انهيار أو خوف البعض ممّن لم يوطّن نفسه على الصمود والثبات.

وفي نفس اليوم اُفرج عن السيّد الشهيد، فعاد إلى النجف، وكتم ما أصابه.

وحين عاد السيّد الشهيد من الاعتقال سألته عمّا جرى له في