35

الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف التي يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جدّاً، بينما فرضية الانفصال وحدها كافية لتفسير كلّ تلك الظواهر والربط بينها.

وفي الخطوة الرابعة نقول: ما دام تواجد كلّ هذ الظواهر الملحوظة في الأرض أمراً غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الأرض ليست منفصلةً عن هذه الشمس، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا، أن تكون الأرض منفصلةً عن الشمس.

وفي الخطوة الخامسة نربط بين ترجيح فرضية انفصال الأرض عن هذه الشمس ـ كما تقرّر في الخطوة الرابعة ـ وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الأرض بدون أن تكون منفصلةً عن هذه الشمس، كما تقرّر في الخطوة الثالثة، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال الموضّحة في الخطوة الثالثة أشدّ كان الترجيح الموضّح في الخطوة الرابعة أكبر.

وعلى هذا الأساس نستدلّ على نظرية انفصال الأرض والشمس، وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك.

كيف نطبّق المنهج لإثبات الصانع؟

بعد أن عرفنا المنهج العامّ للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، وبعد أن قيّمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدمة، نمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم، وذلك باتّباع نفس الخطوات السابقة:

الخطوة الاُولى:

نلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة

36

الإنسان ككائن حيّ وتيسير الحياة له، على نحو نجد أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها.

وفيما يلي نذكر عدداً من تلك الظواهر كأمثلة:

تتلقّى الأرض من الشمس كمّيةً من الحرارة تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علمياً أنّ المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملا مع كمّية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن لَما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تطيقها حياة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركّبات ـ الجزء الأعظم من الأوكسجين، حتّى إنّه يكوّن ثمانيةً من عشرة من جميع المياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدّة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيمياوية للاندماج على هذا النحو، فقد ظلّ جزء محدود منه طليقاً يساهم في تكوين الهواء، وهذا الجزء يحقّق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة؛ لأنّ الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفّس، ولو قُدّر له أن يُحتجز كلّه ضمن مركّبات لَما أمكن للحياة أن توجد.

وقد لوحظ أنّ نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21 % من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرّضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذّرت الحياة أو أصبحت صعبة، ولَما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهماتها.

ونلاحظ ظاهرةً طبيعيةً تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن تنتج

37

الحفاظ على قدر معيّن من الأوكسجين باستمرار، وهي أنّ الإنسان والحيوان عموماً حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقّاه الدم ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلّل إلى الرئتين ثمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمّية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائياً إنّ هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمّعت حتى أنتجت هذه الظاهرة التي تتوافق بصورة كاملة مع متطلّبات الحياة.

ونلاحظ أنّ النتروجين بوصفه غازاً ثقيلا أقرب إلى الجمود يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه. ويلاحظ هنا أنّ كمّية الأوكسجين التي ظلّت طليقةً في الفضاء، وكمّية النتروجين التي ظلّت كذلك منسجمتان تماماً، بمعنى أنّ الكمّية الاُولى هي التي يمكن للكمّية الثانية أن تخففها، فلو زاد الأوكسجين أو قلّ النتروجين لَما تمّت عملية التخفيف المطلوبة.

ونلاحظ أنّ الهواء كمّية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمّية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت، فإنّ زيادتها تعني ازدياد ضغط الهواء على الإنسان الذي قد يصل إلى ما لا يُطاق، وقلّتها تعني فسح المجال للشهب التي تتراءى في كلّ يوم لإهلاك

38

من على الأرض واختراقها بسهولة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض التي كانت تمتصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محدّدة على نحو لا يتيح لها أن تمتصّ كلّ هذا الغاز، ولو كانت أكثر سمكاً لامتصّته، ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونلاحظ أنّ القمر يبعد عن الأرض مسافةً محدّدةً، وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان يبعد عنّا مسافةً قصيرةً نسبياً لتضاعف المدّ الذي يحدثه وأصبح من القوة على نحو يزيح الجبال من مواضعها.

ونلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحيّة المتنوّعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر فما تعبّر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً، بل يعتبر ظاهرةً قابلةً للملاحظة العلمية تماماً. وهذا السلوك الغريزيّ ـ في آلاف الغرائز التي تعرّف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية أو في بحوثه العلمية ـ يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وأنّه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان، وحينما نقسّم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أنّ كلّ وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يمثّل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية، وكلّ ظاهرة في تكوينها ودورها الفيسيولوجيّ وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

فمثلا: نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمّة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة. إنّ عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكوّن من تسع طبقات، وتحتوي الطبقة الأخيرة منها

39

على ملايين الأعواد والمخروطات، قد رتّبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمّة الإبصار، من حيث علاقات بعضها بالبعض الآخر وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً وهو: أنّ الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنّه استثناء مؤقّت؛ فإنّ الإبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحسّ بالأشياء وهي مقلوبة، بل اُعيد تنظيم الصورة في ملايين اُخرى من خويطات الأعصاب المؤدّية إلى المخّ حتّى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتمّ عملية الإبصار، وتكون عندئذ متوافقةً بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

حتّى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية نجد أنّها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمّة تيسير الحياة ويؤدّي دوراً في ذلك، فالأزهار التي ترك تلقيحها للحشرات لوحظ أنّها قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتّفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتمّيز الأزهار التي يحمل الهواء لقاحها عادةً بعناصر الإغراء. وظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لاُنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة، مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة ﴿ وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(1). هذه هي الخطوة الاُولى.

الخطوة الثانية:

نجد أنّ هذا التوافق المستمرّ بين الظاهرة الطبيعية ومهمّة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسّر في جميع هذه المواقع بفرضية


(1) النحل: 18.
40

واحدة، وهي أن نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة ويُيسّر مهمّتها، فإنّ هذه الفرضية تستبطن كلّ هذه التوافقات.

الخطوة الثالثة:

نتساءل: إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتةً في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كلّ تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمّة تيسير الحياة، دون أن يكون هناك هدف مقصود ؟ ومن الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصُدَف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المُبْرَدَة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك ولكنّه يشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّاً؛ لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكلّ ما تضمه من صنع مادة غير هادفة ولكنّها تشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات ؟

الخطوة الرابعة:

نرجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحةً، أي أنّ هناك صانعاً حكيماً.

الخطوة الخامسة:

نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلةً كلّما ازداد عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها فيه كما عرفنا سابقاً، فمن الطبيعيّ أن يكون هذا الاحتمال ضئيلا بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علمي؛ لأنّ عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر

41

من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنيزول(1).

 


(1) بقيت مشكلتان لابدّ من تذليلهما:
إحداهما: أنّه قد يلاحظ أنّ البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي هو أن تكون كلّ ظاهرة من الظواهر المتوافقة مع مهمة تيسير الحياة ناتجةً عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها وبحكم تناقضاتها الداخلية وفاعليتها الذاتية هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الاستقرائي: تفضيل فرضية الصانع الحكيم على البديل المحتمل؛ لأنّ تلك لا تستبطن إلّا افتراضاً واحداً وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون احتمال البديل احتمالا لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضاءل حتى يفنى. غير أنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنةً لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع أنّه قد يبدو أنّها مستبطنة لذلك؛ لأنّ الصانع الحكيم الذي يفسّر كلّ تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستبطنه هذه الفرضية من هذه العلوم و القدرات بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء، فأين التفضيل ؟
والجواب: أنّ التفضيل ينشأ من أنّ هذه الضرورات العمياء غير مترابطة، بمعنى أنّ افتراض أيّ واحدة منها يعتبر حيادياً تجاه افتراض الضرورة الاُخرى، وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال أنّها حوادث مستقلّة، وأنّ احتمالاتها احتمالات مستقلّة.
وأمّا العلوم والقدرات التي يتطلّبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر موضوعة البحث فهي ليست مستقلّة؛ لأنّ ما يتطلّبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلّبه صنع بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات ليس حيادياً تجاه افتراض البعض الآخر، بل يستبطنه أو يرجّحه بدرجة كبيرة، وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أنّ

42



احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات مشروطة، أيّ أنّ احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر كبير جدّاً وكثيراً ما يكون يقيناً.
وحينما نريد أن نقيّم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات واحتمال مجموعة تلك الضرورات ونوازن بين قيمتي الاحتمالين يجب أن نتّبع قاعدة ضرب الاحتمال المقرّرة في حساب الاحتمال، بأن نضرب قيمة احتمال كلّ عضو في المجموعة بقيمة احتمال عضو آخر فيها، وهكذا. والضرب كما نعلم يؤدّي إلى تضاؤل الاحتمال، وكلّما كانت عوامل الضرب أقلّ عدداً كان التضاؤل أقلّ، وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلّة تبرهن رياضياً على أنّ في الاحتمالات المشروطة يجب أن نضرب قيمة احتمال عضو بقيمة احتمال عضو آخر على افتراض وجود العضو الأول، وهو كثيراً ما يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، فلا يؤدّي الضرب إلى تقليل الاحتمال اطلاقاً، أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جدّاً، خلافاً للاحتمالات المستقلّة التي يكون كلّ واحد منها حيادياً تجاه الاحتمال الآخر، فإنّ الضرب هناك يؤدّي إلى تناقض القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل أحد الافتراضين على الآخر. (من أجل توضيح قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والمستقلّة راجع كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء).
والمشكلة الاُخرى: هي المشكلة التي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي للقضية المستدلّة استقرائياً. ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أنّ الرسالة التي تسلمتَها بالبريد هي من أخيك.
ويقال بصدد هذه المقارنة: إنّ سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأنّ الرسالة قد أرسلها أخوه تتأثّر بدرجة احتمال هذه القضية قبل أن يفضّ الرسالة ويقرأها، وهو ما نسمّيه بالاحتمال القبلي للقضية، فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة يحتمل بدرجة خمسين في المئة مثلا أنّ أخاه

43



يبعث إليه برسالة فسوف يكون اعتقاده بأنّ الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعاً، بينما إذا كان مسبقاً لا يحتمل أن يتلقّى رسالةً من أخيه بدرجة معتدّ بها؛ إذ يغلب على ظنّه مثلا بدرجة عالية من الاحتمال أنّه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بأنّ الرسالة من أخيه ما لم يحصل على قرائن مؤكّدة، فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟
والحقيقة أنّ قضية الصانع الحكيم سبحانه ليست محتملة، وإنّما هي مؤكّدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا أنّها قضية محتملة نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي فيمكن أن نقدّر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:
نأخذ كلّ ظاهرة من الظواهر موضوعة البحث بصورة مستقلّة، فنجد أنّ هناك افتراضين يمكن أن نفسّرها بأيّ واحد منهما، أحدهما: افتراض صانع حكيم، والآخر: افتراض ضرورة عمياء في المادة. وما دمنا أمام افتراضَين ولا نملك أيّ مبرّر مسبَق لترجيح أحدهما على الآخر فيجب أن نقسّم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون قيمة كلّ واحد منهما خمسين في المئة، ولمّا كانت الاحتمالات التي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطةً ومشروطةً والاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلّةً وغير مشروطة فالضرب يؤدّي باستمرار إلى تضاؤل شديد في احتمال فرضية الضرورة العمياء، وتصاعد مستمرّ في احتمال فرضية الصانع الحكيم.
والذي لاحظته بعد تتبّع وجهد أنّ السبب الذي جعل الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لا يلقى قبولا عامّاً على صعيد الفكر الاُوروبي وينكره فلاسفة كبار من أمثال (رَسل) هو عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التغلّب على هاتين النقطتين اللتين أشرنا هنا إلى الطريقة التي يتمّ التغلب بها عليهما، ومن أجل التوّسع والتعمّق في كيفية تطبيق مناهج ←
44

وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة: وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير:

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الْحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّه عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ﴾(1).

﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاختِلافِ اللَيْلِ وَالنَّهَارِ والفُلْكِ الَّتي تَجْري في البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْريفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ﴾(2).

﴿فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور * ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(3).

 



الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع مع التغلّب على هاتين النقطتين يمكن أن يراجع كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء: (إثبات الصانع بالدليل الاستقرائي).« منه (رحمه الله) ».
(1) فصّلت: 53.
(2) البقرة: 164.
(3) الملك: 3 ـ 4.
45

الدليل الفلسفي

 

قبل أن ندخل في الحديث عن الدليل الفلسفي على إثبات الصانع سبحانه وتعالى يجب أن نتساءل: ما هو الدليل الفلسفي؟ وما الفرق بينه وبين الدليل العلمي؟ وما هي أقسام الدليل؟

إنّ الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: الدليل الرياضي، والدليل العلمي، والدليل الفلسفي.

فالدليل الرياضي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال الرياضيّات البحتة والمنطق الصوري الشكلي، ويقوم هذا الدليل دائماً على مبدأ أساسي، وهو مبدأ عدم التناقض القائل: إنّ (أ) هي (أ) ولا يمكن أن لا تكون (أ)، فكلّ دليل يستند إلى هذا المبدأ وما يتفرّع عنه من نتائج فقط نطلق عليه اسم الدليل الرياضي، وهو يحظى بثقة من الجميع.

والدليل العلمي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال العلوم الطبيعيّة، ويعتمد على المعلومات التي يمكن إثباتها بالحسّ أو الاستقراء العلمي، إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.

والدليل الفلسفي: هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعي في العالم الخارجي على معلومات عقليّة ـ المعلومات العقليّة: هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة ـ إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.

وهذا لا يعني بالضرورة أنّ الدليل الفلسفي لا يعتمد على معلومات حسّيّة أو استقرائيّة، وإنّما يعني أنّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا ـ أو بصورة مستقلّة عن ذلك ـ على معلومات عقليّة اُخرى في إطار الاستدلال على القضيّة

46

التي يريد إثباتها.

فالدليل الفلسفي إذن يختلف عن الدليل العلمي في تعامله مع معلومات عقلية لا تدخل في نطاق مبادئ الدليل الرياضي.

وعلى أساس ما قدّمناه من مفهوم الدليل الفلسفي قد نواجه السؤال التالي: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقلية ـ أي على الأفكار التي يوحي بها العقل ـ بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علمي ؟

والجواب على ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع، كمبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه كلّ الرياضيات البحتة، وهو مبدأ يقوم إيماننا به على أساس عقلي، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء.

والدليل على ذلك: أنّ درجة اعتقادنا بهذا المبدأ لا تتأثّر بعدد التجارب والشواهد التي تتطابق معها. ولنأخذ تطبيقاً حسابياً واضحاً لهذا المبدأ، وهو التطبيق القائل: 4 = 2 + 2، فإنّ اعتقادنا بصحة هذه المعادلة الحسابية البسيطة اعتقاد راسخ لا يزداد بملاحظة الشواهد، بل إنّنا لسنا مستعدّين للاستماع إلى أيّ شاهد عكسي، ولن نصدّق لو قيل لنا: إنّ اثنين زائداً اثنين يساوي في حالة فريدة خمسة أو ثلاثة، وهذا يعني أنّ اعتقادنا بتلك الحقيقة ليس مرتبطاً بالإحساس والتجربة، وإلّا لتأثّر بهما أيجاباً وسلباً.

فإذا كنّا نثق كلّ الثقة باعتقادنا بهذه الحقيقة على الرغم من عدم ارتباطه بالإحساس والتجربة فمن الطبيعي أن نسلّم أنّ بالإمكان أن نثق أحياناً بالمعلومات العقلية التي يعتمد عليها الدليل الفلسفي.

وبكلمة اُخرى: أنّ رفض الدليل الفلسفي لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقلية لا ترتبط بالتجربة والاستقراء يعني رفض الدليل الرياضي أيضاً؛ لأنّه يعتمد

47

على مبدأ عدم التناقض الذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء(1).

نموذج من الدليل الفلسفي على إثبات الصانع:

يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التالية:

أوّلا: على البديهية القائلة: إنّ كلّ حادثة لها سبب تستمدّ منه وجودها، وهذه قضية يدركها الإنسان بشعوره الفطري، ويؤكّدها الاستقراء العلمي باستمرار.

ثانياً: على القضية القائلة: كلّما وجدت درجات متفاوتة من شيء ما بعضها أقوى وأكمل من بعض فليس بالإمكان أن تكون الدرجة الأقلّ كمالا والأدنى محتوىً هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة لها درجات، والمعرفة لها درجات، والنور له درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يمكن أن تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان معرفةً كاملةً باللغة الإنجليزية من شخص لا يعرف منها إلّا قدراً محدوداً أو يجهلها تماماً، ولا يمكن لدرجة نور ضئيلة أن تحقّق درجةً أكبر من النور؛ لأنّ كلّ درجة أعلى تمثّل زيادةً نوعيةً وكيفيةً على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعية لا يمكن أن يمنحها من لا يملكها، فأنت حينما تريد أن تموّل مشروعاً من مالك لا يمكنك أن تمدّه بدرجة أكبر من رصيدك الذي تملكه.

ثالثاً: أنّ المادة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالا مختلفةً في درجة تطوّرها ومدى التركيز فيها، فالجُزَيء من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس


(1) من أجل التوسّع في ذلك والتعمّق في إثباته واستيعاب مواقف المنطق التجريبي والمنطق الوضعي من هذه النقطة، وطريقة تفسير الوضعية لليقين في المبدأ الرياضي على أساس كونه تكرارياً ومناقشتها يمكن الرجوع إلى كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
48

يمثّل شكلا من أشكال الوجود للمادة، ونطفة الحياة التي تساهم في تكوينالنبات والحيوان (البروتوبلازم) تمثّل شكلا أرفع لوجود المادة، و (الأميبا) التي تعتبر حيواناً مجهرياً ذا خلية واحدة تمثّل شكلا من وجود المادة أكثر تطوّراً، والإنسان هذا الكائن الحي الحسّاس المفكّر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.

وحول هذه الأشكال المختلفة من الوجود يبرز السؤال التالي: هل الفارق بين هذه الأشكال مجرّد فارق كمّي في عدد الجزيئات والعناصر وفي العلاقات الميكانيكية بينها، أو هو فارق نوعي وكيفي يعبّر عن درجات متفاوتة من الوجود ومراحل من التطوّر والتكامل ؟

وبكلمة اُخرى: هل الفارق بين التراب والإنسان الذي تكوّن منه عدديٌّ فقط، أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد ؟

وقد آمن الإنسان بفطرته منذ طرح على نفسه هذا السؤال بأنّ هذه الأشكال درجات من الوجود، ومراحل من التكامل، فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّية، وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجةً من حياة النبات، وهكذا.

غير أنّ الفكر المادي قبل أكثر من قرن من الزمن خالف في ذلك، إيماناً منه بوجهة النظر الميكانيكية في تفسير الكون القائلة بأنّ العالم الخارجي يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي إنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها للبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادة.

49

وعلى هذا الأساس حصرت المادية الميكانيكية التطوّر والحركة بحركةالأجسام والجسيمات في الفضاء من مكان إلى مكان، وفسّرت أشكال المادة المختلفة بأنّها طرق شتى لتجمّع تلك الجسيمات وتوزّعها، دون أن يحدث من خلال تطوّر المادة شيء جديد، فالمادة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق مختلفة كالعجينة في يدك حين تشكّلها بأشكال مختلفة، وتظلّ دائماً هي العجينة نفسها دون جديد.

وهذه الفرضية أوحى بها تطوّر علم الميكانيك، الذي كان أوّل العلوم الطبيعية تحرّراً وانطلاقاً في أساليب البحث العلمي، وشجّع عليها ما أحرزه هذا العلم من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكية وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتيادية على أساسها، بما فيها حركات الكواكب في الفضاء.

ولكنّ استمرار تطوّر العلم وامتداد أساليب البحث العلمي إلى مجالات متنوّعة اُخرى أثبت بطلان تلك الفرضية وعجزها من ناحية عن تفسير كلّ الحركات المكانية تفسيراً ميكانيكياً، وقصورها من ناحية اُخرى عن استيعاب كلّ أشكال المادة ضمن الحركة الميكانيكية للأجسام والجسيمات من مكان إلى مكان، وأكّد العلم ما أدركه الإنسان بفطرته من أنّ تنوّع أشكال المادة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى مكان، بل إلى ألوان من التطوّر النوعي والكيفي، وثبت من خلال التجارب العلمية أنّ أيّ تركيب عددي للجسيمات لا يمثّل حياةً أو إحساساً أو فكراً، وهذا يجعلنا أمام تصوّر يختلف كلّ الاختلاف عن التصوّر الذي تقدّمه المادية الميكانيكية، إذ نواجه في الحياة والإحساس والفكر عملية نموّ حقيقية في المادة وتطوّر نوعي في درجات وجودها، سواء كان محتوى هذا التطوّر النوعي شيئاً مادياً من درجة أعلى، أو شيئاً لا مادياً.

هذه هي القضايا الثلاث:

1 ـ كلّ حادثة لها سبب.

50

2 ـ الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.

3 ـ اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتنوّع أشكاله كيفياً.

وفي ضوء هذه القضايا الثلاث نعرف أ نّا نواجه في الأشكال النوعية المتطوّرة نموّاً حقّاً، أي تكاملا في وجود المادة وزيادةً نوعيةً فيه، فمن حقّنا أن نتساءل: من أين جاءت هذه الزيادة ؟ وكيف ظهرت هذه الإضافة الجديدة ما دام أنّ لكلّ حادثة سبباً كما تقدم ؟

وتوجد بهذا الصدد إجابتان:

إحداهما: أنّها جاءت من المادة نفسها، فالمادة التي لا حياة فيها ولا إحساس ولا فكر أبدعت من خلال تطوّرها الحياة والإحساس والفكر، أي إنّ الشكل الأدنى من وجود المادة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجةً، الأغنى محتوى.

وهذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية المتقدمة، التي تقرّر أنّ الشكل الأدنى درجةً لا يمكن أن يكون سبباً لِمَا هو أكبر منه درجةً وأغنى منه محتوىً من أشكال الوجود، فافتراض أنّ المادة الميّتة التي لا تنبض بالحياة تمنح لنفسها أو لمادة اُخرى الحياة والإحساس والتفكير يشابه افتراض أنّ الإنسان الذي يجهل اللغة الإنجليزية يمارس تدريسها، وأنّ درجة الضوء الباهت بإمكانها أن تعطينا ضوءاً أكبر درجةً كضوء الشمس، وأنّ الفقير الذي لا يملك رصيداً يموّن المشاريع الرأسمالية.

والإجابة الثانية على السؤال: أنّ هذه الزيادة الجديدة التي تعبّر عنها المادة من خلال تطوّرها جاءت من مصدر يتمتّع بكلّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر، وهو الله ربّ العالمين سبحانه وتعالى، وليس نموّ المادة إلّا تنميةً وتربيةً يمارسها ربّ العالمين بحكمته وتدبيره وربوبيته: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَار مَكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا

51

النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّأنْشَأنَاه خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ﴾(1).

وهذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أن تعطي تفسيراً معقولا لعملية النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب. وإلى هذا الدليل يشير القرآن الكريم في عدد من آياته التي يخاطب بها فطرة الإنسان السليمة وعقله السوي:

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾(2).

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾(3).

﴿أفَرَأيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾(4).

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾(5).

صدق الله العلي العظيم.

موقف المادية من هذا الدليل:

ونشير الآن إلى موقف الماديّة من هذا الدليل.

إنّ المادية الميكانيكية غير محرجة في مواجهة هذا الدليل؛ لأنّها كما عرفنا


(1) المؤمنون: 12 ـ 14.
(2) الواقعة: 58 ـ 59.
(3) الواقعة: 63 ـ 64.
(4) الواقعة: 71 ـ 72.
(5) الروم: 20.
52

تفسّر الحياة والإحساس والفكر بأنّها أشكال من التجميع والتوزيع للأجسام والجسيمات لا أكثر، فلا يحدث من خلالها شيء جديد سوى حركة الأجزاء وفقاً لقوى ميكانيكية.

وأمّا المادية الحديثة فهي لإيمانها بالتطوّر النوعي والكيفي للمادة من خلال هذه الأشكال تواجه إحراجاً في هذا الدليل، غير أنّها اختارت اُسلوباً في تفسير هذا التطوّر الكيفي توفّق فيه بين القضية الثانية المتقدّمة ورغبتها في الاكتفاء بالمادة وحدها كتفسير لكلّ تطوّراتها، وهذا الاُسلوب هو: أنّ المادة هي مصدر العطاء، وهي التي تموّن عملية التطوّر الكيفي، ولكن لا كما يموّن الفقير المشاريع الرأسمالية لكي يتعارض مع القضية الثانية المتقدّمة، بل إنّ ذلك يتمّ على أساس أنّ كلّ أشكال التطور ومحتوياته موجودة في المادة منذ البدء، فالدجاجة موجودة في البيضة، والغاز موجود في الماء، وهكذا.

أمّا كيف تكون المادة في وقت واحد بيضةً ودجاجةً، أو ماءً وغازاً ؟ فتجيب المادية الجدلية على ذلك بأنّ هذا تناقض، والتناقض هو قانون الطبيعة العامّ، فكلّ شيء يحتوي على نقيضه ـ ضدّه ـ في أحشائه، وهو في صراع مستمرّ مع هذا النقيض، وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخلي حتى يبرز ويحقّق تحوّلا في المادة، كالبيضة تنفجر في لحظة معينة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها، وعن هذا الطريق تتكامل المادة باستمرار؛ لأنّ النقيض الذي يبرز من خلال الصراع يمثّل المستقبل، أي خطوة إلى الأمام.

ونلاحظ على ذلك ما يلي:

أنّ المادية الحديثة ماذا تقصد بالضبط من أنّ الشيء يحتوي على نقيضه أو ضدّه ؟ وعلى التحديد: أيّ المعاني التالية هو المقصود ؟

1 ـ فهل يراد بذلك أنّ البيضة وفرخ الدجاجة نقيضان أو ضدّان، وأنّ البيضة

53

تصنع الفرخ وتسبغ عليه صفات الحياة، أي أنّ الميّت يلد الحي ويصنع الحياة، وهذا تماماً كالفقير الذي يموّن المشاريع الرأسمالية يتعارض مع البديهية المتقدّمة ؟

2 ـ أو يراد بذلك أنّ البيضة لا تصنع الفرخ، بل تبرزه بعد أن كان كامناً فيها؛ لأنّ كلّ شيء يكمن فيه نقيضه، فالبيضة حينما كانت بيضةً هي في نفس الوقت فرخ دجاجة، كالصورة التي تبدو من جانب بشكل ومن جانب آخر بشكل مختلف ؟

ومن الواضح أنّ البيضة إذا كانت في نفس الوقت فرخ دجاجة فلا توجد هناك أيّ عملية نموّ أو تكامل عندما تصبح البيضة دجاجة؛ لأنّ كلّ ما وجد الآن كان موجوداً منذ البدء تماماً، كالشخص يخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراءً؛ لأنّ كلّ ما بيده الآن من نقود كان في جيبه، فلكي تكون هناك عملية نموّ وتكامل ويحدث شيء جديد حقّاً من خلال تحوّل البيضة إلى دجاجة لابدّ أن نقول بأنّ البيضة لم تكن دجاجةً أو فرخ دجاجة، بل كانت مشروع دجاجة، أي شيئاً صالحاً لأنْ يصبح دجاجة، وبهذا تتميّز عن الحجر، فقطعة الحجر لا يمكن أن تكون دجاجة، وأمّا البيضة فبالإمكان أن تكون دجاجةً ضمن شروط وظروف معينة، ومجرّد أنّ الشيء ممكن لا يعني وقوعه، فإذا أصبحت البيضة دجاجةً حقّاً فلا يكفي مجرّد الإمكان تفسيراً لذلك.

ومن ناحية اُخرى: إذا كانت أشكال المادة ناتجةً عن تناقضاتها الداخلية فيجب أن تفسّر تنوّع هذه الأشكال على أساس تنوّع تلك التناقضات الداخلية، فالبيضة لها تناقضاتها الخاصّة التي تختلف عن تناقضات الماء؛ ولهذا تتمخّض تلك التناقضات عن دجاجة، وهذه عن غاز، وهذا افتراض يبدو ميسوراً عندما نتحدّث عن مرحلة متأخّرة من مراحل تنوّع أشكال المادة، ففي المرحلة التي

54

نواجه فيها بيضةً وماءً يمكننا بسهولة أن نفترض الاختلاف بينهما في تناقضاتهما الداخلية.

ولكن ماذا نقول عن تنوّع أشكال المادة على مستوى الجسيمات التي تشكّل الوحدات الأساسية في الكون من بروتونات ونترونات وألكترونات وبروتونات مضادة وألكترونات مضادة وفوتونات ؟

فهل اتّخذ كلّ جسيم شكلا خاصّاً من هذه الأشكال على أساس تناقضاته الداخلية، فكان البروتون موجوداً في أحشاء مادته ثمّ برز من خلال الحركة والصراع كالدجاجة مع البيضة ؟

إذا كنّا نفترض ذلك فكيف نبرّر تنوّع الأشكال التي اتّخذتها تلك الجسيمات ؟ مع أنّ هذا يفترض ـ بمنطق التناقض الداخلي ـ أن تكون تلك الجسيمات متنوّعةً مختلفةً في تناقضاتها الداخلية، أي أنّها مختلفة في كيانها الداخلي، ونحن نعلم أنّ العلم الحديث يتّجه إلى الاعتقاد بوحدة كيان المادة، وأنّ المحتوى الداخلي للمادة واحد، وليست الأشكال التي تتّخذها إلّا حالات متبادلةً على محتوى واحد ثابت، ولهذا كان بالإمكان أن يتحوّل البروتون إلى نترون وبالعكس، أي أن يتغيّر شكل الجُسَيم ـ فضلا عن الذرّة أو الجُزَيء ـ مع وحدة المحتوى وثباته، وهذا يعني أنّ المحتوى واحد في الجميع وإن اختلفت الأشكال، فكيف يمكن أن نفترض أنّ هذه الأشكال نتجت عن تناقضات داخلية مختلفة ؟ !

إنّ مثال البيضة والدجاجة نفسه نافع لتوضيح هذا الموقف، فإنّه لكي تتنوّع الأشكال التي تتّخذها بيضات عديدة من خلال تناقضاتها الداخلية المفترضة لابدّ أن تكون متغايرةً في تركيبها الداخلي، فبيضة الدجاجة وبيضة الطير تنتجان شكلين متغايرين، وهما الدجاجة والطير، وأمّا إذا كانت البيضتان من نوع واحد

55

كبيضتي دجاجة فلا يمكن أن نفترض أن تناقضاتهما الداخلية تؤدّي إلى شكلين مختلفين.

وهكذا نلاحظ أنّ تفسير المادية الحديثة لأشكال المادة على أساس تناقضاتها الداخلية واتّجاه العلم الحديث إلى التأكيد على وحدة المحتوى الداخلي للمادة يسيران في خطّين متغايرين.

3 ـ أو يراد بذلك أنّ البيضة نفسها تعبّر عن ضدّين أو نقيضين مستقلّين لكلّ منهما وجوده الخاصّ، أحدهما يتمثّل في النطفة التي سببها في داخل البيضة اللقاح، والآخر سائر ما تحتويه البيضة من موادّ، وهذان الضدّان وحّدتهما معركة في داخل قشر البيضة، ومن خلال هذا الصراع برز أحد الضدّين، وانتصرت النطفة، فتحوّلت البيضة إلى دجاجة.

وهذا النوع من الصراع بين الأضداد شيء مألوف في حياة الناس، وقديم في تصوراتهم الاعتيادية فضلا عن تصوراتهم الفلسفية.

ولكن لماذا نسمّي هذا التفاعل بين النطفة والمواد الطبيعية المكونة للبيضة تناقضاً ؟ لماذا نسمّي هذا التفاعل بين البذرة والتربة والهواء تناقضاً ؟ لماذا نسمّي التفاعل بين الجنين في رحم اُمّه وما يستمدّه من غذاء تناقضاً ؟

إنّها مجرّد تسمية، وليست بأفضل من أن يقال: إنّ أحدهما يندمج في الآخر، أو يتوحّد فيه.

وهَبْ أ نّا سمّينا ذلك تناقضاً فلن تحلّ المشكلة بذلك ما دمنا نسلّم بأنّ هذا التفاعل الخاصّ بين الضدّين يؤدّي إلى نتيجة أكبر إلى عملية نموّ إلى شيء جديد يزيد على المجموع العدديّ لهما، فمن أين جاءت هذه الزيادة ؟ وهل جاءت من الضدّين المتصارعين الفاقدين معاً لها، مع أنّ فاقد الشيء لا يعطيه بحكم القضية الثانية من القضايا الثلاث المتقدّمة ؟

56

وهل نعرف من الطبيعة مثالا يكون فيه التضاد والصراع بين الأضداد عامل تنمية حقّاً ؟ وكيف يساهم الضدّ في تنمية ضدّه عن طريق الصراع معه، مع أنّ هذا الصراع يعني درجةً من المقاومة والرفض، وكل مقاومة تنقص من طاقة الطرف الآخر على التحرّك والنموّ بدلا من أن تساعده على ذلك ؟ وكلّنا نعرف أنّ السَبّاح إذا تعرّض في سباحته لأمواج مضادّة من الماء فإنّ هذا سوف يعيقه عن التحرّك إلى درجة كبيرة بدلا عن أن يكون سبباً في التحرك.

وإذا كان الصراع بين الأضداد ـ بأي معنىً كان ـ هو الأساس في تنمية البيضة وتطويرها إلى دجاجة فأين التنمية التي يؤدّيها الصراع بين الأضداد في تحوّل الماء إلى غاز ثمّ رجوعه ماءً مرّةً اُخرى ؟

والطبيعة تكشف لنا باستمرار أضداداً يؤدّي التحامها أو اللقاء بينها إلى دمارها معاً بدلا عن التطور والتكامل، فالبروتون الموجب الذي يشكّل الحجر الأساس في نواة الذّرة ويحمل شحنةً موجبةً له بروتون مضادّ سالب، والألكترون السالب الذي يتحرك في مدار الذرة له ألكترون مضاد موجب، وإذا حدث أن التَقى أحد هذين الضدّين بضدّه تحدث عمليات إفناء ذرّية تختفي معها معالم المادة من الوجود، بينما تنطلق طاقات وتنتشر في الفضاء.

نخلص من كلّ ذلك إلى أنّ حركة المادة بدون تموين وإمداد من خارج لا يمكن أن تحدث تنميةً حقيقيةً وتطوّراً إلى شكل أعلى ودرجة أكثر تركيزاً، فلابدّ لكي تنمو المادة وترتفع إلى مستويات عُليا ـ كالحياة والإحساس والتفكير ـ من ربّ يتمتّع بتلك الخصائص ليستطيع أن يمنحها للمادة، وليس دور المادة في عمليات النموّ هذه إلّا دور الصلاحية والتهيّؤ والإمكان، دور الطفل الصالح والمتهيِّئ لتقبّل الدرس من مربّيه، فتبارك الله ربّ العالمين.

57

صِفاتُ الله تعالى

 

حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى خالقاً للكون ومربّياً له ومنظّماً لمسيرته وفق الحكمة والتدبير ينتج عن ذلك طبيعياً أن نتعرّف على صفاته من خلال صنعه وإبداعه، ونقيّم خصائصه بما تشعّ به مصنوعاته من دلالات، تماماً كما نقيّم أيّ مهندس على أساس الصفات التي تميّز إنتاجه الهندسي، ونقيّم المؤلّف على ضوء ما يحويه كتابه من علم ومعرفة، ونحدّد شخصية المربي عن طريق ما أودع في من ربّاهم من شمائل وخصال.

وبهذا نستطيع أن نأخذ لمحةً عمّا يتّصف به الصانع العظيم من علم وحكمة وحياة وقدرة وبصر وسمع؛ لأنّ ما في نظام الكون من دقّة وإبداع يكشف عن العلم والحكمة، وما في أعماقه من طاقات يدلّل على القدرة والسيطرة، وما في أشكاله من ألوان الحياة ودرجات الإدراك العقلي والحسّي يدلّ على ما يتمتّع به الصانع من حياة وإدراك، ووحدة الخطّة والبناء في تصميم هذا الكون والترابط الوثيق بين مختلف جوانبه تشير إلى وحدة الخالق ووحدة الخبرة التي انبثق عنها هذا الكون الكبير.

 

عدله واستقامته:

كلّنا نؤمن بعقلنا الفطري البديهي بقيم عامّة للسلوك، وهي القيم التي تؤكّد

58

أنّ العدل حقّ وخير، والظلم باطل وشرّ، وأنّ من يعدل في سلوكه جدير بالاحترام والمثوبة، ومن يظلم ويعتدي جدير بعكس ذلك، وهذه القيم بحكم الاستقراء والفطرة هي الأساس الذي يوجّه سلوك الإنسان ما لم يكن هناك مايحول دون ذلك من جهل أو ترقّب نفع، فكلّ إنسان إذا واجه خياراً بين الصدق والكذب في حديثه مثلا أو بين الأمانة والخيانة، فإنّه يختار الصدق على الكذب، والأمانة على الخيانة، ما لم يكن هناك دافع شخصي ومصلحة خاصّة قد تغريه بالانحراف في سلوكه عن تلك القيم.

ويعني ذلك أنّ من لاتوجد لديه حاجةٌ إلى شخص أو مصلحةٌ في خداعه أو خيانته أو ظلمه يسلك معه سلوك الصادق الأمين العادل، أي سلوكاً مستقيماً، وهذا بالضبط ماينطبق على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، فإنّه محيط بتلك القيم التي ندركها بعقلنا الفطري. لأنّه هو الذي وهبنا هذا العقل، وهو في نفس الوقت بحكم قدرته الهائلة وسيطرته الشاملة على الكون ليس بحاجة إلى أيّ مساومة أو لفّ ودوران، ومن هنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً.

عدل الله تعالى يثبت الجزاء:

إنّ القيم التي آمنّا بها تدعو ـ كما عرفنا ـ إلى العدل والاستقامة والأمانة والصدق والوفاء ونحوها من صفات، وتشجب الصفات المضادة لها. وهذه القيم لا تدعو إلى تلك الصفات وتشجب هذه الصفات فقط، بل تطالب بالجزاء المناسب لكلّ منهما، فإنّ العقل الفطريّ السليم يدرك أنّ الظالم والخائن جدير بالمؤاخذة، وأنّ العادل الأمين الذي يضحّي في سبيل العدل والأمانة جدير بالمثوبة، وكل واحد منّا يجد في نفسه دافعاً من تلك القيم إلى مؤاخذة الظالم المنحرف، وتقدير العادل المستقيم، ولا يحول دون تنفيذ هذا الدافع عند أحد إلّا عجزه عن اتخاذ

59

الموقف المناسب، أو تحيّزه الشخصي.

وما دمنا نؤمن بأنّ الله سبحانه وتعالى عادل مستقيم في سلوكه وقادر على الجزاء المناسب ثواباً وعقاباً فلا يوجد مايحول دون تنفيذه عزّ وجلّ لتلك القيم التي تفرض الجزاء العادل وتحدّد المردود المناسب للسلوك الشريف والسلوك الشائن، فمن الطبيعي أن نستنتج من ذلك أنّ الله سبحانه يجازي المحسن على إحسانه، وينتصف للمظلوم من ظالمه.

ولكنّا نلاحظ في نفس الوقت أنّ هذا الجزاء كثيراً ما لا يتحقّق في هذه الحياة التي نحياها على هذه الأرض على الرغم من أنّه مقدور لله سبحانه وتعالى، وهذا يبرهن ـ بعد ملاحظة المعلومات السابقة ـ على وجود يوم مقبل للجزاء، يجد فيه العامل المجهول الذي ضحّى من أجل هدف كبير ولم يقطف ثمار تضحيته، والظالم الذي أفلت من العقاب العاجل وعاش على دماء المظلومين وحطامهم، يجد هذا وذاك فيه جزاءهما العادل، وهذا هو يوم القيامة، الذي يجسّد كلّ تلك القيم المطلقة للسلوك، وبدونه لا يكون لتلك القيم معنى.