27

1 ـ تحديد المنهج وخطواته:

إنّ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه ـ إذا توخّينا البساطة والوضوح ـ في الخطوات الخمس التالية:

أوّلا: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.

ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضيةً صالحةً لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً، ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر أنّها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلا.

ثالثاً: نلاحظ أنّ هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحةً وثابتةً في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعةً ضئيلةٌ جدّاً، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحة الفرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ ضئيلةً جدّاً، كواحد في المئة، أو واحد في الألف، وهكذا...

رابعاً: نستخلص من ذلك أنّ الفرضية صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الاُولى.

خامساً: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها(1) على افتراض كذب الفرضية، فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية(2).

 


(1) نقصد باحتمال عدمها: احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقلّ.« منه (رحمه الله) ».
(2) وفقاً للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي، لاحظ الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
28

وفي الحقيقة هناك مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال تقوم على أساس نظرية الاحتمال. وفي الحالات الاعتيادية يطبّق الإنسان بصورة فطرية تلك المقاييس والضوابط، تطبيقاً قريباً من الصواب بدرجة كبيرة، ولهذا سنكتفي هنا بالاعتماد على التقييم الفطري لقيمة الاحتمال، دون أن ندخل في تفاصيل معقّدة عن الاُسس المنطقية والرياضية لهذا التقييم(1).

هذه هي الخطوات التي نتّبعها عادةً في كلّ استدلال استقرائي يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواء في مجال الحياة الاعتيادية، أو على صعيد البحث العلمي، أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

2 ـ تقييم المنهج:

ولنقيّم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا سابقاً، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية أوّلا.

قلنا آنفاً: إنّك حين تتسلّم رسالةً بالبريد وتقرأها فتتعرّف على أنّها من أخيك، لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، تمارس بذلك استدلالا استقرائياً قائماً على حساب الاحتمال. ومهما كانت هذه القضية ـ وهي أنّ الرسالة من قبل أخيك ـ واضحةً في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقاً للمنهج المتقدم.

فالخطوة الاُولى تواجه فيها ظواهر عديدة، من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كُتبت فيها الحروف جميعاً بنفس الطريقة التي


(1) من أجل التوسّع يمكنك أن تلاحظ الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
29

يكتب بها أخوك الألف والباء والجيم والدال والراء إلى آخر الحروف، وقد نسّقت الكلمات والفوارق بينها بنفس الطريقة التي اعتادها أخوك، واُسلوب التعبير ودرجة متانته وما يشتمل عليه من نقاط قوة أو ضعف يتماثل مع ما تألفه من أساليب التعبير لدى أخيك، وطريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية المتواجدة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي اعتادها أخوك في كتابته، والمعلومات التي تتحدّث عنها الرسالة هي معلومات يعرفها أخوك عادةً، والرسالة تطلب منك أشياء وتعلن عن آراء تتوافق تماماً مع حاجات أخيك وآرائه التي تعرفها عنه.

هذه هي الظواهر.

وفي الخطوة الثانية تتساءل: هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقّاً، أو أنّها من شخص آخر يحمل نفس الاسم ؟

وهنا تجد أنّ لديك فرضيةً صالحةً لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر، وهي: أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقّاً، فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعيّ أن تتوافر كلّ تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الاُولى.

وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر فما هي فرصة أن تتواجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الاُولى ؟

إنّ هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات؛ لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن نفترض أنّ شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويشابه أخاك تماماً في طريقة رسم كلّ الحروف من الألف والباء والجيم والدال وغيرها، وتنسيق الكلمات، ويشابهه أيضاً في اُسلوب التعبير، وفي مستوى الثقافة اللغوية والإملائية، وفي عدد من المعلومات

30

والحاجات، وفي كثير من الظروف والملابسات. وهذه مجموعة من الصدف يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جدّاً، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف التي لابدّ من افتراضها، تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.

والاُسس المنطقية للاستقراء تُعلمنا كيف نقيس الاحتمال ؟ وتفسّر لنا كيف يتضاءل هذا الاحتمال ؟ ولماذا يتضاءل تبعاً لازدياد عدد الصدف التي يفترضها ؟ ولكن ليس من الضروري أن ندخل في تفاصيل ذلك؛ لأنّها معقّدة وصعبة الفهم على القارئ الاعتيادي.

ومن حسن الحظّ أنّ ضآلة الاحتمال لا تتوقّف على فهم تلك التفاصيل، كما لا يتوقّف سقوط الإنسان من أعلى إلى الأرض على فهمه لقوة الجذب واطّلاعه على المعادلة العلمية لقانون الجاذبية، فلستَ بحاجة إلى شيء لكي تحسّ بأنّ احتمال أن يتواجد شخص يشابه أخاك في كلّ تلك الظروف والحالات بعيد جدّاً، وليس البنك بحاجة إلى استيعاب الاُسس المنطقية للاستقراء لكي يعرف أنّ درجة احتمال أن يسحب كلّ زبائنه ودائعهم في وقت واحد ضئيل جدّاً، بينما احتمال أن يسحب واحد أو اثنان ليس كذلك.

وفي الخطوة الرابعة تقول: ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا أن تكون الرسالة من أخيك.

وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قرّرته في الخطوة الرابعة ـ ومؤدّاه أنّ الرسالة قد اُرسلت من أخيك ـ وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرتها في الخطوة الثالثة، وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أنّ درجة ذلك الترجيح

31

تتناسب عكسياً مع ضآلة هذا الاحتمال، فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجةً كان ذلك الترجيح أكبر قيمةً وأقوى إقناعاً. وإذا لم تكن هناك قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأنّ الرسالة من أخيك.

هذا مثال من الحياة اليومية لكلّ إنسان.

ولنأخذ مثالا آخر للمنهج من طرائق العلماء في الاستدلال على النظرية العلمية وإثباتها.

وليكن هذا المثال نظرية نشوء الكواكب السيّارة، ونصّها: أنّ الكواكب السيّارة التسع أصلها من الشمس، حيث انفصلت عنها كقطع ملتهبة قبل ملايين السنين، والعلماء يتّفقون على العموم في أصل النظرية، ويختلفون في سبب انفصال تلك القِطَع عن الشمس.

والاستدلال على أصل النظرية التي يتّفقون عليها يتمّ ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الاُولى: لاحظ فيها العلماء عدّة ظواهر أدركوها بوسائل الحسّ والتجربة:

منها: أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها، كلّ منها من غرب لشرق.

ومنها: أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها، أي من غرب لشرق.

ومنها: أنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس بحيث تكون الشمس كقطب والأرض نقطةً واقعةً على الرحى.

ومنها: أنّ نفس العناصر التي تتأ لّف منها الأرض موجودة في الشمس

32

تقريباً.

ومنها: أنّ هناك توافقاً بين نسب العناصر من ناحية الكمّ بين الشمس والأرض، فالهيدروجين مثلا هو العنصر السائد فيهما معاً.

ومنها : أنّ هناك انسجاماً بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها.

ومنها: أنّ هناك انسجاماً بين عمرَي الأرض والشمس حسب تقدير العلم لعمر كلّ منهما.

ومنها: أنّ باطن الأرض ساخن، وهذا يثبت أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّةً جدّاً.

هذه بعض الظواهر التي لاحظها العلماء في الخطوة الاُولى بوسائل الحسّ والتجربة.

الخطوة الثانية: وجد العلماء أنّ هناك فرضيةً يمكن أن تفسّر بها كلّ تلك الظواهر التي لوحظت في الخطوة الاُولى، بمعنى: أنّها إذا كانت ثابتةً في الواقع فهي تستبطن هذه الظواهر جميعاً وتبرّرها، وهذه الفرضية هي: أنّ الأرض كانت جزءاً من الشمس، وانفصلت عنها لسبب من الأسباب، فإنّه على هذا التقدير يُتاح لنا أن نفسّر على أساس تلك الظواهر المتقدمة.

أمّا الظاهرة الاُولى وهي أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها؛ لأنّ كلاًّ منهما من غرب لشرق، فلأنّ سبب هذا التوافق في الحركة يصبح واضحاً على تقدير صحة تلك الفرضية؛ لأنّ أيّ جسم يدور إذا انفصلت منه قطعة وبقيت منشدّةً إليه بخيط أو غيره، فإنّها تدور بنفس اتّجاه الأصل بمقتضى قانون الاستمرارية.

وأمّا الظاهرة الثانية، وهي أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران

33

الشمس حول نفسها، أي من غرب لشرق، فالفرضية المذكورة تكفي لتفسيرها أيضاً؛ لأنّ الجسم المنفصل من جسم يدور من غرب لشرق يأخذ نفس حركته بمقتضى قانون الاستمرارية.

وكذلك الأمر في الظاهرة الثالثة أيضاً.

وأمّا الظاهرة الرابعة والخامسة اللتان تعبّران عن توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، فهما مفهومتان بوضوح على أساس أنّ الأرض جزء من الشمس؛ لأنّ عناصر الجزء نفس عناصر الكلّ.

وأمّا الظاهرة السادسة، وهي الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها، فقد عرفنا أنّ فرضية انفصال الأرض من الشمس تعني أنّ حركتي الأرض ناشئتان من حركة الشمس، وهذا يفسّر لنا الانسجام المذكور ويحدّد سببه.

وأما الظاهرة السابعة، وهي الانسجام بين عمرَي الأرض والشمس، فمن الواضح تفسيرها على أساس نظرية الانفصال، وكذلك الأمر في الظاهرة الثامنة التي يبدو منها أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّةً جدّاً، فإنّ فرضية انفصالها عن الشمس تستبطن ذلك.

الخطوة الثالثة: يلاحظ أنّه على افتراض أنّ نظرية انفصال الأرض عن الشمس ليست صحيحةً، فمن البعيد أن تتواجد كلّ تلك الظواهر وتتجمّع؛ لأنّها تكون مجموعةً من الصدف التي ليس بينها ترابط مفهوم، فاحتمال تواجدها جميعاً على تقدير عدم صحة النظرية المذكورة ضئيل جدّاً؛ لأنّ هذا الاحتمال يتطلّب منّا مجموعةً كبيرةً من الافتراضات لكي نفسّر تلك الظواهر جميعاً.

فبالنسبة إلى انسجام حركة الأرض حول الشمس مع حركة الشمس حول نفسها في أنّها من غرب لشرق، لابدّ أن نفترض أنّ الأرض كانت جرماً بعيداً عن

34

الشمس، سواء خلقت وحدها أو كانت جزءً من شمس اُخرى انفصلت عنها ثمّ اقتربت من الشمس. ونفترض أيضاً أنّ الأرض المنطلقة حينما دخلت في مدارها حول الشمس دخلت في نقطة تقع في غرب الشمس، فتدور حينئذ من غرب لشرق، أي مع اتّجاه حركة الشمس حول نفسها، إذ لو كانت قد دخلت في مدار الشمس في نقطة تقع في شرق الشمس لكانت تدور من شرق لغرب.

وبالنسبة إلى التوافق بين حركة الأرض حول نفسها ودوران الشمس حول نفسها في الاتّجاه من غرب لشرق، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض افتراضاً كانت تدور من غرب لشرق.

وبالنسبة إلى دوران الأرض حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض كانت واقعةً في نقطة عمودية على خطّ الاستواء للشمس.

وبالنسبة إلى توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، لابدّ أن نفترض أنّ الأرض أو الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض قد كانت تشتمل على نفس عناصر هذه الشمس وبنسب متشابهة.

وبالنسبة إلى الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها، نفترض مثلا أنّ الشمس الاُخرى التي انفصلت عنها الأرض انفجرت بنحو أعطت للأرض المنفصلة نفس السرعة التي تتناسب مع حركة شمسنا.

وبالنسبة إلى الانسجام بين عمرَي الأرض والشمس وحرارة الأرض في بداية نشوئها، نفترض مثلا أنّ الأرض كانت قد انفصلت عن شمس اُخرى لها نفس عمر شمسنا، وأنّها انفصلت على نحو أدّى إلى حرارتها بدرجة كبيرة جدّاً.

وهكذا نلاحظ أنّ تواجد جميع تلك الظواهر على تقدير عدم صحة فرضية

35

الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف التي يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جدّاً، بينما فرضية الانفصال وحدها كافية لتفسير كلّ تلك الظواهر والربط بينها.

وفي الخطوة الرابعة نقول: ما دام تواجد كلّ هذ الظواهر الملحوظة في الأرض أمراً غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدّاً، على افتراض أنّ الأرض ليست منفصلةً عن هذه الشمس، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا، أن تكون الأرض منفصلةً عن الشمس.

وفي الخطوة الخامسة نربط بين ترجيح فرضية انفصال الأرض عن هذه الشمس ـ كما تقرّر في الخطوة الرابعة ـ وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الأرض بدون أن تكون منفصلةً عن هذه الشمس، كما تقرّر في الخطوة الثالثة، ويعني الربط بين هاتين الخطوتين: أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال الموضّحة في الخطوة الثالثة أشدّ كان الترجيح الموضّح في الخطوة الرابعة أكبر.

وعلى هذا الأساس نستدلّ على نظرية انفصال الأرض والشمس، وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك.

كيف نطبّق المنهج لإثبات الصانع؟

بعد أن عرفنا المنهج العامّ للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، وبعد أن قيّمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدمة، نمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم، وذلك باتّباع نفس الخطوات السابقة:

الخطوة الاُولى:

نلاحظ توافقاً مطّرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة

36

الإنسان ككائن حيّ وتيسير الحياة له، على نحو نجد أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها.

وفيما يلي نذكر عدداً من تلك الظواهر كأمثلة:

تتلقّى الأرض من الشمس كمّيةً من الحرارة تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة، لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ علمياً أنّ المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقاً كاملا مع كمّية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن لَما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تطيقها حياة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض والمحيطات تحتجز ـ على شكل مركّبات ـ الجزء الأعظم من الأوكسجين، حتّى إنّه يكوّن ثمانيةً من عشرة من جميع المياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدّة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيمياوية للاندماج على هذا النحو، فقد ظلّ جزء محدود منه طليقاً يساهم في تكوين الهواء، وهذا الجزء يحقّق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة؛ لأنّ الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفّس، ولو قُدّر له أن يُحتجز كلّه ضمن مركّبات لَما أمكن للحياة أن توجد.

وقد لوحظ أنّ نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21 % من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرّضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذّرت الحياة أو أصبحت صعبة، ولَما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهماتها.

ونلاحظ ظاهرةً طبيعيةً تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن تنتج

37

الحفاظ على قدر معيّن من الأوكسجين باستمرار، وهي أنّ الإنسان والحيوان عموماً حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقّاه الدم ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلّل إلى الرئتين ثمّ يلفظه الإنسان، وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرط ضروريّ لحياة كلّ نبات، والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمّية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائياً إنّ هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمّعت حتى أنتجت هذه الظاهرة التي تتوافق بصورة كاملة مع متطلّبات الحياة.

ونلاحظ أنّ النتروجين بوصفه غازاً ثقيلا أقرب إلى الجمود يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه. ويلاحظ هنا أنّ كمّية الأوكسجين التي ظلّت طليقةً في الفضاء، وكمّية النتروجين التي ظلّت كذلك منسجمتان تماماً، بمعنى أنّ الكمّية الاُولى هي التي يمكن للكمّية الثانية أن تخففها، فلو زاد الأوكسجين أو قلّ النتروجين لَما تمّت عملية التخفيف المطلوبة.

ونلاحظ أنّ الهواء كمّية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمّية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت، فإنّ زيادتها تعني ازدياد ضغط الهواء على الإنسان الذي قد يصل إلى ما لا يُطاق، وقلّتها تعني فسح المجال للشهب التي تتراءى في كلّ يوم لإهلاك

38

من على الأرض واختراقها بسهولة.

ونلاحظ أنّ قشرة الأرض التي كانت تمتصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محدّدة على نحو لا يتيح لها أن تمتصّ كلّ هذا الغاز، ولو كانت أكثر سمكاً لامتصّته، ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونلاحظ أنّ القمر يبعد عن الأرض مسافةً محدّدةً، وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان يبعد عنّا مسافةً قصيرةً نسبياً لتضاعف المدّ الذي يحدثه وأصبح من القوة على نحو يزيح الجبال من مواضعها.

ونلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحيّة المتنوّعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر فما تعبّر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً، بل يعتبر ظاهرةً قابلةً للملاحظة العلمية تماماً. وهذا السلوك الغريزيّ ـ في آلاف الغرائز التي تعرّف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية أو في بحوثه العلمية ـ يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وأنّه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان، وحينما نقسّم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أنّ كلّ وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يمثّل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية، وكلّ ظاهرة في تكوينها ودورها الفيسيولوجيّ وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

فمثلا: نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمّة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة. إنّ عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكوّن من تسع طبقات، وتحتوي الطبقة الأخيرة منها

39

على ملايين الأعواد والمخروطات، قد رتّبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمّة الإبصار، من حيث علاقات بعضها بالبعض الآخر وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً وهو: أنّ الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنّه استثناء مؤقّت؛ فإنّ الإبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحسّ بالأشياء وهي مقلوبة، بل اُعيد تنظيم الصورة في ملايين اُخرى من خويطات الأعصاب المؤدّية إلى المخّ حتّى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتمّ عملية الإبصار، وتكون عندئذ متوافقةً بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

حتّى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية نجد أنّها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمّة تيسير الحياة ويؤدّي دوراً في ذلك، فالأزهار التي ترك تلقيحها للحشرات لوحظ أنّها قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتّفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح، بينما لا تتمّيز الأزهار التي يحمل الهواء لقاحها عادةً بعناصر الإغراء. وظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لاُنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة، مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة ﴿ وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(1). هذه هي الخطوة الاُولى.

الخطوة الثانية:

نجد أنّ هذا التوافق المستمرّ بين الظاهرة الطبيعية ومهمّة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسّر في جميع هذه المواقع بفرضية


(1) النحل: 18.
40

واحدة، وهي أن نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة ويُيسّر مهمّتها، فإنّ هذه الفرضية تستبطن كلّ هذه التوافقات.

الخطوة الثالثة:

نتساءل: إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتةً في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كلّ تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمّة تيسير الحياة، دون أن يكون هناك هدف مقصود ؟ ومن الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصُدَف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المُبْرَدَة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك ولكنّه يشابهه في كلّ الصفات بعيداً جدّاً؛ لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكلّ ما تضمه من صنع مادة غير هادفة ولكنّها تشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات ؟

الخطوة الرابعة:

نرجّح بدرجة لا يشوبها الشكّ أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحةً، أي أنّ هناك صانعاً حكيماً.

الخطوة الخامسة:

نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلةً كلّما ازداد عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها فيه كما عرفنا سابقاً، فمن الطبيعيّ أن يكون هذا الاحتمال ضئيلا بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علمي؛ لأنّ عدد الصدف التي لابدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر

41

من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروريّ أنيزول(1).

 


(1) بقيت مشكلتان لابدّ من تذليلهما:
إحداهما: أنّه قد يلاحظ أنّ البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي هو أن تكون كلّ ظاهرة من الظواهر المتوافقة مع مهمة تيسير الحياة ناتجةً عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها وبحكم تناقضاتها الداخلية وفاعليتها الذاتية هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الاستقرائي: تفضيل فرضية الصانع الحكيم على البديل المحتمل؛ لأنّ تلك لا تستبطن إلّا افتراضاً واحداً وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون احتمال البديل احتمالا لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضاءل حتى يفنى. غير أنّ هذا إنّما يتمّ إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنةً لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع أنّه قد يبدو أنّها مستبطنة لذلك؛ لأنّ الصانع الحكيم الذي يفسّر كلّ تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستبطنه هذه الفرضية من هذه العلوم و القدرات بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء، فأين التفضيل ؟
والجواب: أنّ التفضيل ينشأ من أنّ هذه الضرورات العمياء غير مترابطة، بمعنى أنّ افتراض أيّ واحدة منها يعتبر حيادياً تجاه افتراض الضرورة الاُخرى، وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال أنّها حوادث مستقلّة، وأنّ احتمالاتها احتمالات مستقلّة.
وأمّا العلوم والقدرات التي يتطلّبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر موضوعة البحث فهي ليست مستقلّة؛ لأنّ ما يتطلّبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلّبه صنع بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات ليس حيادياً تجاه افتراض البعض الآخر، بل يستبطنه أو يرجّحه بدرجة كبيرة، وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أنّ

42



احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات مشروطة، أيّ أنّ احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر كبير جدّاً وكثيراً ما يكون يقيناً.
وحينما نريد أن نقيّم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات واحتمال مجموعة تلك الضرورات ونوازن بين قيمتي الاحتمالين يجب أن نتّبع قاعدة ضرب الاحتمال المقرّرة في حساب الاحتمال، بأن نضرب قيمة احتمال كلّ عضو في المجموعة بقيمة احتمال عضو آخر فيها، وهكذا. والضرب كما نعلم يؤدّي إلى تضاؤل الاحتمال، وكلّما كانت عوامل الضرب أقلّ عدداً كان التضاؤل أقلّ، وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلّة تبرهن رياضياً على أنّ في الاحتمالات المشروطة يجب أن نضرب قيمة احتمال عضو بقيمة احتمال عضو آخر على افتراض وجود العضو الأول، وهو كثيراً ما يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، فلا يؤدّي الضرب إلى تقليل الاحتمال اطلاقاً، أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جدّاً، خلافاً للاحتمالات المستقلّة التي يكون كلّ واحد منها حيادياً تجاه الاحتمال الآخر، فإنّ الضرب هناك يؤدّي إلى تناقض القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل أحد الافتراضين على الآخر. (من أجل توضيح قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والمستقلّة راجع كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء).
والمشكلة الاُخرى: هي المشكلة التي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي للقضية المستدلّة استقرائياً. ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أنّ الرسالة التي تسلمتَها بالبريد هي من أخيك.
ويقال بصدد هذه المقارنة: إنّ سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأنّ الرسالة قد أرسلها أخوه تتأثّر بدرجة احتمال هذه القضية قبل أن يفضّ الرسالة ويقرأها، وهو ما نسمّيه بالاحتمال القبلي للقضية، فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة يحتمل بدرجة خمسين في المئة مثلا أنّ أخاه

43



يبعث إليه برسالة فسوف يكون اعتقاده بأنّ الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعاً، بينما إذا كان مسبقاً لا يحتمل أن يتلقّى رسالةً من أخيه بدرجة معتدّ بها؛ إذ يغلب على ظنّه مثلا بدرجة عالية من الاحتمال أنّه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بأنّ الرسالة من أخيه ما لم يحصل على قرائن مؤكّدة، فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟
والحقيقة أنّ قضية الصانع الحكيم سبحانه ليست محتملة، وإنّما هي مؤكّدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا أنّها قضية محتملة نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي فيمكن أن نقدّر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:
نأخذ كلّ ظاهرة من الظواهر موضوعة البحث بصورة مستقلّة، فنجد أنّ هناك افتراضين يمكن أن نفسّرها بأيّ واحد منهما، أحدهما: افتراض صانع حكيم، والآخر: افتراض ضرورة عمياء في المادة. وما دمنا أمام افتراضَين ولا نملك أيّ مبرّر مسبَق لترجيح أحدهما على الآخر فيجب أن نقسّم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون قيمة كلّ واحد منهما خمسين في المئة، ولمّا كانت الاحتمالات التي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطةً ومشروطةً والاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلّةً وغير مشروطة فالضرب يؤدّي باستمرار إلى تضاؤل شديد في احتمال فرضية الضرورة العمياء، وتصاعد مستمرّ في احتمال فرضية الصانع الحكيم.
والذي لاحظته بعد تتبّع وجهد أنّ السبب الذي جعل الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لا يلقى قبولا عامّاً على صعيد الفكر الاُوروبي وينكره فلاسفة كبار من أمثال (رَسل) هو عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التغلّب على هاتين النقطتين اللتين أشرنا هنا إلى الطريقة التي يتمّ التغلب بها عليهما، ومن أجل التوّسع والتعمّق في كيفية تطبيق مناهج ←
44

وهكذا نصل إلى النتيجة القاطعة: وهي أنّ للكون صانعاً حكيماً بدلالة كلّ ما في هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير:

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الْحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّه عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ﴾(1).

﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَاختِلافِ اللَيْلِ وَالنَّهَارِ والفُلْكِ الَّتي تَجْري في البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّة وَتَصْريفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ﴾(2).

﴿فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور * ثُمّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾(3).

 



الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع مع التغلّب على هاتين النقطتين يمكن أن يراجع كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء: (إثبات الصانع بالدليل الاستقرائي).« منه (رحمه الله) ».
(1) فصّلت: 53.
(2) البقرة: 164.
(3) الملك: 3 ـ 4.
45

الدليل الفلسفي

 

قبل أن ندخل في الحديث عن الدليل الفلسفي على إثبات الصانع سبحانه وتعالى يجب أن نتساءل: ما هو الدليل الفلسفي؟ وما الفرق بينه وبين الدليل العلمي؟ وما هي أقسام الدليل؟

إنّ الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: الدليل الرياضي، والدليل العلمي، والدليل الفلسفي.

فالدليل الرياضي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال الرياضيّات البحتة والمنطق الصوري الشكلي، ويقوم هذا الدليل دائماً على مبدأ أساسي، وهو مبدأ عدم التناقض القائل: إنّ (أ) هي (أ) ولا يمكن أن لا تكون (أ)، فكلّ دليل يستند إلى هذا المبدأ وما يتفرّع عنه من نتائج فقط نطلق عليه اسم الدليل الرياضي، وهو يحظى بثقة من الجميع.

والدليل العلمي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال العلوم الطبيعيّة، ويعتمد على المعلومات التي يمكن إثباتها بالحسّ أو الاستقراء العلمي، إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.

والدليل الفلسفي: هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعي في العالم الخارجي على معلومات عقليّة ـ المعلومات العقليّة: هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة ـ إضافةً إلى مبادئ الدليل الرياضي.

وهذا لا يعني بالضرورة أنّ الدليل الفلسفي لا يعتمد على معلومات حسّيّة أو استقرائيّة، وإنّما يعني أنّه لا يكتفي بها، بل يعتمد إلى جانب هذا ـ أو بصورة مستقلّة عن ذلك ـ على معلومات عقليّة اُخرى في إطار الاستدلال على القضيّة

46

التي يريد إثباتها.

فالدليل الفلسفي إذن يختلف عن الدليل العلمي في تعامله مع معلومات عقلية لا تدخل في نطاق مبادئ الدليل الرياضي.

وعلى أساس ما قدّمناه من مفهوم الدليل الفلسفي قد نواجه السؤال التالي: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقلية ـ أي على الأفكار التي يوحي بها العقل ـ بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علمي ؟

والجواب على ذلك بالإيجاب، فإنّ هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع، كمبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه كلّ الرياضيات البحتة، وهو مبدأ يقوم إيماننا به على أساس عقلي، وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء.

والدليل على ذلك: أنّ درجة اعتقادنا بهذا المبدأ لا تتأثّر بعدد التجارب والشواهد التي تتطابق معها. ولنأخذ تطبيقاً حسابياً واضحاً لهذا المبدأ، وهو التطبيق القائل: 4 = 2 + 2، فإنّ اعتقادنا بصحة هذه المعادلة الحسابية البسيطة اعتقاد راسخ لا يزداد بملاحظة الشواهد، بل إنّنا لسنا مستعدّين للاستماع إلى أيّ شاهد عكسي، ولن نصدّق لو قيل لنا: إنّ اثنين زائداً اثنين يساوي في حالة فريدة خمسة أو ثلاثة، وهذا يعني أنّ اعتقادنا بتلك الحقيقة ليس مرتبطاً بالإحساس والتجربة، وإلّا لتأثّر بهما أيجاباً وسلباً.

فإذا كنّا نثق كلّ الثقة باعتقادنا بهذه الحقيقة على الرغم من عدم ارتباطه بالإحساس والتجربة فمن الطبيعي أن نسلّم أنّ بالإمكان أن نثق أحياناً بالمعلومات العقلية التي يعتمد عليها الدليل الفلسفي.

وبكلمة اُخرى: أنّ رفض الدليل الفلسفي لمجرّد أنّه يعتمد على معلومات عقلية لا ترتبط بالتجربة والاستقراء يعني رفض الدليل الرياضي أيضاً؛ لأنّه يعتمد

47

على مبدأ عدم التناقض الذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء(1).

نموذج من الدليل الفلسفي على إثبات الصانع:

يعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التالية:

أوّلا: على البديهية القائلة: إنّ كلّ حادثة لها سبب تستمدّ منه وجودها، وهذه قضية يدركها الإنسان بشعوره الفطري، ويؤكّدها الاستقراء العلمي باستمرار.

ثانياً: على القضية القائلة: كلّما وجدت درجات متفاوتة من شيء ما بعضها أقوى وأكمل من بعض فليس بالإمكان أن تكون الدرجة الأقلّ كمالا والأدنى محتوىً هي السبب في وجود الدرجة الأعلى، فالحرارة لها درجات، والمعرفة لها درجات، والنور له درجات بعضها أشدّ وأكمل من بعض، فلا يمكن أن تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها، ولا يمكن أن يكتسب الإنسان معرفةً كاملةً باللغة الإنجليزية من شخص لا يعرف منها إلّا قدراً محدوداً أو يجهلها تماماً، ولا يمكن لدرجة نور ضئيلة أن تحقّق درجةً أكبر من النور؛ لأنّ كلّ درجة أعلى تمثّل زيادةً نوعيةً وكيفيةً على الدرجة الأدنى منها، وهذه الزيادة النوعية لا يمكن أن يمنحها من لا يملكها، فأنت حينما تريد أن تموّل مشروعاً من مالك لا يمكنك أن تمدّه بدرجة أكبر من رصيدك الذي تملكه.

ثالثاً: أنّ المادة في تطوّرها المستمرّ تتّخذ أشكالا مختلفةً في درجة تطوّرها ومدى التركيز فيها، فالجُزَيء من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس


(1) من أجل التوسّع في ذلك والتعمّق في إثباته واستيعاب مواقف المنطق التجريبي والمنطق الوضعي من هذه النقطة، وطريقة تفسير الوضعية لليقين في المبدأ الرياضي على أساس كونه تكرارياً ومناقشتها يمكن الرجوع إلى كتاب الاُسس المنطقية للاستقراء.« منه (رحمه الله) ».
48

يمثّل شكلا من أشكال الوجود للمادة، ونطفة الحياة التي تساهم في تكوينالنبات والحيوان (البروتوبلازم) تمثّل شكلا أرفع لوجود المادة، و (الأميبا) التي تعتبر حيواناً مجهرياً ذا خلية واحدة تمثّل شكلا من وجود المادة أكثر تطوّراً، والإنسان هذا الكائن الحي الحسّاس المفكّر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون.

وحول هذه الأشكال المختلفة من الوجود يبرز السؤال التالي: هل الفارق بين هذه الأشكال مجرّد فارق كمّي في عدد الجزيئات والعناصر وفي العلاقات الميكانيكية بينها، أو هو فارق نوعي وكيفي يعبّر عن درجات متفاوتة من الوجود ومراحل من التطوّر والتكامل ؟

وبكلمة اُخرى: هل الفارق بين التراب والإنسان الذي تكوّن منه عدديٌّ فقط، أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطوّر والتكامل، كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد ؟

وقد آمن الإنسان بفطرته منذ طرح على نفسه هذا السؤال بأنّ هذه الأشكال درجات من الوجود، ومراحل من التكامل، فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادة، وهذه الدرجة نفسها ليست حدّية، وإنّما هي أيضاً درجات، وكلّما اكتسبت الحياة مضموناً جديداً عبّرت عن درجة أكبر، ومن هنا كانت حياة الكائن الحسّاس المفكّر أغنى وأكبر درجةً من حياة النبات، وهكذا.

غير أنّ الفكر المادي قبل أكثر من قرن من الزمن خالف في ذلك، إيماناً منه بوجهة النظر الميكانيكية في تفسير الكون القائلة بأنّ العالم الخارجي يتكوّن من جسيمات صغيرة متماثلة تؤثّر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة ضمن قوانين عامّة، أي إنّ عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها للبعض من مكان إلى مكان، وبهذا الجذب والطرد تتجمّع أجزاء وتتفرّق أجزاء وتتنوّع أشكال المادة.

49

وعلى هذا الأساس حصرت المادية الميكانيكية التطوّر والحركة بحركةالأجسام والجسيمات في الفضاء من مكان إلى مكان، وفسّرت أشكال المادة المختلفة بأنّها طرق شتى لتجمّع تلك الجسيمات وتوزّعها، دون أن يحدث من خلال تطوّر المادة شيء جديد، فالمادة لا تنمو في وجودها، ولا تترقّى في تطوّرها، وإنّما تتجمّع وتتوزّع بطرق مختلفة كالعجينة في يدك حين تشكّلها بأشكال مختلفة، وتظلّ دائماً هي العجينة نفسها دون جديد.

وهذه الفرضية أوحى بها تطوّر علم الميكانيك، الذي كان أوّل العلوم الطبيعية تحرّراً وانطلاقاً في أساليب البحث العلمي، وشجّع عليها ما أحرزه هذا العلم من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكية وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتيادية على أساسها، بما فيها حركات الكواكب في الفضاء.

ولكنّ استمرار تطوّر العلم وامتداد أساليب البحث العلمي إلى مجالات متنوّعة اُخرى أثبت بطلان تلك الفرضية وعجزها من ناحية عن تفسير كلّ الحركات المكانية تفسيراً ميكانيكياً، وقصورها من ناحية اُخرى عن استيعاب كلّ أشكال المادة ضمن الحركة الميكانيكية للأجسام والجسيمات من مكان إلى مكان، وأكّد العلم ما أدركه الإنسان بفطرته من أنّ تنوّع أشكال المادة لا يعود إلى مجرّد نقلة مكانية من مكان إلى مكان، بل إلى ألوان من التطوّر النوعي والكيفي، وثبت من خلال التجارب العلمية أنّ أيّ تركيب عددي للجسيمات لا يمثّل حياةً أو إحساساً أو فكراً، وهذا يجعلنا أمام تصوّر يختلف كلّ الاختلاف عن التصوّر الذي تقدّمه المادية الميكانيكية، إذ نواجه في الحياة والإحساس والفكر عملية نموّ حقيقية في المادة وتطوّر نوعي في درجات وجودها، سواء كان محتوى هذا التطوّر النوعي شيئاً مادياً من درجة أعلى، أو شيئاً لا مادياً.

هذه هي القضايا الثلاث:

1 ـ كلّ حادثة لها سبب.

50

2 ـ الأدنى لا يكون سبباً لما هو أعلى منه درجة.

3 ـ اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتنوّع أشكاله كيفياً.

وفي ضوء هذه القضايا الثلاث نعرف أ نّا نواجه في الأشكال النوعية المتطوّرة نموّاً حقّاً، أي تكاملا في وجود المادة وزيادةً نوعيةً فيه، فمن حقّنا أن نتساءل: من أين جاءت هذه الزيادة ؟ وكيف ظهرت هذه الإضافة الجديدة ما دام أنّ لكلّ حادثة سبباً كما تقدم ؟

وتوجد بهذا الصدد إجابتان:

إحداهما: أنّها جاءت من المادة نفسها، فالمادة التي لا حياة فيها ولا إحساس ولا فكر أبدعت من خلال تطوّرها الحياة والإحساس والفكر، أي إنّ الشكل الأدنى من وجود المادة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجةً، الأغنى محتوى.

وهذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية المتقدمة، التي تقرّر أنّ الشكل الأدنى درجةً لا يمكن أن يكون سبباً لِمَا هو أكبر منه درجةً وأغنى منه محتوىً من أشكال الوجود، فافتراض أنّ المادة الميّتة التي لا تنبض بالحياة تمنح لنفسها أو لمادة اُخرى الحياة والإحساس والتفكير يشابه افتراض أنّ الإنسان الذي يجهل اللغة الإنجليزية يمارس تدريسها، وأنّ درجة الضوء الباهت بإمكانها أن تعطينا ضوءاً أكبر درجةً كضوء الشمس، وأنّ الفقير الذي لا يملك رصيداً يموّن المشاريع الرأسمالية.

والإجابة الثانية على السؤال: أنّ هذه الزيادة الجديدة التي تعبّر عنها المادة من خلال تطوّرها جاءت من مصدر يتمتّع بكلّ ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر، وهو الله ربّ العالمين سبحانه وتعالى، وليس نموّ المادة إلّا تنميةً وتربيةً يمارسها ربّ العالمين بحكمته وتدبيره وربوبيته: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَار مَكِين * ثُمَّ خَلَقْنَا

51

النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّأنْشَأنَاه خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخالِقينَ﴾(1).

وهذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدّمة، وتستطيع أن تعطي تفسيراً معقولا لعملية النموّ والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب. وإلى هذا الدليل يشير القرآن الكريم في عدد من آياته التي يخاطب بها فطرة الإنسان السليمة وعقله السوي:

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾(2).

﴿أفَرَأيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾(3).

﴿أفَرَأيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أأنْتُمْ أنْشَأتُمْ شَجَرَتَهَا أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾(4).

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾(5).

صدق الله العلي العظيم.

موقف المادية من هذا الدليل:

ونشير الآن إلى موقف الماديّة من هذا الدليل.

إنّ المادية الميكانيكية غير محرجة في مواجهة هذا الدليل؛ لأنّها كما عرفنا


(1) المؤمنون: 12 ـ 14.
(2) الواقعة: 58 ـ 59.
(3) الواقعة: 63 ـ 64.
(4) الواقعة: 71 ـ 72.
(5) الروم: 20.