532

 

3 ـ القَلَق:

وهو الحالة التي تحصل بالشوق إذا جُرّد من الصبر، فإنّ الشوق إن لم يجرّد من الصبر، لم يبعث بالقلق.

وهذه الحالة تحصل قبل تماميّة مشاهدة المحبوب وهو الله سبحانه بالموت، أو بقيام القيامة، وهو محتمل ما نقلناه في أوّل البند السابق عن نهج البلاغة من قوله(عليه السلام): «والله لاَبن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه».

وبهذا يمكن تفسير التضرّعات الشديدة، والبكاء الخارق المنقولين عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)؛ فإنّه لا يمكن تفسيرهما بالتصنّع لتعليم الناس، ولا بالخوف ممّا صدر منهم من معصية حقيقيّة؛ لأنّهم معصومون، فلم يصدر منهم ذنب بالمعنى المألوف، فقد يُفسّران على أساس «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»، أو على أساس النموّ الروحيّ آناً فآناً ممّا يوجب أن يعدّوا المرتبة النازلة التي صعدوا عنها ذنباً على أنفسهم، أو يفسّران على أساس انهيارهم(عليهم السلام)أمام عظمة الربّ، وجلاله وجماله ممّا كان يؤدّي إلى تذلّلهم بهذا اللسان، أو يفسّران على أساس ما قد يحصل لديهم أقلّ غبار على القلب عن بعض مراتب الصفاء ولو لحظة، نتيجة الانشغال باُمور الدنيا الذي لا بدّ منه، فيعدّون ذلك ذنباً على أنفسهم، وقد مضت منّا هذه التفاسير في بحثنا لعلامات العرفاء الكاذبين والحقيقيّين، ومضى منّا في بحث الخوف احتمال أنّ الخوف منهم(عليهم السلام) كان عن الوقوع في المعصية من دون أن ينافي ذلك العصمة؛ لأنّ العصمة قد تكون في طول الخوف الشديد الذي هو فوق ما يتصوّر من الإنسان الاعتياديّ، أو أن يكون خوفاً من صدور ترك الأولى.

وهنا اُريد أن أقول: إنّ هناك تفسيراً آخر غير تلك التفسيرات الماضية، وهو: احتمال حصول هذه الحالة لهم على أساس القلَق الذي يحصل نتيجة عدم المشاهدة للمحبوب، والتي لاتحصل إلاّ لدى الموت، أو لدى قيام القيامة.

533

 

4 ـ العطش:

وإن هو في رأينا إلاّ غصناً من أغصان الشوق، ولا نرانا بحاجة إلى البحث المستقلّ عنه، إلاّ أنّ العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) جعله بحثاً مستقلاًّ، وقال عنه: إنّه كناية عن غلبة ولوع بمأمول، ونزّل عليه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ يعني: أنّ سيّدنا إبراهيم(عليه السلام)لولا شدّة عطشه إلى لقاء محبوبه، لما ظنّه الكوكب؛ إذ كلّ إنسان إذا رأى السراب ذكر الماء.

ولكن هذا الكلام مفضوح إلى درجة أنّ شارح كتابه (عفيف الدين سليمان التلمسانيّ) اضطرّ أن يؤوّله ويحمله على حكم الإشارة، وقال(1): «هذا على حكم الإشارة، وإلاّ فخليل الرحمن ـ صلوات الله عليه ـ إنّما ذكر على وجه الدلالة على أنّه لا يجوز أن يُعبد شيء ذو نقيصة بوجه مّا، فكأنّه أشار إلى كمال المعبود ـ عزّ وجلّ ـ بما نبّه عليه من نقائص الكوكب والقمر والشمس والاُفول، وأراد الإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى لا يغيب عن مخلوقاته، ولا ينبغي له ذلك جلّت قدرته وتقدّست صفاته».

 

5 ـ الوجد:

وهي الحالة التي تحصل من مستوىً من الشهود الذي يتحقّق لدى المكاشفة، فيُنسيه كلّ شيء.

أرى رسمها عندي يعوّض عن رسمي
فما بالهم في الحيّ يدعونني باسمي
وهل بعد ضوء الشمس يبدو لك الدُجى
وهل عندها يبقى على الاُفق من نجم(2)
 


(1) في ص 417.

(2) من أبيات لعفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين، ص 428.

534

آن كس كه تو را شناخت جان را چه كند؟
فرزند و عيال و خانمان را چه كند؟
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى
ديوانه تو هر دو جهان را چه كند؟

 

6 ـ الدهش:

قال العارف المعروف (عبدالله الأنصاريّ) في منازل السائرين: «الدهش: بَهتة تأخذ العبد إذا فاجأه ما يغلب على عقله، أو صبره، أو علمه».

ومثّل لذلك بقصّة يوسف(عليه السلام)، حيث ورد في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾(1)، أي: أعظمنه، وكان ذلك التعظيم سبب البهتة التي حصلت لهنّ من رؤية يوسف(عليه السلام)، وذلك هو الدهش.

وقال عفيف الدين التلمسانيّ في شرحه لمنازل السائرين(2): «ما يغلب عقله هو الشهود، والذي يغلب صبره هو فرط المحبّة، والذي يغلب علمه هو إدراك المعرفة، والمعرفة هي فوق العلم».

أقول: هذه دهشة لنساء فاجرات أمام حسن بشريٍّ، وبعشق مجازيٍّ، فما ظنّك بالدهشة أمام ربّ الأرباب لجلوة تحصل في بعض ساعات الخلوات، وعلى أساس العشق الحقيقيّ، والعبوديّة الواقعيّة «واجعَل لِساني بِذِكرِكَ لَهجاً، وَقَلْبي بِحُبِّكَ مُتيّما»(3).

وهنا أقف عن البحث عن العرفان الحقيقيّ وفق خطّ أهل البيت(عليهم السلام) معترفاً بأنّ هذا بحر لا ينفد. وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.


(1) السورة 12، يوسف، الآية: 31.

(2) ص 429 ـ 430.

(3) دعاء كميل.

535

 

 

 

 

الحلقة الرابعة

 

المثبّطات والمحفّزات

 

 

 

537

 

 

 

 

 

 

1 ـ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(1).

2 ـ ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاَْبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيم * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ


(1) السورة 3، آل عمران، الآيات: 133ـ 136، ويبدو أنَّ هذه الآيات المباركات واردة بشأن الدرجة الدانية من التقوى لا العالية؛ لأنَّه مع الدرجة العالية لا تصدر فاحشة، ولا يحصل ظلم. ويحتمل أن يكون من قبيل هذه الآية قوله تعالى في السورة 7، الأعراف، الآية: 201 ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ كما يحتمل أن تكون هذه الآية إشارة إلى مرتبة أعلى من التقوى، وهي: مقام التوبة من مجرَّد الهمِّ بالذنب، أو التفكير في الذنب، لا من الذنب، بأن يكون مسُّ طائف من الشيطان إشارةً إلى إحداثه للهمِّ بالذنب في نفس الإنسان، أو تفكيره فيه.

538

الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(1).

3 ـ ﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاء لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاَ كِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيم * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لاَِلَى الْجَحِيمِ﴾(2).

4 ـ ﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(3).


(1) السورة 83، المطففين، الآيات: 18 ـ 36.

(2) السورة 37، الصافات، الآيات: 40 ـ 68.

(3) السورة 9، التوبة، الآية: 72 وكأنَّ صدر الآية يشير إلى النعم المادِّية وذيلها إلى النعمة المعنويَّة، وهي: الرضوان.

539

5 ـ ﴿كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (1) * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾(2).

لا إشكال ولا ريب في أنَّ الإنسان الاعتيادي لا يتحرّك عن طريق محض الإيمان العقلي بالحسن والقبح إلاّ في نطاق ضيِّق جداً، فإنَّ الإنسان بطبيعته كسول ميَّال للدعة والراحة، وهو يطلب ـ عادة ـ أجراً على ما يقوم به من عمل خير أو ترك شرٍّ، ويكون للذَّته وألمه الحظُّ الكبير لتحرّكه.

وبكلمة أُخرى: إنَّ الإنسان لو كان لا يملك ميولا وشهوات وعواطف خاصَّة، وغرائز تجرُّه في كثير من الأحيان إلى القبيح وترك الحسن، لكانت تربيته خُلقيَّاً سهلا. ولعلَّه كان نفس التفاته العقلي إلى الحسن والقبح كافياً في اعتناقه للأخلاق الفاضلة، ولكن أساس صعوبة التربية الأخلاقيّة يكمن في أنَّ الإنسان يملك ميولا وشهوات لها الحظُّ الأوفر للتحريك. فيا تُرى هل بالإمكان جعل الإنسان يقف تجاه هذه المحرِّكات والمغريات العظيمة بمجرد الإيمان العقلي بحسن الحسن وقبح القبيح ؟ ! كلاّ . وهذه المشكلة الأساسيّة بحاجة إلى حلٍّ أساس وجذري.

ومن حلول الإسلام لذلك جعل قوانين ونُظُم لو طُبّقت للبَّت تلك الميول والغرائز بقدر واسع من دون أن تقع الحاجة إلى ما هو غير نظيف خُلُقيّاً. وهذا الحلُّ يكون على وفق الفطرة التي فطر الناس عليها.

إلاّ أنَّ هذا الحلَّ ـ إضافة إلى أنَّه لو كان وحده كان ناقصاً؛ لأنَّ جموح الإنسان وطغيان شهواته قد يجعله لا يكتفي بالقدر النظيف، ويحاول أن يمدّ يده إلى غير النظيف ـ إنَّما هو حلٌّ يتحقَّق بعد تطبيق الإسلام بحذافيره على المجتمع. أمَّا المنطقة التي لم يُطبَّق فيها الإسلام ونُظُمه فيها بالتمام والكمال، فمن الواضح أنَّه لا


(1) كأنّها تشير إلى النعمة المعنويَّة، وهي: النظر إلى الربِّ بالبصيرة لا بالباصرة.

(2) السورة 75، القيامة، الآيات: 20 ـ 25.

540

يكفي مجرَّد فرض أن لو طُبِّق لوفى بتلبية الحاجات للتربية؛ فإنَّ أكثر الناس عقولهم في عيونهم، ومجرّد الإيمان النظري بأنَّ الإسلام لو طُبِّق لكان كفيلا بحلِّ المشاكل، لا ينفعهم في تكامل النفوس ما لم يتمّ التطبيق والتجربة العمليّة في المجتمع كمجتمع.

فإذن لابدَّ من محرِّك أسبق على هذا المحرِّك يستطيع أن يقاوم تلك الميول والإغراءات. وليس هو مجرَّد الإدراك العقلي لحسن الحسن وقبح القبيح، بل يجب أن يُعطى أجراً بإزاء الفعل الحسن وترك القبيح، ويجب أن يحسَّ بالتذاذ وألم يحرِّكانه نحو الكمال.

وتُذكَرُ ـ عادةً ـ عِدَّة جزاءات لموافقة الأخلاق الفاضلة ومخالفتها تُفرضُ محفِّزةً إلى سبيل الخير:

1 ـ الجزاء الخُلُقي، وهو: ارتياح الضمير عن فعل الحسن وترك القبيح، ووخزه عند فعل القبيح وترك الواجب. وهذا في الحقيقة يتمُّ وينمو بالتربية الخُلُقيَّة، وتنمية الضمير الخُلُقي في الإنسان؛ فإنَّ هذا الضمير كُلَّما نما وتكامل أكثر فأكثر ازداد هذا الجزاء، وهو ارتياح الضمير ووخزه وضوحاً وقوَّة وتأثيراً. إلاَّ أنَّ هذا ـ إضافةً إلى عدم كفايته وحده ـ يتوقَّف غالباً على محفِّز أسبق. فأكثر الناس لا ينمو في نفسه الضمير الخُلُقي النموّ المطلوب عن طريق مجرّد بيان الفضائل والرذائل له، وتنبيهه وإلفاته إلى ارتياح الضمير ووخزه لو نمَّاه في نفسه، بل يحتاج إلى جزاء آخر يشوِّقه نحو الفضائل، ويبعِّده عن الرذائل حتّى يتكامل بالتدريج من خلال العمل والتطبيق ضميرهُ الخُلُقي(1).


(1) قد يشير فيما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ ... إنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ... ﴾ السورة 8، الأنفال، الآية: 29 إلى تنامي وتكامل الضمير، واشتداد اكتشافه للحقائق الخُلُقية، واتِّساع مساحته بالتقوى. وكذلك قوله تعالى ﴿ ... وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ... ﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 282.

541

2 ـ الجزاء الطبيعي: بمعنى الآثار التكوينيّة الدنيويَّة للأعمال الفاضلة والأفعال القبيحة فإنَّ الصفات الحسنة وأعمالها كثيراً ما تنفع الإنسان، والأوصاف الرذيلة وأفعالها تضرُّه وتجلب المفسدة إليه، فمثلا الإنسان الصدوق الأمين يعيش عزيزاً محترماً بين الناس وموثوقاً لديهم، في حين أنَّ الإنسان الكذوب الخائن على العكس من ذلك تماماً. فهذا النفع وتلك الخسارة جزاء طبيعيّ للإنسان يحفِّزه نحو الخير(1).

إلاّ أنَّ هذا ـ أيضاً ـ غير كاف للتربية عادةً إذ كثيراً ما يتطلَّب الخُلُق الفاضل من الإنسان التضحية بشيء من مصالحه الشخصيَّة، وكثيراً ما تجرُّ الخيانة للإنسان مصلحةً شخصية ونفعاً دنيوياً. على أنَّ المنافع والمضارَّ المترتبة على الفضائل والرذائل، ليس ترتبها عليها ـ دائماً ـ واضحاً في ذهن الناس على مستوى العموم.

3 ـ الجزاء الاجتماعي من معاقبة المعتدي وتأديبه في المحاكم مثلا، أو مدحه أو لومه على أفعاله من قِبل عموم الناس، ومجازاتهم العملية له إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرٌّ.

وهذا ـ أيضاً ـ لا يكفي؛ لأنَّه:

أوّلا: حين يكون المجتمع فاسداً ينحرف الجزاء الاجتماعي عن الخط الصحيح في كثير من الأحيان.

وثانياً: ما أكثر الخيانات التي لا تجازى بهذا الجزاء لخفائها عن أعين الناس، أو لقوَّة في الخائن تصونه عن الجزاء، أو غير ذلك. وما أكثر التضحيات التي لا تلاقي جزاءها الاجتماعي بالنحو المناسب لها.


(1) وأمَّا ارتياح الإنسان الناشئ من تلبية ما في نفسه من شفقة ونحوها من العواطف الخيِّرة، وتأ ثّره الناشئ من عدم تلبيتها، فإن شئت فألحقهما بالجزاء الخُلُقي، وإن شئت فألحقهما بالجزاء الطبيعي.

542

وكلُّ هذه الجزاءات مجتمعة لا تصنع شيئاً مُهمّاً ما لم يُضم إليها الجزاء الرابع.

4 ـ الجزاء الأُخروي من: ﴿جَنَّة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(1)، ﴿... جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ...﴾(2)، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(3)، ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾(4)، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾(5).

وهذا الجزاء هو الذي بشَّرت به الأديان السماويّة. والدين السماوي غير المنحرف منحصر اليوم بالإسلام. فالإسلام وحده هو الكفيل بحلِّ مشكلة الأخلاق. ولولا ما في الإسلام من الجزاء الأُخروي لم تكن باقي الجزاءات بما فيها الجزاء الخُلُقي كافياً للوصول إلى الكمال. نعم، يستعين الإسلام بسائر الجزاءات وبأساليب التربية، لكن الأَساس هو موضوع الجزاء الأُخروي.

وبعد البناء على هذا الأساس، واتِّباع أساليب التربية قد يصل الإنسان المربّى إلى مستوىً تكفي في تحرّكه الضرورة الخُلُقية وأن الله ـ تعالى ـ أهل للعبادة.

ولا أقصد أنَّ الجزاء الأُخروي علَّة تامَّة للتربية، فما أكثر المؤمنين بجزاء الآخرة الذين لا يردعهم هذا الإيمان من الفسق والفجور، والأعمال القبيحة، أو ترك الواجبات والخصال الشريفة، وإنَّما المقصود: أنَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد وحده هو الذي يمكِّن الإنسان من تربية ذاته لو شاء.

وبكلمة أُخرى: إنَّ أساس المشكل هو الشهوات والإغراءات، ولو لم تقابَلْ


(1) السورة 3، آل عمران، الآية: 133.

(2) السورة 9، التوبة، الآية: 72.

(3) السورة 83، المطفِّفين، الآية: 26.

(4) السورة 37، الصافّات، الآية: 61.

(5) السورة 75، القيامة، الآيات: 22 ـ 25.

543

بالوعد بلذَّة لا تدانيها لذَّة، والوعيدِ بالعذاب الذي لا تقوم له السماوات والأرض، لكانت المشكلة غير قابلة للحلِّ، ولكن بعد أن عُولجت استحالة الحلِّ بوضع الجزاء الأُخروي، لابدَّ من الكلام في سائر المشاكل التي توجد أمام تربية الإنسان وحلولها، بعد فرض أصل وجود الشهوات والميولات حقيقة واقعيَّة.

فما هي الأُمور التي تمنع عن علاج مشكلة الشهوات بالجزاءات التي أهمَّها في المرحلة البدائيّة هو الجزاء الأُخروي من الثواب والعقاب، وأهمَّها في المرحلة النهائيَّة هو الجزاء الخُلُقي ورضوان الله تعالى، بل وإدراك العقل نفس الحسن والقبح؟ وما هو علاج تلك الموانع؟

ومن يريد تربية نفسه يلاقي في المرحلة الأُولى من الصعوبة ما لا يوصف. ويقول بلسان حاله أو مقاله: مالي كُلَّما كبر سنِّي كثرت خطاياي. أما آنَ لي أن أستحي من ربّي(1)؟!! ويقول: مالي كلَّما قلت: قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوّابين مجلسي، عرضت لي بليَّة أزالت قدمي(2)؟!!

والشهوات والميول والعواطف على رغم أنَّها هي أساس المشكل، هي ـ أيضاً ـ أساس التكامل لو هُذِّبت ورُبِّيت؛ فإنَّه (أوَّلا) إنَّ كثيراً منها حينما تُهذَّب تحرِّك الإنسان نحو الخير (وثانياً) لو أنَّها لم تكن موجودة في الإنسان، وكان الإنسان من قبيل المَلَك لا يملك إلاّ العقل، لم تكن توجد قيمة مُهمَّة لالتزامه بالخير والصلاح، ولم يكن للتضحية مفهوم.


(1) و (2) دعاء أبي حمزة الثمالي لسحر شهر رمضان.

545

 

 

 

 

المثبّطات

 

ويقع كلامنا الآن في بيان بعض المشاكل التي تعترض الطريق، وتحول دون تهذيب الإنسان شهواته ورغباته، وتعديل ما في نفسه من ميول وإغراءات بالجزاءات الثابتة للأخلاق الحسنة والأخلاق الذميمة. ومن تلك المشاكل والمثبّطات ما يلي:

 

1 ـ انحسار الإسلام بمعناه الواقعي عن وجه الأرض وتقوُّض الكيان الإسلامي:

وهذا ما عمَّ في زماننا شتّى أرجاء العالَم الإسلامي، ما عدا ما استُثني من ذلك في الآونة الأخيرة من إِيران الإسلام الذي رجع فيه كيان الإسلام نابضاً بالحياة والحمد لله، وهذا من فضل ربِّنا، ولكن سائر البلاد الإسلاميّة لا زالت تحت وطأة الاستكبار الكافر. وهذا من أهمِّ الموانع والمثبِّطات عن هداية الفرد والمجتمع، ووصولهما مرتبة الكمال؛ وذلك لعِدَّة أُمور:

أوّلا: قد مضى أنَّ الذي جعل تربية النفس أمراً ممكناً هو الإيمان بالمبدأ والمعاد. والجوُّ الفاسد المحكوم بنُظُم الكفر يؤثِّر أَثراً معاكساً في هذا الإيمان في النفوس، إمَّا بتضعيفه والتشكيك فيه، أو بجعله غير نابض بالحياة، وغير نازل إلى مستوى القلب والوجدان والعواطف؛ لفقدان المنبِّه الذي ينبِّه الإنسان ـ دائماً ـ على الإيمان، وهو: تجسُّد الإسلام في الحياة الاجتماعيَّة أمام الأعين، ولفقدان الدليل الحسِّي على كون الإسلام ديناً واقعيّاً يساير الحياة سيراً ناجحاً.

546

وثانياً: قد مضى أنَّ الإسلام يعالج مشكلة الشهوات في جملة من أساليبه العلاجيَّة بتلبية تلك الشهوات بالوسائل المباحة، في حين أنَّ انحسار الإسلام عن وجه الأرض يُفني هذا العلاج، فيتفاقم المشكل. ومن الواضح أنَّ ميول الإنسان ورغباته النفسيَّة وعواطفه الطبيعيّة، لا يمكن تحدّيها والتغاضي عنها في أيِّ نظام يفترض نظاماً تكاملياً للإنسان. وكلُّ حلٍّ يقوم على أساس تجاوزها أو قتلها ليس ـ بشكل عامٍّ ـ عدا حلّ خيالي وطوبائي ووهمي، بل لا بدَّ من إشباع تلك الرغبات بالقدر المعقول عن طريق مشروع، وهذا ما يقوم به الإسلام، ومع تقوُّض الكيان الإسلامي يصبح هذا عسيراً أو غير ممكن.

وثالثاً: إنَّ فساد المجتمع يُكثِر المغريات، ويزيد إيحاءات الفساد والشرِّ، ممّا يؤثّر تأثيراً معاكساً في تربية النفوس، فينتقل الشخص من جوِّ البيت الفاسد إلى جوِّ المدرسة الفاسدة، وإلى جوِّ الأسواق والشوارع المغرية، أو الملاهي والمقاهي الملهية، وما إلى ذلك، فحتّى لو فُرضَ أنَّه يُوفَّق أحياناً للاستفادة من الوسائل المربية كقراءة القرآن، أو دعاء الليل، أو سماع وعظ واعظ، أو ما إلى ذلك، يكون ذاك الجوّ الفاسد العامّ هو الغالب عليه والمؤثِّر فيه.

ورابعاً: إنَّ هذه المشكلة وهي: فساد المجتمع وتقوُّض الكيان الإسلامي، تؤثّر في تكوين أو تشديد المشاكل الأُخرى الآتية.

 

2 ـ الجهل بحقيقة الإسلام:

وهذا في الغالب ينشأ من المشكلة الأُولى، وهو: انحسار الإسلام عن ساحة الحياة، وتقوُّض الكيان الإسلامي. وقد ينشأ من عدم وجود التبليغ الإسلامي بقدر الكفاية. فالإسلام نظام كامل شامل للحياة، وفيه حلول جميع المشاكل الحياتيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيَّة وما إلى ذلك، ومن يجهل بذلك يضطرُّ أن يأخذ في كثير من تصرّفاته ومرافق حياته بنُظُم غير إسلاميَّة، وعلى هذا الأَساس

547

يبتلي بحالة ازدواج الشخصيَّة، ولا تكون شخصيّته إسلاميَّة محضاً ومن ثَمَّ لا يستطيع أن يوفِّق حياته كاملة مع الإسلام، ويستقي من معين الإسلام، كي تكتمل روحه ومعنويّاته، ويحلِّق في سماء الأخلاق والتربية الروحيَّة والكمال.

وبكلمة أُخرى: إنَّ مرافق الحياة مترابط بعضها ببعض، والإسلام إنَّما يظهر أثره في تنمية النفس وتزكيتها لو أُعطي كوصفة واحدة من قبل طبيب الروح، أمَّا لو تمزَّقت هذه الوصفة وتجزّأ العلاج سواءٌ كان على أساس المشكلة الاُولى وهو: انحسار الإسلام عن مسرح الحياة، أو على أساس المشكلة الثانية وهو: جهل الشخص بحقيقة الإسلام، فالنتيجة الطبيعيَّة لذلك عدم اكتمال الروح، وعدم بلوغها ذروة فعليَّة الاستعدادات التي أودعها الله فيها.

 

3 ـ ضيق أُفق النفس:

إنَّ النفس البشريَّة في الغالب متَّصفة قبل العلاج بضيق الأُفق، وهذا الضيق يتجلّى في النفس بالصور التالية:

أوّلا: أنّها تُقدِّم المصالح المادّيّة والمصالح العاجلة على المصالح الروحيّة والمعنويّة، وعلى المصالح الآجلة، وتضيق عن استيعاب أهمّيّة المصالح المعنويّة، وكذلك الآجلة الأُخرويّة.

وثانياً: أنّها تقصر النظر على المصالح الشخصيّة والفرديّة في مقابل مصالح المجتمع، وتضيق عن رؤية المصالح الاجتماعيّة أو الاهتمام بها.

وثالثا: أنّها تضيق عن الجمع بين بعض الفضائل وبعض، فكأنّما يوجد نوع تضادّ بين قسمين من الفضائل، في حين أنّه بالتدقيق ينكشف أنّه لا تضادّ بينهما، وإنّما العيب كان في ضيق اُفق النفس التي لم تستوعبهما.

ونذكر لهذا التضادّ الوهميّ عدّة أمثلة:

الأوّل: ما يتراءى في النفوس الضيّقة من التضادّ أو التنافي بين حالة الزهد

548

وعدم المبالاة بالدنيا من ناحية، والعمل بمفهوم خلافة الله في أرضه الذي يتطلّب عمرانها واستخراج خيراتها وبركاتها من ناحية أُخرى، في حين أنّ كلتا الحالتين قد أُمرنا بهما في الشريعة، ولكنّك ترى عملا أن كثيراً ممّن يقبل على الزهد وترك الدنيا ينصرف عن العمل الجادّ في الدنيا، والاستفادة من نعم الله في سبيل ترفيه العائلة، أو مساعدة الجيران، أو طلب الخير للمسلمين، وما إلى ذلك، ويتقوقعُ على نفسه، ويترك الأعمال الاجتماعيّة. وترى كثيراً ممن لديه أعمال خيرية أو اجتماعيّة لمصلحة العباد ينسى الزهد في هذه الدنيا، وينكبُّ عليها حلالا أو حراماً، ويقتنع بما يرى من نفسه من بعض الخيرات والمبرات أو الأعمال الاجتماعيّة، وينسى قوله تعالى: ﴿... إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

والخلاصة: أنّه يصعب على أُفق النفس الضيقة الجمع بين خصلة ورد فيها عن الصادق(عليه السلام) قوله: « جعل الخير كلّه في بيت، وجعل مفتاحهُ الزهد في الدنيا. قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدنيا. ثُمّ قال أبو عبدالله(عليه السلام): حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا»(2) وخصلة الاهتمام بالحصول على خزائن الأرض لصالح تحكيم المبدأ والعقيدة بين الناس، كما حكى الله تعالى عن يوسف(عليه السلام)قوله: ﴿ ... اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(3) ولكن النفوس الكاملة لا ترى أيّ صعوبة في الجمع بين الخصلتين.

وها هو إمامنا أمير المؤمنين سلام الله عليه لا يرى تهافتاً بين الصفتين، فمن


(1) السورة 5، المائدة، الآية: 27.

(2) الوسائل 16/12، الباب 62 من جهاد النفس، الحديث 5.

(3) السورة 12، يوسف، الآية 55، وما تليها من آية قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنـَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاََجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾.

549

ناحية تراه يهتمّ باستحصال فدك، وبالاحتجاج على الغاصبين له حتّى عن طريق إرسال زوجته الطاهرة لإلقاء ذاك الخطاب الرنّان على الرجال، ويهتمّ بإمرته على المسلمين، ويقاتل عليها، ويقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ناحية أُخرى يقول: «... ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بِطِمريهِ، ومن طُعْمه بقُرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد فو الله ما كنزت من دنياكم تِبراً ولا ادّخرت من غنائمها وَفراً ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتانِ دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من حفصة مقرة بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانّها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدَّ فرجها التراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المنزلق...»(1).

ويقول على ما في النهج: «... والله لهي (النعل الذي كان يخصفه) أحبُ اليّ من إمرتكم إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلا...»(2).

وفي الواقع: لا تنافي ـ أبداً ـ بين الزهد بمعنى ترك الحرام والشبهات، وأن لا يملكك من الدنيا مُباحها فضلا عن حرامها ومكروهها من ناحية، وبين العمل بخلافة الله في أرضه في سبيل تعمير البلاد، لأجل العباد، وخدمة المجتمع، ونشر


(1) نهج البلاغة: 573 ـ 574، رقم الكتاب: 45.

(2) نهج البلاغة: 70 الخطبة:33 قال الشريف الرضي(رحمه الله): ومن خطبة له(عليه السلام) عند خروجه لقتال أهل البصرة قال عبدالله بن عباس:« دخلت على أمير المؤمنين(عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لاقيمة لها. فقال(عليه السلام): والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلا...».

550

الهدى، وترفيه المؤمنين من ناحية أُخرى. ولا تضارُبَ ـ أبداً ـ بين الزهد بمعنى أن لا يأسو الإنسان على ما فاته باعتبار مصلحته الشخصيّة، ولا يفرح بما أُوتي من زاوية تلك المصلحة من ناحية، وبين الإقبال على نعم الدنيا والسعي في تنميتها بالطرق المحلّلة لمصلحة المجتمع الإسلامي، لا لنفسه من ناحية أُخرى، بل وإقبال المال الحلال على الإنسان مع افتراض أن يكون الإنسان هو المالك له لا أن يكون المال مالكاً لقلبه لا ينافي الزهد أيضاً.

الثاني: ما يحسّ به ـ أيضاً ـ من التنافي الوهمي بين حالة العبادة الفرديّة، والإقبال على الله تعالى في المناسك التي يُختلى فيها مع الله تعالى من ناحية، والإقبال على الأعمال الاجتماعيّة المطلوبة، والتعايش مع الناس وفي الناس لأجل الله من ناحية أُخرى. فترى كثيراً من المتعبّدين يجنحون إلى مستوىً من الترهبن والابتعاد عن الخَلْق، وترى كثيراً ممّن يقدّمون خدمات اجتماعيّة مشكورة مقصّرين في مستوى الخلوة مع الله والانقطاع العبادي إلى الله تعالى، في حين أنّه لا يوجد أيّ تناف بين الأمرين عدا ما يخلقه الوهم في النفوس نتيجة ضيق أُفق النفس.

الثالث: الشجاعة والجرأة والإقدام على المخاطر في حدودها الشرعيّة من ناحية، وحالة الخوف والتذلّل أمام الله والخضوع والخشوع له من ناحية أُخرى، وها هو مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) قد ضرب المثل الأعلى في ذلك، فقد رُوي أنّه(عليه السلام)« كان إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن، فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها»(1)، ومن ناحية أُخرى شجاعته وإقدامه مشهوران معروفان إلى جنب ذاك الخوف والذلّ والخشوع أمام الله تعالى.

وعن الشيخ المفيد(رحمه الله) أنّه قال: « ومن آيات الله الخارقة للعادة في أمير


(1) المحجة البيضاء 1/351.

551

المؤمنين(عليه السلام)، أنّه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال ما عُرفَ لأمير المؤمنين(عليه السلام) من كثرة ذلك على مرّ الزمان، ثُم لم يوجد في ممارسي الحروب إلاّ من عرته بشرّ ونيل منه بجراح أو شين، إلاّ أمير المؤمنين(عليه السلام) فإنّه لم ينله مع طول مدة زمان حربه جراح من عدوه، ولا وصل إليه أحد منهم بسوء حتّى كان من أمره مع ابن ملجم لعنه الله على اغتياله إيّاه ما كان ...»(1).

نعم، وإن شئت نقطة من بحر تذلّله لله تعالى وخوفه وخشوعه بالليل، فاستمع إلى ما وصفه ضرار أمام معاوية قال: «فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأ نّي الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا دنيّة أبي تعرضت؟! أم إليّ تشوّقت؟! هيهات هيهات غُرّي غيري لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير. آه آه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد. فسالت دموع معاوية على لحيته فنشفها بكمّه، واختنق القوم بالبكاء...»(2) وفي نفس الوقت تراه بالنهار يقاتل الأبطال ويضرب الشجعان:

هو البكّاء في المحراب ليلا
هو الضحّاك إن طال الحرابُ

وهذا البيت الذي استشهدنا به منقول عن عمرو بن العاص. والقصّة مايلي: روى المرحوم الشيخ علي أكبر النهاوندي(رحمه الله) عن الجزء الثاني من زهر الربيع (ولا أظنّه مطبوعاً): أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) كتب إلى معاوية: « غرّك عزّك، فصار قصار ذلك ذلّك. فاخش فاحش فعلك؛ لعلّك تُهدى بهدى. والسلام على من اتبع الهدى». فلمّا وصل المكتوب إلى معاوية، أمر عمرو بن العاص أن يصعد المنبر،


(1) المحجة البيضاء 4/194.

(2) بحار الأنوار 41/121.

552

ويسبّ عليّاً(عليه السلام) ويذمّه، ووعده أن يعطيه جائزة عظيمة على ذلك. فلبّاه عمرو بن العاص، وصعد المنبر، فلمّا همّ بالأمر جُسّد أمامه حيوانٌ كجثّة بعير، وبارتفاع المنبر فاتحاً فمه مهدّداً له ببلعه مع المنبر لو أساء إلى عليّ(عليه السلام)، فاضطرب عمرو بن العاص وأنشأ يقول:

بآل محمّد عُرف الصوابُ
وفي أبياتِهم نزل الكتابُ
وهم حجج الإله على البرايا
بهم وبجدّهم لا يسترابُ
وهم كلماتُ آدم إذ تلاها
فتاب بها عليه واستجابُ
ولا سيّما أبا حسن عليّاً
له في الحرب مرتبةٌ تهابُ
طعام سيوفه مهجُ الأعادي
وفيض دما الرقاب لها شرابُ
فضربته كبيعته بخمّ
معاقدها من القوم الرقابُ
وبين سنانه والدرع صلحٌ
وبين البيض والبيض اصطحابُ
عليٌّ هازم الأحزاب جمعاً
هو الساقي على الحوض الشرابُ
عليُّ التبر والذهب المصفّى
وباقي الناس كلّهم ترابُ
إذا لم تَبْرَ من أعدا عليّ
فمالك في محبّته ثوابُ
هو البكّاء في المحراب ليلا
هو الضحّاك إن طال الحرابُ
هو النبأ العظيم وفلك نوح
وباب الله وانقطع الخطابُ

فأمره معاوية بالنزول عن المنبر، وعاتبه على ما فعل، فقصّ له عمرو بن العاص قصّة ما رآه من الحيوان وقال: إنّ هذا أورث خوفاً عظيماً عندي، وأنشأت هذه الأبيات من غير قصد، وأنت تعلم العداوة والبغضاء الموجودتين بيني وبين عليّ بن أبي طالب. فإن شئت أعطيتني الجائزة التي وعدتني بها، وإن شئت منعتها عنّي، فقال معاوية: اُعطيك نصف تلك الجائزة(1).


(1) أنوار المواهب: 338 ـ 339.

553

عود على ما كنّا فيه:

والخلاصة: أنّ الإنسان الاعتيادي الضيّق الاُفق لا يستطيع أن يكون راهباً بالليل، وفي نفس الوقت أسداً بالنهار، وكأنّه يراهما حالتين متضاربتين، في حين أنّ الروايات الواردة عن أهل البيت وصفت أصحاب الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ تارةً والمؤمنين أُخرى والشيعة ثالثة: بأنّهم رهبانٌ بالليل، وأُسد بالنهار.

فمن الأوّل أي: الذي وصف أصحاب الحجّة بهذا الوصف ما ورد عن الصادق(عليه السلام) في صفتهم: «... رجال لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم(1)، رهبان بالليل، ليوث بالنهار هم أطوع له من الأمة لسيّدها. كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل. وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين. إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى ارسالا، بهم ينصر الله إمام الحقّ»(2).

ومن الثاني أي: الذي وصف المؤمنين بهذا الوصف ما عن أحدهما(عليهما السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في صفة المؤمنين: «... عشرون خصلة في المؤمن؛ فإن لم تكن فيه لم يكمل إيمانه ... إلى أن يقول: رهبان بالليل، أُسد بالنهار...»(3).

ومن الثالث أي: الذي وصف الشيعة بذلك ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)مخاطباً لنوف: «... هل تدري من شيعتي؟ قال: لا والله، قال: شيعتي الذبل الشفاه، الخمص البطون، الذين تعرف الرهبانيّة والربانيّة في وجوههم، رهبان بالليل، أُسد بالنهار، الذين إذا جنّهم الليل اتّزروا على أوساطهم وارتدوا على أطرافهم، وصفّوا


(1) لعلّ الخيول كناية عن مركوباتهم المتطوّرة وقتئذ، ولعلّ المصلحة الإلهيّة تقتضي رجوع وضع الحرب ـ وقتئذ ـ إلى وضع أيّام ركوب الخيول والقتال بالوسائل البسيطة المعروفة قديماً.

(2) بحار الأنوار 52/308.

(3) أُصول الكافي 2/232.

554

أقدامهم، وافترشوا جباههم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله فيفكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء، كرام نجباء، أبرار أتقياء ...»(1).

الرابع: الخوف من ناحية، والرجاء من ناحية أُخرى. فترى بعض الناس إن اتّجه نحو الخوف قلّ رجاؤه، وقد ينقلب خوفه بالتدريج ـ على أثر عدم اقترانه بالرجاء المتعادل معه ـ إلى اليأس، ويجرُّه ذلك إلى ارتكاب المعاصي والقبائح. وإن اتّجه نحو الرجاء قلّ خوفه، وقد ينقلب رجاؤه بالتدريج ـ على أثر عدم اقترانه بالخوف المتعادل معه ـ إلى الجرأة والأماني، فينهمك في المعاصي والآثام.

في حين أنّه لا منافاة عقلا بين الخوف والرجاء، بل بينهما كمال الملاءمة. ويؤكّد التلاؤم بينهما أنّهما لو روعيا بشكل صحيح أنتجا نتيحة واحدة: فمن خاف النار هرب منها، ولجأ إلى الجنّة ومن رجا الجنّة طلبها واهتم بها. ومن خاف غضب الرحمن لجأ منه إلى رضوانه. ومن رجا رضوان الله طلبه وفتّش عنه. وإنّما التضادُّ ينشأ من الضيق في النفوس، وعدم التحليق في الآفاق الرحبة الواسعة، والقيم الروحيّة العليا.

الخامس: الحفاظ على حالة القيادة والاستقلال في الشخصية والفكر من ناحية، وعلى الخضوع للحقّ والرأي الصحيح أينما وجد ولو عند من هو دونه من ناحية أُخرى؛ ذلك أنّ الإنسان القادر على الاستقلال في التفكير ينبغي له إخراج ما بالقوّة فيه إلى الفعل، وتنمية تفكيره المستقل، وتفجير ذكائه وبراعته، ولا ينبغي له التقليد الأعمى عن الآخرين والذوبان فيهم. والشخص الذي قد توصّل إلى الحقّ وإلى سبيل الرشاد، ينبغي له أن يهدي الناس، ويتصف بصفة القيادة، إلاّ أنّه في نفس الوقت الذي يحفظ شخصيته واستقلاله في التفكير، ويقود الآخرين، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، لابدَّ له ـ أيضاً ـ أن لا تتحوّل هذه الحالة إلى العُجب والغرور، وعدم الخضوع للحقّ، ويجب أن تكون الحكمة ضالّة له أينما


(1) بحار الأنوار 68/191.

555

وجدها، ويجب أن يتقبّل الحقّ ولو كان عند من هو أدون منه بمراتب. والجمع بينهاتين الصفتين صعب على الإنسان الاعتيادي.

السادس: التـواضع أو الحلم من ناحية، وعدم الخنوع للظلم والهوان من قبل أعداء الله من ناحية أُخرى؛ فقد يصعب على النفس الجمع بين الأمرين؛ فالتواضع أو الحلم إن انحرف عن مسيره الصحيح، تحوّل إلى الخنوع لظلم الظالمين وجور الجائرين، كما أنّ عدم الخنوع للظلم والجور إن انحرف عن مسيره الصحيح، تحوّل إلى التبختر والعجب. في حين أنّه لا توجد أيُّ منافاة واقعية بين تلكما الفضيلتين.

وبإمكانك أن تمثّل بكلّ صفتين متضادتين كان التوفيق بينهما باختلاف الموارد، كالشجاعة والإقدام في موردها، والتقيّة والاحتياط في مورد آخر. وأن تمثّل بالتجنب عن الإفراط مع التجنب عن التفريط في كلّ ما يحسن فيه التجنبُ عنهما، كترك البخل وترك الإسراف ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(1).

ولتجمّع كلّ الصفات الفاضلة ـ التي قد يرى الوهم تضادّاً بينها ـ في إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)، وصفه الشاعر باجتماع الأضداد في صفاته حينما قال:

جمعت في صفاتك الأضداد
فلهذا عزت لك الأندادُ
زاهدٌ حاكم حليم شجاع
فاتك ناسك فقير جوادُ
أنت سرّ النبيّ والصنو وابن
العم والصهر والأخ السجّادُ
لو رأى مثلك النبيّ لآخاه
وإلاّ فأخطأ(2) الانتقادُ(3)
 


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 29.

(2) الأولى أن يقال: (لم ينصف الانتقاد)، كي لا نتورّط في إدخال الفاء على الجزاء القابل للشرطية نتيجة ضرورة الشعر.

(3) أنوار المواهب: 358.

556

 

4 ـ العادة:

والواقع: أنّ العادة ليست من أسباب المنع عن التربية الأخلاقيّة والوقوع في الأخلاق السيّئة فحسب، بل هي بذاتها أداة فارغة يمكن ملؤها بما يضرّ؛ كما يمكن ملؤها بما ينفع، فإذا ملئت بما يضرّ أصبحت من المشاكل الواقعة في طريق التربية. وإذا ملئت بما يورث الملكات الفاضلة أصبحت من المحفّزات نحو الخير والصلاح. وعليه فيمكن البحث عنها هنا، كما يمكن البحث عنها في المبحث الآتي، وهو: (بحث المحفّزات نحو الصلاح). ونحن اخترنا البحث عنها هنا (أعني: بحث المثبّطات) ولا نحتاج في البحث الآتي إلى تكرار البحث عنها.

والعادة هي من أشدّ العوامل المؤثّرة في سلوك الإنسان، قال أحمد أمين في كتاب الأخلاق: كثيراً ما يعبّرون عن قوّة العادة بقولهم: (العادة طبيعة ثانية) يعنون بذلك: أنّ لها من القوّة ما يقرب من (الطبيعة الاُولى). والطبيعة الاُولى هي: ما ولد عليه الإنسان وفطر عليه. فكلُّ إنسان خرج في هذا العالم كآلة مجهزة بكثير من العُدد: عين تبصر، وأُذن تسمع، ومعدة تهضم، وغرائز فطريّة وهكذا، فهذا الذي ولدنا عليه وورثناه من آبائنا وأجدادنا، هو طبيعتنا الاُولى. ولها سلطان كبير على الإنسان، فلو حاول أن يبصر بأُذنه ويسمع بعينه ما استطاع، فهو لابدّ أن يكون خاضعاً لسلطانها. وما يُدخله الإنسان على الطبيعة الاُولى من التحسين والتقبيح هو ما يسمّى (الطبيعة الثانية) أو العادة. ولها كذلك سلطان كبير، فالطريق الذي نختطّه لأنفسنا في الحياة ونعتاد السير فيه، له من السلطان علينا ما يقرب من سلطان الطبيعة، فنحن أحرار في السنين الاُولى من حياتنا، لا سلطان للعادة علينا حتّى إذا نمونا كان نحو التسعين في المئة من أعمالنا ـ من لبس وخلع وطريقة وأكل وشرب ونمط في الكلام والسلام والمشي والمعاملة ـ معتاداً نعمله بقليل من الفكر والانتباه، ويصعب علينا العدول عنه، وتصبح حياتنا مجرّد تكرير لأفكار