384

 

تعقّب العامّ بضمير في جملة ثانية يرجع إلى بعض أفراده

الجهة السادسة: في أنّه إذا تعقّب العامّ بضمير اُريد به الخصوص كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾، للعلم باختصاص الحكم الثاني بالرجعيّات، فهل يؤخذ مع ذلك بعموم العامّ في الحكم الأوّل أو يوجب ذاك الضمير تخصيصه؟

هذا الأمر له فرضان:

أحدهما: أن يفرض حصول العلم بكون المراد الاستعماليّ من الضمير هو الخصوص.

وثانيهما: أن يفرض أنّه لم يحصل العلم بكون المراد الاستعماليّ منه الخصوص، وإنّما حصل العلم بكون المراد الجدّيّ منه الخصوص. والآية الشريفة من هذا القبيل، بل كلّما كان في شريعتنا من قبيل ما نحن فيه فهو داخل في الفرض الثاني ولا يوجد فيها مورد نعلم بكون المراد الاستعماليّ للضمير الراجع إلى العامّ هو الخصوص. وعلى أيّة حال يقع الكلام في مقامين:

 

الكلام فيما لو علم أنّ المراد الاستعماليّ من الضمير هو الخصوص:

المقام الأوّل: فيما لو علم بكون المراد الاستعماليّ من الضمير الراجع إلى العامّ هو الخصوص.

قد ذهب المحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ والمحقّق العراقيّ(قدس سرهم) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إلى أنّ أصالة عدم الاستخدام في ذلك غير صالحة للمعارضة مع أصالة العموم، فهم بين قائل بعدم ابتلاء أصالة العموم بمعارض أصلاً، وقائل بابتلائها بمعارض آخر غير أصالة عدم الاستخدام.

385

والوجه في عدم صلاحيّتها للمعارضة ـ على ما ذكروه ـ هو: أنّ أصالة عدمالاستخدام إنّما تجري في فرض عدم العلم بالمراد ليتعيّن بها المراد، لا في فرض العلم بالمراد والشكّ في كونه مبنيّاً على وجه الاستخدام أو لا، فإنّ أصالة الحقيقة وجميع فروع أصالة الظهور إنّما تجري في الشكّ في المراد دون الشكّ في الاستناد.

والسرّ في ذلك على ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو العمل بها عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد(1).

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ ظاهره تسليم ظهور كاشف للاستناد ككشف سائر الظهورات الكلاميّة عن مداليلها، ودعوى أنّ هذا الظهور ليس حجّة، وإلّا كان المناسب هو التعليل بعدم الظهور لا بعدم ثبوت البناء على العمل من قِبل العقلاء.

والمحقّق النائينيّ(قدس سره) أيضاً علّل المطلب بما يكون ظاهراً في ذلك، أعني: تسليم الظهور وإنكار حجّيّته(2).



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 362 ـ 363 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 493 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 553 ـ 554 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وحاصل ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في المتن: من أنّ أصالة عدم الاستخدام لا ثمرة عمليّة لها في مدلول الكلام المطابقيّ حتّى تصبح حجّة حتّى نتعدّى بعد ذلك إلى تخصيص العموم من باب حجّيّة لوازم الاُصول اللفظيّة، فإنّ معنى حجّيّة لوازم الاُصول اللفظيّة هو أنّه بعد أن أصبح الأصل اللفظيّ حجّة في مدلول الكلام المطابقيّ تثبت أيضاً لوازمه، وهنا لا حجّيّة للمدلول المطابقيّ؛ لعدم ترتّب أثر عمليّ في مورده فلا يثبت لازمه أيضاً. وهذا ـ كما ترى ـ واضح في التفصيل في حجّيّة الظهور مع تسليم أصل الظهور.

386

وقد تكرّر في كلمات السيّد المرتضى(قدس سره) الاستدلال بأصالة الحقيقة عند معلوميّة المراد على كونه معنى حقيقيّاً للّفظ، وأوردوا عليه بأنّ أصالة الحقيقة إنّما تجري عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّه تارة: نفترض أنّ لفظ (أسد) مثلاً نعلم بكونه موضوعاً للحيوان المفترس، ونشكّ في أنّه هل هو موضوع أيضاً لما استعمله فيه المتكلّم من الرجل الشجاع أو لا، وفي هذا الفرض لا معنى للتمسّك بأصالة الحقيقة، فإنّ أصالة الحقيقة في نفسها ليست أصلاً برأسه عند العقلاء في قبال الظهور وإنّما مرجعها إلى حجّيّة الظهور. ولفظ (أسد) الصادر من المتكلّم لم يثبت له أصلاً ظهور يكون حجّة، فإنّ ظهوره في الحيوان المفترس المعلوم عندنا مقطوع الكذب على الفرض، وظهوره في الرجل الشجاع مشكوك رأساً؛ لفرض عدم العلم بوضعه له.

واُخرى: يفترض أ نّا نعلم إجمالاً بوضع لفظ (أسد) لمعنى، ونحتمل كونه نفس ما استعمله المتكلّم فيه وهو الرجل الشجاع، ففي هذا الفرض يمكن إثبات ما ذهب إليه السيّد المرتضى(رحمه الله) من دعوى كون هذا الاستعمال دليلاً على الحقيقة؛ وذلك لأ نّا نعلم إجمالاً بظهور هذا اللفظ في شيء وهذا الظهور لم يثبت لنا كذبه، فهو غير ساقط عن الحجّيّة كما كان ساقطاً عنها في الفرض الأوّل، فنضمّ هذا الظهور إلى علمنا الخارجيّ بكون ما استعمله المتكلّم فيه هو الرجل الشجاع، فيثبت بالملازمة كون هذا اللفظ حقيقة في الرجل الشجاع؛ لأنّه لا يعقل الجمع بين عدم كذب الظهور الثابت ببناء العقلاء وعدم مخالفة هذا القطع الخارجيّ للواقع الثابت للشخص القاطع (إذ لا يحتمل القاطع خطأه في القطع) إلّا بفرض كون اللفظ حقيقة في الرجل الشجاع.

387

ولا يرد على ذلك ما مرّ عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره): من أنّ القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو العمل بأصالة الحقيقة عند الشكّ في المراد لا الاستناد؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء ليس جزافيّاً، فإذا فرض اختصاص بنائهم في حجّيّة الظهور بغير ما نحن فيه وعدم حكمه بحجّيّته فيما نحن فيه فلابدّ لذلك من نكتة ثابتة في أذهانهم ولو إجمالاً، فلا يتمّ لنا صِرف دعوى أنّ العقلاء يحكمون باختصاص حجّيّة الظهور بغير ما نحن فيه بدون ذكر نكتة لذلك، ولو كانت هناك نكتة فلابدّ من أن نظفر بها لفرض ثبوتها ولو إجمالاً في ذهننا.

والخلاصة: أنّ حجّيّة الظهور ليست ثابتة بتعبّد صِرف من الشارع حتّى لا ندرك ملاكها ونحتمل اختصاصها تعبّداً ببعض الموارد دون بعض، بل هي ثابتة بنظر العقلاء ويسوغ لنا دعوى درك عدم اختصاص ملاكها بغير ما نحن فيه، ونحن ندّعي ذلك، فظهر: أنّ الإيراد على هذا التقريب ـ بأنّ بناء العقلاء إنّما ثبت عند الشكّ في المراد لا الشكّ في الاستناد ـ غير صحيح.

كما أنّ الإيراد عليه بما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره) في هذا المبحث ـ أعني: مبحث تعقّب العامّ بضمير اُريد به الخاصّ ـ: من أنّ ظهور الضمير في عدم كونه على وجه الاستخدام بعد أن لم يكن حجّة بمدلوله المطابقيّ ـ لعدم ثبوت ثمرة فيه ـ لا يكون حجّة في إثبات لازمه وهو كون المراد من العامّ أيضاً الخصوص، فإنّ إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم، غير صحيح أيضاً؛ إذ لا يشترط في حجّيّة الأمارة ثبوت الثمرة لها بلحاظ المدلول المطابقيّ بل يكفي ثبوتها لها بلحاظ ما يلزم مدلولها، مثلاً: لو شهدت البيّنة بموت الحيوان الكذائيّ وعلمنا من الخارج بأنّه لو كان هذا الحيوان قد مات فقد مات في الظرف الفلانيّ وتنجّس ماؤه، لا إشكال في حجّيّة هذه البيّنة وثبوت نجاسة ذلك الماء، مع أنّه لا تترتّب ثمرة بلحاظ

388

المدلول المطابقيّ للبيّنة، فهذا الإشكال أيضاً غير وارد على ما مضى من التقريب.

والتحقيق في ردّ ذلك التقريب: أن يقال: إنّ الكلام إنّما يكون حجّة فيما يكون مدلولاً له بمقتضى ظهوره ولو بالملازمة، أي: أنّ الظهور حجّة في إثبات مدلوله وجميع ملازمات مدلوله، وأمّا ما يلازم عنوان كون الظهور مراداً من دون أن يدخل في ملازمات مدلول الظهور فلا يثبت.

وبكلمة اُخرى: إنّ كون لفظ (أسد) حقيقة في الرجل الشجاع وإن كان من لوازم عدم كذب ظهور اللفظ بعد العلم بأنّ المتكلّم استعمله في الرجل الشجاع، لكن الظهور المردّد بين ذاك الظهور الذي نعلم يقيناً بكذبه والظهور الآخر لا يقول لنا: أنا ذاك الظهور الآخر الذي ليس كاذباً.

وبغضّ النظر عن هذا نقول: إنّ لنا بياناً آخر لنفي دلالة الاستعمال على الحقيقة، وهو: أنّ كلّ دليل دلّ على أحد الشيئين وعلمنا من الخارج انتفاء أحدهما بالخصوص، فإن كان ذلك الدليل دالّاً على نفس الجامع بين الأمرين ثبت ذلك الشيء الآخر، وإن كان دالّاً على أحدهما بالخصوص لكنّا لم نعلمه بعينه لم يثبت ذلك الشيء الآخر. فمثلاً لو لم يكن لدينا علم بوجوب صلاة في ظهر الجمعة ولكنّه ورد عن الإمام أنّه تجب في ظهر الجمعة الصلاة وعلمنا من الخارج بعدم وجوب صلاة الجمعة، ثبت بذلك وجوب صلاة الظهر؛ لأنّه يوجد لنا علم بقضيّة شرطيّة وهي: أنّه لو وجبت صلاة في يوم الجمعة فهي صلاة الظهر، وقد دلّ الحديث بالمطابقة على الشرط فقد دلّ بالالتزام على الجزاء.

وأمّا لو روى الراوي لنا عن الإمام أنّه بيّن وجوب صلاة في يوم الجمعة ونسينا أنّه هل بيّن وجوب صلاة الظهر أو بيّن وجوب صلاة الجمعة، ونحن نعلم أنّه على التقدير الثاني كانت الرواية تقيّة، فهنا علمنا بعدم وجوب صلاة الجمعة لا يثبت لنا

389

وجوب الظهر، ولا تجري في الرواية أصالة الجهة ولا يثبت وجوب الظهر علينا، ولا يمكن أن يثبت بالحديث شيء بل يكون ساقطاً عن الحجّيّة؛ لأنّه لا يمكن أن يثبت به الفرد المردّد عندنا بين صلاة الظهر والجمعة بالدلالة المطابقيّة ولا خصوص الظهر بالالتزاميّة:

أمّا الأوّل: فلعدم الترديد عندنا والقطع بعدم وجوب صلاة الجمعة على ما هو المفروض، فلا معنى للتعبّد بوجوب إحداهما المردّدة عندنا.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الحديث لا يدلّ على أيّ تقدير من التقادير على وجوب صلاة الظهر بالدلالة الالتزاميّة؛ لأنّه ليس مدلوله وجوب الجامع، بل مدلوله إمّا وجوب صلاة الجمعة بالخصوص أو وجوب صلاة الظهر بالخصوص، فعلى الأوّل لا يدلّ على وجوب صلاة الظهر لا مطابقة ولا التزاماً، وعلى الثاني يدلّ على وجوب صلاة الظهر مطابقةً لا التزاماً.

فظهر: أنّ إثبات وجوب صلاة الظهر بهذا الحديث غير معقول لا بالدلالة الالتزاميّة؛ للقطع بعدمها، ولا بالدلالة المطابقيّة؛ لعدم القطع بها.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه إذا استعمل المتكلّم لفظة (أسد) في الرجل الشجاع وشككنا في أنّه هل هو حقيقة فيه أو في الحيوان المفترس لم يكن ظهور الكلام في إرادة المعنى الحقيقيّ بما هو معنى حقيقيّ نافعاً؛ لأنّه ليس المستفاد منه مفهوم كلمة (المعنى الحقيقي) حتّى يكون دالّاً على الجامع، وإنّما هو ظاهر فيما هو واقع المعنى الحقيقيّ، فهو دالّ على أحدهما بالخصوص، أعني: الرجل الشجاع والحيوان المفترس بما هو معنى حقيقيّ، وليس ذلك حجّة في الفرد المردّد عند المخاطب؛ لفرض عدم الترديد، ولا في إثبات كون المراد الرجل الشجاع بما هو معنى حقيقيّ لهذا الكلام، فإنّ ذلك ليس لازماً للمدلول المطابقيّ الواقعيّ للكلام

390

على جميع التقادير، بل هو على تقدير ظهوره في الرجل الشجاع مدلول مطابقيّ له وهو مشكوك، وعلى فرض كونه ظاهراً في الحيوان المفترس ليس من لوازم ذلك كون المراد الرجل الشجاع بما هو معنى حقيقيّ كما لا يخفى.

كما أنّه لو فرض كون المستفاد من اللفظ مفهوم كلمة (المعنى الحقيقيّ) لم يثبت المدّعى بذلك أيضاً، أعني: كونه حقيقة في الرجل الشجاع، بل يلزم أن لا يستفاد منه الرجل الشجاع ولا الحيوان المفترس بل معنى ثالث وهو مفهوم (المعنى الحقيقيّ).

والبيان الذي ذكرناه في أصالة الحقيقة يأتي أيضاً فيما نحن فيه، فإنّ أصالة عدم الاستخدام مفادها أحد الشيئين بالخصوص وهو عموم الضمير أو خصوصه، فلو سلّم مثلاً كون مفادها العموم أو الخصوص بما أنّه يطابق الضمير بذلك مرجعه، فإن اُريد إثبات أحدهما المردّد فلا ترديد عندنا؛ للعلم بإرادة الخصوص، وإن اُريد إثبات الخصوص بما أنّه يطابق الضمير بذلك مرجعه لم يمكن؛ لأنّه ليس ذلك ثابتاً على كلا التقديرين بل على تقدير واحد.

وهذا الذي ذكرناه يثمر أيضاً في باب المجمل والمبيّن فنقول: إن كان المجمل دالّاً على الجامع صحّ حمله على المبيّن، وإن كان دالّاً على أحد الطرفين بالخصوص وإن تردّد عندنا بالإجمال سقط عن الحجّيّة.

وعلى أيّة حال فقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ أصالة العموم غير معارضة بأصالة عدم الاستخدام؛ وذلك لمنع الدلالة الالتزاميّة رأساً، لا لإنكار حجّيّتها رغم ثبوتها في مقابل عموم العامّ كما قالوا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذهب إلى أنّ أصالة عدم الاستخدام لو فرضت أصلاً مستقلاًّ عن مرجع الضمير منصبّاً على نفس الضمير فقد يقال بعدم حجّيّتها؛ لعدم

391

معلوميّة حجّيّة أمثال هذه الاُصول عند الشكّ في الاستناد، وإنّما حجّيّتها المسلّمة تكون لدى الشكّ في المراد، أو لعدم ترتّب أثر عمليّ على دلالتها المطابقيّة. ولكن بالإمكان دعوى ظهور منصبّ على مجموع الطرفين: الضمير ومرجعه، أي: أنّه ظهور قائم بالطرفين، وهو ظهور سياقيّ في الاتّحاد بين الضمير ومرجعه، فهذا الظهور تارة ينظر إليه بالعين اليسرى ويقال: إنّ الضمير مطابق لمرجعه، واُخرى ينظر إليه بالعين اليمنى ويقال: إنّ المرجع مطابق لضميره، والمفروض العلم بإرادة الخصوص من الضمير، فهذا الظهور باعتبار النظر إليه بالعين اليمنى يدلّ على إرادة الخصوص من العامّ، فيقع التعارض بينه وبين عموم العامّ ويؤدّي إلى الإجمال(1).

 


(1) والخلاصة: أنّه إن نظرنا إلى هذا الظهور بالعين اليسرى وقلنا: الضمير مطابق لمرجعه وسمّي ذلك بأصالة عدم الاستخدام فقد يقال على حدّ تعبير الآخوند: إنّ الحجّيّة العقلائيّة للظهور متيقّنة لدى الشكّ في المراد، والشكّ هنا في الاستناد، أو يقال على حدّ التعبير الميرزائيّ: إنّه لا أثر لدلالته المطابقيّة؛ للعلم بإرادة الخصوص من الضمير، أو يقال على حدّ تعبير اُستاذنا الشهيد: إنّ هذا الظهور مردّد بين واقع ظهور مقطوع الكذب، وهو الظهور في الرجوع إلى العموم، وواقع ظهور صادق، وهو الخصوص إذا كان المرجع أيضاً خاصّاً، والظهور لا يقول لنا أبداً: إنّي أنا واقع ذاك الظهور الصادق. أمّا حينما ننظر إليه بالعين اليمنى فكلّ هذه الإشكالات ترتفع، فإنّ حمل العامّ على إرادة الخصوص بقرينة كون الضمير خاصّاً يعيّن المراد، والشكّ فيه وليس في الاستناد، ودلالته المطابقيّة ذات أثر عمليّ وهو اختصاص العدّة بالرجعيّات مثلاً، وليس الظهور مردّداً بين واقع ظهور نقطع بكذبه وظهور آخر.

للمحقّق العراقيّ(رحمه الله) فيما نسب إليه في نهاية الأفكار بيان آخر، فهو لم يذكر في هذا

392

وذكر السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ: أنّ هذا الظهور القائم بالطرفين ـ المعارض لظهور العامّ في العموم ـ مقدّم على ظهور العامّ في العموم، ولذا لا يشكّ أحد من العرف إذا قال المتكلّم: (رأيت أسداً وضربته) وعلم أنّ المقصود ضرب الرجل الشجاع في أنّ المفهوم من هذا الكلام أنّ مَن رآه وضربه شيء واحد وهو الرجل الشجاع، ولا يحتمل العرف بحسب مفاد اللفظ كون ما رآه هو الحيوان المفترس ومَن ضربه هو الرجل الشجاع(1).

أقول: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ متين وإن كانت الأقوائيّة في باب العموم مع رجوع الضمير إلى الخصوص ليست بدرجة الأقوائيّة في مثل قوله: (رأيت أسداً وضربته).

وما سلّمناه من أقوائيّة هذا الظهور من ظهور العامّ إنّما هو ثابت لنا بالوجدان والفهم العرفيّ ولا يمكن إقامة برهان عليه.

 


الكتاب ظهوراً قائماً بمجموع الطرفين وفرض الظهور منصبّاً على الضمير لكنّه قال: إنّ فرض عدم حجّيّته لكون الشكّ في الاستناد أو لعدم أثر عمليّ في دلالته المطابقيّة لا يمنع عن التصادم القهريّ بين هذا الظهور وظهور العامّ في العموم مادام أحدهما متّصلاً بالآخر، فهذا الظهور له صلاحيّة القرينيّة الموجبة لإجمال الكلام. راجع نهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 546 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

أمّا فرض ظهور منصبّ على مجموع الضمير ومرجعه فهو وارد في المقالات، ج 1، المقالة: 35، ص 468 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 493 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

393

كما أنّ أصل دعوى ظهور الاتّحاد القائم بالطرفين، أي: الضمير ومرجعه، ثابت لنا أيضاً بالوجدان والفهم العرفيّ، ويساعده الوجه الفنّيّ أيضاً كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

 

الكلام فيما لو علم أنّ المراد الجدّيّ من الضمير هو الخصوص ولم يعلم المراد الاستعماليّ منه:

المقام الثاني: فيما لو علم بكون المراد الجدّيّ من الضمير الخصوص ولم يعلم كون المراد الاستعماليّ منه الخصوص.

وقد ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ (2) إلى أنّ عموم العامّ في هذا الفرض محفوظ؛ لعدم معارضته بظهور آخر متّصل بالكلام، غاية الأمر أنّنا علمنا من الخارج كون المراد الجدّيّ من الضمير الخصوص فنرفع اليد عن عمومه، وأمّا العامّ فلم نعلم مخالفة المراد الجدّيّ منه لظاهره فيؤخذ به.

أقول: التحقيق في هذا الفرض أيضاً عدم إمكان الأخذ بعموم العامّ؛ وذلك لوجهين: أحدهما فنّيّ، والثانيّ عرفيّ:

الأوّل: أنّك عرفت أنّه إذا كان المراد الاستعماليّ من الضمير الخصوص كان ظهور الكلام في الاتّحاد بين الضمير ومرجعه قرينة على إرادة الخصوص من



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 494 ـ 495 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وراجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 553 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 495 تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

394

العامّ، والمفروض في هذا المقام وإن كان عدم معلوميّة كون المراد الاستعماليّ الخصوص لكن خلافه أيضاً غير معلوم، فمن المحتمل كون المراد الاستعماليّ منه الخصوص فيدخل ما نحن فيه في باب احتمال قرينيّة المتّصل، واحتمال ذلك موجب للإجمال.

إن قلت: إنّ احتمال كون المراد الاستعماليّ منه الخصوص المستلزم للمجازيّة منفيّ بأصالة الحقيقة فيرتفع احتمال قرينيّة الموجود. ولا يقاس ما نحن فيه بما مضى في مبحث حجّيّة العامّ بعد التخصيص حيث قلنا هناك: إنّه بعد فرض العلم بعدم كون المعنى الموضوع له مراداً جدّيّاً لا تجري أصالة الحقيقة لإثبات كونه مراداً استعماليّاً؛ لعدم ترتّب ثمرة على ذلك حتّى يستكشف من العمل بتلك الثمرة بناء العقلاء على أصالة الحقيقة.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو فرض إحراز بنائهم على أصالة الحقيقة وإن لم يكن في البين ثمرة ليس لنا طريق لإحراز إمضاء الشارع لهذا البناء؛ لأنّه على ما هو المفروض لا تترتّب عليه ثمرة عمليّة حتّى يستكشف من عدم ردع الشارع إمضاؤه.

والخلاصة: أنّ ظهور الكلام بعد فرض العلم بتخلّف المراد الجدّيّ غير حجّة في إحراز المراد الاستعماليّ.

والوجه في عدم قياس ما نحن فيه بذاك المبحث: أنّ إجراء أصالة الحقيقة فيما نحن فيه ليس عارياً عن الثمرة حتّى يتأتّى ما عرفت من التقريب، فإنّ ثمرته تماميّة عموم العامّ وعدم ابتلائه باحتمال قرينيّة المتّصل.

قلت: إنّ أصالة الحقيقة فيما نحن فيه معارضة بظهور آخر، وهو ظهور الكلام في الاتّحاد بين المراد الجدّيّ والاستعماليّ.

395

إن قلت: إنّ الظهور في الاتّحاد القائم بالطرفين ممنوع، وإنّما المسلّم أنّه مهما اُحرز المراد الاستعماليّ كان مقتضى ظاهر الكلام ثبوت المراد الجدّيّ على طبقه، وأمّا عكس ذلك ـ وهو: أنّه مهما اُحرز المراد الجدّيّ كان مقتضى المطابقة بينهما كون المراد الاستعماليّ أيضاً ذلك ـ فغير معلوم.

قلت: ثبوت الظهور من الجانب الأوّل يبرهِن فنّيّاً ثبوته من الجانب الثاني أيضاً؛ وذلك لأنّ الظهور من الجانب الأوّل ليس ناشئاً من الوضع، فإنّه ظهور سياقيّ، ولا من التعبّد الصرف من جانب العقلاء بأصالة المطابقة، فإنّ التعبّد لا يولّد الظهور تكويناً، وإنّما هو ناش من غلبة المطابقة بين المراد الجدّيّ والاستعماليّ، ومن الواضح أنّ المطابقة قائمة بالطرفين والغلبة ثابتة من كلا الجانبين، فإنّه مهما كان هذا مطابقاً لذاك كان ذاك أيضاً مطابقاً لهذا، فالظهور ثابت من كلا الجانبين.

والخلاصة: أ نّا ندّعي أنّه مهما علم تخلّف المراد الجدّيّ لم تجر أصالة الحقيقة بالنسبة للمراد الاستعماليّ؛ وذلك لوجهين كلّ واحد منهما يجري في بعض الموارد ويتأتّى كلاهما معاً في بعض الموارد:

الأوّل: انتفاء الثمرة، ومع انتفائها لا يمكن استكشاف الحجّيّة.

والثاني: ظهور الاتّحاد بين المراد الاستعماليّ والجدّيّ، وما نحن فيه يكون من الموارد التي لا يجري فيها إلّا الوجه الثاني. هذا.

ولا يخفى أنّ ما مضى من المحقّق العراقيّ(قدس سره) من دعوى ظهور الاتّحاد بين الضمير ومرجعه القائم بالطرفين الذي ادّعينا دلالة الوجدان والفهم العرفيّ عليه يثبت فنّيّاً بمثل ما بيّنّاه هنا من الوجه الثاني.

الثاني: دعوى أنّه كما أنّ الأصل هو اتّحاد المراد الاستعماليّ من الضمير ومرجعه، كذلك الأصل هو اتّحاد المراد الجدّيّ منهما، وهذه الدعوى ندّعيها ذوقاً

396

وبالفهم العرفيّ لا فنّيّاً وبرهاناً، وليست داخلة تحت قاعدة المطابقة بين المراد الاستعماليّ والجدّيّ بدعوى أنّ مقتضى المطابقة بينهما أنّه كما ثبتت أصالة الاتّحاد في الأوّل فكذلك الأمر في الثاني، فإنّ أصالة المطابقة بينهما إنّما تقتضي مطابقة المراد الجدّيّ لكلّ واحد من الضمير ومرجعه مع المراد الاستعماليّ منه.

نعم، مهما صدق هذا الأصل وطابق الواقع كان لازمه ـ لامحالة ـ تطابق المرادين الجدّيّين كما تطابق المرادان الاستعماليّان، ولكن هذا لا يعني تولّد أصل آخر باسم أصالة التطابق بين المرادين الجدّيّين فإذا تخلّف أحد الجدّيّين دون الآخر فقد كذبت أصالة المطابقة بين المراد الاستعماليّ والجدّيّ من هذه الجهة ولم تكذب من جهتين: إحداهما هذه والاُخرى عدم المطابقة بين الجدّيّين.

397

 

تخصيص العموم بالمفهوم

الجهة السابعة: في تخصيص العموم بالمفهوم.

يظهر من بعض العبائر: أنّ هذا البحث وضع للكلام حول شبهة عدم إمكان تخصيص العامّ بالمفهوم ووجوب تقديم العامّ عليه؛ لأنّ المفهوم الذي هو تابع للمنطوق أخسّ من أن يعارض منطوقاً (1).

ويظهر من بعضها: أنّه وضع للكلام حول شبهة اُخرى تضادّ هذه الشبهة، وهي: أنّه يجب تقديم المفهوم على العامّ وإن كان تعارضه معه بنحو العموم من وجه ولا يمكن تقديم العامّ عليه؛ وذلك لأنّ المفهوم ملازم للمنطوق، ومهما تعارض مع عامّ فإن قدّمنا العامّ على المفهوم وأسقطنا المفهوم بدون إسقاط المنطوق لزم التفكيك بين المتلازمين، أو مع إسقاط المنطوق لزم إسقاط ما لا يكون مبتلى بالمعارض؛ لأنّ المعارضة المفروضة إنّما هي بين العامّ والمفهوم لا العامّ والمنطوق، فانحصر الأمر في تقديم المفهوم على العامّ(2).

ولعلّ هذا البحث في الحقيقة منعقد لرفع كلتا الشبهتين، فيجاب عن الاُولى بأنّ العبرة في مقام الجمع بعنوان الظاهريّة والأظهريّة أو القرينيّة وذي القرينيّة لا بعنوان المنطوقيّة والمفهوميّة كما لا يخفى. وعن الثانية بأنّه إذا كان العامّ معارضاً للمفهوم فهو معارض للمنطوق؛ لأنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر أيضاً.



(1) هذه الشبهة تناسب مفهوم المخالفة.

(2) هذه الشبهة تناسب مفهوم الموافقة.

398

 

تفصيل المحقّق النائينيّ في المسألة:

ثمّ إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) اختار تفصيلاً في المقام، وهو: أنّه إن كان المفهوم مفهوم الموافقة فلابدّ في مقام الجمع من ملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق الذي هو أيضاً طرف للمعارضة؛ لأنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر، فإن كان المنطوق أخصّ من العامّ قدّم عليه وارتفعت المعارضة بين المفهوم والعامّ، وبالنتيجة يتقدّم المفهوم على العامّ ولو فرض كون النسبة بينه وبين العامّ عموماً من وجه.

وإن كان المنطوق أعمّ من العامّ من وجه وجب أيضاً أوّلاً علاج المعارضة بين المنطوق والعامّ، فإن قدّم المنطوق ارتفعت المعارضة بين العامّ والمفهوم أيضاً بالتبع. وإن قدّم العامّ وسقط المنطوق سقط المفهوم أيضاً بسقوط منشئه.

والخلاصة: أنّ مقتضى الفنّ في مفهوم الموافقة هو ملاحظة النسبة دائماً بين العامّ والمنطوق دون العامّ والمفهوم.

وأمّا إن كان المفهوم مفهوم المخالفة فعندئذ تلاحظ النسبة بين العامّ ونفس المفهوم إن لم تكن للمفهوم حكومة على العامّ، وإلّا فلابدّ فيه من استيناف بحث جديد. هذا حاصل ما اختاره المحقّق النائينيّ(قدس سره)من الآراء في المقام(1).



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 500 ـ 504 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 556 ـ 561 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

ومقصوده من استثناء فرض الحكومة: استثناء مثل مفهوم آية النبأ بناءً على دلالته على حجّيّة خبر العدل والذي يبدو معارضاً لعمومات عدم جواز العمل بغير العلم، ولكنّه(رحمه الله)يعتقد حكومة المفهوم على العموم لأنّه يجعل خبر العدل علماً.

399

وتحقيق الكلام يقع في مقامين:

 

الكلام في تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة:

المقام الأوّل: في أنّه هل يخصّص العامّ بمفهوم الموافقة سواء كان ثابتاً بالأولويّة أو بالمساواة أو لا؟

من الواضح: أنّ المفهوم الذي يقصد تخصيص العامّ به إمّا يكون أخصّ من العامّ أو يكون بينهما عموم من وجه، وعلى كلّ حال لا إشكال في ثبوت المعارضة بين العامّ والمنطوق أيضاً، فإنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر أيضاً، فالعامّ له معارضان: المنطوق والمفهوم، ولكن كيفيّة المعارضة بين العامّ والمنطوق تختلف:

فتارة: تكون المعارضة ثابتة بين العامّ والمنطوق ابتداءً مع قطع النظر عن المفهوم، كما لو ورد: (لا تكرم الفسّاق) وورد: (أكرم خدّام العلماء)، فإنّ المعارضة بين هذين الكلامين ثابتة حتّى مع قطع النظر عن وجوب إكرام العلماء الذي هو مفهوم لقوله: (أكرم خدّام العلماء).

واُخرى: لا تكون معارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً وإنّما تسري المعارضة إليهما من المعارضة بين العامّ والمفهوم، من باب أنّ المعارض لأحد المتلازمين معارض للآخر، وذلك كالمثال السابق بعد تبديل العامّ الذي هو: (لا تكرم الفسّاق) بعامّ آخر وهو: (لا تكرم فسّاق المخدومين)، فإنّك ترى أنّه لا معارضة ابتداءً بين ذلك ومنطوق (أكرم خدّام العلماء)؛ لأنّ النسبة بين خدّام العلماء وفسّاق المخدومين هو التباين.

وكأنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) غفل عن هذا القسم فذهب إلى أنّه مهما تعارض العامّ

400

ومفهوم الموافقة وجب ملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق، فإنّك ترى أنّه في هذا القسم لا نسبة بين العامّ والمنطوق حتّى تلاحظ، فالتحقيق جعل الكلام في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا ثبتت المعارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً مع كون المفهوم أخصّ من العامّ أو أعمّ منه من وجه، وهذا على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون العامّ أخصّ من المنطوق.

وعندئذ لا إشكال في تقديمه على المنطوق ويتقدّم ـ لا محالة ـ على المفهوم بالتبع سواءً كان أخصّ من المفهوم أيضاً أوكان أعمّ منه من وجه(1)، فإنّ كونه أعمّ منه من وجه ليس مقتضياً لعدم تقدّمه عليه، غاية الأمر أنّه غير مقتض لتقدّمه عليه، ومعلوم أنّ أخصّيّته من المنطوق تقتضي تقدّمه على المنطوق وسقوط المنطوق بذلك المقدار، ومن الواضح أنّ سقوط المنطوق بأيّ مقدار يوجب سقوط المفهوم بذلك المقدار.

نعم، لو كان المفهوم لازماً لأصل المنطوق لا لإطلاقه فتخصيص المنطوق لا يوجب تخصيص المفهوم، بل تبقى المعارضة بين العامّ والمفهوم باقية على حالها، فلابدّ من ملاحظة النسبة بين العامّ والمفهوم، فإن كان العامّ أخصّ من المفهوم أيضاً رجعت المعارضة إلى التعارض التباينيّ؛ لأنّ تقديم العامّ على المفهوم يعني سقوط أصل المنطوق.

إلّا أنّ هذا خلف الفرض؛ لأنّ البحث إنّما هو في تخصيص العامّ بالمفهوم الذي هو أخصّ منه ولو من وجه.



(1) أو قل: سواءً كان العامّ لدى انضمام مفهوم الموافقة إلى المنطوق يبقى أخصّ أيضاً، أو يتحوّل إلى العموم من وجه.

401

وإن كان العامّ في نفسه أعمّ من وجه من المفهوم كان المفهوم بحكم الأخصّ وقدّم على العامّ؛ لأنّ تقديم العامّ فيه محذور وهو ما عرفت من أنّه يوجب سقوط أصل المنطوق، ولكن تقديم المفهوم لا يوجب شيئاً عدا تخصيص العامّ.

وإن شئت المثال لذلك أمكنك التمثيل له بما لو ورد: (لا تكرم فسّاق خدّام العلماء) وهذا هو العامّ، وورد دليل على وجوب إكرام خدّام العلماء لأجل إجلال العلماء، وهذا يدلّ بالمفهوم على وجوب إكرام العلماء لأجل أنفسهم، فإذا فرضنا أنّ بعض خدّام العلماء بنفسهم علماء فهذا البعض يجب إكرامه لإجلال مخدومه بحكم المنطوق، ويجب إكرامه لنفسه بحكم المفهوم، والعامّ أخصّ من المنطوق ـ كما هو واضح ـ وهو أعمّ من وجه من المفهوم؛ لأنّ فسّاق خدّام العلماء بعضهم عالم وبعضهم غير عالم، كما أنّ العلماء بعضهم فاسق خادم لعالم آخر وبعضهم ليس كذلك.

ولو فرضنا أنّ كلّ مَن يكون خادماً لعالم هو عالم فالعامّ يصبح أخصّ من المفهوم.

وعلى أيّ حال تارةً يفرض أنّ وجوب إكرام جميع العلماء لازم لوجوب إكرام خادم مّا لعالم وإن كان ذلك الخادم عادلاً، واُخرى يفرض أنّ إطلاق المفهوم لازم لإطلاق المنطوق.

وقد ظهر حكم جميع الفروض.

القسم الثاني: أن يكون المنطوق أخصّ من العامّ، كما لو قال: (لا تكرم الفسّاق)، وقال: (أكرم فسّاق خدّام العلماء).

وقد أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره) في هذا القسم: أنّ اللازم ملاحظة النسبة بين المنطوق والعامّ ويتقدّم المنطوق على العامّ بالأخصّيّة، ويتقدّم المفهوم عليه بالتبع؛

402

لكونه لازماً للمنطوق ولو فرض المفهوم أعمّ من وجه من العامّ كما في هذا المثال.

واستدلّ(رحمه الله) على ذلك بأنّه لو قدّم العامّ على المفهوم فإن كان ذلك من دون تقديم له على المنطوق لزم التفكيك بين المتلازمين(1)، وإن كان ذلك مع تقديمه على المنطوق كان ذلك تقديماً للعامّ على الخاصّ وذلك لا يجوز، فالواجب هو التصرّف في العامّ. هذا ما أفاده(قدس سره) وهو في غاية المتانة.

وإن شئت قلت: إنّ أعمّيّة المفهوم من وجه من العامّ لا تقتضي عدم تقدّمه على العامّ غاية الأمر أنّها لا تقتضي تقدّمه عليه أيضاً، وأخصّيّة المنطوق تقتضي تقدّمه على العامّ المستلزم لتقدّم المفهوم على العامّ.

القسم الثالث: أن تكون النسبة بين العامّ والمنطوق عموماً من وجه(2).

وقد أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ اللازم في ذلك أيضاً ملاحظة الجمع بين العامّ والمنطوق دون العامّ والمفهوم؛ وذلك لأنّه إن اقتضى الجمع بين العامّ والمنطوق تقديم العموم ـ لوجه من الوجوه ـ وإسقاط المنطوق لم تصل النوبة إلى الجمع بين العامّ والمفهوم؛ لسقوطه بسقوط المنطوق، وإن اقتضى الجمع بينهما تقديم المنطوق لم تصل النوبة أيضاً إلى الجمع بين العامّ والمفهوم؛ لارتفاع المعارضة بينهما بالتبع؛ لأنّ تقديم المنطوق يستلزم تقديم المفهوم لكونه لازماً له.

أقول: ما ذكره(قدس سره) غير تامّ على إطلاقه، فإنّ مفاده إنّ ذلك المنطوق لو فرض عدم ثبوت مفهوم له ونسبناه إلى العامّ فأيّ شيء اقتضته فيهما قوانين باب التعارض من تقديم العامّ أو المنطوق أو تساقطهما لا يتغيّر ذلك بفرض ثبوت



(1) بمعنى إسقاط اللازم وإثبات الملزوم، وهذا لا يمكن.

(2) كما لو كان العامّ: (لا تكرم الفسّاق) وكان المنطوق: (أكرم خدّام العلماء).

403

المفهوم له، فما تقتضيه قوانين باب التعارض في مقام الجمع بينهما على فرض عدم المفهوم هو عين ما تقتضيه على فرض ثبوت المفهوم، وبعد أن عيّنّا الوظيفة بالنسبة لهما اتّضحت الوظيفة بالنسبة للمفهوم، فإنّه تابع للمنطوق فحاله حال المنطوق. وهذا الكلام صحيح إلّا في فرضين:

الأوّل: أن يكون المقدار المعارض من المفهوم لازماً لأصل المنطوق لا لإطلاقه لمادّة الاجتماع منه، أي: أن يكون ثبوت مقدار مّا من المنطوق كافياً في ثبوت المفهوم بما له من الإطلاق لمادّة الاجتماع.

وتوضيح الأمر: أنّ كون المفهوم تابعاً لمنطوقه فيسقط بسقوطه وإن كان صحيحاً ولكن من الواضح أنّه لو سقط المنطوق في قبال العامّ فإنّما تسقط مادّة الاجتماع مع العامّ منه دون مادّة الافتراق كما هو واضح، وعندئذ نقول:

إنّ المقدار المعارض من المفهوم إن كان لازماً لخصوص مادّة الاجتماع من المنطوق صحّ ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) من سقوط المفهوم تبعاً لسقوط المنطوق، فإنّ المفروض أنّ الملزوم ـ وهو مادّة الاجتماع من المنطوق ـ قد سقط، فلا محالة يسقط اللازم بالتبع.

وأمّا إذا كان ثبوت أصل المنطوق كافياً في ثبوت المقدار المعارض من المفهوم فمن الواضح أنّ سقوط المنطوق في قبال العامّ لا يكفي في حلّ المعارضة بين المفهوم والعامّ؛ لأنّ العامّ إنّما أسقط من المنطوق مادّة اجتماعه وبقيت مادّة افتراقه، وهي كافية على الفرض لثبوت المفهوم، فالمعارضة بين العامّ والمفهوم باقية على حالها، والمتعيّن هو تقديم المفهوم على العامّ؛ لأنّه لو قدّم العامّ على المفهوم واُسقط المفهوم الذي هو لازم لأصل المنطوق لزم من ذلك إسقاط أصل المنطوق وتمام المفهوم كما هو واضح.

404

ومثال هذا القسم ما لو قال: (أكرم شيوخ أقاربك)، وقال: (لا تكرم فسّاق الآباء)، ومفهومه حرمة إكرام فسّاق الأقارب، والمقدار المعارض من المفهوم حرمة إكرام فسّاق شيوخ الأقارب الذي يكفي في ثبوته ثبوت أصل المنطوق ولو بالنسبة لخصوص إكرام الأب الشابّ الفاسق؛ لأ نّا لا نحتمل على الفرض وواقعاً كون الشيوخ من الأقارب أحقّ بالاحترام من الأب الشابّ حتّى يحتمل كون الفسق بالنسبة للأب الشابّ مانعاً عن وجوب الإكرام، وبالنسبة لشيوخ الأقارب غير مانع عنه.

الثاني: أن يكون المنطوق والمفهوم معاً شاملاً لتمام موارد العامّ أو ما يقرب من التمام، بحيث لو قدّم المنطوق والمفهوم معاً على العامّ وخصّص بهما العامّ كان من التخصيص المستهجن؛ لقلّة الباقي، فحتّى لو فرض كون مقتضى القاعدة ـ مع قطع النظر عن المفهوم ـ سقوط العامّ عند معارضته مع المنطوق في مادّة الاجتماع بينهما نقول الآن: إنّ تقدّم المنطوق مع مفهومه على العامّ غير ممكن؛ لأنّه يعني انمحاء العامّ بتمامه أو ما يقرب من ذلك.

وعندئذ لو فرض أنّ مادّة الاجتماع للمفهوم مع العامّ بتمامها لازم لمادّة الاجتماع للمنطوق مع العامّ كان من اللازم تقديم العامّ على المنطوق؛ إذ لا يلزم من ذلك إلّا تخصيص المنطوق والمفهوم، بينما يلزم من تقديم المنطوق المستلزم لتقديم المفهوم عليه أن لا يبقى مورد للعامّ أصلاً أو يبقى مورد قليل ممّا يوجب استهجان التخصيص.

مثال ذلك: ما لو قال المولى: (أكرم العدول)، وهذا هو العامّ، وقال: (لا يجب إكرام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ومفهومه الموافق: (لا يجب إكرام الجهّال)، ومن الواضح أنّ عدم وجوب إكرام الجاهل العادل لازم لمادّة الاجتماع من المنطوق

405

مع العامّ وهو عدم وجوب إكرام العالم العادل، فاللازم هنا تقديم العامّ وهو (أكرم العدول)؛ لأنّه لو عكس لم يبق مورد للعامّ؛ لأنّ العادل إمّا عالم أو جاهل، فإن بني على عدم وجوب إكرام العالم من العدول بحكم المنطوق وعدم وجوب إكرام الجاهل منهم بحكم المفهوم فمَن هو العادل الذي يجب إكرامه بحكم العامّ؟

نعم، لو فرض أنّ مادّة الاجتماع للمفهوم مع العامّ ليس تمامها لازماً لمادّة الاجتماع للمنطوق مع العامّ، بل كان مقدار منها لازماً لمادّة الافتراق، ويكون تقديم العامّ على ذلك المقدار كافياً لرفع الاستهجان سقط ذلك المقدار من المفهوم المرتبط بمادّة الافتراق، وسقط من المنطوق أيضاً ما يكون ملزوماً لما سقط من المفهوم؛ إذ لا يمكن بقاء الملزوم مع سقوط اللازم.

مثاله: ما لو قيل: (لا تكرم الفسّاق المرتبطين بالعلم)، وهذا هو العامّ، وكان معنى الارتباط بالعلم كون الإنسان عالماً أو خادماً لعالم، وقيل: (أكرم خدّام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ولم يكن وجوب إكرام تمام العلماء الفسّاق لازماً لمادّة الاجتماع من المنطوق مع العامّ، بل دلّ وجوب إكرام كلّ خادم على وجوب إكرام مخدومه، فالعامّ في هذا الفرض يقدّم على المفهوم بالنسبة للعالم الفاسق الذي يكون خادمه عادلاً وعلى منطوقه(1).

ولو اجتمعت في مورد مّا نكتة تقدّم العامّ كاملاً على المنطوق ـ وهي كون المفهوم لازماً لأصل المنطوق ـ ونكتة تقدّم المنطوق على العامّ كانت المعارضة



(1) فلا نكرم هذا الخادم وعالمه كما لا نكرم العالم الفاسق، فيبقى للعالم مقدار معتدّ به لا يلزم معه اضمحلال العامّ ولا استهجان التخصيص، ولكنّنا نبقى نكرم العالم العادل ونكرم خادمه حتّى ولو كان فاسقاً؛ لأنّنا فرضنا نكتة في تطبيق المنطوق.

406

من قبيل المعارضة بين المتباينين، نظير: (صلّ) و(لا تصلّ).

المورد الثاني: ما إذا لم تكن معارضة بين العامّ والمنطوق ابتداءً ونشأت المعارضة بينهما من المعارضة بين العامّ والمفهوم.

وهنا لا معنى لملاحظة النسبة بين العامّ والمنطوق؛ لأنّهما متباينان، بل لابدّ أن يرى المقدار المعارض من المفهوم هل هو لازم لأصل المنطوق أو لإطلاقه؟

فعلى الأوّل يجب تقديم المفهوم ولا يمكن العكس؛ للزوم سقوط المنطوق والمفهوم رأساً.

وعلى الثاني يكون حال معارضة هذا المفهوم مع العامّ حال معارضة كلّ منطوقين بينهما عموم من وجه.

مثال ذلك: ما لو قال: (لا تكرم فسّاق المخدومين)، وهذا هو العامّ، وقال: (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، وهذا هو المنطوق، ولا معارضة مباشرة بينهما؛ لأنّ فسّاق الخدّام مباين لفسّاق المخدومين، ولكن مفهوم الموافقة لهذا المنطوق هو: (أكرم العلماء) وهذا معارض للعامّ بالعموم من وجه.

فتارة يفترض أنّ وجوب إكرام خادم فاسق واحد من خدّام العلماء يدلّ على وجوب إكرام تمام العلماء، واُخرى يفترض أنّ وجوب إكرام كلّ خادم إنّما يدلّ على وجوب إكرام مخدومه. وقد عرفت حكم كلا الفرضين.

 

الكلام في تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة:

المقام الثاني: في أنّه هل يخصّص العامّ بمفهوم المخالفة أو لا؟

لا يخفى أنّ الأساطين ـ قدّس الله أسرارهم ـ اختلفوا في أنّ تقديم الخاصّ على العامّ هل هو بالأقوائيّة أو بالقرينيّة، فذهب بعضهم كالشيخ الخراسانيّ(رحمه الله) إلى

407

الأوّل(1). وذهب البعض كالشيخ النائينيّ(رحمه الله) إلى الثاني(2)، وهذا هو المسلك الذي اخترناه نحن.

وهنا تارة: نبحث الأمر على مسلك التقديم بالأقوائيّة، واُخرى: نبحثه على مسلك التقديم بالقرينيّة:

أمّا على المسلك الأوّل ـ وهو مسلك الأقوائيّة ـ: فيختلف الأمر في تقديم كلّ من العامّ والمفهوم على الآخر باختلاف الموارد، وفي كلّ مورد من الموارد يقدّم ما هو الأقوى والأظهر منهما، هذا فيما لو تساويا في كونهما مستفادين من الوضع أو الإطلاق.

وأمّا إذا كان أحدهما مستفاداً من الوضع والآخر مستفاداً من الإطلاق:

ففي فرض الاتّصال يقدّم ما بالوضع على ما بالإطلاق؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم البيان، والدلالة الوضعيّة بيان. وكذلك في فرض الانفصال لو بنينا على أنّ إحدى مقدّمات الحكمة هو عدم البيان حتّى المنفصل.

أمّا لو لم نبن على ذلك فيبقى تقديم ما بالوضع على ما بالإطلاق في المنفصلين دائماً رهيناً للإيمان بأنّ الدلالة الوضعيّة دائماً أقوى من الدلالة الإطلاقيّة.

بل وحتّى لو بنينا على ذلك فلدينا استثناء في فرض كون العموم بالوضع والمفهوم بالإطلاق، فلا نقبل بما ذكر في المقام من تقدّم العموم على المفهوم



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 363 ـ 364، وكذلك ج 2، ص 381 ـ 382 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع فوائد الاُصول، ج 4، ص 720 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم. وراجع أجود التقريرات، ج 2، ص 509، طبعة مطبعة العرفان بصيدا.

408

مطلقاً؛ وذلك لأنّه قد يتّفق أنّ العامّ يكون معارضاً لأصل شرطيّة الشرط وكان الأخذ به موجباً لرفع اليد رأساً عمّا تدلّ عليه أداة الشرط من العلّيّة أو اللزوم بالوضع أو ما يشبهه من الظهور السياقيّ، لا لثبوت عدل لذلك الشرط.

مثاله: ما لو قال: (خلق الله كلّ ماء طهوراً لا ينجّسه شيء)، وهذا هو العامّ، وقال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، وهذا هو المنطوق، فإنّه في مثل هذا المثال لو قدّم العامّ على المفهوم كان لازم ذلك رفع اليد عن أصل شرط الكرّيّة لا مجرّد فرض عدل للكرّيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه ـ من أنّ العامّ والمفهوم لو تساويا في كونهما بالوضع أو بالإطلاق قدّم الأظهر منهما على الظاهر، أو الأقوى على الأضعف ـ قد يورد عليه في فرض ما إذا كانا معاً بالإطلاق بأنّ أقوائيّة إطلاق من إطلاق لا تتصوّر؛ لأنّ الدليل على الإطلاق دائماً شيءٌ واحد وهو مقدّمات الحكمة وكون المتكلّم بصدد البيان، ولا معنى لاختلاف أفراد هذا الدالّ قوّة وضعفاً باختلاف الموارد.

والجواب: أنّ كون المتكلّم بصدد البيان وإن كان شيئاً واحداً، ولكن كونه بصدد البيان لم يكن محرزاً باليقين والقطع كي يقال: إنّ مرتبة الدلالة إذن واحدة؛ لأنّ العلم واليقين بالمعنى الاُصوليّ ليست له مراتب وإن عُقلت له مراتب بمعنى آخر، وإنّما الدليل على كون المتكلّم في مقام البيان إنّما هو ظهور حاله في ذلك، وظهور الحال هذا له مراتب كثيرة ويختلف باختلاف الموارد كما هو واضح.

فمثلاً يختلف الحال فيما لو كان الانقسام الكذائيّ من الانقسامات الواضحة، فيكون ظهور الحال في كون المتكلّم في مقام البيان أقوى منه في الانقسامات غير الواضحة، فلو قال المولى: (أكرم إنساناً) فظهوره الإطلاقيّ من ناحية كونه عالماً أو جاهلاً أقوى منه من ناحية كونه ذا رأس واحد أو رأسين مثلاً.