509

في القسم الأوّل يكون بلحاظ العنوان الأوّليّ، وفي القسم الثاني يكون بلحاظ العنوان الثانويّ، وهذا لا يشكّل فارقاً، كما لا يخفى.

وأمّا الملاك الثاني: فيتكلّم فيه أيضاً في مقامين:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها، وقد عرفت أنّه مركّب من أمرين:

أحدهما: دعوى أنّ النهي والأمر متضادّان ولا يجتمعان. والمختار في ذلك: أنّه إذا تعلّق الأمر بعنوان، والنهي بما هو أخصّ منه، كما لو قال: (أكرم العالم)، وقال: (لا تكرم العالم الفاسق)، لم يمكن اجتماع الأمر والنهي(1). وأمّا إذا تعلّق الأمر والنهي بعنوانين بينهما عموم من وجه، فإن كان هناك جزء مشترك في عالم العناوين امتنع أيضاً اجتماعهما، وإلاّ فلا امتناع في ذلك. وقد تقدّم توضيح ذلك والبرهان عليه في محلّه مفصّلا.

ثانيهما: دعوى عدم إمكان تصحيح العبادة بالملاك، وذلك لأحد أمرين:

الأوّل: أن يقال: إنّه لا يكفي في العبادة مطلق التقرّب ولو بواسطة الملاك، بل يُشترط فيها أمرٌ زائد على ذلك، وهو أن يُؤتى بها بداعي الأمر.

وهذه مسألة فقهيّة مختارنا فيها عدم اشتراط هذا الأمر الزائد؛ لعدم الدليل عليه، فإنّ الدليل على عباديّة العبادة: إمّا هو الإجماع والارتكاز، ولا يساعد ذلك


عبارة عن عنوان الامتحان ـ فإنّه كعنوان الطاعة في انتزاعه في طول النهي ـ فهذا العنوان ليس مطلوباً بنفسه، بل ببعض النتائج المترتّبة عليه.

ومع ذلك يمكن أن يسمّى ملاك الطاعة غيريّاً؛ لأنّه لم يكن عبارة عن نفس متعلّق النهي بل كان غيره.

(1) مضى منّا خلاف ذلك فراجع.

510

على اشتراط أزيد من قصد القربة. أو النصّ الخاصّ كما ورد بالنسبة إلى بعض العبادات، وهو أيضاً لا يدلّ على اشتراط أزيد من ذلك، فإنّ المذكور فيه هو عنوان «النيّة الحسنة» مثلا ونحو ذلك.

الثاني: أن يقال: إنّه وإن كان مطلق التقرّب كافياً لكن حصول التقرّب من ناحية الملاك غير معقول؛ فإنّ هذا الملاك ليس نفعاً راجعاً إلى المولى كما في الموالي العرفيّة حتّى يعقل التقرّب إليه به، وإنّما هو راجع إلى نفس العبد، ونسبته إلى المولى كنسبته إلى سائر العبيد غير هذا العبد، ولا يُعقل التقرّب إلى المولى بنفع راجع إلى نفس المتقرّب. والخلاصة: أنّ الملاك ليست له جهة إضافة إلى المولى ـ كالأمر ـ حتّى يتقرّب به إليه.

وفيه: أنّه يكفي في التقرّب إلى المولى العمل بداعي الملاك لا بما أنّه ملاك ومصلحة راجعة إلى نفسه، بل بما أنّه متعلّق لغرض المولى ولو اقتضاءً، فإنّ الآتي بهذا العمل بهذا الداعي لو اطّلع المولى على فعله تشكّر منه ومدحه، ولا نعني من القرب سوى ذلك، وقولنا: «ولو اقتضاءً» إنّما ذكرناه لإدخال ما لو لم يتعلّق غرض المولى بتحصيل العبد لهذا الملاك لمانع من جهل أو نسيان أو مزاحمة لملاك آخر.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا: عدم تماميّة الملاك الثاني لمفسديّة النهي للعبادة، وأنّه يكفي في تصحيح العبادة التقرّب بالملاك ولا يشترط كونها بداعي الأمر.

المقام الثاني: أنّه لو تمّ هذا الملاك فإنّما يتمّ في النهي الذي يكون مضادّاً للأمر، والمختار أنّ النهي ليس بما هو مضادّاً للأمر، وإنّما مضادّته له من ناحية المبادئ، وعلى هذا فإنّما يتمّ هذا الملاك في غير القسمين الأخيرين من الأقسام الماضية للنهي.

وأمّا القسم الرابع: فليس مضادّاً للأمر؛ لأنّ ملاكه يكون في نفس الخطاب لا في المتعلّق حتّى يضادّ الأمر المفروض كون ملاكه في متعلّقه. ولو فُرض كون

511

ملاك الأمر أيضاً في نفس الخطاب فأيضاً لم يجتمع الملاكان في شيء واحد، لكن هذا خلاف الفرض، فإنّ المفروض كون ملاك الأمر في متعلّقه، ولذا فُرض المانع عن الصحّة عدم صحّة التقرّب بالملاك.

وأمّا القسم الخامس: فأيضاً ليس مضادّاً للأمر؛ فإنّ مصلحة الأمر إنّما هي في الفعل ومصلحة النهي إنّما هي في الترك بعنوان الامتثال بعنوانه الثانويّ، فملاك النهي إنّما هو في حصّة من نقيض ما هو مركز لملاك الأمر، فلا يقع تضادّ بين الأمر والنهي.

نعم، هنا صورة خارجة عن الفرض، وهي: أنّه كما فُرض ثبوت المصلحة في موافقة النهي كذلك نفرض ثبوت المفسدة في مخالفته، وحينئذ فإن فرضنا أنّ مركز المفسدة هو الإتيان بالمتعلّق بما أنّه مخالفة، بأن يكون نفس الفعل جزء الموضوع، امتنع اجتماعه مع الأمر المفروض ثبوت ملاكه في متعلّقه وهو الفعل، وإن فرضنا أنّ مركز المفسدة هو عنوان المخالفة، بأن يكون نفس الفعل خارجاً عن الموضوع فلا استحالة في اجتماعهما.

ونظير هذا التفصيل يأتي أيضاً في فرض آخر، وهو أن يُفرض ثبوت المفسدة في مخالفة الأمر بترك المتعلّق، والمفروض ثبوت المصلحة في موافقة النهي بترك المتعلّق أيضاً، وحينئذ فإن فُرض أنّ مركز المفسدة هو عنوان المخالفة ومركز المصلحة هو عنوان الموافقة، بدون أن يكون ذات الترك جزءاً لأحد الموضوعين أو يكون جزءاً لأحدهما دون الآخر فلا مضادّة. وإن فُرض جزئيّته لكليهما وقع التضادّ.

وأمّا الملاك الثالث: ففيه أيضاً مقامان:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها، وقد عرفت أنّه مركّب من أمرين:

أحدهما: دعوى امتناع اجتماع الأمر والنهي. والكلام هنا عين الكلام في الملاك الثاني.

512

ثانيهما: عدم ثبوت محرز للمصلحة بعد فرض عدم الأمر. وهذا متين لا إشكال فيه كما بيّنّاه في محلّه، وأثبتنا هناك إنّ التمسّك لإثبات المصلحة بإطلاق المادّة ـ كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ أو بالدلالة الالتزاميّة ـ كما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ـ غير صحيح. نعم، لو قام في مورد دليل خاصّ على ثبوت المصلحة فقد اُحرزت المصلحة فيه ولا يتمّ في ذلك المورد هذا الملاك الثالث.

المقام الثاني: أنّ هذا الملاك بناءً على تماميّته يجري في أيّ قسم من أقسام النهي؟ والكلام هنا عين الكلام في الملاك الثاني.

وأمّا الملاك الرابع: فيتمّ الكلام في أصل صحّته وفساده وفي أنّه يجري في أيّ قسم من أقسام النهي ببيان واحد، وهو: أنّ الصلاح والفساد إنّما يكونان متضادّين في الحمل بعنوان (هو هو) بأن يقال: هذا صلاح وهذا فساد. ولا مضادّة في الحمل بعنوان (ذو هو) بأن يقال: هذا ذو صلاح وهذا ذو فساد. وكثيراً مّا يكون شيء واحد فيه مصلحة ومفسدة معاً، فإنّما يتّجه هذا الملاك في خصوص ما لو فُرض ملاك الأمر وملاك النهي كلاهما نفسيّاً.

فظهر أنّ هذا الملاك في القسم الثاني من أقسام النهي تامّ إذا كان ملاك الأمر أيضاً نفسيّاً وفي غير ذلك غير تامّ، هذا. ولم نجد في الفقه مورداً يكون كذلك حتّى نتمسّك فيه بهذا الملاك.

وأمّا الملاك الخامس ـ وهو أنّ المصلحة المغلوبة كالعدم في أنّها لا تخلق المحبوبيّة فلا يمكن التقرّب بها ـ: فيقع الكلام فيه أيضاً في مقامين:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها.

والتحقيق: عدم صحّته؛ فإنّه إنّما يسوغ دعوى صحّته بناءً على أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون المقصود بالقُرب والبُعد هو القُرب والبُعد بالنظر إلى الأغراض النفسانيّة، فإنّ المقرّبيّة أو المبعّديّة بهذا المعنى تابعة للملاك الغالب، مثلا: لو فُرض

513

أنّه كان لرجل ابن وكان في قتل هذا الابن مصلحة لكونه عدوّاً له مثلا، لكنّ المصلحة كانت مغلوبة في قبال مفسدة قتل الابن، فقتله شخص، فمن المعلوم أنّ ذلك الرجل بحسب إحساساته النفسانيّة يبغض هذا القاتل ويتنفّر منه، وإن كان القاتل إنّما قتله بداعي إفناء عدوّ ذلك الرجل ولم يكن يدري أنّه ابنه، وكان قتله متمحّضاً في داعي لحاظ مصلحة ذلك الرجل، فلا يصحّ التقرّب بالملاك المغلوب.

لكنّك ترى أنّ المولى الحقيقيّ منزّه عن الأغراض والإحساسات النفسانيّة، وإنّما نريد من القُرب والبُعد ما يحكم به العقل من درجة الإخلاص أو العقوق في عالم العبوديّة.

الثاني: أن يقال: إنّ عنوان الانقياد والتجرّي ليسا مؤثّرين في القُرب والبُعد، بل لابدّ من مصادفتهما للواقع، أعني: الوجوب الواقعيّ والحرمة الواقعيّة المنجّزة، وبما أنّ المفروض أنّ ملاك الأمر مغلوب فالحكم الواقعيّ هو الحرمة، فلم يكن انقياده مصادفاً للواقع، أعني: الوجوب.

لكن يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه تحقيق أنّ المقرّب والمبعّد بالقُرب والبُعد الثابتين بحكم العقل ـ بدرجة الإخلاص والعقوق في عالم العبوديّة ـ إنّما هو نفس الانقياد والتجرّي، سواءً طابق الواقع أو لا. وعلى هذا فلو أتى بالعمل بداعي المصلحة كفى ذلك في التقرّب، و إن كانت المصلحة مغلوبة في جانب المفسدة التي جهل بها العبد أو غفل عنها ونسيها، بل يتحقّق التقرّب حتّى مع فرض عدم وجود المصلحة واقعاً، فلو أتى العبد بعمل بداعي المصلحة ثُمّ تبيّن عدمها فقد حصل القُرب، إلاّ أنّ العمل غير صحيح من جهة أنّ المراد بالصحيح هو المُسقط للقضاء والإعادة. فإن كانت المصلحة ثابتة في الواقع في هذا الفرد فقد سقط القضاء والإعادة؛ لحصول الغرض، بخلاف ما لو تبيّن عدمها؛ لعدم حصول الغرض عندئذ.

514

إذن، فالتحقيق: صحّة التقرّب بالإتيان بداعي المصلحة المغلوبة مع الغفلة عن المفسدة الغالبة أو الجهل بها. نعم، مع فرض علم العبد بها وعدم غفلته عنها لا يعقل المقرّبيّة وليس هنا إلاّ المبعّديّة. لكن هذا راجع إلى الملاك الأوّل الذي هو عبارة عن عدم إمكان التقرّب بالمبعّد دون الملاك الخامس؛ فإنّه عبارة عن أنّ نفس الملاك المغلوب لا يصلح للتقرّب به، ولذا عرفت أنّ مقتضاه في ظرف الشكّ في الحرمة وعدم تنجّزها هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال إن لم يكن لدليل الأمر إطلاق.

المقام الثاني: أنّ هذا الملاك على فرض صحّته لا يتأتّى في القسم الرابع من أقسام النهي؛ لأنّ ملاكه في نفس الخطاب وليس في المتعلّق حتّى تصير مصلحة الأمر مغلوبة بالنسبة إليه. ولا يتأتّى أيضاً في القسم الخامس؛ لأنّ ملاكه ثابت في حصّة خاصّة من نقيض متعلّق الأمر الثابت فيه المصلحة، فلا تصير المصلحة بذلك مغلوبة. ويتأتّى في باقي الأقسام.

 

515

 

تنبيهات:

الأوّل: ما ذكرناها من الملاكات الخمسة لا تختصّ بما إذا كان النهي متعلّقاً بالعبادة بعنوان العباديّة، بل تجري فيما لو كان النهي متعلّقاً بذات العمل لا بعنوان العباديّة.

الثاني: ما ذكرناها من الملاكات الخمسة كما تقتضي بعد فرض تماميّتها بطلان العبادة، كذلك تقتضي في الواجبات والمستحبّات التوصّليّة عدم إمكان التقرّب بها، فينبغي جعل عنوان البحث عامّاً بأن يقال: هل يقتضي النهي عدم إمكان وقوع الفعل على وجه العبادة أو لا؟ فإذا ثبت عدم إمكان وقوعه على وجه العبادة: فإن كان ذلك الفعل من العباديّات بطل لا محالة. وإن كان من التوصّليّات لم يبطل لكن لم يصحّ التعبّد به، أعني: تحصيل التقرّب إلى المولى بذلك العمل.

بل نقول: إنّ بعض تلك الملاكات ـ وهو الملاك الثالث والرابع ـ يقتضي بطلان العمل وإن كان من الواجبات أو المستحبّات التوصّليّة أيضاً:

أمّا الملاك الثالث: فحاصله: أنّ النهي اقتضى صرف إطلاق الأمر؛ لاستحالة الاجتماع، والملاك غير محرز، فلا نعلم بحصول غرض المولى، فتجري قاعدة الاشتغال. وهذا كماترى يتأتّى في التوصّليّات أيضاً.

وأمّا الملاك الرابع: فحاصله: أنّ النهي بما أنّه كاشف عن المفسدة مع عدم إمكان اجتماعها مع المصلحة يدلّ على عدم المصلحة. وهذا كماترى يتأتّى أيضاً في التوصّليّات، فلو فُرض أمرٌ ونهيٌ توصّليّ نفسيّان خطاباً وملاكاً وكان المجمع منهيّاً عنه كان باطلا بهذا الملاك.

وأمّا الملاك الأوّل والثاني والخامس: فإنّما يثبت بها بطلان العمل من ناحية عدم إمكان التقرّب به. وهذا كما ترى لا يوجب بطلان الواجب أو المستحبّ التوصّليّ.

516

الثالث: ربما لا يكون النهي متعلّقاً بنفس العبادة بل يكون متعلّقاً بجزئها أو شرطها أو وصفها الملازم أو غير الملازم، وعندئذ يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: أنّ حرمة الجزء أو الشرط أو الوصف الملازم أو غير الملازم حرمة تكليفيّة هل توجب البطلان، أو لا؟

والثاني: أنّه لو ورد في الأخبار نهي متعلّق بذلك فهل تستفاد منه الحرمة التكليفيّة فيطبّق في المورد ما نثبته في المقام الأوّل، أو هو إرشاد إلى شيء فيطبَّق ما يقتضيه ذلك المرشد إليه؟

أمّا المقام الأوّل: فنتكلّم فيه في النهي بأقسامه الأربعة، أعني: المتعلّق بالجزء أو الشرط أو الوصف الملازم أو غير الملازم.

أمّا القسم الأوّل ـ وهو النهي المتعلّق بالجزء ـ: فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)أنّه يقتضي بطلان ذلك الجزء؛ لأنّ جزء العبادة عبادة، وقد فُرض أنّ النهي في العبادة مبطل لها. لكن نفس تلك العبادة التي يكون هذا جزءاً لها مع فرض تدارك الجزء ـ كما لو قرأ سورة اُخرى غير منهيّ عنها مثلا ـ لا إشكال فيها إلاّ إذا ثبتت مبطليّة ذلك لها من ناحية اُخرى، كما لو ورد دليل خاصّ على كون السورة الكذائيّة مبطلة للصلاة، أو انطبق عليه عنوان بعض ما ثبت كونه مبطلا للصلاة، أو ادّعيت مبطليّته، كما لو صدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة أو القرآن بين سورتين، فيثبت أو يُدّعى مبطليّته من هذه الناحية، وأمّا صرف تعلّق النهي به فلا يوجب مبطليّته للعبادة(1).

وما ذكره(رحمه الله) في غاية المتانة، وما أورد عليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الإيرادات


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 293 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

517

المذكورة في التقريرات غير واردة، كما يظهر بالمراجعة والتأمّل ولا حاجة إلى ذكرها(1).

نعم، ينبغي أن يكون مراد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ جزء العبادة عبادة أنّه كذلك خارجاً، وإلاّ فلا ملازمة عقلا بين كون الشيء عباديّاً وكون جزئه أيضاً عباديّاً، فربما يتعلّق غرض المولى بمجموع مركّب من عشرة أجزاء ـ مثلا ـ لو جيء بتسعة منها لا بداعي التقرّب لم يحصل الغرض، ولو جيء بها بهذا الداعي وضمّ إليها الجزء العاشر حصل الغرض وإن لم يكن ضمّ ذلك الجزء بداعي التقرّب.

ولعلّ مراده(رحمه الله) من العبادة ما يكون عبادة بتمامه، وعندئذ لا يصحّ تعليل عباديّة الجزء بكونه جزء عبادة إلاّ بضرب من المسامحة؛ لأنّ فرض كون تمام العمل عبادة بنفسه مساوق لفرض كون هذا الجزء عبادة.

وعلى أ يّة حال فلو فُرض عمل مركّب من أجزاء مشروطة بالقربة وجزء غير مشروط بها ـ سواءً سمّينا مجموع هذا العمل بالعبادة أو لا ـ لم يكن النهي عن هذا الجزء مستلزماً لبطلانه إلاّ بناءً على بعض تلك الملاكات التي عرفت أنّها تتأتّى في التوصّليّات أيضاً.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو النهي المتعلّق بشرط العبادة ـ: فالفرق بينه وبين الجزء أنّ جزء العبادة دائماً عبادة بخلاف شرط العبادة. فنقول هنا: إنّه إن كان الشرط عباديّاً بطل بالنهي وبطل المشروط؛ لانتفاء شرطه(2).


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 397 ـ 399 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع فوائد الاُصول، الجزء الأوّل والثاني، ص 465 ـ 466 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) نعم، لو كان شرطاً لجزء متأخّر وأمكن تداركه قبل فوات محلّ ذات الجزء أمكن تصحيح العبادة بتدارك ذاك الشرط.

518

وإن لم يكن عباديّاً فالحقّ ـ كما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) ـ عدم بطلانه وعدم بطلان أصل العبادة إلاّ على ما بيّنّاه لك في التنبيه الثاني من تأتّي الملاك الثالث والرابع في التوصّليّات، فعلى هذين الملاكين يثبت أيضاً بطلان الشرط وبطلان مشروطه بانتفاء شرطه بخلاف سائر الملاكات.

وأمّا ما أفاده السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في هذا المقام من أنّه يكون داخلا في قاعدة امتناع اجتماع الأمر والنهي(2)، فليس بشيء، فإنّه إنّما يصحّ بناءً على أنّ الأمر المتعلّق بالمشروط ينبسط على الشرط، وأمّا على ما هو المختار عندنا وعنده من أنّه إنّما ينبسط على التقيّد لا على طرف التقيّد، فلا يتأتّى إشكال اجتماع الأمر والنهي، سواءً قلنا بالامتناع من ناحية اتّحاد متعلّق الأمر والنهي، أم قلنا به من ناحية استلزام الأمر للترخيص في التطبيق في جميع الأفراد: أمّا على الأوّل فواضح، فإنّ متعلّق الأمر هو التقيّد ومتعلّق النهي هو طرف التقيّد فلم يتّحدا. وأمّا على الثاني فلأنّ الأمر إنّما استلزم الترخيص في التطبيق على الفرد المقارن لطرف التقيّد الحرام، والترخيص في مقارن الحرام لا يستلزم الترخيص فيه.

وأمّا القسم الثالث والرابع ـ وهو النهي المتعلّق بوصف العبادة الملازم أو غير الملازم ـ: فقد فصّل المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بينهما بأنّ ما يكون ملازماً ـ كالجهر


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 292 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع المحاضرات، ج 5، ص 23 ـ 24 بحسب الطبعة التي نشرها دار الهادي للمطبوعات في قم، وراجع أيضاً أجود التقريرات، ج 1، ص 399، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله). وليس خطأ السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في تخيّل انبساط الأمر على الشرط، بل خطأُه في تخيّل سريان النهي إلى الحصّة أو إلى مصداق من مصاديق التحصّص بذاك الشرط.

519

والإخفات ـ يكون النهي عنه مساوقاً للنهي عن نفس العبادة فتبطل، وما لا يكون ملازماً فليس النهي عنه مساوقاً للنهي عن العبادة إلاّ إذا اتّحد معها وجوداً، فيدخل في كبرى امتناع اجتماع الأمر والنهي(1).

أقول: لم يُعلم وجه فنّيّ للفرق بين الوصف الملازم وغيره، فإنّ عين ما ذكره في غير الملازم يتأتّى في الملازم فنقول: إذا اتّحد الوصف والموصوف وجوداً دخل في كبرى امتناع اجتماع الأمر والنهي، فإن قلنا بتقدّم النهي كان داخلا تحت قاعدة اقتضاء النهي للفساد في العبادة، وأمّا إذا لم يتّحدا كانت العبادة مأموراً بها وصحيحة، فإنّه ليس النهي عن الملازم مستلزماً للنهي عمّا يستلزمه.

نعم، إذا فُرضت الملازمة من كلا الطرفين أو من جانب الأمر، أعني: إنّه كان الوصف ممّا لا ينفكّ عنه العبادة، فلا يجتمع النهي عنه مع الأمر بالعبادة، فلا يحكم بصحّة العبادة عندئذ لا لما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من تعلّق النهي بها، بل لعدم الأمر بها وعدم وجود كاشف عن المصلحة، فيتمّ هنا الملاك الثالث للبطلان، وأمّا في مثل الجهر أو الإخفات الذي تكون الملازمة فيه من جانب النهي فقط فلا يستلزم النهي عنه عدم الأمر بالعبادة، فإنّ المكلّف قادر على امتثال كليهما معاً، بأن يصلّي ويجتنب عمّا نُهي عنه من الجهر أو الإخفات.

وأمّا المقام الثاني: فنقول: إنّ النهي المتعلّق بجزء أو شرط أو بفرد من أفراد جزء أو شرط إن كان في مورد توهّم الجزئيّة أو الشرطيّة، كَأن ينهى عن الفاتحة أو الوضوء بالنسبة لصلاة الميّت، أو في موارد توهّم تعيّن ذلك الفرد كَأن ينهى عن القراءة الجهريّة في فرض توهّم تعيّنها، كان ذلك إرشاداً إلى عدم الجزئيّة أو الشرطيّة أو عدم تعيّن ذلك الفرد، لا نهياً مولويّاً، وإلاّ كان إرشاداً إلى المانعيّة ولم


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 293 بحسب الطبعة التي سبق ذكرها.

520

يكن أيضاً نهياً مولويّاً. وكذلك إن تعلّق النهي بوصف العبادة أو وصف جزء العبادة يكون إرشاداً إلى عدم الجزئيّة أو الشرطيّة في مورد توهّم الجزئيّة أو الشرطيّة، أو إلى المانعيّة في مورد عدم توهّم ذلك.

هذا كلّه ما هو مقتضى الظهور العرفيّ لطبع الكلام، وربما توجد في كلام خاصّ نكتة خاصّة توجب ظهور الكلام في خلاف ذلك.

هذا كلّه حال ما هو ظاهر دليل النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف.

وأمّا النهي المتعلّق بأصل العبادة فلنتكلّم في أنّه ظاهر في أيّ قسم من الأقسام الخمسة التي ذكرناها للنهي؟ فنقول: إنّ القسم الأوّل يكون خلاف الظاهر؛ لما مضى في محلّه من أنّ ظاهر النهي هو النفسيّة لا الغيريّة، والقسم الرابع أيضاً خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهر النهي عن شيء هو ثبوت المفسدة في ذلك الشيء لا ثبوت الملاك في نفس النهي، والقسم الخامس أيضاً خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهر النهي ثبوت ملاكه في متعلّقه لا ثبوت الملاك في العنوان الثانويّ الناشئ من نفس النهي، نعم، القسم الثاني والثالث كلاهما غير مخالف لظاهر النهي فأمره يدور بينهما. هذا حاله بالنسبة للأقسام الخمسة.

وأمّا بالنسبة لظهوره في المولويّة، فإذا احتمل كونه إرشاداً إلى عدم تشريع هذه العبادة فليس ظاهراً في المولويّة، بل ظاهر في الإرشاد أو مجمل، وإلاّ كان نهياً مولويّاً دالاّ على الحرمة الذاتيّة(1). هذا تمام الكلام في النهي في العبادات.

 


(1) ومن هذا القبيل كلّ ما كان متعلّقاً بغير عنوان العبادة، كالنهي عن الغصب.

521

النواهي

الفصل الرابع

 

 

النهي في المعاملات

 

○ هل الحرمة تستلزم الفساد عقلاً؟

○ هل النهي عن المعاملة مولويّ أو إرشاديّ؟

○ النهي إذا كان متعلّقاً بأثر المعاملة.

○ تنبيهان.

 

523

 

 

 

 

 

 

وهنا مقامان: أحدهما: أنّ الحرمة المولويّة هل تستلزم الفساد عقلا أو لا؟ الثاني: أنّه إذا ورد نهي متعلّق بالمعاملة فهل يستفاد منه الحرمة المولويّة، فيدلّ على الفساد لو قلنا بأنّ الحرمة المولويّة تستلزم الفساد، أو يكون ظاهره الإرشاد إلى شيء، فيتّبع المرشد إليه؟

 

هل الحرمة تستلزم الفساد عقلاً؟

أمّا المقام الأوّل: فنقول: إنّ النهي تارةً يتعلّق بالسبب، أعني: نفس إجراء الصيغة بقولنا مثلا: (بعت). واُخرى يتعلّق بالمسبَّب، أعني: الملكيّة المترتّبة على ذلك بحكم الشارع.

فإن تعلّق بالسبب فلا إشكال في عدم اقتضائه للفساد، سواءً كان تعلّقه به بعنوانه المعامليّ أو بعنوان كلّيّ ينطبق عليه، كأن ينهى عن الاشتغال في وقت النداء، فإنّ الوجوه المذكورة لاقتضائه للفساد إذا تعلّق بالمسبّب ـ لو تمّت ـ لا تجري في فرض تعلّقه بالسبب، كما يظهر ذلك من ملاحظة تلك الوجوه.

وإن تعلّق بالمسبَّب فذهب من المحقّقين المتأخّرين المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى اقتضائه للفساد، وخالفه في ذلك المحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ وغيرهما من المحقّقين.

ويمكن الاستدلال على اقتضائه للفساد ـ بعد تصحيح تعلّق النهي بالمسبَّب بأنّ

524

الملكيّة وإن كانت مجعولة من قِبَل الشارع لكنّها مستندة أيضاً بنحو القدرة والاختيار إلى هذا المكلّف؛ لقدرته على سببها ـ بوجهين:

الأوّل: ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) ـ على ما في التقريرات ـ وهو أنّه تشترط في صحّة المعاملة اُمور ثلاثة: الأوّل: كون كلّ من المتعاملين مالكين للعين أو بحكم المالك كالوكيل والوليّ. الثاني: أن تكون لهما السلطنة الفعليّة على التصرّف فيه ولا يكونا من محجوري التصرّف من قِبَل الشارع. الثالث: أن يكون إيجاد المعاملة بما يكون جامعاً للشرائط من قبيل الماضويّة والعربيّة ـ مثلا ـ بناءً على اشتراطهما. وإذا تعلّق النهي بالمسبَّب انتفى الشرط الثاني، فإنّه حجرٌ له من جانب الشارع عن التصرّف فتبطل المعاملة(1). وقد أفاد(رحمه الله) سنخ هذا الكلام أيضاً في مسألة فساد الإجارة على الواجبات.

ويرد عليه: أنّه إن كان مراده من اشتراط السلطنة الفعليّة: السلطنة التكليفيّة، بأن يكون هذا المسبَّب جائزاً له شرعاً ولا يكون حراماً، فاشتراطها أوّل الكلام ويكون مصادرة على المطلوب، وإن كان اشتراطها معقولا ثبوتاً؛ لأنّها منتزعة عن عالم التكليف ولا استحالة في أخذها موضوعاً للحكم في عالم الوضع.

وإن كان مراده: السلطنة الوضعيّة فلا معنى لكون السلطنة الوضعيّة مأخوذة في انتقال الملكيّة إلى المشتري مثلا، فإنّ هذه السلطنة أمر ينتزعه العقل من نفس جعل الشارع اعتبار ملكيّة المشتري لدى بيع العين إيّاه، أي: جعله اعتبار الملكيّة له على تقدير إجراء الصيغة ـ مثلا ـ بعد فرض قدرة المكلّف تكويناً على تحقيق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 404 ـ 405 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول ج 1 و 2، ص 471 ـ 472 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

525

ذاك التقدير، فهذه السلطنة تكون في طول اعتبار الشارع، فلا يُعقل كونها شرطاً له وإلاّ لكان ذاك الاعتبار في طوله.

الثاني: أنّه لو لم يقتض النهي الفساد فمعنى ذلك ترتّب الملكيّة شرعاً على المعاملة الفلانيّة مع فرض الحرمة، ومن الواضح أنّ هذه الملكيّة فعلٌ للشارع، فإنّها أمر اعتباريّ اعتبرها الشارع، وإن صحّ استنادها إلى العبد أيضاً بنوع من الاستناد من ناحية أنّها مسببّة توليديّة من أمر مقدور للمكلّف وهو الصيغة مثلا، ولهذا صحّ تعلّق النهي بها.

وبعد فرض كونها فعلا للشارع يتّضح أنّ النهي لا يجتمع مع فرض الصحّة؛ لأنّ النهي كاشف عن المبغوضيّة، والشيء الذي يكون مبغوضاً لا يفعله المولى، فيثبت أنّ المولى لا يوجد هذه الملكيّة ولا يعتبرها، ولا نعني بالفساد إلاّ هذا.

ولا يقاس ذلك بالاُمور التكوينيّة، حيث إنّ المعصية مبغوضة للمولى والمولى قادر على منع العبد من المعصية تكويناً، بأن لا يهيّئ له المعدّات أو يوجد المانع عن تحقّقها.

فإنّ هذا قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ المعصية ليست فعلا للمولى وإنّما هي فعل للعبد، فيبقى الكلام في أنّها وإن كانت فعلا للعبد لكنّ المولى مع فرض قدرته على تعجيز العبد تكويناً عنها لماذا لا يفعل ذلك؟ فيجاب عن ذلك ـ مثلا ـ بأنّ في نفس التعجيز مفسدة غالبة، أو بغير ذلك(1).

وأمّا فيما نحن فيه فالملكيّة فعل لنفس المولى وإن كانت مسبّبة توليديّة للعبد أيضاً، ومن الواضح أنّه لا يعقل أن يفعل المولى ما هو مبغوض له، وهذا البيان


(1) كأن نقول: إنّ في إقدار العبد على المعصية مصلحة مهمّة، كمصلحة الامتحان أو مصلحة الترويض والتربية.

526

ـ كما ترى ـ لا يتأتّى في التكوينيّات؛ فإنّ المعصية لم تكن فعلا للمولى حتّى يقال: إنّه لا يُعقل أن يفعل المولى ما هو مبغوض له.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كون النهي عن المسبّب مفسداً للمعاملة بمعنى كون الحرمة المولويّة مستلزمة عقلا للفساد.

والجواب عنه هو: أنّه يمكن كون مركز المصلحة غير مركز المفسدة بحيث لا تقع المزاحمة بينهما؛ وذلك بأحد وجوه:

منها: أن تكون المصلحة في الجعل والمفسدة في تحقّق الملكيّة خارجاً، فالمصلحة تقتضي الجعل والاعتبار الذي هو فعلٌ للمولى، والمفسدة تقتضي النهي للعبد عن هذه الملكيّة، ونفرض المصلحة أهمّ حتّى لا تصلح المفسدة لمزاحمتها، فيصدر من المولى الجعل لمصلحة خالية عن المزاحم.

والمراد بأهمّيّة المصلحة ما يعمّ كون حصول المصلحة بالجعل قطعيّاً وحصول المفسدة غير قطعيّ، فلوحظ جانب المصلحة مع أنّها في نفسها مساوية للمفسدة مثلا، وهذه المصلحة أيضاً لا تزاحم المفسدة بأن تمنع المولى عن النهي؛ لأنّ من الممكن الجمع بين التحفّظ على المصلحة والتحرّز عن المفسدة، وذلك بأن يجعل الحكم على نحو القضيّة الحقيقيّة فتحصل المصلحة، وينهى العبد عن إيجاد الملكيّة خارجاً تحرّزاً عن المفسدة، فإن أطاع العبد فقد حصلت المصلحة مع عدم الابتلاء بالمفسدة، وإلاّ فقد حصل الابتلاء بالمفسدة لكنّها مفسدة مغلوبة في جانب المصلحة.

ومنها: أن تكون المصلحة فيما هو فعلٌ للمولى ولو فُرضت في نفس الملكيّة الخارجيّة ـ بناءً على التغاير بين الجعل والمجعول حتّى في هذه الاُمور الاعتباريّة الوضيعة ـ لا في إطلاق جعلها على نحو القضيّة الحقيقيّة، كما هو المفروض في الوجه الأوّل، وتكون المفسدة في الإضافة التي هي معنى حرفيّ الحاصلة بين

527

العبد وهذه الملكيّة، وبما أنّ هذه الإضافة ليست في نظر العرف عنواناً مستقلاّ يتعلّق بها النهي جعل المولى النهي متعلّقاً بنفس الملكيّة.

وهذه الإضافة ليست فعلا للمولى حتّى يقال: إنّه كيف فعل المولى ما هو مبغوض له؟ نعم، يكون المولى متمكّناً من تعجيز العبد عن إيجاده لهذه الإضافة بعدم جعله لتلك الملكيّة أو بشيء آخر، لكنّه لا يلزم عليه هذا التعجيز كما لم يلزم عليه التعجيز عن المعصية التي هي مبغوضة له بلا إشكال.

ومنها: أن يفترض أنّ في تحقيق الملكيّة خارجاً على تقدير إيجاد العبد لسببها مصلحة غالبة على المفسدة، ويفترض كون إيجاد العبد للسبب من شروط اتّصاف الملكيّة بالمصلحة ـ كالاستطاعة التي هي من شروط اتّصاف الحجّ بالملاك ـ لا من شروط تحقّق الملاك، كالطهارة التي هي من شروط تحصيل الملاك بالصلاة. وعليه فلا المفسدة تصلح مزاحمة للجري على المصلحة بإمضاء المسبّب، ولا المصلحة تصلح مزاحمة للجري على طبق المفسدة بتحريم المسبّب:

أمّا عدم مزاحمة المفسدة للجري على طبق المصلحة فلأنّ المفروض كونها أضعف من المصلحة فكيف تزاحمها؟

وأمّا عدم مزاحمة المصلحة للجري على طبق المفسدة فلأنّ الجري على طبق المفسدة ليس إلاّ عبارة عن النهي عن المعاملة، ونهيه عنها لو أثّر فإنّما أثره انتهاء العبد عن تلك المعاملة، وهذا لا يقتضي إلاّ انتفاء موضوع المصلحة، من قبيل عدم الاستطاعة الموجب لعدم المصلحة في الحجّ، لا تفويت المصلحة، من قبيل ترك الوضوء الموجب لعدم درك مصلحة الصلاة، فإذا لم يكن الجري على طبق المفسدة مضرّاً بحال المصلحة فلا وجه لكون المصلحة مزاحمة له.

والخلاصة: أنّ مركز المصلحة التي تتحقّق بالإمضاء هو تحقّق الملكيّة معلّقاً على إقدام العبد على ذلك، ومركز المفسدة الموجبة للنهي هو ذات الملكيّة. وإن

528

شئت فعبّر بأنّ ما تعلّق به الغرض من إمضاء المعاملة هو سدّ العدم من ناحية المولى، وما تعلّق به الغرض من التحريم هو سدّ العدم من ناحية العبد(1).

 

 


(1) ومنها: أنّ المسبّب في المعاملات يكون له عادة وجودان: وجودٌ في صفحة الاعتبارات العقلائيّة، ووجودٌ في صفحة الشريعة. فالبيع ـ مثلا ـ يحقّق الانتقال في صفحة اعتبارات العقلاء وفي صفحة التشريع، فنفترض أنّ المولى كان يبغض صِرف وجود الجامع بينهما ولكن لو تحقّق الوجود في صفحة الاعتبارات العقلائيّة فقد تحقّق المبغوض، ولا مانع لديه عندئذ من وجود المسبّب في صفحة الشريعة، ولذا حرّم تحقيق المسبّب ولكنّه أمضى وجود المسبّب في صفحة الشريعة على تقدير وجوده بفعل العبد في صفحة الاعتبار العقلائيّ. راجع مباحث الدليل اللفظيّ للسيّد الهاشميّ، ج 3، ص 127 ـ 128.

529

هل النهي عن المعاملة مولويّ أو إرشاديّ؟

وأمّا المقام الثاني: فنقول: إذا تعلّق النهي بالسبب أو المسبّب بعنوانه المعامليّ لا بعنوان عامّ منطبق عليه لا يبعد إجماله ـ على الأقلّ ـ وعدم ظهوره في الحرمة المولويّة، من ناحية أنّ المتعارف في القوانين العقلائيّة والمترقّب من الشارع هو أن يكون النهي في المعاملة من باب الإرشاد إلى الفساد لا نهياً تحريميّاً مولويّاً.

وعلى أيّ حال فمهما كان النهي ظاهراً في الحرمة المولويّة رجعنا في استلزامها للفساد وعدمه إلى ما مضى في بحث المقام الأوّل، فإن قلنا باستلزامها له فلا إشكال في الفساد. وإن لم نقل باستلزامها له: فإن كان دليل صحّة تلك المعاملة عبارة عن عموم أو إطلاق التزمنا بالصحّة بذلك الدليل وبالحرمة بدليل النهي.

وإن كان دليلها عبارة عن السيرة فإن لم نحتمل كون حرمته شائعة في زمان الأئمّة فلا بأس بإثبات الصحّة بالتمسّك بالسيرة ولا تنافيها الحرمة على الفرض؛ وإلاّ لم يصحّ إثبات الصحّة بذلك؛ لأنّ السيرة العقلائيّة إنّما تتّبع لو كانت شائعة في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الإمام(عليه السلام) عند التابعين له بمرأى منه ومسمع، بحيث كان ذلك على فرض بطلان المعاملة موجباً للردع الشديد الشائع الذي لو كان لكان يصل إلينا ولو بخبر ضعيف، وفي ذلك العصر لم يكن تبقى سيرتهم مع فرض تحريم من هذا القبيل، وإذن فالمرجع أصالة الفساد سواءً علمنا بشيوع الحرمة في ذلك الزمان أو شككنا في ذلك واحتملناه.

نعم، لو صحّ جريان الاستصحاب في احتمال النسخ جرى استصحاب الحكم الممضى في أوّل الشريعة.

هذا كلّه لو كان النهي ظاهراً في الحرمة المولويّة.

ومهما كان ظاهراً في الإرشاد إلى الفساد فلا إشكال في الفساد.

530

ومهما كان مجملا بين الحرمة المولويّة والفساد فعندئذ:

إن قلنا بأنّ الحرمة المولويّة تقتضي الفساد فالفساد يتحقّق على كلا التقديرين، والحرمة مشكوكة فتجري البراءة عنها.

وإن قلنا بأنّ الحرمة المولويّة لا تقتضي الفساد فعندئذ:

إن كان الدليل الدالّ على صحّة تلك المعاملة عبارة عن إطلاق أو عموم فاحتمال الفساد منفيّ بذلك وتتعيّن الحرمة، فالعلم الإجماليّ بأحدهما انحلّ ببركة ذلك العموم أو الإطلاق.

وإن كان الدليل الدالّ على صحّتها هوالسيرة العقلائيّة الثابت إمضاؤها بعدم الردع فمجرّد احتمال الردع عنها بالنهي كاف في عدم إمكان التمسّك بالسيرة، حتّى مع فرض عدم شيوع هذا النهي واشتهاره في زمانهم(عليهم السلام). وحلّ العلم الإجماليّ يكون بالرجوع في جانب الفساد إلى أصالة الفساد، فينحلّ العلم الإجماليّ بالأصل المثبت لأحد طرفي العلم ونرجع في جانب الحرمة إلى البراءة.

وأمّا إذا تعلّق النهي لا بعنوان المعاملة بل بعنوان كلّيّ ينطبق عليها فلا إشكال في دلالته على الحرمة المولويّة، وليس فيه احتمال الإرشاد إلى الفساد؛ لعدم تعلّقه بعنوان المعاملة التي يترقّب كون النهي فيها إرشاداً إلى الفساد كما هو واضح.

وعندئذ فإن قلنا في المقام الأوّل باستلزام الحرمة المولويّة للفساد فلا إشكال في الفساد، وإلاّ فإن كان دليل صحّة هذه المعاملة العموم أو الإطلاق اللفظيّ فالحكم هو الصحّة مع الحرمة، وكذا إن كان دليل الصحّة هو السيرة مع فرض عدم كون انطباق ذلك العنوان الكلّيّ على هذه المعاملة واضحاً، بحيث يوجب وضوح حرمة تلك المعاملة في تلك العصور المانع عن انعقاد السيرة المقتضية ـ على فرض البطلان ـ لردع واصل. وأمّا مع فرض عدم وضوح انطباقه عليها وعدم وضوح الحرمة في تلك العصور فتثبت صحّة المعاملة بالسيرة وحرمتها بالنهي.

هذا تمام الكلام في النهي المتعلّق بالسبب أو المسبّب.

 

531

النهي إذا كان متعلّقاً بأثر المعاملة:

بقي الكلام فيما إذا كان النهي متعلّقاً بالأثر كالنهي عن أكل ثمن العذرة مثلا، فدلالته على الفساد إنّما تكون بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يكون النهي عنه عرفاً مستلزماً لفساد المعاملة، ولا يبعد ذلك في مثل فرض تعلّق النهي بأكل الثمن الذي هو عمدة أفراد الأثر.

الثاني: أن يكون النهي عنه مستلزماً لفساد المعاملة عقلا، وذلك بأحد وجهين:

الأوّل: أن يكون النهي متعلّقاً بتمام الأثر فيلغو عندئذ إمضاء أصل المعاملة، أو يكون متعلّقاً بجُلّ الآثار بحيث فُرض أنّ الباقي غير مقتض لجعل اعتبار المعاملة.

الثاني: أن يبنى على أنّ الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة كما ذهب إليه الشيخ الأعظم(رحمه الله)؛ فإنّه من الواضح على هذا المبنى أنّه لا يعقل تصحيح المعاملة مع تحريم الآثار.

الثالث: أن يبنى على أنّه مهما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص كما لو قال المولى: (أكرم العلماء)، وقال: (لا تكرم زيداً)، ولم نعلم أنّه عالم أو لا؟ يقدّم التخصّص على التخصيص فيحكم بعدم كونه عالماً. وعليه فبما أنّه لو قيل بصحّة المعاملة مع حرمة الأثر كان ذلك تخصيصاً لما دلّ على أنّه مهما صحّت تلك المعاملة حلّ أثرها، ولو قيل ببطلانها كانت حرمة ذلك الأثر من باب التخصّص لا التخصيص، فلأجل تقدّم التخصّص على التخصيص يحكم بفساد هذه المعاملة.

هذا إذا لم يكن هنا عموم أو إطلاق دالّ على صحّتها، وإلاّ وقع التعارض بين ذاك العموم أو الإطلاق وبين العموم أو الإطلاق لدليل كون صحّة المعاملة محلّلة للآثار، فإن تقدّم أحدهما بالأقوائيّة ـ مثلا ـ كانت النتيجة وفق ما تقدّم، وإن تعارضا وتساقطا رجعنا إلى أصالة الفساد.

 

532

تنبيهان:

 

هل النهي يدلّ على الصحّة؟

التنبيه الأوّل: أنّ أبا حنيفة ذهب إلى أنّ النهي يدلّ على الصحّة. ونحن نوقع الكلام تارة في النهي عن العبادة، واُخرى في النهي عن المعاملة:

أمّا النهي عن العبادة فهنا نقصر النظر على ما مضى من الملاك الأوّل من ملاكات البطلان، وهو: أنّ تعلّق النهي بالعبادة يوجب المبعّديّة ومعه لا يمكن التقرّب بها، فنقول:

لا شكّ في أنّ تعلّق النهي بالعبادة المقرّبة بالفعل مستحيل؛ لاستلزامه لمبعّديّة ما هو مقرّب، فلا يتعلّق النهي بذلك حتّى يقال: إنّه يدلّ على الصحّة أو لا يدلّ، وأمّا تعلّقه بالعبادة بمعنى ما يكون مقرّباً لولا النهي فهذا معقول، ولكنّه لا يدلّ على الصحّة.

وأمّا النهي عن المعاملة فإنّما يدلّ على الصحّة لو فُرض تعلّقه بالمسبّب، أعني: خصوص الملكيّة الشرعيّة لا الأعمّ من الشرعيّة والعقلائيّة، ووجه دلالته على الصحّة في هذا الفرض: أنّه مع فرض فساد المعاملة لا يكون المكلّف قادراً على إيجاد المسبّب، ومن المعلوم أنّ متعلّق النهي لابدّ أن يكون مقدوراً.

وقد يجاب عن ذلك بأنّه يكفي كون متعلّقه ـ وهو إيجاد المسبّب ـ مقدوراً لولا النهي، ولا يلزم كونه مقدوراً حتّى مع فرض النهي.

إلاّ أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ فإنّ الأمر بالعكس، أعني: أنّه يشترط في متعلّق النهي القدرة بعد النهي وفي وقت الامتثال أو العصيان، ولا أثر للقدرة قبل النهي أصلا، فلو فُرض كون تعلّق النهي بأمر داخل تحت القدرة موجباً لخروجه عنها

533

فمن المعلوم أنّ هذا زجر عن المحال وهو غير صحيح. ولو فُرض كون تعلّق النهيبأمر يعجز عنه المكلّف لشلل في يده ـ مثلا ـ رافعاً للعجز والشلل فمن المعلوم صحّة هذا النهي؛ لعدم كونه زجراً عن المحال.

كما أنّه لا يصحّ الجواب أيضاً عن ذلك بأنّ المسبّب ـ الذي هو أمر بسيط ـ لا يتّصف بالصحّة والفساد وإنّما هو موجود أو معدوم. ولا أدري أنّ المُورد لهذا الإشكال لماذا لم يورده على من قال بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الفساد، وأورده على من قال بدلالته على الصحّة، مع أنّه لو تمّ لكان مشترك الورود؟ وعلى أيّ حال فهذا الإشكال غير وارد؛ لأنّ المراد بدلالة النهي المتعلّق بالمسبّب على الصحّة أو على البطلان: دلالته على صحّة السبب أو بطلانه، لا على صحّة نفس المسبّب أو بطلانه، هذا.

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّه تارةً يُفرض هذا الكلام ـ أعني: تقريب القول بدلالة النهي عن المسبّب على الصحّة ـ في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يقتضي الفساد، واُخرى يُفرض أنّه بعد الفراغ عن إبطال دليل القائل باقتضائه للفساد يستدلّ بهذا الكلام على دلالته على الصحّة:

فإن فُرض ذلك في مقام الردّ على من قال بأنّ النهي المتعلّق بالمسبّب يوجب الفساد، لم يكن صحيحاً، فإنّه لو تمّ دليل القائل باستحالة الصحّة مع فرض تعلّق النهي لابدّ أن يقال بأنّه لا يتعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة؛ لاستحالته، بل يتعلّق بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء والعرف بما هم كذلك مع قطع النظر عن الشرع، فلو كان ظاهر الدليل تعلّق النهي بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلابدّ من تأويله.

وإن فُرض ذلك في مقام إثبات دلالته على الصحّة بعد فرض إبطال دليل القول باستلزامه للفساد، فتحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال: إنّه إذا تعلّق النهي بما يعمّ الملكيّة الثابتة باعتبار العقلاء لم يدلّ على الصحّة. وإذا تعلّق بخصوص الملكيّة الشرعيّة فلا محالة يدلّ على الصحّة، حيث إنّ المفروض كونه تحريميّاً