632

الفحص، إلاّ أنّه ليس الأمر هنا دائراً بين الوجوب والحرمة؛ لاحتمال الاباحة مثلا، فهو لم يعلم بإلزام واقعي، لكنّه علم بتنجّز شيء عليه، ولا يدري ما هو، ولا يمكنه أن يفعل شيئاً أزيد من العمل بأحدهما، فالنتيجة هنا نتيجة التخيير(1).

ثمّ إنّ ما ذكرناه يثمر ـ أيضاً ـ في باب التقليد إذا تعارض فتوى الأعلم وغير الأعلم وبنينا على وجود دليل على عدم التساقط المطلق، فالمشهور قالوا بأصالة تعيين الأعلم؛ لأنّ قوله حجّة يقيناً، وقول غير الأعلم لم نعلم حجّيّته، فمقتضى الأصل عدم الحجّية.

ونحن نقول قد يكون مقتضى القاعدة التخيير، كما لو أفتى الأعلم بوجوب شيء وغير الأعلم بالاباحة، فمؤونة الحجّيّة التعيينيّة أزيد من مؤونة الحجّيّة التخييرية، فترفع بالبراءة على ما عرفت توضيحه في الخبرين.

نعم، يبطل التخيير في ثلاثة فروض:

1 ـ لو قام الدليل الاجتهادي على تعيين الأعلم.

2 ـ لو لم ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في حقّ العامي، فلو كان يعلم بمأة تكليف إلزامي مثلا، وكان الأعلم وغيره متّفقين على مائة فتوىً إلزامية، فقد انحلّ العلم الإجمالي بذلك؛ لحجّيّة فتواهما لدى عدم التعارض، وفي غير هذه الصورة لا ينحلّ العلم الإجمالي، فيضطرّ العامي إلى الاحتياط، إلاّ إذا كان الأعلم هو الذي يفتي بالإباحة.

3 ـ لو لم يكن غير الأعلم يفتي بالاباحة، والأعلم بالإلزام، بل كان كلاهما يفتيان بإلزامين متخالفين، أي: إنّ أحدهما يفتي بالوجوب والآخر بالحرمة، فعندئذ يضطرّ إلى الأخذ بقول الأعلم.

وأما لو أفتى الأعلم بالاباحة وغيره بالإلزام، وكان قد انحلّ العلم الإجمالي الكبير، فالإلزام غير منجّز عليه، كما مضى شرحه في الخبرين المتعارضين.

 

إمكان نفي حكم ثالث مناف لمفاد الخبرين المتعارضين وعدمه:

بقي الكلام في أنّه لو ذهبنا إلى ما ذهب إليه المشهور من التساقط، فهل يمكن نفي الثالث بهما أو لا؟


(1) نعم، لو فرض أنّ الخبرين المتعارضين لم يكونا من سنخ ما يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة، بل كانا من سنخ ما يدلّ أحدهما على وجوب الظهر مثلا والآخر على وجوب الجمعة مع العلم بكذب أحدهما، وكان من الممكن العمل بهما معاً، فاحتمال التعيين في كلّ واحد منهما يوجب الاحتياط بالعمل بهما معاً.

633

فنحن قد اثبتنا نفي الثالث في ما سبق على أساس إثبات حجّيّة كلّ منهما بشرط كذب الآخر، ونحن نعلم إجمالا بتحقّق الشرط في أحدهما، فنعلم إجمالا بحجّيّة أحدهما، فننفي به الثالث، ولكن لو بنينا على بطلان التخيير بوجوهه السبعة وقلنا بالتساقط كما قال به المشهور، فعندئذ هل يمكن نفي الثالث أولا؟

قد يقال: نعم، بالإمكان أن ننفي الثالث؛ وذلك لأنّ كلاًّ من خبر الوجوب وخبر الاباحة مثلا يدلّ بالدلالة الالتزامية على نفي الحرمة، وهذه الدلالة الالتزامية لا معارض لها، فلا وجه لسقوطها، فننفي بهما الحرمة.

والدلالة الالتزامية وإن كانت في طول الدلالة المطابقية لكنّ هذه الطولية عبارة عن الطولية في الوجود، أي: لولا الدلالة المطابقية لما وجدت الدلالة الالتزامية، والدلالة المطابقية موجودة في المقام وإن سقطت عن الحجية، فالدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ موجودة، إذن فالمقتضي للحجّية موجود، والمانع مفقود.

أمّا وجود المقتضي فلأنّ الدلالة الالتزامية موجودة بوجود الدلالة المطابقية، فيشملها إطلاق دليل الحجّيّة. وأما عدم المانع، فلأنّ هذه الدلالة الالتزامية لا معارض لها.

والتحقيق: أنّ هذه المسألة قد تطرح بعدّة أنحاء:

الطرح الأوّل: أنّ الدلالة الالتزامية لا إشكال في تبعيّتها للدلالة المطابقية في الوجود، وهل هي تابعة لها في الحجّيّة أيضاً، أو لا؟ هذا يرجع إلى الاستظهار العرفي من دليل الحجّيّة، فلو استظهرنا من دليل الحجّيّة سواء فرضناها سيرة أو دليلا لفظياً أنّ حجّيّة الدلالة المطابقية مع حجّيّة الدلالة الالتزامية حجّيتان عرضيّتان، وفردان يشملهما إطلاق دليل الحجّية في عرض واحد، فسقوط الاُولى لا يستوجب سقوط الثانية، ولو استظهرنا أنّهما فردان طوليان فبسقوط الاُولى تسقط الثانية، فمن يقول بحجّيّة الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية يستظهر العرضية، ومن يقول بعدم الحجّيّة يستظهر الطولية.

الطرح الثاني: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(1) وهو لو تمّ يحكم على الطرح الأوّل، وهو أنّ الدلالة الالتزامية ساقطة عن الحجّيّة لا لتبعيّتها في الحجّيّة للدلالة المطابقية حتّى يقال: إنّهما حجّيتان عرضيّتان، بل لأنّها ـ أيضاً ـ مبتلاة بالمعارض، فتسقط كما سقطت الدلالة المطابقية؛ وذلك لأنّ المدلول الالتزامي للوجوب ليس هو مطلق عدم


(1) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 370.

634

الحرمة المنسجم مع الإباحة، وإنّما مدلوله عدم الحرمة الملائم والمقارن مع الوجوب، أي: إن مدلوله الالتزامي حصّة خاصّة من عدم الحرمة، وهذا العدم لا يجتمع مع الإباحة، فالدلالة الالتزامية لخبر الوجوب تعارضها الدلالة المطابقية لخبر الإباحة، وكذا العكس، فالدلالة الالتزامية ـ أيضاً ـ تسقط عن الحجّية.

نعم، لو كنّا نقول بالتفكيك بين الأجزاء التحليلية لدلالة واحدة، أمكن أن يقال: إنّ الدلالة الالتزامية كما دلّت على حصّة خاصّة من عدم الحرمة كذلك دلّت ضمناًعلى جامع عدم الحرمة؛ لوجود الجامع في ضمن الحصّة، وقد سقطت دلالتها على الحصّة بالتعارض، وبقيت دلالتها على جامع العدم حجّة، لكنّ هذا طبعاً غير صحيح.

أقول: إنّ هذا الطرح للبحث غير صحيح؛ وذلك لأنّ عدم الحرمة المستفاد من دليل الوجوب وإن كان على تقدير ثبوت الوجوب كما هو مفاد دليل الوجوب مقارناً مع الوجوب، لكنّ دليل شيء يلازم شيئاً آخر إنّما يدلّ على ذات المقارن، لا على المقارن بقيد التقارن. نعم ينتزع من ثبوت كلّ من المفاد المطابقي والمفاد الالتزامي تقارنهما، فأصل دليل الوجوب يدلّ على عدم الحرمة بقانون استحالة اجتماع الضدين، وثبوت الوجوب مع ثبوت عدم الحرمة، يدلّ على عنوان التقارن بقانون تحقّق العنوان الانتزاعي عند ثبوت منشأ الانتزاع، فالمقام ليس من قبيل دلالة دليل الأمر بشيء على الوجوب الغيري لمقدّمته، حيث إنّ وجوب شيء له حصّتان: إحداهما وجوب غيري، والاُخرى وجوب نفسي، والأمر بشيء إنما يدلّ على ثبوت الحصّة الاُولى من الوجوب لمقدّمته، لا جامع الوجوب.

الطرح الثالث: ما لو تمّ لحكم على الطرح الأوّل أيضاً، ويمكن عدّه تعميقاً للطرح الثاني، فلعلّ بيان السيد الاُستاذ كان تعبيراً عرفياً عن هذا الطرح، وهو أن يقال في كلّ دلالة التزامية ـ باستثناء ماهو لازم بيّن بالمعنى الاخص ـ: إنّه ليس عندنا دالّ واحد ومدلولان، فإنّ الدلالة الالتزامية في غير اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ دلالة عقليّة وليست لفظية حتّى يقال: عندنا دالّ واحد وهو اللفظ، ومدلولان وهما: المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي، بل عندنا دالّان ومدلولان، فالدالّ الأوّل هو اللفظ، والمدلول الأوّل هو المعنى المطابقي، والدال الثاني هو نفس المدلول الأوّل وهو المعنى المطابقي، والمدول الثاني هو المعنى الالتزامي، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجّيّة فالمدلول الالتزامي بماذا يثبت؟ هل يثبت باللفظ، أو بالمعنى المطابقي؟!

أمّا ثبوته باللفظ فغير صحيح؛ فإنّه ليس مدلولا للفظ. وإنّما هو مدلول للمعنى المطابقي،

635

حيث إنّ المعنى يدلّ عليه دلالة عقلية للعلم بالملازمة بينهما. وأمّا ثبوته بالمعنى المطابقي فأيضاً غير صحيح؛ لإن المعنى المطابقي غير ثابت لا وجداناً ولا تعبّداً: أمّا وجداناً فواضح، فإنّه ليس لنا علم وجداني بمطابقة المدلول المطابقي للواقع. وأمّا تعبّداً فلأنّ المفروض سقوط الدلالة المطابقية عن الحجّيّة، فلم يثبت المعنى المطابقي تعبّداً. إذن فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجّيّة من باب سقوط الدالّ راساً فنحن في الطرحين السابقين كنّا نفترض ثبوت الدالّ ونتكلم في حجّية الدلالة وعدمها، وفي هذا الطرح اتّضح عدم ثبوت الدالّ على المدلول الالتزامي لا وجداناً ولا تعبداً(1).

هذا كلّه في غير اللاّزم البيّن بالمعنى الأخصّ. وأمّا فيه فلا يأتي هذا الطرح؛ لإنّ الدلالة الالتزامية فيها لفظية، فنرجع إلى الطرح الأوّل. والحقّ في الطرح الأوّل عندنا هو دعوى الطولية، إلاّ أنّه ليس لذلك بيان فنّي فتختلف الآرآء فيه حسب اختلاف الأذواق(2).

 


(1) قد أورد على ذلك اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب ما ورد في تقرير السيّد الهاشمي (حفظه الله) الجزء السابع: ص 263 ـ 264 بما حاصله بعد إخراجه من التشويش الموجود في الكتاب: أنّ المعنى المطابقي بوجوده الواقعي مستلزم عقلا للمدلول الالتزامي، فالدّال على الأوّل دالّ على الثاني لا محالة، أي: إنّ الكاشف عن الأوّل كاشف عن الثاني ـ لا محالة ـ بنفس الدرجة من الكشف التصديقي، وهذا الدالّ موجود حسب الفرض، غاية ما هناك أنّ دلالته على الأوّل ساقطة عن الحجّيّة. أما سقوط دلالته على الثاني عن الحجّية فهو أوّل الكلام.

ومن هنا انتقل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في هذا الكتاب إلى وجه آخر لسقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية عند سقوط المطابقية، وهو أنّ ملاك الحجّية في الدلالتين واحد، فلا تبقى نكتة لحجّية الالتزامية بعد سقوط المطابقية، فإنّ نكتة الحجّية وملاكها عبارة عن أصالة عدم الكذب بالمعنى الشامل للاشتباه، أو أصالة إرادة المعنى الظاهر، وإذا سقطت المطابقية بظهور كذبها أو عدم إرادة ظاهرها مثلا، فافتراض عدم ثبوت المدلول الالتزامي لا يستدعي افتراض كذب زائد، أو مخالفة زائدة للظهور.

قال (رحمه الله): وعلى هذا الأساس صحّ التفصيل في التبعيّة بين الدلالة الالتزاميّة البيّنة عرفاً، أي: الثابتة على مستوى الدلالة التصوّرية وغيرها التي لا تثبت إلاّ على مستوى الدلالة التصديقية العقلية، فلا تبعيّة في الالتزامية البيّنة؛ لأنّ مخالفتها تشكّل مخالفة جديدة للظهور اللفظي.

وقال (رحمه الله): وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ صحّ التفصيل بين الدلالة التضمّنية التحليلية والدلالة التضمنية غير التحليلية ولو كانت ارتباطية ـ كما في دلالة العامّ المجموعي ـ، فإنّ الاُولى لا تبقى على الحجّية لعدم لزوم خطأ آخر، أو مخالفة زائدة من سقوطها، بينما الثانية تبقى على الحجّية ولو سقط المدلول المطابقي، فلو علم من الخارج عدم ارادة العموم من العامّ المجموعي للعلم بخروج فرد معيّن منه، صحّ التمسّك به لإثبات الحكم في الباقي، ولا تخريج فنّي لذلك إلاّ ما أشرنا إليه من أنّ الدلالة التضمّنية في العامّ المجموعي وإن كانت ارتباطية، ولكنّ مخالفة العامّ المجموعي بعدم إرادة أفراد اُخرى أيضاً منه زائداً على ذاك الفرد المقطوع بخروجه تعتبر أشد عناية، وأكثر مخالفة.

(2) يبدو ممّا نقلناه في التعليق السابق عن كتاب السيّد الهاشمي (حفظه الله) عدول اُستاذنا (رضوان الله

636

هذا، واذا كان التعارض بين السندين بأن لم يكونا قطعيين، فهناك مطلب آخر، وهو أنّه بعد سقوط السند وعدم ثبوت أصل صدور الكلام لا يبقى مجال لحجّية الدلالة الالتزامية، فإنّ الكلام كلام واحد، له صدور واحد، أمّا يثبت أولا يثبت، ولا يتعدّد بكونه ذا مدلولين: المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي(1).

هذا تمام الكلام في تعارض السندين وتعارض الظهورين.

 

التعارض بلحاظ فرد لدليل حجية السند مع فرد آخر لدليل

حجية الظهور:

المقام الثالث: في تعارض سند مع ظهور، وأعني بذلك أن يفترض أحد الدليلين قطعيّ الصدور حتّى لا يتعارضا سنداً، والدليل الآخر ظنّي الصدور، وما كان قطعيّ الصدور يفرض ظنّي الدلالة لا قطعيّها، وإلاّ لقطعنا بكذب الآخر.

ونتكلّم تحت هذا العنوان عن ثلاث صور، لكي نعرف ما هو مقتضى القاعدة فيها، ثمّ بعد ذلك نتكلّم بلحاظ ما ورد من طرح ما خالف الكتاب لنرى أنّه هل يقتضي ذلك شيئاً يخالف ما وصلنا إليه بلحاظ القواعد، أو لا، فنقول:

الصورة الاُولى: أن يفرض أنّ الدليل الظنّي السند ظهوره قرينة على التصرّف في ظهور الدليل القطعي السند، كأن يكون أخصّ منه.

وهذه الصورة قد مضى الكلام عنها في ما سبق، وحاصل الكلام فيها: أنّ سند المقطوع السند خارج طبعاً عن دائرة التعارض؛ لأنّه قطعيّ لا شكّ فيه، وظهور المظنون السند ـ أيضاً ـ خارج عن دائرة التعارض؛ لأنّه متلبّس بالقرينيّة بالنسبة لظهور الآخر. إذن فطرف المعارضة إنّما هو ظهور مقطوع السند وسند مظنون السند. ويمكن تقديم الثاني بأحد تقريبين:

1 ـ أن يقال: إنّ دليل حجّية الظهور ليس دليلا لفظيّاً، وإنّما هو دليل لبّي، وهو السيرة والارتكاز، والقدر المتيقّن منه غير هذ الظهور المبتلى بمعارض من هذا القبيل، وما ورد من


عليه) عن هذا الكلام، حيث اختار في فرض تماميّة الدلالة الالتزامية اللفظية بقاءها على الحجّية، وذلك ببيان فنّي.

(1) هذا في الحقيقة تطبيق لما مضى عن كتاب السيد الهاشمي على السند، دون الظهور.

637

روايات تحثّ على التمسّك بالكتاب وأهل بيت العصمة(عليهم السلام)إنّما مفادها أصل مرجعيّة الكتاب وأهل البيت، وحجّيتهما. وأمّا أنّه كيف يؤخذ منهما الأحكام ويستفاد منهما المراد، فهذا أمر عقلائي يستفاد بسيرة العقلاء، وليست هذه الروايات متعرّضة له وأمّا السند فالأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجّيّته لها إطلاق يشمل المقام.

2 ـ (وهو التقريب الأصحّ الأمتن) أن يقال: إنّ دليل حجّية كلّ من الظهور والسند لبّي، وهو السيرة والارتكاز، وإن وجد دليل لفظيّ فهو إرشاد وإمضاء لبناء العقلاء وارتكازهم. وعليه ففي ما نحن فيه نرجع رأساً إلى السيرة والارتكاز، ونرى أنّ السيرة والارتكاز هنا يحكمان بتقدّم الدليل الظنّي السند الذي جاء مدلوله بلسان القرينية على الدليل القطعي السند الظنّي الدلالة.

الصورة الثانية: أن يفرض أنّ الدليل الظنّي السند قطعي الدلالة، لكنّه ليس بنحو يعتبر قرينة للتصرّف في ظهور الدليل القطعي السند بالرغم من كون ظهوره ظنّياً، فإنّه ليس مجرّد كون أحد الظهورين ظنّياً والآخر قطعياً يوجب كون القطعي قرينة على التصرّف في الظنّي، فقد يكون الظني قويّاً إلى درجة لا يقبل عرفاً التأويل بواسطة ذاك القطعي، فيعدّان عرفاً متعارضين، وفي مثل هذا الفرض يمكن أن يقرّب القول بتقديم الدليل المظنون السند المقطوع الدلالة على الآخر، ويمكن أن يقرّب العكس.

أمّا تقريب تقديم مظنون السند فهو عين التقريب الأوّل لتقديم مظنون السند في الصورة الاُولى من أنّ دليل حجّية الظهور لبّي، والمتيقّن منه غير المورد، فنتمسّك بإطلاق دليل حجّيّة السند الشامل لسند هذا الدليل المظنون الصدور.

وأمّا تقريب تقديم مقطوع الصدور وهو الصحيح، فهو: أنّ دليل حجّيّة الظهور والسند هو السيرة والارتكاز، والدليل اللفظي إن كان فهو إرشاد وإمضاء، ولا سيرة وارتكاز على حجّيّة السند في المقام، ولكنّ السيرة على حجّيّة الظهور ثابتة:

أمّا عدم السيرة على حجّية السند فلما ذكرناه في محلّه من أنّ بناء العقلاء ليس على حجّيّة خبر الثقة عند وجود أمارة نوعيّة عقلائيّة على الخلاف، وهنا توجد أمارة نوعيّة على الخلاف، وهي ظهور الدليل المقطوع السند.

وأمّا ثبوت السيرة والارتكاز على حجّيّة الظهور في المقام، فلما ذكر ـ أيضاً ـ في محلّه من أنّ عمل العقلاء بالظهور ثابت مطلقاً حتّى مع الظنّ الشخصي أو النوعي بالخلاف.

الصورة الثالثة: أن يفرض أنّ الدليل المظنون الصدور يكون ظهوره ظنّياً أيضاً، وليس

638

لسانه لسان القرينة بالنسبة لظهور الآخر، بل هما ظهوران متساويان، وعندئذ فإن قلنا في الصورة الثانية بتقديم مقطوع السند؛ لأنّ ارتكاز حجّيّة الظهور شامل لظهوره، وارتكاز حجّية السند غير شامل لسند مظنون الصدور؛ لقيام أمارة نوعيّة على خلافه، فهنا ـ أيضاً ـ يأتي نفس الوجه، ونقدّم مقطوع الصدور، ولئن قدّمنا مقطوع الصدور مظنون الدلالة على مظنون الصدور مقطوع الدلالة، فكيف لا نقدمه على مظنون الصدور والدلالة معاً؟!

وأمّا إن قلنا في الصورة الثانية بتقديم مظنون الصدور، بتقريب: أنّ دليل حجّية السند لفظي وله إطلاق يشمل المقام، بخلاف دليل حجّية الظهور، فهذا البيان لا يأتي هنا؛ لأنّ الدليل المظنون الصدور هنا مظنون الدلالة أيضاً، فدليل حجّية الظهور في مقطوع الصدور معارض لمجموع دليل حجّيّة الظهور ودليل حجّيّة السند في مظنون الصدور، ودليل حجّيّة سنده وإن كان لفظياً لكنّ دليل حجّية ظهوره لبّي، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، أي: إنّه صار التعارض بين دليلين لبّيين، فيقال بالتساقط مثلا.

وقد تحصّل: أنّ الصحيح في هذه الصورة الثالثة تقديم مقطوع الصدور، وسقوط مظنون الصدور عن الحجّيّة؛ لقيام أمارة ظنّية نوعيّة على خلافه.

نعم، نستثني من ذلك صورة واحدة وهي ما إذا كان تعارض المظنون الصدور مع مقطوعه من قبيل العموم من وجه أو ما يشبهه.

وتوضيح ذلك: أنّه تارةً يفرض أنّ المعارض المقطوع الصدور هو أصل ظهور مظنون الصدور، واُخرى يفرض أنّ المعارض له شعبة من شعب ظهوره، بحيث لو اُسقطت تلك الشعبة لم يكن سقوطها مساوقاً لسقوط ذاك الحديث، أو تأويله تأويلا بعيداً.

فعلى الأوّل يكون الدليل المقطوع الصدور طرفاً للمعارضة مع سند المظنون الصدور، إذ لا معنى لسقوط ظهوره راساً، والتعبّد مع ذلك بسنده، ويشكّل الدليل القطعي الصدور أمارة عرفية نوعيّة على كذب الخبر المظنون الصدور؛ لاستبعاد كونه صادراً مع فرض إرادة معنىً غير عرفي منه.

وعلى الثاني يقع الدليل المقطوع الصدور طرفاً للمعارضة مع شعبة من ظهور المظنون الصدور، ولنفرضها عمومه أو إطلاقه، ولا يشكّل أمارة نوعيّة على عدم الصدور راساً؛ إذ ما أكثر صدور كلام عن الشارع لم يرد منه عمومه أو إطلاقه، حتّى قيل: ما من عامّ إلا وقد خصّ. إذن ففي هذا الفرض يكون مقتضى القاعدة هو التعارض بينهما بمثل العموم من وجه، والتساقط في مادّة الاجتماع.

هذا تمام الكلام في ما هو مقتضى القاعدة.

639

 

 

 

حكم الخبرين المتعارضين من زاوية روايات الطرح

 

وأمّا بلحاظ ما ورد من روايات طرح ما خالف الكتاب فنقول:

إنّ تلك الروايات على ثلاث طوائف.

الطائفة الاُولى، ما تستنكر صدور ما يخالف كتاب الله، من قبيل رواية أيّوب بن الحرّ، قال: «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(1). فكلمة (زخرف) تدلّ على استنكار صدور ذلك عنهم(عليهم السلام)والمراد من عدم الموافقة هو عدم الموافقة بنحو السالبة بانتفاء المحمول، لا السالبة بانتفاء الموضوع، لوضوح ثبوت كثير من المطالب الصحيحة التي لم تذكر في الكتاب، وهذا الحديث معتبر سنداً.

ومن قبيل رواية هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله)بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(2). بعد حمل قوله: (لم أقله) على الإخبار عن عدم القول، لا التعبّد بعدمه، حتّى يدخل في الطائفة الثالثة التي هي لا تدلّ على استنكار صدور ما خالف كتاب الله، وإنّما تدلّ على عدم حجّيته.

وهذا الحديث ضعيف سنداً.

ومن قبيل رواية أيّوب بن راشد، عن أبي عبدالله (عليه السلام): «مالم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف».(3)

والتحقيق: أنّ هذه الروايات إنّما تشمل رواية تعارض القرآن بنحو لو أخذنا بها لزم طرح القرآن، أو تأويله تأويلا غير عرفيّ، دون رواية لو أخذنا بها لزم تنزيل القرآن من


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 14، ص 79 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً، وج 27 ص 111 بحسب طبعة آل البيت.

(2) نفس المصدر: ح 15.

(3) نفس المصدر: ح 12، ص 78، أو ص 110 حسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

640

مدلوله الأوّلي العرفي إلى مدلول ثانويّ عرفي، من قبيل حمل الأمر على الاستحباب، أو المطلق على المقيّد، فإنّ دلالة الأمر على الاستحباب، أو المطلق على المقيّد دلالة عرفية، إلاّ أنّها ثانويّة ينسبق الذهن إليها بعد فرض رفع اليد عن الدلالة الأوّلية، ونحن نعلم بقرآئن لا مجال هنا لذكرها أنّ القرآن إنّما نزل على طبق المداليل العرفية الأوّلية أو الثانوية، لا على طبق مداليل تأويلية، من قبيل حمل البقرة في قوله تعالى: (إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) على شهوة البطن مثلا، ويكون فرض حمل القرآن على معنىً من هذا القبيل مستنكراً وبعيداً عن شأن القرآن، وبالتالي يكون صدور رواية معارضة للقرآن بنحو لو أخذ بها لزم تأويل القرآن بهذا الترتيب مستنكراً من أهل البيت(عليهم السلام). وأمّا فرض حمل القرآن على المدلول العرفي الثانوي فليس بعيداً عن شأن القرآن، وبالتالي ليس صدور رواية معارضة لو أخذ بها لزم حمل القرآن على المدلول الثانوي العرفي مستنكراً من أهل البيت(عليهم السلام) سواء فرضت الرواية بلسان القرينية، كما لو كانت أخصّ من القرآن، أو بلسان التعارض كما في العامّين من وجه، فبما أنّ هذه الطائفة تكون بلسان الاستنكار يكون هذا اللسان قرينة على عدم شمولها لروايات من هذا القبيل.

الطائفة الثانية: ما جعلت ميزان الأخذ بالحديث الموافقة للكتاب، لا عدم المخالفة، كرواية ابن أبي يعفور: «سألت أبا عبدالله عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به»(1).

وهناك عدّة احتمالات في ماهو المقصود من (اختلاف الحديث)، فقد يراد بذلك تنوّع الأحاديث، أي: ترد علينا أحاديث متنوّعة، وقد يراد تعارضها فيما بينها، وقد يراد مخالفتها للكتاب أو السنّة القطعية.

وعلى أي حال، فذلك لا يغيّر من مفاد الذيل، فإنّ ذيل الحديث وهو قوله: «إذا ورد عليكم حديث» مطلق يشمل كلّ حديث.

وفي قوله: «وجدتم له شاهداً من كتاب الله» احتمالان، نؤجّل أحدهما إلى ما بعد الكلام عن الطائفة الثالثة، باعتباره كلاماً يرتبط بكلّ الطوائف الثلاث، ونذكر هنا الاحتمال الآخر وهو: أن يكون المقصود بوجود الشاهد هو وجود الشاهد حرفيّاً، أي: كون مفاد الحديث


(1) نفس المصدر: ح 11.

641

موجوداً في القرآن: إمّا بالنصوصية، أو بمثل العموم والإطلاق، وعندئذ: إمّا أن نفسّر هذه الرواية بإرادة نفي الحجّيّة، أي: إنّ الحديث الذي لا يكون عليه شاهد من كتاب الله لا يكون حجّة، فالحجّيّة تختصّ بما عليه شاهد من كتاب الله، وتظهر فائدة الحجّيّة أحياناً حينما يكون الحديث أخصّ من الكتاب مثلا، فيستفاد منه بعض الفوائد التي تستفاد من الخاصّ، ولا تستفاد من العامّ كالتخصيص. أو نفسّر هذه الرواية بإرادة استنكار صدور حديث لا يكون عليه شاهد من كتاب الله من الإمام.

واستظهار أحد التفسيرين يدور مدار تفسير قوله «فالذي جائكم به أولى به»، فإن فسّر بأنّه أولى به منكم ـ وهو الظاهر ـ فالمفاد هو نفي الحجّية، أي: إنّ هذا الحديث ليس حجّة لكم، والذي جاء به أعرف بوظيفته تجاه هذا الحديث وبصدقه وكذبه. وإن فسّر بأنّه أولى به منّي ـ أي: من الامام فالمفاد هو استنكار صدوره من الإمام وأنّني غير مطّلع على هذا الحديث، فالذي جاء به أولى به منّي.

فإن افترضنا ظهور الرواية في نفي الحجّية فلا محيص عن تخصيصها باُصول الدين ونحوها من المعارف الإلهية، من قبيل تفاصيل القيامة ونحو ذلك، ولا تشمل الأحكام؛ وذلك لثبوت حجّيّة خبر الواحد في الأحكام غير الموجودة في الكتاب والسنّة القطعية بارتكاز الاصحاب ـ ومنهم نفس ابن أبي يعفور الراوي لهذه الرواية ـ ارتكازاً كالمتّصل، وهم كانوا يهتمّون بضبط الأحاديث ولو مع الواسطة، ويعملون بها، وبنقل الأحاديث للآخرين مع توقّع العمل من الآخرين بهذا النقل.

وإن افترضنا ظهور الرواية في الاستنكار فنحن نقطع بكذب مفادها حتّى في اُصول الدين، فإنّ من شأن الإمام (عليه السلام) في مرتكز الشيعة بيان التفاصيل غير الموجودة في القرآن اُصولا وفروعاً، ونعلم إجمالا بوقوع ذلك منهم(عليهم السلام) في الاُصول والفروع؛ للتواترات الإجمالية فيهما. إذن فيحمل الحديث على محمل التقيّة، وأنّ الإمام فرض نفسه لدى ذكره لهذا الكلام منزلة إنسان عادي كأيّ عالم آخر من العلماء ـ كما كان ذلك اعتقاد العامّة بشأنهم ـ، فليس من حقّه أن يبيّن شيئاً ليس في كتاب الله أو في سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

وإن فرضنا إجمال الرواية وتردّدها بين المعنيين، فهي على أيّ حال مردّدة بين معنىً نقطع بكذبه ومعنىً لا يجري في باب الأحكام، فعلى ايّ حال، لا أثر لهذه الرواية في باب الأحكام.

هذا، ويمكن أن تردّ هذه الرواية بوجوه اُخرى أيضاً:

منها: أنّ الردع عن خبر الواحد بخبر الواحد غير معقول؛ إذ لو فرض عدم قيام دليل

642

قطعي في المرتبة السابقة على حجّيّة خبر الواحد فلا معنىً للردع به؛ إذ نفس الخبر الرادع غير حجّة، ولو فرض قيامه على الحجّيّة إذن نقطع كذب الردع.

ويرد عليه: أنّنا نختار الشقّ الثاني، وهو قيام الدليل على الحجّيّة وهو السيرة، إلاّ أنّ السيرة إنّما تثبت الحجّيّة لولا الردع، والخبر الرادع لا ردع عنه، فالمقتضي للحجّيّة موجود، والمانع مفقود، وهذا الخبر رادع عن باقي الأخبار ومانع عن حجّيّتها ـ بعد فرض إمكان ردع الارتكاز بمثل ذلك ـ، فاقتضاء السيرة لحجّيّة هذا الخبر يحكم على اقتضائها لحجّيّة باقي الأخبار.

ومنها: أنّ هذه الرواية بنفسها لا شاهد لها من الكتاب؛ لأنّ آيات الردع عن العمل بغير علم ليس مفادها عدم حجّيّة خبر الواحد على ما نقّحناه في محلّه، فيلزم من حجّيتها عدم حجّيتها.

ويرد عليه: أنّ مفاد هذه الرواية ينحلّ إلى حجّيات عديدة بعدد الروايات، والمحذور إنّما يلزم من حجّيتها في الردع عن نفسها، فتسقط، ولا وجه لسقوط حجّيّتها في الردع عن الأخبار الاُخرى. واحتمال الفرق بين هذه الرواية وغيرها من الروايات موجود، فانّ هذه الرواية تريد أن تقرّبنا نحو الكتاب، فتمنع عن حجّية خبر ليس له شاهد من الكتاب، وتحصر الحجّية بالخبر الموافق للكتاب، فيحتمل الفرق في الحجّيّة بينها وبين سائر الروايات التي لا شاهد لها من الكتاب.

ومنها: أنّ رواية ابن أبي يعفور الدالّة على عدم حجّيّة الخبر الذي ليس عليه شاهد من الكتاب معارضة بأدلّة الحجّيّة، وطبعاً أدلّة حجّيّة خبر الواحد يجب أن تكون قطعية؛ إذ خبر الواحد لا يمكن أن يصير دليلا على حجّيّة خبر الواحد، وعندئذ لا بدّ أن نلحظ نسبة رواية ابن أبي يعفور إلى أدلّة حجّيّة خبر الواحد، وعلى سبيل النموذج نذكر ثلاثة أقسام من أدلّة الحجّيّة من الكتاب والسنّة تاركين الكلام في أصل تمامية الاستدلال بها على حجّيّة خبر الواحد وعدمها إلى مبحث خبر الواحد.

القسم الأوّل: ما يفرض له إطلاق لكلّ خبر من دون فرق بين الشبهات الموضوعية والحكميه، وأصول الدين وما يكون من قبيل اُصول الدين من سائر المعارف الإسلامية، من قبيل تفاصيل القيامة والجنّة والنار، وذلك من قبيل مفهوم آية النبأ لو تمّ الاستدلال به.

القسم الثاني: ما يفرض نصوصيّته في غير الشبهات الموضوعية بحيث لا يمكن تخصيصه بالشبهات الموضوعية، من قبيل: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعني يؤديان)

643

بناءً على تواتر ماهو من هذا القبيل، لكنّه يشمل بإطلاقه الشبهات الحكمية، بمعنى الفروع واُصول الدين وسائر المعارف الإسلامية.

القسم الثالث: ما يفرض نصوصيّته في خصوص الشبهات الحكمية، بمعنى الفروع، أعني ما فيه تنجيز وتعذير، ولا يمكن تخصيصه باُصول الدين وسائر المعارف الإسلامية، من قبيل آية النفر بناءً على نصوصيّتها في حجّيّة خبر الواحد في خصوص الأحكام بقرينة الإنذار والحذر.

ورواية ابن أبي يعفور فيها احتمالان:

الاحتمال الأوّل: وهو الظاهر، أن يكون مفادها نفي حجّيّة خبر الواحد ولو كان له شاهد من الكتاب، حيث إن فرض الحجّيّة لما له شاهد من الكتاب لغو عرفاً؛ لكفاية الكتاب، وإن كان بحسب التدقيق الاُصولي قد يترتّب عليها فائدة كما مضى، فمفاد رواية ابن أبي يعفور في الحقيقة هو أنّه لا عبرة بخبر الواحد، فما جاءكم يوافق كتاب الله فخذوا به، لكونه ـ في الحقيقة ـ أخذاً بالكتاب، وما لم يكن عليه شاهد من الكتاب فاطرحوه.

الاحتمال الثاني: أن يكون مفادها سلب الحجّيّة من خصوص ما ليس له شاهد من الكتاب.

فنتكلّم في نسبة الرواية على كلّ واحد من الاحتمالين إلى الأقسام الثلاثة من أقسام دليل حجّيّة خبر الواحد، فنقول:

أمّا على الاحتمال الأوّل، وهو كون مفادها نفي الحجّيّة حتّى عن الخبر الذي له شاهد من الكتاب، فنسبتها إلى القسم الأوّل هي نسبة الأخصّية، فلو كان دليل حجّيّة خبر الواحد منحصراً في القسم الأوّل لكنّا نخصّصه بالشبهات الموضوعية مثلا؛ لأنّ هذه الرواية واردة في غير الشبهات الموضوعية، وآية النبأ أعمّ من ذلك فتخصّص.

ولكن نسبتها إلى القسم الثاني هي نسبة التباين؛ لأنّ كلاّ منهما نصّ في غير الشبهات الموضوعية، فتصبح هذه الرواية مباينة للدليل القطعي، فتسقط عن الحجّيّة؛ لما سوف يأتي ـ إن شاءالله ـ من الطائفة الثالثة الدالّة على عدم حجّيّة ما خالف كتاب الله(1).


(1) لا يقال: إنّ هذه الطائفة بنفسها خبر الواحد، فكيف تثبت حجّيّتها حتّى يستدلّ بها على سقوط رواية ابن أبي يعفور؟!

فإنّه يقال: إنّ آية النبأ لا يمكنها أن تثبت الحجّيّة لخبر واحد مخالف للكتاب؛ لأنّه يوجد خبر واحد ينفي حجيّة ما يخالف الكتاب، فتختصّ الحجّيّة بغير ما خالف الكتاب، أي بغير مثل رواية ابن أبي يعفور.

644

ونسبتها إلى القسم الثالث نسبة الأعمّية، أي إنّها أعمّ من القسم الثالث؛ لأنّه نصّ في الشبهات الحكمية، فيمكن تخصيص رواية ابن أبي يعفور باُصول الدين ونحوها من المعارف الإسلامية.

وأمّا على الاحتمال الثاني، وهو كون مفادها نفي الحجّية عن خصوص ما ليس له شاهد من الكتاب، فهل تتغيّر نسبتها إلى الأقسام الثلاثة منها على الاحتمال الأوّل أو لا؟

الصحيح: أنّه لا تتغيّر النسبة:

أمّا بلحاظ القسم الأوّل فواضح، فإنّ هذه الرواية ـ على أيّ حال ـ أخصّ من آية النبأ.

وأمّا بلحاظ القسم الثاني فقد يتوهّم تغيّر النسبة؛ إذ تصبح رواية ابن أبي يعفور أخصّ من (العمري وابنه ثقتان)؛ لأنّ رواية ابن أبي يعفور اختصّت بما ليس عليه شاهد من كتاب الله، في حين أنّ دليل الحجّيّة يشمل صورة وجود الشاهد وصورة عدمه.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ النسبة باقية على حالها؛ وذلك لأنّ تخصيص دليل الحجّيّة بخصوص ما له شاهد تخصيص بالفرد النادر، وليس عرفياً، فكأنّ النسبة بينهما هي التباين.

وأمّا بلحاظ القسم الثالث فقد يتوهّم ـ أيضاً ـ تغيّر النسبة؛ إذ أصبحت رواية ابن أبي يعفور أعمّ من وجه من مثل آية النفر، فمن ناحية تكون الرواية مختصّة بما ليس له شاهد بينما الآية أعمّ، ومن ناحية اُخرى تكون الآية نصّاً في الشبهات الحكمية بينما الرواية أعمّ.

ولكنّ الصحيح: أنّ النسبة باقية على حالها؛ لما عرفت من عدم إمكان تخصيص دليل الحجّيّة بما له شاهد. ولو اُريد تخصيص الآية بما له شاهد من الكتاب فلماذا يأمر بالنفر، ولا يقول راساً: ابعثوا إلى كلّ بلد و كلّ جماعة القرآن حتّى يعملوا به؟!

وعلى أيّ حال فحتّى لو سلّمنا بأنّ النسبة صارت عموماً من وجه فذلك لا يضرّنا؛ لأنّ رواية ابن أبي يعفور عندئذ تسقط في مادة الاجتماع لمعارضتها لدليل قطعي.

ومنها: أنّنا لو سلّمنا تعارض رواية ابن أبي يعفور بما يساويها في النسبة من ادلّة الحجّيّة أو ما تكون النسبة بينه وبينها العموم من وجه وتساقطهما، ولم نعترف بسقوط ما يعارض الدليل القطعي، فالمرجع بعد ذلك ليس هو أصالة عدم الحجّيّة، وإنّما المرجع العام الفوقاني لو كان عندنا من قبيل مفهوم آية النبأ بناءً على تماميّته.

ومنها: أنّنا لو لم نعترف بالعموم الفوقاني أيضاً، ولا بسقوط ما يعارض الدليل القطعي، وفرضنا أنّ النسبة بين رواية ابن أبي يعفور ودليل الحجّيّة وهي آية النفر مثلا عموم من وجه، فمن ناحية تكون الرواية أعمّ لشمولها لاُصول الدين ونحوها، ومن ناحية تكون الإية

645

أعمّ بناءً على أنّ دلالتها على حجّيّة خبر الواحد إنّما هي بالإطلاق، حيث إنّها إنّما دلّت على وجوب الحذر، وكان يمكن اختصاص ذلك بموارد حصول القطع بالحكم من تواتر أو قرينة ونحو ذلك، فشمولها لغير مورد حصول القطع يكون بالإطلاق، فعندئذ بالإمكان أنّ يقال لو وجدنا خبراً واحداً يدلّ على حجّيّة أخبار الآحاد في الأحكام: إنّ هذا الخبر الواحد بالرغم من أنّه ليس دليلا من أدلّة حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ دليل حجّيّة خبر الواحد يجب أن يكون قطعي الصدور، إلاّ أنّه يفيدنا في المقام في تقديم إطلاق آية النفر على إطلاق رواية ابن أبي يعفور، وذلك لأنّنا لو أخذنا بإطلاق رواية ابن أبي يعفور ورفعنا اليد عن إطلاق اية النفر، كان ذلك رفعاً لليد عنه بلا قرينة، وترجيحاً لمعارضه عليه بلا مرجّح. أمّا لو أخذنا بإطلاق آية النفر فرفع اليد عن إطلاق رواية ابن أبي يعفور ليس رفعاً لليد عنه بلا قرينة، وإنّما هو رفع لليد عنه بالقرينة؛ لأنّ ذلك الخبر الواحد الدالّ على حجّيّة أخبار الآحاد في الأحكام أصبح حجّة ببركة إطلاق آية النفر، وهو أخصّ مطلقاً من رواية ابن أبي يعفور؛ لاختصاصه بالأحكام، فيصير قرينة على تخصيص رواية ابن أبي يعفور بخصوص اُصول الدين ونحوها. هذا هو روح المطلب. وإن شئت التعبير بلغة الدور فقل: إنّ تمامية مقتضي الحجّيّة لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم تخصيصها بذلك الخبر الواحد الذي هو فرع عدم ثبوت حجّيّته بإطلاق آية النفر، أي: عدم حجّية إطلاق آية النفر. إذن فتماميّة مقتضي الحجّية لإطلاق رواية ابن أبي يعفور فرع عدم حجّية إطلاق آية النفر، وما يكون فرع عدم شيء يستحيل أن يمنع عن ذلك الشيء، وإلاّ لزم الدور.

فتحصّل: أنّه بالإمكان افتراض عامّين من وجه نسبتهما الدلالي إلى مادّة الاجتماع على حدّ سواء، وبالرغم من ذلك يتقدم أحدهما على الآخر لنكتة سحريّة تجعل رفع اليد عن إطلاق أحدهما إسقاطاً له بلا قرينة، ورفع اليد عن إطلاق الآخر إسقاطاً له بقرينة وإن كنّا لم نجد مثالا لذلك في الفقه.

هذا كلّه لو افترضنا أنّ رواية ابن أبي يعفور تردع عن حجّيّة خبر الواحد ولو كان له شاهد من كتاب الله، كما هو الظاهر على ما مضى.

أمّا لو افترضنا أنّها تردع عن خصوص ما ليس له شاهد، فالأمر أوضح؛ وذلك لأنّ هذا الخبر الواحد الذي دلّ على حجّيّة أخبار الآحاد في الأحكام له شاهد من كتاب الله، وهو آية النفر، فهذا حجّة يقيناً، فتخصّص به رواية ابن أبي يعفور بلا حاجة إلى ما عرفته من البيان.

646

الطائفة الثالثة: ما يكون مفاده نفي حجّية ما خالف الكتاب كرواية السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(1). وسندها ضعيف بالنوفلي.

ورواية جميل بن دراج، وهي صحيحة السند عن أبي عبدالله (عليه السلام): «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(2).

وهذه مشتملة على عقدين: العقد السلبي، أعني الردع عمّا خالف كتاب الله، والعقد الإيجابي، أعني الأمر بأخذ ما وافق كتاب الله. فنتكلّم أوّلاً في العقد السلبي، وثانياً في العقد الايجابي،وثالثاً في فقه الحديث.

 

أمّا العقد السلبي، فيقال: إنّه دلّ على عدم حجّيّة كلّ خبر خالف الكتاب ولو بمثل الإطلاق والتقييد، أو العموم الخصوص، وغير ذلك من أنحاء القرينية، وأجاب الأصحاب عن ذلك بجوابين:

الأوّل: أنّ المخالفة بنحو القرينيّة لا تعدّ مخالفة.

والثاني: أنّنا نعلم إجمالا بصدور كثير من مخصّصات ومقيّدات ونحوها للكتاب عنهم(عليهم السلام).

أقول: إنّ تحقيق حال هذين الجوابين موقوف على فهم معنى ما جاء في هذه الطائفة من مخالفة الكتاب، فإنّ فيه ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود المخالفة لمضمون الكتاب من دون لحاظ مؤونة زائدة من حجيّة الكتاب أو عدمها. وهذا هو الظاهر.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود المخالفة لمضمون الكتاب بشرط ثبوت الحجّيّة اللولائية لذلك المضمون، أي: حجّيّته لولا هذا الخبر المخالف.

الاحتمال الثالث: أن يكون المقصود المخالفة لمضمون الكتاب بشرط ثبوت الحجّيّة الاقتضائية للكتاب حتّى مع وجوب هذا الخبر المخالف، بمعنى أنّه لا موجب لعدم حجّيّته إلاّ


(1) الوسائل: ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 78 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً أو ج 27 ص 110 بحسب طبعة آل البيت.

(2) نفس المصدر: ح 35، ص 86، أو ص 119 حسب اختلاف الطبعتين المشار إليهما.

647

افتراض التساقط بالتعارض مع هذا الخبر، وإلاّ فاقتضاء الحجّيّة فيه تامّ بالرغم من وجود هذا الخبر المخالف.

وأمّا احتمال أن يكون المقصود المخالفة للكتاب الحجّة بالفعل فطبعاً غير موجود؛ إذ الفراغ عن الحجّيّة الفعلية لمضمون الكتاب يساوق الفراغ عن عدم حجّيّة معارضه، فنفي حجّيّة معارضه يكون كالضرورية بشرط المحمول.

فإن بنينا على الاحتمال الأوّل فشيء من الجوابين لا يتمّ

أمّا الجواب الأوّل فلأنّ المخالفة بنحو القرينيّة ـ أيضاً ـ مخالفة، غاية الأمر أنّ العرف لا يتحيّر بين المتخالفين، لا لعدم المخالفة، بل لتقديم أحد المتخالفين على الآخر بالقرينيّة

وأمّا الجواب الثاني فلأنّ العلم الإجمالي بالصدور لا ينافي عدم الحجّيّة، فنحن نعلم إجمالا بصدور جملة من روايات صحيح البخاري، أو صدور جملة من مجموع روايات غير الثقاة مع أنّه ليست بحجّة.

وإن بنينا على الاحتمال الثاني فأيضاً الجواب الأوّل لا يتمّ؛ لثبوت المخالفة للحجّة اللولائية من الكتاب؛ إذ لولا هذا المخالف لكان مضمون الكتاب حجّة قطعاً. وأمّا الجواب الثاني فبالإمكان أن يقال بتماميّته؛ لأنّ العلم الاجمالي بالتخصيص والتقييد يسقط عمومات الكتاب ومطلقاته عن الحجّية، وقد كنّا نجيب عن هذا العلم الإجمالي في بحث حجّيّة ظواهر الكتاب بانحلاله بما ورد بطريق حجّة من مخصّصات ومقيّدات، لكنّ هذا الجواب لا يأتي هنا؛ لأنّنا نفتّش عن الحجّية اللولائية، ولولا ما وصل إلينا من مخصّصات ومقيّدات لم يكن العلم الإجمالى منحلاّ، ولم تكن عمومات الكتاب وإطلاقاته حجّة، فهذه الروايات لا تخالف مضموناً كتابياً حجّة بالحجّيّة اللولائية.

إلاّ أنّ المظنون انحلال هذا العلم الإجمالي في المقام بما نعلم من تخصيصات و تقييدات قطعيّة عن طريق التواتر، أو الإجماع، أو ما يورث القطع أحياناً من مثل الشهرة والإجماع المنقول، ففي أكبر الظنّ أنّ هذا يفي بمقدار المعلوم بالإجمال. وعليه فيبقى باقي العمومات والإطلاقات حجّة، ولا يتمّ هذا الجواب.

وإن بنينا على الاحتمال الثالث فحال الجواب الثاني هو حاله على الاحتمال الثاني. وأمّا الجواب الأوّل فيكون تامّاً لأنّ الخبر المخالف بنحو القرينية ليس مخالفاً لمضمون كتابي فيه اقتضاء الحجّيّة حتّى مع ورود هذا الخبر لو كان حجّة، فإنّ هذا الخبر لو كان حجّة يشكّل قرينة على خلاف ظاهر الكتاب، وظاهر ذي القرينة ليس فيه اقتضاء الحجّيّة مع وجود

648

القرينة. إذن فروايات نفي حجّيّة المخالف لا تقوى على نفي حجّيّة ما يكون قرينة بالنسبة للكتاب.

هذا. ونحن نرى أنّ الظاهر من هذه الطائفة هو الاحتمال الأوّل، وقد عرفت أنّه عليه لا يتمّ شيء من الجوابين.

فالصحيح في الجواب هو تخصيص هذه الطائفة بما ورد في الأخبار العلاجية، فعن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: «قال الصادق (عليه السلام) إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1). فنحن نستظهر من قوله: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان» أنّ المقصود هو علاج مشكلة التعارض بعد فرض أنّ كلاّ منهما في نفسه حجّة، والّا لم نصطدم بمشكلة التعارض، وهذا معناه أنّ الخبر المخالف للكتاب يكون في نفسه حجّة.

نعم، ليس له إطلاق يدلّ على حجّيّة كلّ خبر مخالف للكتاب، وعدم مضرّية أيّ قسم من أقسام المخالفة؛ لأنّه ليس بصدد بيان هذا الحكم، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو المخالفة بنحو القرينيّة، بنحو يكون الجمع العرفي في غاية السهولة، بأن تكون المخالفة أدنى درجات المخالفة، فلو لم تكن بنحو القرينيّة، أو كانت المخالفة قويّة وإن كان العرف بالآخرة يجمع بينهما، وذلك كما لو كان العامّ الكتابي قويّاً جدّاً، أو إطلاق الكتاب قويّاً جدّاً وليس مستفاداً من مقدّمات الحكمة فقط، فهنا يسقط المخالف والمخصّص أو المقيّد عن الحجّيّة.

 

وأمّا العقد الإيجابي، وهو أنّ ما وافق كتاب الله فخذوه ففيه احتمالان.

1 ـ تأسيس حجّيّة جديدة غير حجّيّة أخبار الثقاة لكلّ خبر وافق كتاب الله، فتكفي الموافقة للكتاب في حجّيّة الخبر ولو كان راويه من الكذّابين.

ويظهر أثر هذه الحجّيّة في موارد من قبيل ما لو كان العامّ الكتابي مخصّصاً بخبر ثقة له مخصِّص من غير أخبار الثقاة، فإنّ حجّيّة هذا المخصّص الثاني توجب الأخذ بمفاد الكتاب في


(1) الوسائل: ج 18 ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84 بحسب الطبعة ذات عشرين مجلّداً، أو ج 27 ص 118 بحسب طبعة آل البيت.

649

مورده، ولولاه لكنّا نأخذ بالمخصّص الأوّل، فمثلا لو دلّ: (أحلّ الله البيع) على حلّيّة كلّ بيع، وخصّص بخبر ثقة أخرج بيع الصبي، وكان لهذا المخصّص مخصّص من غير أخبار الثقاة يصحّح بيع المراهق، فبيع المراهق يكون صحيحاً لو قيل بحجّيّة ما وافق الكتاب، ولو كان مخبره غير ثقة، وإلاّ فلا.

والخلاصة: أنّ جعل الحجّية لما وافق الكتاب ليس أمراً غير معقول.

2 ـ أن يكون المقصود أنّ ما وافق كتاب الله فالمانع الموجود عن حجّيّة ما خالف كتاب الله غير موجود فيه، فهو حجّة على تقدير ثبوت باقي شروط الحجّيّة، من قبيل إنْ لم تتوضّأ فصلاتك باطلة، وإن توضّأت صحّت صلاتك، فإنّه ليس معنى ذلك صحّة الصلاة مع الوضوء ولو كانت صلاة إلى غير القبلة مثلا، وإنّما المقصود صحّة الصلاة بشروطها، فيكون العقد الإيجابي تاكيداً لنفس العقد السلبي، وتصريحاً بمفهومه، لا شيئاً جديداً.

والظاهر هو الاحتمال الثاني، لا الأوّل، سواء فسّرت الموافقة بمعنى وجود مضمونه في الكتاب، أو فسّرت بمعنى عدم المخالفة. أمّا على الأوّل فللغوية جعل الحجّيّة لما وافق الكتاب عرفاً؛ لكفاية نفس الكتاب وإن كانت له بعض الثمرات عقلاً كما عرفت، فاللغوية العرفية تصرف الرواية عن معنى جعل الحجّية إلى المعنى الثاني.

وأمّا على الثاني فلأنّ من الواضح المرتكز عند المتشرّعة عدم حجّيّة الخبر لمجرّد عدم مخالفته للكتاب، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي كون نكتة الحجّيّة طريقية، ومجرد عدم المخالفة للكتاب لا يعتبر في النظر العرفي نكتة طريقيّة للحجّيّة.

إذن، فعلى كلا التفسيرين للموافقة لا يعطي العقد الإيجابي تأسيس حجية جديدة.

 

وأمّا فقه الحديث، فنتكلم فيه في عدّة نقاط:

الاُولى: أنّ الروايات المنقولة عنهم(عليهم السلام) بعضها يوافق الكتاب وبعضها يخالف الكتاب، والأكثريّة الغالبة منها لا توافق ولا تخالف، فيبعد بحسب الفهم العرفي أن يكون قوله: «فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه» غير ناظر إلى هذا القسم، فلا بدّ: إمّا من تفسير الموافقة بعدم المخالفة، فتصبح المخالفة مانعة عن الحجّيّة، وما لا يوافق ولا يخالف يكون حجّة عند اجتماع باقي الشروط، أو تفسير المخالفة بعدم الموافقة، فتصبح الموافقة شرطاً في الحجّية، فما لا يوافق ولا يخالف لا يكون حجّة.

ومن هنا قد يقال بالإجمال؛ لأنّ ارجاع إحداهما إلى الاُخرى ليس بأولى من إرجاع

650

الاُخرى إليها.

إلاّ أنّ الصحيح: عدم الإجمال، وتعيّن إرجاع الموافقة إلى عدم المخالفة؛ لأنّ ارتكازية حجّيّة تلك الأخبار عند المتشرّعة جيلا بعد جيل، وعملهم على ضبطها ونقلها، والعمل بها، وتوقّع الناقل عن الآخرين العمل بما ينقله توجب صرف العبارة إلى هذا التفسير فى مقابل ذاك التفسير.

الثانية: يمكن أن يقال: إن عنوان (ما خالف الكتاب) لا يختصّ بالأخبار، بل تشمل غيرها، من قبيل القياس، والشهرة، والإجماع المنقول، وغير ذلك ممّا خالف الكتاب، سواء كان حجّة في نفسه أو لا، فمثلا الشهرة إذا قامت على ما يخالف الكتاب دخلت في مفاد هذه الروايات، وكذا الإجماع المنقول وغيره. وإذن فليست هذه الروايات أخصّ مطلقاً من أدلّة حجّيّة خبر الواحد حتّى تقدّم عليها بالأخصّية، بل هناك جانب لأخصّية تلك الأدلّة وهو اختصاصها بخبر الواحد، وشمول هذه الروايات لغير خبر الواحد، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ كون النسبة العموم من وجه لا تمنع عن التقديم؛ لأنّ هذه الروايات تبيّن المانعية، أي تجعل مخالفة الكتاب مانعة عن الحجّيّة، فلها نظر إلى كلّ أدلّة الحجّية، فتقدّم عليها بالحكومة، من قبيل ما لو وردت رواية تدلّ على شرطية الطهارة، أو مانعية الحدث في كلّ عبادة، فإنّها تقدّم على إطلاق أيّ دليل من أدلّة عبادة من العبادات إذا كان مطلقاً.

الثالثة: يمكن أن يقال: إنّ مفاد هذه الروايات هو استنكار الصدور لا نفي الحجّيّة، وذلك بقرينة قوله: «إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً» فكأنّه يقول: إنّ موافقة الكتاب أو عدم المخالفة نور يوجد في الخبر الحقّ، فيكون الخبر الذي صدر منّا عليه حقيقة ونور. إذن فما ليس عليه الحقيقة والنور لا يكون صادراً منهم(عليهم السلام)، فهذا إنكار للصدور، لا نفي للحجّيّة.

إلاّ أنّ الصحيح: أن هذه العبارة لا تعني ملازمة دائمية بين الحقّ والنور، وإنما هي تعبير عرفي حيث يقال: إنّ الحقّ واضح، وإنّ الكلام الصادق تبدو أماراته. وهذا ليس معناه الملازمة الدائمية بين الصدق وظهور أماراته، ويشهد له قوله في صدر الحديث: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» فإنّ ما خالف الكتاب، أو ما لم يوافقة لو كان مقطوع الكذب، لم يكن شبهة.

الرابعة: هل تشمل مخالفة الكتاب مخالفة إطلاق الكتاب، أو تختصّ بمثل مخالفة العموم؟

651

ذهب السيد الاُستاذ إلى الثاني بدعوى: أنّ الإطلاق إنّما استفيد من السكوت وعدم التقييد. وأمّا أصل اللفظ الدالّ على الماهية فإنّما يدلّ على الطبيعة المهملة، والسكوت وعدم ذكر القيد ليس قرآناً.

والتحقيق خلاف ذلك، فإنّه بحسب النظر العرفي يرى أنّ السكوت وعدم ذكر القيد حيثيّة تعليليّة لا تقييدية، فيقال: إنّ الآية الفلانية دلّت على الإطلاق، ولا يقال: إنّ الآية لم تدلّ، وإنّما السكوت عن القيد دلّ عليه، فمثلا لا إشكال في أنّ العرف يقول: إنّ (أحلّ الله البيع) مثلا شامل للبيع العقدي والمعاطاتي، وإنّه دالّ على إطلاق الحكم، إذن فالمخالفة تشمل كلا القسمين.

الخامسة: إذا كان الخبر مخالفاً للكتاب بالعموم من وجه فهل يسقط الخبر راساً، أو تسقط مادّة الاجتماع فقط؟

قد يقال: إنّنا إن فهمنا من الظهور العرفي لدليل سقوط ما خالف الكتاب كون المخالفة حيثية تعليليّة، سقط الخبر كلّه؛ لأنّه خبر مخالف للكتاب. وإن فهمنا منه كونها حيثيّة تقييديّة فالعرف يخصّص الحكم بخصوص مورد المخالفة، وهو مادّة الاجتماع.

والصحيح هو: أنّ الساقط إنّما هو مادّة الاجتماع مطلقاً و توضيحه: أنّ ما الموصولة في قوله: (ماخالف الكتاب) تشمل بإطلاقها كلّ أمارة تخالف الكتاب ومنها السند، ومنها الظهور، فكأنّما قال: إذا تعارض السند وأصل الصدور مع الكتاب فاطرحوه، وإذا تعارض الظهور مع الكتاب فاطرحوه، فإذا كان التعارض بالتباين كان السند واصل الصدور معارضاً للكتاب، فيطرح، واذا كان التعارض بالعموم من وجه فالسند وأصل الصدور ليس مخالفاً للكتاب، وإنّما ظهوره في الشمول لمادّة الاجتماع مخالف للكتاب، فيسقط.

السادسة: هل نتعدّى من مخالفة الكتاب إلى مخالفة السنّة القطعية النبوية، أو مطلق السنّة القطعية، أو لا؟

هنا يجب أن نلاحظ الخصوصيّات الموجودة في الكتاب لنرى أنّ أيّاً منها مشترك بين الكتاب والسنّة، وإنّ أيّاً منها مختصّ بالكتاب، وأنّه هل يحتمل عرفاً دخل الخصوصيّة المختصّة في هذا الحكم، أو لا؟

فنقول: إنّ الكتاب فيه ثلاث صفات:

1 ـ كونه كتاباً محترماً من قبل الله تعالى، وإعجازاً، وأشرف كتاب، وما إلى ذلك.

2 ـ كونه قطعي الجهة.

652

3 ـ كونه قطعي الصدور.

أمّا الوصف الأوّل فهو مختصّ بالكتاب. وأمّا الوصف الثاني فهو يشمل الكتاب والسنّة النبويّة وبعض السنن غير النبويّة، كما لو قطعنا بعدم التقيّة لكونها خلاف مذهب العامّة مثلا. وأمّا الوصف الثالث فهو موجود في كلّ سنّة قطعية، نبويّة كانت أو غيرها، كما أنّه موجود في الكتاب، وعندئذ نقول: إنّ الوصف الأوّل بحسب المتفاهم العرفي لا يكون دخيلا في هذا الحكم، فإنّه إنّما يناسب دخله في حكم احترامي، من قبيل وجوب الإنصات مثلا، لا في حكم طريقي يناسب أن تكون الدخيل فيه النكات الطريقية، من قبيل الحجّيّة، وكون القرآن معجزاً وشريفاً لا يوجب نكتة طريقية في سقوط الخبر المخالف له.

ومن هنا يمكن أن يقال: إنّ الدخيل في الحكم إنّما هو الوصفان الأخيران، فنتعدّى إلى السنّة القطعيّة النبويّة، والى سنّة قطعية غير نبويّة مقطوعة الجهة صدفة.

ولكن الصحيح: أنّ الوصف الثاني وهو قطعية الجهة وإن كانت نكتة طريقية يعقل دخلها في الحكم، لكنّها بحسب نظر العرف واقعة تحت الشعاع في جنب الوصف الثالث، وهو قطعيّة السند، فيرى عرفاً أنّ نكتة الحكم هي قطعية السند، فيتعدّى إلى كلّ سنّة قطعية، ويؤيد ذلك أنّه في رواية السكوني نقل الإمام(عليه السلام) هذا الكلام، اعني طرح ما خالف الكتاب عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حين أنّ المائز بين الكتاب وسنّة الرسول(صلى الله عليه وآله) إنّما هو في السند لا في السند والجهة، فهذا يؤيّد كون النظر إلى جهة السند.

السابعة: قد يقال: إنّ المقصود ممّا في الطائفة الثانية والثالثة من الموافقة وعدم الموافقة، ووجود الشاهد وعدمه إنّما هو الموافقة والمخالفة للروح العامّة والاطار العامّ للكتاب الكريم، لا الموافقة والمخالفة المضمونيّة، فمثلا لو وردت رواية في ذمّ طائفة من البشر، وبيان خسّتهم ودناءتهم، وأنّهم قسم من الجنّ، قلنا: إنّ هذا مخالف للكتاب؛ لأنّ الروح العامّة للكتاب مبنيّة على أساس المساواة بين الأقوام والشعوب، وعدم التفرقة بينهم، ولو وردت رواية تحلّل الكذب والإيذاء في اليوم التاسع من ربيع الأوّل، قلنا: إنّها مخالفة للروح العامّة للكتاب، ولكن لو وردت رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا، فهذه موافقة للروح العامّة للكتاب المتّجهة نحو تقريب الناس إلى الله، وجعلهم يناجون ربّهم ويدعونه خوفاً وطمعاً.

ويشهد لهذا التفسير للموافقة والمخالفة اُمور، أحدها ما جاء في بعض الروايات من قول: «إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله إلخ» فإنّه لو كان المقصود الموافقة

653

المضمونيّة فأيّ أثر لافتراض وجود شاهد ثان؟! فهذه قرينة على أنّ المقصود وجود الأشباه والنظائر، والروح العامّة المنسجمة مع الحكم المذكور في الرواية في الكتاب الكريم، فيقول مثلا: إن وجدتم له نظيراً أو نظيرين في الكتاب فخذوا به.

وتفصيل الكلام في ذلك وتحقيقه نوكله إلى ما مضى في بحث خبر الواحد.

 

 

654

 

 

 

تنبيهات على موارد مشكوكة للتعارض:

 

بقي التنبيه على اُمور تدور كلّها حول نقطة واحدة، وهي أنّنا قد عرفنا أنّه متى ما أمكن الجمع العرفي بين الدليلين خرجا عن التعارض وقواعده، ومتى ما لم يمكن الجمع العرفي بينهما دخلا في التعارض وقواعده. وهناك موارد يقع البحث والتشكيك في أنّه هل يمكن الجمع العرفي فيها، فلا تطبّق عليها قوانين التعارض، أو لا يمكن ذلك فنطبّق عليها تلك القوانين. فنتكلّم في هذه الاُمور عن موارد من هذا القبيل فنقول:

 

الأمر الأوّل: إذا تعارض عامّ مع مطلق:

فقد جاء في كلماتهم قبل المحقق الخراساني(رحمه الله) أنّه يُقدّم العام؛ لأنّه يرفع موضوع الإطلاق؛ لأنّ إحدى مقدّماته عدم البيان، والعام بيان، ولا يمكن العكس؛ لأنّ العامّ يكون ظهوره بالوضع لا بمقدّمات الحكمة.

وأورد على ذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ هذا إنّما يتمّ لو كانا متّصلين في كلام واحد. وأمّا مع الانفصال فالإطلاق قد انعقد؛ لأنّ إحدى مقدّمات الحكمة إنّما هي عدم البيان المتّصل لا عدم البيان ولو منفصلا، فيقع التعارض بينهما، ولا يرفع العموم موضوع الإطلاق. نعم، قد يتقدّم العموم على الإطلاق بالأظهرية، وهذا أمر آخر.

ولكنّ مدرسة المحقق النائيني (رحمه الله) وافقت على ما كان يقال قبل المحقق الخراساني (رحمه الله)من تقدّم العموم ورفعه لموضوع الإطلاق(1).

وذكر السيد الاُستاذ(2) في وجهه: أنّ إحدى مقدّمات الحكمة ليست عبارة عن عدم البيان المتّصل، ولا عبارة عن عدم البيان ولو منفصلا بنحو الشرط المتأخّر، بل أمر بين الأمرين، فبذلك وجّه ووضّح مراد المحقّق النائيني(رحمه الله)، واختاره.


(1) راجع فوائد الاصول ج 4 ص 729 ـ 731 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج 2 ص 513.

(2) راجع مصباح الاصول ج 3 ص 376.

655

فكأنّه ـ دامت بركاته ـ أحسّ أنّه واقع بين محذورين: فإمّا أن يقول بأنّ الإطلاق قوامه بعدم البيان المتصل، وهذا لازمه عدم تقدّم العموم على الإطلاق عند انفصال أحدهما عن الآخر.

وإمّا أن يقول بأنّ الإطلاق قوامه بعدم البيان مطلقاً، أي ولو متأخّراً، وهذا لازمه عدم حجّيّة إطلاق كلام المولى ما دام يحتمل ورود القيد بعد ذلك، فذهب إلى أمر بين الأمرين، وهو أنّ الإطلاق في كلّ آن قوامه بعدم بيان التقييد في ذلك الآن، فإطلاق الكلام حدوثاً ينعقد بعدم بيان التقييد المتّصل، ويستمرّ ما دام عدم التقييد مستمراً. وهذا يُريحه من كلا المحذورين، فمن ناحية يثبت بذلك مدّعاه من تقدّم العامّ على المطلق؛ لأنّ العامّ بيان، فمتى ما ورد انتفى الإطلاق. ومن ناحية اُخرى حينما يرد مطلق يُؤخَذ به وإن احتمل ورود التقييد بعد ذلك؛ وذلك لأنّه ما دام التقييد غير وارد يكون الإطلاق منعقداً.

إلاّ أنّ هذا الكلام بالرغم ممّا قد يتراءى في بادىء الأمر من فنّيّته لا محصّل له. ولتوضيح ذلك نذكر كلاماً للمحقّق النائيني (رحمه الله) يكون هو المنشأ لهذه الكلمات، وهو افتراض ثلاث دلالات للكلام، فلو قال المتكلم مثلا: (أكرم كلّ عالم) فلهذا الكلام ثلاث دلالات:

1 ـ الدلالة التصوّرية، حيث إنّ هذا الكلام يبعث في النفس تصوّر مضمونه، ومعاني كلماته.

2 ـ الدلالة التصديقية، بمعنى كشف هذا الكلام بما هو كلام ـ بغضّ النظر عن شيء آخر ـ عن مراد المتكلّم، وهو في المثال عبارة عن إرادة المولى وجوب إكرام كلّ عالم بنحو العموم.

3 ـ الدلالة التصديقية، بمعنى الكشف الفعلي عن المراد الجدّي، فقد لا يكون مطابقاً للدلالة التصديقية بالمعنى الأوّل، كما لو ورد مخصّص لهذا العامّ، فلا يكون الكشف الفعلي كشفاً عن إرادة العموم بالرغم من أنّ الكلام بما هو كلام يكشف عن إرادة العموم؛ لأنّه ورد عاماً(1).

إذا عرفت ذلك قلنا: إنْ أراد السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بالدلالة الإطلاقية التي تستمرّ ما دام عدم ورود القيد مستمرّاً، وتنقطع بوروده الدلالة التصديقية الثانية في كلام المحقّق النائيني(رحمه الله)، فما ذكره من استمرار هذه الدلالة ما لم يرد القيد وانقطاعها بوروده


(1) راجع فوائد الاصول ج 4 ص 716 ـ 717 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم وأجود التقريرات ج 2 ص 508.

656

صحيح، إلاّ أنّ هذا الذي سمّاه المحقق النائيني (رحمه الله)بالدلالة التصديقية الثانية ليس في الحقيقة ظهوراً، وإنّما هو عبارة عن حجّيّة الدلالة التصديقية الاُولى، وطبعاً حجّيّة المطلق تستمرّ ما استمرّ عدم ورود القيد، وتنقطع بوروده، لكنّ الكلام في أنّه لماذا يصبح العامّ مقيّداً للمطلق، ولا يصبح المطلق مخصّصاً للعامّ. وإن أراد بذلك الدلالة التصديقية الاُولى من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله)فليس من المعقول ما افترضه من كون الإطلاق حدوثاً وبقاءً تابعاً لعدم ورود القيد حدوثاً وبقاءً، وإنّما الأمر يدور عقلا بين أمرين، فإنّ الإطلاق يتكوّن من ظهور حال المتكلّم في أنّه بصدد بيان تمام مراده، فإمّا أن نقول: إنّ ظاهر حاله هو أنّه بصدد بيان تمام مراده بشخص هذا الكلام. وإمّا أن نقول: إنّ ظاهر حاله أنّه بصدد بيان تمام مراده بمجموع كلماته، ولا يوجد شقّ ثالث.

فعلى الأوّل يكون الإطلاق مُنعقداً وباقياً بمجرّد عدم ورود القيد المتّصل. وعلى الثاني يكون ورود المقيّد المنفصل كاشفاً عن عدم الإطلاق من أوّل الأمر، فما افترضه من حالة وسط بين الحالتين غير معقول(1). وعليه فما ذكره المحقّق الخراساني (رحمه الله)كلام فنّي لا بأس به، فالعموم بما هو عموم لا يتقدّم على الأطلاق. نعم، غالباً يتقدّم العامّ على المطلق بالأظهرية؛ لأنّ العموم بذاته أقوى من الإطلاق وإن كان قد يتّفق التساوي أو أقوائية الإطلاق لنكتة، فربّ إطلاق يكون في الدرجات العالية من القوّة كقوله في باب مفطّرات الصوم: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال ( أو أربع خصال حسب اختلاف النسخ): الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء(2) فإطلاقه لنفي مفطّرية غير هذه الأشياء قويّ جدّاً.


(1) وهنا اعتراض آخر على كلام السيّد الخوئي (رحمه الله) ورد ذكره في بحوث السيد الهاشمي، المجلّد السابع، وهو أنّه هل يدّعى أنّ الرافع للظهور الإطلاقي بالنسبة لكلّ زمان هو وصول البيان والقيد إلى المكلف، أو صدوره واقعاً؟

أمّا الأوّل فلا معنىً لإدّعائه؛ إذ من الواضح أنّ خصوصيّة الوصول غير دخيلة في تكوّن الظهور التصديقي لكلام المتكلّم، وإنّما المعقول دخلها في الحجّيّة.

وأمّا الثاني فيلزم منه أنّنا لو احتملنا ورود بيان منفصل في الزمان الثاني ابتلى المطلق بالإجمال بلحاظ ذلك الزمان؛ لأنّه على تقدير صدور البيان واقعاً يكون الإطلاق مرفوعاً في هذا الزمان، فلم يتمّ التخلّص تماماً من المحذور الثاني. اللّهم إلاّ بمعنى إمكانية التمسّك باستصحاب بقاء الظهور الإطلاقي المنعقد في الزمان الأوّل لو فرض عدم احتمال وجود البيان من أوّل الامر. وهذا إثبات لنتيجة الإطلاق بالأصل العملي، لا اللفظي الذي هو الغرض من الإطلاق. بحوث في علم الاُصول: ج 7 ص 282.

(2) الوسائل: ج 10 ب 1 مما يمسك عنه الصائم ح 1.