38

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس الأخبار:

 

الدليل الثالث: الأخبار، وهي عدة روايات:

 

الرواية الاُولى:

صحيحة زرارة، قال: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن، فإذا نامت العين والاُذن والقلب وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟ قال: لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجي من ذلك أمر بيّن، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

وأصل دلالة الرواية في الجملة على الاستصحاب في غاية الوضوح رغم ما سيأتي من وجه المناقشة فيها في تنبيه نعقده في ذيل الحديث عن هذه الرواية، وسيأتي الجواب ـ أيضاً ـ هناك إنشاء الله.

 

شبهة اختصاص الرواية بباب الوضوء:

ولكن وقع البحث لدى الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ حول أنّ دلالة الرواية على الاستصحاب هل تختصّ بباب الوضوء، أو أنّ لها إطلاقاً لسائر الأبواب؟

والوجه في إثارة احتمال الاختصاص بباب الوضوء هو احتمال كون اللام في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» للعهد، وإشارةً لما مضى في عبارة الرواية من اليقين بالوضوء.

وللجواب على هذا الإشكال وجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ الأصل في اللام كونه للجنس ما لم تقم قرينة على الخلاف، وحمله على معنىً آخر بلا قرينة خلاف الظاهر(2).


(1) الوسائل: ج 1، باب 1 من نواقض الوضوء، ح 1، ص 245 بحسب طبعة آل البيت.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 284، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

39

أقول: إنّنا تارة نفترض أنّ اللام مشترك لفظي بين التعيّن الجنسي والتعيّن العهدي ونحو ذلك، واُخرى نفترض أنّه ظاهر في الاستغراق والجنس، وثالثة نفترض أنّه لا يدلّ على أيّ واحد من هذه التعيّنات، وإنّما هو موضوع للزينة أو نحوها، كما ذكر الآخوند في باب الإطلاق(1)، ورابعة نفترض أنّه موضوع لجامع هذه التعيّنات، وخصوصيّة العهد أو الجنس ونحوهما تستفاد بدالّ آخر.

فعلى الأوّل لا يكون اللام دالّاً على العموم؛ لفرض كونه مشتركاً ومجملاً، وأمّا الإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة في مدخول اللام فيبطله احتفاف الكلمة بما يصلح للقرينية؛ لأنّ اللام على أحد معانيه قرينة على العهد.

وعلى الثاني يكون اللام بنفسه دالّاً على العموم، ويثبت المقصود بلا حاجة إلى الإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة.

وعلى الثالث والرابع نحتاج إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة، واللام ـ عندئذ ـ وإن لم يكن صالحاً للقرينيّة على العهد؛ لأن العهد لا يستفاد في موارد العهد من اللام حسب الفرض، وإنّما يستفاد من السياق، لكنّنا ننقل الكلام ـ على هذا ـ إلى السياق ونقول: إنّ السياق قد يكون ظاهراً في العهد، وقد يكون بنحو مجمل وصالح للقرينيّة على العهد باعتبار ذكر حصّة خاصّة من قبل، كما في المقام، فأيضاً لا يتمّ الإطلاق.

وعليه نقول: إنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) لو قصد بقوله:(إنّ اللام ظاهر في الجنس) الوجه الثاني، بأن يكون الشمول مستفاداً بنحو العموم من اللام، فهذا غير صحيح؛ لما حقّقناه في محله من أنّ اللام ليس موضوعاً للاستغراق، وإنّما هو موضوع لجامع التعيّن، ولو كان مقصوده ما يناسب الوجه الثالث والرابع فهذا لا يكفي في إثبات المطلوب بإجراء مقدّمات الحكمة؛ لكون السياق صالحاً للقرينيّة، ومانعاً عن إجراء مقدّمات الحكمة.

الوجه الثاني: دعوى: أنّ قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» تعليل للجزاء المحذوف في قوله:«وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» بناءً على ما هو المشهور من أنّ الجزاء محذوف، تقديره: وإلاّ فلا يجب عليه الوضوء، فيقال: إنّ التعليل يقتضي التعدّي وعدم الاختصاص بالمورد، فلا بد من ان يكون الحكم لكل يقين لا لخصوص اليقين بالوضوء.

وهذا التقريب بهذا المقدار واضح البطلان، فإنّنا نتكلم في أنّ قوله:«لا تنقض اليقين


(1) راجع الكفاية: ج 1،ص 380، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

40

بالشك» هل قصد به مطلق اليقين، أو أنّ اللام للعهد مثلاً، فقصد به اليقين بالوضوء، وكون هذا تعليلاً لا يؤثّر شيئاً في المقام أبداً، فإنّ تعليليّته لا تعطيه شمولاً، ومجرّد كونه تعليلاً لا يوجب التعدّي من المورد، وإنّما علينا أن نرى مقدار سعة العلّة، فإن كان بمقدار المورد يقتصر على المورد، وإن كان أوسع من المورد يتعدّى من المورد، وكونه بمقداره أو أوسع هو مصبّ البحث في المقام.

ولكن المحقّق العراقي(قدس سره) غيّر صياغة الكلام فذكر: أنّ المنساق عرفاً من هذا التعليل في المقام هو الشكل الأوّل من القياس، فيجب أن يكون اليقين المحكوم عليه بعدم النقض أوسع من اليقين بالوضوء(1).

والمحقّق الأصفهاني(قدس سره) ذكر تماماً عكس ذلك، فذكر في المقام بعد أن كان من المفروغ عنه عنده حمل هذا الحديث على الشكل الأوّل: أنّ الأوسط في الكبرى يجب أن يكون مساوياً تماماً للأوسط في الصغرى، وفي المقام الأوسط المتكرّر هو اليقين، وهو في الصغرى مقيّد بالوضوء، فيجب أن يكون في الكبرى ـ أيضاً ـ مقيّداً به، فيصبح قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ» مختصّاً باليقين بالوضوء، فَلِكي تستفاد من الحديث القاعدة الكلّيّة لا تكفي دعوى: أنّ اللام في اليقين ليس العهد، بل لابدّ من إثبات أنّ اليقين في قوله:«فانه على يقين من وضوئه» أيضاً غير مقيّد بالوضوء، فعندئذ يتّجه الاستدلال بالحديث(2).


(1) راجع المقالات: ج 2،ص 344 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي، وراجع ـ أيضاً ـ نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 42.

(2) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 43 بحسب طبعة آل البيت.

ولا يخفى: أنّ المفهوم من عبارة المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) ليس هو دعوى وحدة ما وقع محمولاً في الصغرى، وهي قوله:«فانه على يقين من وضوئه» وما وقع موضوعاً في الكبرى وهي قوله:«لا تنقض اليقين بالشك» بل هو دعوى اتّحاد الحدّ الأوسط بقيوده المقوّمة، بمعنى الجامع بين أن يكون الموضوع في الكبرى والمحمول في الصغرى كلاهما عبارة عن اليقين بالوضوء، أو أن يكون قيد الوضوء في الصغرى مذكوراً من باب الموردية لا المقوّميّة، فالحدّ الأوسط في كلّ من الصغرى والكبرى هو جامع اليقين رغم وجود قيد الوضوء في طرف المحمول في الصغرى بلحاظ الموردية.

والمحقق العراقي(رحمه الله) حينما ادّعى أنّ المناسب للشكل الأوّل هو أن يكون اليقين المحكوم عليه في الكبرى بعدم النقض أوسع من اليقين بالوضوء لا يقصد به دعوى الأوسعية بلحاظ القيود المقوّمة للمحمول في الصغرى، فلا تقابل إذن بين ما يقوله المحقّق العراقي وما يقوله المحقّق الأصفهاني(رحمهما الله)، ولذا نرى أنّ عبارة(نهاية الأفكار) جمعت بين كلتا المقالتين، أيّ أنّه من ناحية ادّعت لزوم اتّحاد الحدّ الأوسط في الصغرى والكبرى بقيوده، ومن ناحية اُخرى ادّعت ضرورة كون الموضوع في الكبرى جامع اليقين.

41

أقول: إنّ الحقّ في المقام مع المحقّق العراقي(قدس سره) ونوضّح ذلك بذكر مقدمتين:

الاُولى: أنّ الشكل الأوّل له حدود ثلاثة متغايرة، ولا يمكن أن يكون الحدّ الأصغر مع الحدّ الأوسط متّحداً، كأن يقال: الإنسان إنسان، والإنسان حيوان، فالإنسان حيوان. فإنّ هذا ليس استدلالاً، وإنّما مردّه الى قضية واحدة.

الثانية: أنّ العرف حينما يرى كون ثبوت الأوسط للأصغر في غاية الوضوح يقلب التعبير بإثبات الأوسط للأصغر الى التعبير بثبوت الأصغر بنحو مفاد كان التامّة، فمثلاً حينما يسأل السائل: هل يجوع الحيوان الناطق؟ والمجيب يرى أن الجواب مايلي: (الحيوان الناطق حيوان، والحيوان يجوع، فالحيوان الناطق يجوع) فهو في التعبير العرفي يستبدل الصغرى بإثبات الأصغر بنحو مفاد كان التامّة فيقولّ: هو حيوان ناطق، والحيوان يجوع، فهو يجوع.

وبعد هاتين المقدّمتين نقول: إنّ الأوسط في المقام إمّا أن يفرض هو اليقين، أو يفرض هو اليقين بالوضوء، فإن فرض الأوّل انطبق الحديث تماماً على ما قلناه، أيّ: أنّ الصغرى كانت هكذا: (اليقين بالوضوء يقين)، وبما أنّ ثبوت الأوسط للأصغر كان في غاية الوضوح من قبيل قولنا: (الحيوان الناطق حيوان) انقلب الكلام بمقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية من هذا التعبير الى التعبير بثبوت الأصغر بقوله: «فانه على يقين من وضوئه»، وبناءً على هذا الوجه يثبت المطلوب.

وإن فرض الثاني، أيّ: أنّ الأوسط في المقام هو اليقين بالوضوء قلنا: إذن ما هو الأصغر في المقام؟! فإن قيل: إنّ الأصغر هو اليقين بالوضوء كالأوسط لزم اتّحاد الأصغر والأوسط، وهذا خلف ما ذكرناه في المقدّمة الاُولى، وإن قيل: إنّ الأصغر هو اليقين الجزئي في قضية معيّنة قلنا: لم يسبق في الحديث ذكر يقين جزئي معيّن، وإنّما المذكور هو قضيّة فرضية، والشيء الفرضي يكون تشخّصه بنفس العناصر المفروضة فيه لا بوجود خارجي، والعناصر المفروضة فيه هي اليقين وكونه يقيناً بالوضوء، فيصبح الكلام في قوّة أن يقال: اليقين بالوضوء يقين بالوضوء، فرجع الإشكال بلزوم اتّحاد الأصغر والأوسط. وعليه فانحصر الأمر في أن يكون الأوسط هو اليقين، فيدلّ الحديث على الاستصحاب في مطلق اليقين، وهو المطلوب(1).


(1) لا يخفى: أنّه من الممكن افتراض أنّ الأصغر عبارة عن الرجل الذي لم يأته أمر بيّن، فيقول: هذا الرجل على يقين من وضوئه، واليقين من الوضوء لا ينقض بالشكّ.

42

وأظنّ ظنّاً اطمئنانياً أنّ هذا هو مقصود المحقّق العراقي(قدس سره) وإن كان في عبارته قصور.

الوجه الثالث: دعوى: أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدم اختصاص الحكم باليقين بالوضوء، بتقريب: أنّ النقض إنّما استعمل مع اليقين باعتبار ما لليقين من الإبرام والاستحكام، وهذه المناسبة لا يكون لتعلّق اليقين بالوضوء أيّ دخل فيها، وإنّما طرف هذه المناسبة هو نفس اليقين، فنتعّدى من المورد إلى مطلق موارد اليقين بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع(1).

أقول: إنّ هذا الوجه فيه خلط بين مناسبة الحكم والموضوع ومناسبة الألفاظ بعضها مع بعض، فإنّ ما ذكر من أنّ اليقين مستبطن للإبرام والاستحكام، فصحّت نسبة النقض اليه الذي لا يسند إلاّ إلى شيء مبرم ليس بياناً لمناسبة الحكم والموضوع، وإنّما هو بيان لمناسبة إسناد النقض إلى اليقين بحسب عالم اللغة، وهذه المناسبة تصحّح إسناد النقض إلى اليقين بحسب عالم اللغة من دون فرق بين أن يسند إلى جامع اليقين أو إلى قسم خاصّ من اليقين مقيّد بشيء، وعدمُ دخل ذلك القيد في تلك المناسبة لا يبطل صحّة هذا الإسناد كما هو واضح.

نعم، هنا بيان آخر لصحّة اسناد النقض الى اليقين وهو: أنّ اليقين يقتضي بحسب الارتكاز العرفي الجري على طبقه حتى بعد زواله، فمخالفته بعد زواله نقض له، وهذا يبيّن لنا ـ في الحقيقة ـ مناسبة للحكم الاستصحابي مع موضوعه، ومع وجود هذه المناسبة العرفية والارتكاز العرفي ينصرف الكلام من حيث سعة الحدود وضيقها الى ذلك، كما سوف نشير إليه في أحد الوجوه الآتية، فلو أنّهم بيّنوا المطلب بهذا اللسان لكان صحيحاً.

الوجه الرابع: أنّ التعبير بهذا اللسان، أي: بلسان عدم نقض اليقين بالشكّ قد تعدّد وروده في أبواب عديدة من الفقه، فيستكشف من ذلك أنّها قاعدة كلّية، وأنّه قصد باليقين جنس اليقين، حيث إنّ الظاهر إرادة معنىً واحد من هذا التعبير بهذه الصياغة الواحدة في الموارد المتعدّدة(2).

والتحقيق: أنّ هذا لا يورث القطع بالمقصود. نعم، الانصاف: حصول الظنّ بذلك، ولكن


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 337 ـ 338 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات: ج 2، ص 360.

(2) ذكر صاحب الكفاية هذا الوجه بعنوان التأييد، وذلك في الجزء الثاني، ص 284، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

43

ليس هذا ظنّاً لفظيّاً حتّى يدخل في كبرى حجّيّة الظهور، فلا دليل على حجّيّة مثل هذا الظنّ.

الوجه الخامس: أنّنا نستفيد من قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» بالرغم من أخذ كلمة الوضوء في الكلام، وكذا من قوله: «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ـ حتّى لو جعل اللام للعهد ـ القاعدة الكلية غير المختصّة بالمورد؛ وذلك لأنّ التعليل في كلام الإمام(عليه السلام)ظاهر في كونه مسوقاً مساق التقريب إلى الذهن، والتقريب إلى الذهن إنّما يكون إذا اُخذ بالتعليل المركوز في الأذهان، والتعليل المركوز في الأذهان إنّما هو اقتضاء نفس اليقين لعدم النقض بالشكّ، وأمّا اقتضاء اليقين بالوضوء ـ بما هو يقين بالوضوء ـ لعدم النقض فليس أمراً مركوزاً، ولا يصلح لمقربيّة الحكم إلى الذهن، إذن فتلغى بهذه القرينة خصوصية المورد(1).

وهذا الكلام بهذا المقدار غير تامّ، فان التعليل في كلام الإمام(عليه السلام) ليس ظاهراً في خصوص كون الداعي له التقريب إلى الأذهان، بل قد يكون لداع آخر، وهو داعي إعطاء قاعدة عامّة وتعميم الحكم من المورد، وعليه فلعلّ الداعي في ما نحن فيه من ذكر التعليل هو داعي تعميم الحكم من المورد وهو الشكّ الناشىء من احتمال النوم إلى سائر احتمالات الحدث، ولم يكن الشكّ من ناحية النوم موجوداً في كلام الإمام(عليه السلام) حتّى يفرض اللام في الشكّ ـ أيضاً ـ عهدياً.

نعم، يمكن تطوير هذا الوجه، وذلك بأن يقال: إنّ التعليل في كلام الإمام(عليه السلام) إذا كان بشيء مركوز في الأذهان ـ ولو بنحو يختلف حدوده سعةً وضيقاً عمّا في العبارة ـ يوجب انصراف الكلام إلى ذلك الشيء المرتكز بحدوده من السعة والضيق، وحيث إنّ المركوز في المقام هو عدم نقض اليقين بما هو يقين بلا خصوصية لباب الوضوء أو باب الطهارة، فيفهم من الكلام الحكم العام(2). وهذه هي مناسبة الحكم والموضوع التي أشرنا إليها في ذيل الوجه الثالث.

بقي هنا شيء، وهو أنّ فرض التعليل إشارة إلى أمر ارتكازي إنّما يتّم على ما سلّمناه نحن من ارتكازية الاستصحاب للعقلاء ولو على أساس الوهم. وأمّا الأصحاب الذين أنكروا ذلك عند ذكر الاستدلال على الاستصحاب بالسيرة العقلائية، فذكرهم لهذا الارتكاز هنا


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 284، حسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 360، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 338 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

44

تهافت في الكلام.

وأذكُر من بحث السيد الاُستاذ: أنّه حينما وقع في مثل هذا الشيء أجاب بأنّ المقصود من الارتكاز هنا إنّما هو ارتكاز قاعدة: أنّ الشخص لا يرفع اليد عن طريق غير مخطور الى طريق مخطور عند ما يواجه طريقين من هذا القبيل، وهذه القاعدة لا إشكال في ارتكازيّتها(1).

أقول: يرد على هذا: أنّه وان كانت هذه القاعدة ارتكازية لكنّه لو اُريد تطبيقها في المقام تطبيقاً حقيقيّاً فغير ممكن؛ لأن العمل باليقين السابق ليس سلوكاً لطريق غير مخطور واقع في مقابل طريق مخطور؛ إذ المفروض احتمال الانتقاض، فالعمل به ـ أيضاً ـ سلوك لطريق مخطور. ولو اُريد دعوى: أنّه طبّقت هذه القاعدة في المقام تعبّداً كان ظهور هذا الكلام في كونه اشارة الى أمر ارتكازي معارضاً بظهوره في كون التطبيق حقيقياً لا تعبدياً.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو حمل ذلك على قاعدة ارتكازية طبّقت في المقام تعبّداً فلا يمكن الاستفادة من ارتكازيته بالتعدّي إلى غير المورد؛ لأنّها وإن كانت ارتكازيّة ولكن تطبيقها كان تعبدياً، ولابدّ من الاقتصار في التعبّد على المورد.

نعم، يمكن التمسّك بالارتكاز في مقام التعميم مع فرض البناء على ما ذكروه من إنكار ارتكازية الاستصحاب بدعوى: أنّ الميل إلى البناء على الحالة السابقة وإن لم يكن بدرجة يصبح ارتكازاً عقلائياً للاستصحاب ولكنه يكون بدرجة تشكّل ارتكاز عدم الفرق بين مورد ومورد، فإذا ورد دليل على الاستصحاب في مورد اُلغيت خصوصية المورد بارتكاز عدم الفرق.

الوجه السادس: أنّ الخصوصيّة المأخوذة في العلّة إذا كانت منتزعة من المورد كان تصدّي المولى للتعليل ظاهراً عرفاً في إلغاء تلك الخصوصية، وذلك كما في قوله:(لا تشرب الخمر لانه مسكر، أو لإسكاره، أو لإسكاره بالتخمّر)، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ خصوصية الوضوء منتزعة من المورد.

ويرد عليه: أنّ هذا إنْ تمّ فإنّما يتمّ في ما لو كانت الخصوصية ثابتة في نفس الجملة المعلَّله الواردة في الكلام، ولا يكفي مجرد ثبوتها في المورد، وفي المقام لا يكون الوضوء الذي هو متعلّق اليقين مأخوذاً في المعلَّل، فإنّ المعلّل هو عدم وجوب الوضوء، فكأنّه قال:(وإلاّ فلا


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 19.

45

يجب عليه الوضوء، فإنّه على يقين من وضوئه).

نعم، هذا الشيء المعلَّل مورده هو فرض اليقين بالوضوء، لكن هذا المقدار غير كاف لإلغاء الخصوصيّة(1).

 


(1) قد تقول: هذا الكلام غير واضح؛ لأَن خصوصيّة الوضوء كانت ثابتة في الجملة المعلَّله، وهي مثلاً جملة: (لا يجب عليه الوضوء).

نعم، اليقين بالوضوء لم يكن ثابتاً فيها، وهذا تماماً من قبيل: (لا تشرب الخمر لأَنّه مسكر)؛ فإنّ الخمريّة كانت مذكورة في الجملة المعلَّله، ولكن مسكريّة الخمر لم تكن مذكورة فيها، فكما يقال في هذا المثال: إنّ العلّة هي المسكريّة لا مسكرية الخمر، كذلك فلنقل في المقام: إنّ العلّة هي اليقين لا اليقين بالوضوء.

والجواب: أنّ الوضوء المأخوذ في الجملة المعلَّلة يحتمل أن يكون غير الوضوء المذكور في العلّة؛ لأَنّ الوضوء المذكور في العلّة عبارة عن الوضوء السابق، أمّا الوضوء المذكور في الجملة المعلَّلة فقد يكون عبارة عن وضوء جديد، وذلك إذا فرضنا التقدير: (لا يجب عليه الوضوء). نعم، لو فرضنا التقدير مثلاً: (فوضوؤه باق) اتّحد الوضوءان، لكن الشكّ والتردّد بين التقديرين كاف في عدم إمكانيّة التعدّي.

والواقع: هو أنّ مقياس التعدّي عن خصوصية موضوع الجملة المعلّلة هو أن لا تكون تلك الخصوصية في الجملة المشتملة على العلّة إلاّ بأن يكون موضوعاً في تلك الجملة، فتلك الخصوصية إن لم تكن مأخوذة في العلّة أصلاً فالتعدي يكون واضحاً؛ لأن العلّة غير مقيّدة بها، فتفيد العموم لا محالة، وإن كانت مأخوذة في جملة العلّة على شكل الموضوع حمل العرف ذلك على كونه هو الأصغر، والمحمول هو الأوسط، فقوله: (يحرم الخمر لأنّه مسكر) يحمل على أنّ ذكر الخمر في جملة العلّة، أعني: (أنّه مسكر) إنّما كان لأجل كونه هو الحدّ الأصغر، فأراد حمل الأوسط على الأصغر لا لأجل كونه قيداً في العلّة.

ولا فرق في هذا المقياس بين أن تكون تلك الخصوصية مأخوذة في الجملة المعلّله، أو تكون مورداً لها، فلو قال: (لا تأكل الرمان؛ لأنّه حامض) اُلغيت خصوصية الرمان المأخوذة في الجملة المعلّله؛ لأنّها غير ماخوذة في محمول الجملة التي بيّنت العلّة. ولو قال مشيراً الى الرّمان: (لا تأكل هذا؛ لأنّ الرمان حامض) اُلغيت ـ أيضاً ـ خصوصية الرّمان لنفس النكتة رغم أنّ خصوصية الرّمان لم تكن مأخوذة في الجملة المعلّلة، بل كانت مورداً لها. ولو قال: (لا تأكل هذا الرمان؛ لأنّه رمّان حامض) لم تلغ خصوصية الرمان؛ لأنّها اُخذت في محمول الجملة المبيِّنة للعلة، فأصبحت قيداً في الأوسط. ولا نقصد بالموضوع والمحمول ما يكون كذلك في مصطلح علم النحو في صياغة المبتدأ والخبر، أو الفعل والفاعل، بل كلّما يراه العرف في قوّة ذلك دخل في الحساب، فلو قال مثلاً: (لا تشرب الخمر لإسكاره)، أو قال: (لا تأكل الرمان لحموضته)، أو قال مشيراً الى رمّان: (لا تأكل هذا لحموضة الرمان) قلنا أيضاً: إنّ الخمر أو الرمّان: موضوع، وهو الأصغر، والسكر أو الحموضة هو الأوسط المحمول على الأصغر، فالمقياس في تشخيص ذلك هو الذوق العرفي، لا محض صياغة الكلام.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ فيما نحن فيه وإن كان قيد الوضوء مأخوذاً بلحاظ صياغة الكلام في المحمول لا في الموضوع، ولكن لقائل أن يقول: إنّ العرف يفرضه موضوعاً وحدّاً أصغر، فكأنّه قال: وإلاّ فوضوؤه متيقّن، كما أنّ لقائل أن يقول: إنّ الموضوع والحدّ الأصغر عبارة عن الضمير في قوله: «فإنّه» أي: هو على يقين من وضوء، وكلّ من كان على يقين من وضوء لا ينقض يقينه بالشكّ، فعلى الثاني لا يدّل الحديث على أكثر من الاستصحاب في

46

الوجه السابع: ماذكره المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ اليقين من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، ويستحيل انفكاكه عن المضاف إليه، ولذا جعل له في المقام مضاف إليه، وهو الوضوء، فلا يكون ذكر الوضوء قرينة على التقييد(1).

وعبارته(قدس سره) وإن كانت قاصرة فقد تحمل على أنّ ذكر الوضوء في المقام يكون من باب استحالة انفكاك اليقين من المضاف إليه، وعندئذ يرد عليه: أنّ هذا خلط بين وجود اليقين في عالم النفس وذكر مفهوم اليقين في عالم اللفظ، فإنّ الذي لا ينفكّ عن الإضافة إنّما هو الأوّل لا الثاني، فليكن ذكر الوضوء في عالم اللفظ قرينة على التقييد.

ولكن صدور هذا المعنى من المحقّق النائيني(رحمه الله) مستبعد والظاهر أنّ مقصوده: أن كون اليقين من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، واستحالة انفكاكه في عالم النفس عن الإضافة يجعل عرفاً ذكرَ المضاف إليه خالياً عن مؤونة زائدة، فلا يدلّ على التقييد.

وهذا المقدار كاف في مقام الاستدلال بالرواية رغم أن قوله: «على يقين من وضوئه» ليس ظاهراً في عدم دخل القيد؛ إذ غاية الأمر أنّ كون اليقين ممّا لا ينفكّ عن الإضافة مَنَعَ القيدَ عن الظهور الفعلي في القيديّة، لكنه لا يخرج عن احتمال صلاحيته للقرينية، فيوجب


باب الوضوء، وعلى الأوّل يدّل الحديث على الاستصحاب في جميع موارد اليقين السابق والشكّ.

وبهذا يتّضح أنّ من يستظهر من الحديث بفهمه العرفي الاستصحاب في جميع موارد اليقين السابق والشك لا مجال لإقامة البرهان على بطلان كلامه عن طريق احتمال كون اللام للعهد، فيكون من المحفوف بما يصلح للقرينية؛ وذلك لإمكان استظهار أنّ الموضوع في جملة العلّة هو الوضوء، وهو داخل في مورد الجملة المعلّله، فتلغى خصوصيته، ولا يبعد القول بأنّه متى ما لم تكن في جملة العلّة قرينة على إرادة دخل القيد المأخوذ من موضوع الجملة المعلَّله في الأوسط يكون نفس دخله في موضوع الجملة المعلَّله قرينة على أنّه من الحدّ الأصغر لا الاوسط، كما في قولنا: (لا تشرب الخمر لإسكاره) فخمريّة الخمر داخلة في الحدّ الأصغر بقرينة أخذها في موضوع الجملة المعلّله. أمّا إذا كانت في جملة العلّة قرينة على ذلك، فقد دخل في الأوسط رغم أخذه في موضوع الجملة المعلّله، مثاله: (لا تأكل الرمّان؛ لأنّه رمّان حامض)، فإنّه لولا دخل الرمّانيّة في الأوسط يرى أنّ تكرار الرمان في جملة العلّة يكون بلا نكتة؛ إذ كان بالإمكان الاكتفاء بذكره الثابت ضمن الضمير في: (فإنّه)، ولم تكن حاجة الى التكرار.

أمّا في رواية: (فإنّه على يقين من وضوئه) فبما أنّ موضوع الجملة المعلّله يمكن أن يفرض هو الوضوء، أي: وإلاّ فوضوؤه باق؛ لأنّه على يقين منه، ولا ينقض اليقين بالشكّ. ويمكن أن يفرض نفس ذلك الشخص، أي: وإلاّ فهذا الشخص لا يتوضّأ؛ لأنّه على يقين من وضوئه، ومن يكون على يقين من وضوئه لا يتوضّأ، جاء في الحديث احتمالان: كون الوضوء من الحدّ الأصغر أو من الحدّ الأوسط، ولا برهان على امتناع استظهار الأوّل.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 359 ـ 360، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 337 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

47

الإجمال لا محالة. والوجه في كفاية ذلك في الاستدلال هو: أنّ عدم الظهور الفعلي لجملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) في التقيّد بالوضوء يرفع المانع عن التمسّك بإطلاق قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ»؛ إذ مجرّد ذكر شيء مجمل في ما قبل ذلك يكون على أحد معنييه صالحاً للقرينية على إرادة العهد والإشارة إلى حصّة خاصّة من اليقين لا يكون قرينة على ذلك، ولا صالحاً للقرينيّة عليه في نظر العرف(1).

 


(1) يمكن أن يراد بهذا الكلام أحد تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ العهد الذكري لا يحسن عرفاً إلاّ إذا كان المعهود مذكوراً ذكراً قطعياً لا احتمالياً، و اليقين الخاصّ ليس مذكوراً ذكراً قطعياً؛ لأنّنا فرضنا إجمال قوله: «على يقين من وضوئه» لاحتمال كون ذكر قيد الوضوء لأجل محاكاة وضع اليقين الذي هو من الصفات الحقيقية ذات الإضافة التي لا تنفكّ عن المضاف إليه، لا لأجل التقييد.

والجواب: أنّ المعهود مذكور ذكراً قطعياً، غاية ما هناك أنّه مردّد بين اليقين الخاصّ وطبيعة اليقين.

والثاني: أن يقال: إنّ إجمال قوله: «على يقين من وضوئه» وتردّده بين ما يصلح للقرينيّة على العهد إلى خصوص اليقين الخاصّ وما لا يصلح للقرينية على ذلك يجعله غير صالح للقرينيّة، ففرق بين تردّد شيء بسبب الإجمال بين ما يكون قرينة بالفعل وما لا يكون قرينة، وبين تردّده بين ما يصلح للقرينية وما لا يصلح، فالأوّل ينزّله من القرينيّة الفعلية إلى ما يصلح للقرينيّة، والثاني ينزّله من الصلاحية للقرينية إلى عدم الصلاحية.

والجواب: أنّه إذا كان لا دافع لاحتمال العهد؛ لأنّ اللام مشترك لفظي بين الجنس والعهد، أو لأنّ السياق صالح للقرينية على العهد، وإذا كان على تقدير العهد لا دافع لاحتمال العهد إلى اليقين الخاصّ؛ لأنّ القيد مردّد بين محاكاة وضع اليقين الذي يستحيل انفكاكه في النفس من المضاف اليه وبين القيدية، إذن لا دافع ـ لا محالة ـ لاحتمال كون اللام عهداً إلى اليقين الخاصّ. ولا نقصد بصلاحية القرينية إلاّ ذلك، ولا مبرّر لتنزيل الإجمال والتردّد بين ما يصلح للقرينية وما لا يصلح إلى عدم الصلاحية.

والثالث: أن يقال: إنّ اللام ليس للعهد، بل لجامع التعيين، فقرينة العهد لا تكون إلاّ السياق، والسياق لا يقتضي العهد إلاّ إذا كان اليقين السابق ذكره يقيناً خاصّاً، وهذا المعهود غير مذكور ذكراً قطعياً في ما سبق؛ لاحتمال كون ذكر القيد في ما سبق مجاراةً ومحاكاةً لحالة اليقين النفسية، لا لتخصيص اليقين، في حين أنّه لا يحسن العهد الذكري إلاّ مع ذكر المعهود ذكراً قطعياً.

إلاّ أنّ دعوى: أنّ السياق لا يقتضي العهد إلاّ عهدية اليقين الخاصّ عهدتها على مدّعيها.

على أنّ هذا كلّه مبنيّ على ظاهر عبارة المتن من افتراض الإجمال في قوله: «فإنّه على يقين من ضوئه» بمعنى تردّده بين كون ذكر الوضوء من باب القيدية أو من باب المحاكاة عن حالة اليقين النفسية.

ولكنّنا لو حملنا قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» على الجملة الإخبارية فافتراض هذا الإجمال في المقام غير مفهوم مادام هذا الكلام ليس بياناً للحكم الشرعي حتى نقول: إنّه هل هو بيان للحكم على مطلق اليقين أو على يقين خاصّ، وإنما الحكم الشرعي قد بيّن بعد ذلك بقوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» والمحكي بهذا الإخبار كان في واقعه يقيناً خاصّاً، أي: يقيناً بالوضوء، وذكر الوضوء تقييد للحكاية لا محالة، غاية ماهناك: أنّ الدافع لهذا التقييد مردّد بين دخله في ما سيأتي من الحكم وهو النهي عن نقض اليقين بالشكّ، وحكايته لواقع حال اليقين الذي

48

الوجه الثامن: ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّه يقوى احتمال كون (من وضوئه) متعلقاً بالظرف لا باليقين، فكأنّه قال: «فإنّه من وضوئه على يقين»، فليس اليقين المذكور قبل جملة: (لا ينقض اليقين بالشك) خاصّاً، فضلاً عن أن يجعل اليقين في تلك الجملة خاصّاً من باب اشتماله على لام العهد(1).

والكلام في ذلك تارةً يقع في الصغرى، وهي صحّة حمل هذه العبارة على كون (من وضوئه) متعلقاً بالظرف لا باليقين، واُخرى في الكبرى، أي: أنّه بعد تسليم تعلّقه بالظرف يقع الكلام في تماميّة دلالته على المقصود.

أمّا الأوّل، فالظاهر(2) من مثل هذا التركيب في لغة العرب كقولك: (على سلامة من دينه) وقولك: (على بيّنه من ربّه) وقولك: (أنا على بصيرة من ديني) ونحو ذلك هو كون الجار والمجرور متعلقاً بالظرف لا بالمجرور، فإنّك ترى أنّ هذا التركيب وهو: (على يقين من وضوئه) و (على بصيرة من أمره) ونحو ذلك مستساغ صحيح، مع أنّ المجرور وهو كلمة اليقين أو البصيرة ونحوهما ممّا لا يصح في لغة العرب تعدّيه بمن(3)، فلا يقال: (أنا أتيقّن من وضوئي) أو (أنا بصير من أمري) وإنّما يقال: (أنا أتيقّن بوضوئي) أو (أنا بصير بأمري).

هذا، مضافاً إلى أنّ المجرور في بعض هذه الأمثلة لا يمكن جعله متعلّقاً للجار والمجرور من حيث المعنى ولو فرض استعمال كلمة(من) مكان الباء مثلاً، فالجار والمجرور في قولك: (على سلامة من ديني) لا يمكن من حيث المعنى أن يتعلّق بالسلامة ولو اُبدلت كلمة(من) بأيّ حرف جرّ آخر، وفي قولك: (على بيّنة من ربّه) لا يمكن تعليق الجار والمجرور من حيث المعنى بالبيّنة، فإنّه لم يكن المقصود ظهور وجود الربّ له حتى يعلّق الجار والمجرور بالبيّنة.

 


كان، أو محاكاته لوضع اليقين بشكل عامّ المستحيل انفكاكه عن المضاف إليه، ولكن على أيّة حال لا يخرج الوضوء عن كونه قيداً للمحكيّ، إذن فالمعهود حتى لو كان هو اليقين الخاصّ فهو مذكور في الكلام ذكراً قطعياً، فالسياق يصلح للقرينيّة لا محالة.

ولعلّ مقصود اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان شيئاً آخر قصرت عبارتنا عن إفادته.

(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 284 ـ 285، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

(2) راجع بهذا الصدد نهاية الدراية: ج 5، ص 46 بحسب طبعة آل البيت.

(3) لا يخفى: أنّ هذه التعليلات لا تصلح دليلاً على أنّ هذا التركيب في لغة العرب ظاهر في تعلّق الجار والمجرور الثاني بالظرف على الإطلاق، وإنّما تصلح دليلاً على ذلك في كلّ مورد تمّ شيء من هذه التعليلات، ومن تلك الموارد ما نحن فيه.

49

والخلاصة: أنّ الظاهر أنّ كلمة (من وضوئه) متعلّقة في المقام بالظرف، أي: بما تعلّق به (على يقين) لا باليقين.

وأمّا الثاني، فقد استشكل المحقّق العراقي(قدس سره) في إجداء صرف القيد من اليقين إلى الظرف في تتميم الاستدلال بالحديث، بدعوى: أنّ اليقين ـ على أيّ حال ـ قيّد بالوضوء: إمّا بتضييقه بلسان ذكر متعلّقه بأن يكون الجار والمجرور متعلّقاً باليقين، وإمّا بتضييقه بلسان ذكر منشأه، بأن يقال: إنّه يكون على يقين، ويكون وصف كونه على يقين ناشئاً من الوضوء(1).

أقول: إنّنا إذا جعلنا (من وضوئه) متعلّقاً بالظرف، أي بالفعل العام الذي تعلق به (على يقين) كان معنى ذلك: أنّ شيئاً واحداً وهو الكون قيّد بقيدين عرضيين وهما (على يقين) و (من وضوئه) وإن كان التقييدان طوليين، أيّ: أنّ الكون إنّما قيّد بقيد (من وضوئه) بالنظر إلى كونه مقيّداً بعلى يقين، لكن هذا لا ينافي كون القيدين في عرض واحد، كما هو مقتضى تعلّق كلا الجارّين والمجرورين بشيء واحد، وإذا كانا في عرض واحد فيستحيل تقيّد أحدهما بالآخر، فيكون ـ لا محالة ـ اليقين مطلقاً، فحتّى لو كان اللام للعهد لا ينافي ذلك إطلاق المدخول؛ ولذا ترى أنّه لو قدّم (من وضوئه) على جملة (على يقين) بأن قال: (فإنّه من وضوئه على يقين، ولا ينقض اليقين بالشكّ) يفهم منه الإطلاق بلا إشكال.

 

تنبيهات:

وفي ختام البحث عن هذه الصحيحة ننبّه على اُمور:

1 ـ حول جملة (فإنّه على يقين من وضوئه):

الأمر الأوّل: في البحث عن جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) هل هي قضية خبرية


(1) راجع المقالات: ج 2، ص 345 ـ 346 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلامي. ونهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 43.

ولا يخفى: أنّ المحقق العراقي(رحمه الله) ملتفت إلى عدم تقيّد اليقين بمنشأه بناءً على تعلّق (من وضوئه) بالظرف، كما هو ظاهر من عبارته في المقالات وفي نهاية الأفكار، فهو يرى أنّ المعلول في معلوليّته لا يتقيّد بعلّته، فإنّ الناشيء من العلّة إنّما هي نفس الذات لا بقيد النشوء عنها، إلاّ أنّه يدّعي أنّ اليقين ـ عندئذ ـ رغم عدم تقيّده بمنشأه ـ وهو الوضوء ـ لا يبقى له إطلاق وسعة ليقين آخر ناشيء من منشأ آخر، وهذا مبتن على فكرته عن الحصّة التوأم، فإبطال كلامه في المقام لا يكون ببيان عرضيّة القيدين، بل يكون بمناقشة فكرة الحصّة التوأم. ولعل اُستاذنا(رحمه الله)سامح في مقام البيان حذراً من التعقيد في البحث، وإلاّ فمن البعيد غفلته(رحمه الله) عن ذلك.

50

تخبر عن اليقين الواقعي، أو لا؟ وعلى أيّ واحد من هذين التقديرين هل هذه الجملة هي الجزاء، أو الجزاء هو ما بعدها، أو هو محذوف؟ وهذه الفروض هل لها دخل في اقتناص المقصود وعدمه من هذه الصحيحية، أو لا؟ فالبحث يقع في نواحي ثلاث:

 

هل الجملة خبرية أو إنشائية؟

الناحية الاُولى: في أنّ هذه الجملة هل هي إخبار عن اليقين الواقعي، أو لا؟

لا شكّ في أنّ هذه الجملة ـ بحسب ظهورها الأوّلي ـ ظاهرة في الإخبار دون الإنشاء، كما اعترف بذلك المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي حملها على الإنشاء(1).

نعم، هي قابلة للحمل على الإنشاء خلافاً لما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّه لا يمكن حملها على الإنشاء؛ لأنّ الجملة الخبرية التي تأتي للإنشاء إنّما هي الجملة الفعلية مثل: (تسجد سجدتي السهو) أو (تصلّي)، بمعنى اسجد أو صلِّ، دون الجملة الاسمية من قبيل: (هو ساجد) أو (هو مصلٍّ)(2).

أقول: إنّ هذا الكلام إن تمّ فإنّما يتمّ في الإنشاء بمعنى الطلب، لا الإنشاء الذي يقصد به إيجاد المحمول من قبيل: (أنتِ طالق) ونحو ذلك ممّا هو جملة اسمية أفادت الإنشاء، فقد يكون ما نحن فيه من هذا القبيل، أي: يقصد بقوله: «فانه على يقين من وضوئه» ايجاد اليقين واعتباره تعبّداً(3).

نعم، هذا في نفسه خلاف الظاهر، كما لا شكّ ـ أيضاً ـ في أنّ حمل اليقين المخبر عن وجوده على اليقين التعبّدي خلاف الظاهر في نفسه، فالجملة ظاهرة في الإخبار عن اليقين الوجداني.

إلاّ أنّ هناك تقريباً لدعوى حملها على الإنشاء أو على تعبديّة اليقين، وهو: أنّ ما عرفته من الظهورين معارَضان بظهور آخر وهو ظهور هذه الجملة في كون اليقين ثابتاً بالفعل لا


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 336 ـ 337 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 17.

(3) قد ورد في مصباح الاُصول الاعتراف بأنّ اختصاص الجملة الفعلية بصحّة استعمالها مكان الإنشاء دون الاسمية إنّما هو في الإنشاء الطلبي. أمّا إنشاء المحمول فتأتي فيه الجملة الاسمية كأنت طالق، ولكنّي لا أدري كيف وقعت الغفلة عن أنّ فرض الإنشاء في ما نحن فيه يمكن تصويره بإنشاء المحمول، فكون الجملة في المقام اسمية لا يرفع احتمال الإنشاء؟!

51

ثابتاً في زمان سابق قد انقضى، ومن المعلوم أنّه لا يوجد له بالفعل يقين وجداني بالوضوء؛ إذ المفروض أنّه شكّ في الوضوء، إلاّ أن يحمل اليقين بالوضوء في المقام على إرادة اليقين بحدوث الوضوء، لكنّ هذا الحمل لا ينسجم مع ما بعد هذه الجملة، وتوضيح المقصود: أنّه تارةً يؤخذ قيد الحدوث والبقاء في متعلّق اليقين والشكّ، واُخرى يغضّ النظر عن هذا القيد ويلتفت إلى ذات الوضوء، وبهذا النظر يُرى اليقين عرفاً مجارياً لنفس الوضوء، أي: أنّه إذا علم أو احتمل ذهاب وضوئه يقال: إنّ يقينه قد زال، فلو لوحظ في جانب متعلِّق اليقين ذات الوضوء، فبهذا النظر لا يكون اليقين ثابتاً بالفعل، فلابدّ من حمل الكلام على الإنشاء أو الإخبار عن يقين تعبّدي، ولو لوحظ فيه جانب الحدوث لزم من ذلك لحاظ جانب الحدوث ـ أيضاً ـ في اليقين في قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» تحفظاً على وحدة المقصود من لفظي اليقين الواردين في سياق واحد. وبهذا النظر يكون متعلّق الشكّ غير متعلّق اليقين؛ فإنّ اليقين تعلّق بالحدوث، والشكّ تعلّق بالبقاء، ومع فرض اعتبار التغاير بين متعلّق اليقين ومتعلّق الشكّ لا معنى لإسناد النقض بالشك إلى اليقين، بأن يقال: (لا ينقض اليقين بالشكّ). وعليه فينحصر الأمر في حمل قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» على الإنشاء أو الإخبار بيقين تعبّدي.

ويرد على هذا التقريب:

أوّلاً: ما سوف ياتي ـ إن شاء الله ـ من تصحيح إسناد النقض إلى اليقين بوجه ينسجم مع لحاظ جانب الحدوث والبقاء في اليقين والشكّ.

وثانياً: أنّه لو غضضنا النظر عن ذلك، وفرض وقوع التعارض بين الظهورين الأوّلين والظهور الثالث وهو الظهور في وجود اليقين بالفعل، قلنا: إنّ الظهورين الأوّلين أقوى من الظهور الثالث بحيث يصبحان قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور الثالث.

وثالثاً: أنّه لو حمل اليقين مثلاً على اليقين التعبدي، فماذا نصنع باليقين المذكور في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هل نحمله ـ أيضاً ـ على اليقين التعبّدي أو لا؟ فإن حملناه على اليقين التعبّدي لزم من ذلك:

أوّلاً: ركاكة قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»؛ إذ يكون معناه: لا تنقض ما هو حجّة بالشك، في حين أنّ عدم جواز نقضه بالشكّ هو المفروض في حجّيته، فلا معنى للنهي عن نقضه بالشك.

وثانياً: أن يفرض المولى الشخص متيقّناً تعبّداً فيقول: «لا تنقض اليقين» وشاكاً في نفس

52

الوقت؛ ولذا يقول: «بالشك»، وهذا وإن لم تكن فيه استحالة عقلية لعدم المنافاة بين اليقين والشك عقلاً عند فرض التعبّد، لكن يُرى في ذلك التهافت عرفاً.

وإن حملناه على اليقين الوجداني لزم بذلك عدم وحدة المقصود من لفظي اليقين الواردين في سياق واحد، وعدم تحقّق ما مضى أنّ الحديث ظاهر فيه من تألّف القياس من الصغرى والكبرى من هاتين الجملتين، وكون قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» تكراراً صِرفاً لقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لا كبرى وتلك صغراها.

فالصحيح هو التحفّظ على ظهور جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) في الإخبار باليقين الحقيقي.

 

هل الجملة هي الجزاء؟

الناحية الثانية: في أنّ هذه الجملة وهي قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» هل هي الجزاء أو غيرها هو الجزاء؟

وقد ذكرت في هذه الجملة في المقام احتمالات ثلاثة:

الأوّل: كونها من متمّمات الجواب، بأن يكون الجواب محذوفاً، أي: وإلاّ لا يجب عليه الوضوء، فإنّه على يقين من وضوئه.

والثاني: كون الجواب هو قوله: «ولا ينقض اليقين بالشكّ» فقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» إمّا هو من متمّمات الشرط أو من مقدّمات الجواب.

والثالث: كون هذه الجملة بنفسها جواباً.

ولندرس هذه الاحتمالات تارةً بناءً على كون هذه الجملة إخباراً، واُخرى بناءً على كونها إنشاءً، ونقصد بالإنشاء ما يعمّ كون نفس الجملة إنشاء وكونها إخباراً عن يقين تعبدي، فنقول:

أمّا بناءً على الإخبار فالاحتمال الأوّل احتمال متين ومنسجم مع الذوق العرفي، وما قد يقال في مقام استبعاده: (أوّلاً: من أنّه يلزم التكرار؛ إذ الجزاء المحذوف وهو قوله: «لا يجب عليه الوضوء» تكرار لما سبق من قوله: «لا، حتّى يستيقن»، وثانياً: من أنّ التقدير خلاف الأصل، إذن فهذا الاحتمال يكون على خلاف الظاهر) غير صحيح:

أمّا الأوّل؛ فلأنّ المفروض هو حذف أحد المكرّرين، فلم يلزم تكرار في اللفظ، وما يوجد فيه شيء من القبح أو الركّة في الكلام إنّما هو التكرار الفعلي في اللفظ لا التكرار

53

التقديري، بمعنى كون الشيء المقدّر تكراراً لشيء مذكور.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ ما يكون على خلاف الأصل هو أن يعتمد المتكلّم في فهم شيء على مجموع الكلام والقرائن الحاليّة والمقاليّة ونحو ذلك من دون أن يصرّح بذلك الشيء، وأمّا في ما نحن فيه فهو صرّح أوّلاً بعدم وجوب الوضوء بقوله: «لا»، وجعل لذلك غاية، وهي قوله: «حتّى يستيقن أنّه قد نام»، ثمّ فرض عدم الغاية بقوله: «وإلاّ»، والمترقّب ـ عندئذ ـ أن يأتي الجواب لفرض عدم الغاية بعين ما مضى من التصريح به من الحكم المغيّى بالغاية التي نفيت، إلاّ انّه إعتمد على ذلك التصريح، فلم يذكر الجواب، وليست في ذلك أيّة مؤونة بحسب النظر العرفي.

وأمّا الاحتمال الثاني فغير صحيح؛ إذ لو فرضت جملة: (فإنه على يقين من وضوئه) مقدّمة للجواب، وقوله: (ولا ينقض...) هو الجواب، ورد عليه: أنّه لا يصحّ دخول الواو على جواب الشرط. ولو فرضت تلك الجملة تتمة للشرط، وقوله: (ولا ينقض...) جواباً، ورد عليه مضافاً إلى ذلك: أنّه لا يصحّ دخول الفاء على ما هو تتمّة للشرط(1)، فهذا الاحتمال غير منسجم مع المحاورات العرفية.

وأمّا الاحتال الثالث، فقد ناقش فيه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ الجزاء لا بدّ أن يكون مرتبطاً بالشرط، وكونه على يقين من وضوئه غير مرتبط بعدم تيقّنه بالنوم(2).

وذكر المحقق الإصفهاني(قدس سره) أنّ الربط بينهما موجود باعتبار ملازمة اليقين بالوضوء لعدم اليقين بالنوم(3).

أقول: إنْ اُريد اليقين بالوضوء حدوثاً أو اليقين بذات الوضوء بغضّ النظر عن حدوثه وبقائه، فهذا ثابت في نفسه بلا فرق بين أن يشكّ في النوم أو يقطع بوجوده أو عدمه. وإن اُريد اليقين بالوضوء بالفعل فهذا كذب؛ لأنّ المفروض هو الشكّ. وإن اُريد اليقين التعبدّي كان هذا خلف مفروض الكلام فعلاً.


(1) صحّة وعدم صحة دخول الفاء على تتمة الشرط ترتبط بكيفية كون تلك التتمّة تتمّةً، فقد تكون سنخ تتمّة ترتّب على الجزء الأوّل من الشرط بالفاء،كقولك: (إن ضربت زيداً فمات وجبت عليك ديّة كاملة)، وفي المقام قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لا ينسجم معناه في ذاته مع كونه تتمّة للشرط، وكلمة (إنّ) ـ أيضاً ـ تأبى ذلك، وكون الشرط محذوفاً باستثناء حرف لا ـ أيضاً ـ يأبى ذلك، فليس من المقبول العطف على المحذوف سواء بالفاء أو بغير الفاء.

(2) راجع تعليقة الآخوند على الكفاية: ص 179، بحسب طبعة بصيرتي.

(3) راجع نهاية الدراية: ج 5، ص 42 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

54

نعم يمكن تخريج جملة: (فإنّه على يقين من وضوئه) على الاحتمال الثالث بنحو صحيح عرفيّ،وذلك بأن نفرض جملتي: (فإنّه على يقين من وضوئه) و (لا ينقض اليقين بالشكّ) معاً جزاءً للشرط، لكن جزائيتهما باعتبارهما قياساً ودليلاً، أي: بلحاظ مرحلة الإثبات، فكأنّه قيل: وإن لم يستيقن أنّه قد نام جرى في حقّه هذا القياس: أنّه على يقين من ضوئه، ولا ينقض اليقين بالشكّ.

وأمّا بناءً على الإنشاء، فالاحتمال الأوّل يأتي هنا بنفس البيان الذي وضّحناه حرفاً بحرف.

والاحتمال الثاني يكون باطلاً كما كان باطلاً على الإخبار بنفس البيان أيضاً.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو صحيح هنا من دون حاجة إلى التوجيه الذي وجّهناه به على الإخبار من جعل مجموع الجملتين جزاءً؛ فإنّ ثبوت اليقين بالوضوء فعلاً تعبّداً فرع عدم اليقين بالنوم، فلا بأس بجعله جزاءً له.

 

هل يخل بعض الفروض السابقة بالاستدلال؟

الناحية الثالثة: في أنّه هل يخلّ بعض هذه الفروض بالاستدلال بالحديث على الاستصحاب في جميع الأبواب أو لا؟

قد يتراءى أنّ استفادة القاعدة الكلّية من هذا الحديث لا تتمّ لو جعلنا قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» جواباً؛ لأنّ الجواب إنّما يكون على حدّ الشرط وبمقداره سعةً وضيقاً، فيلزم أن يختصّ ذلك بباب الوضوء باعتبار اختصاص الشرط في الكلام به.

ولكن لو جعلنا قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» جواباً بحسب عالم الإثبات، أي: باعتبار دليليته وكبرويته كما مضى منّا في توجيه الاحتمال الثالث، لم يلزم منه ذلك؛ فان غاية الأمر هي أنّ الإثبات المقصود في الحديث مختصّ بهذا الباب، ولا ينافي ذلك التمسّك بكلّيّة الكبرى في سائر الموارد.

على أنّه لو لم يتمّ اقتناص كبرىً كلّية من هذا الكلام في نفسه، كفانا بعض الوجوه السابقة في مقام فهم القاعدة الكلّية التي لم تكن مربوطة بدعوى كلّية نفس النصّ عموماً أو إطلاقاً، وذلك كما في التعدّي والتعميم بواسطة الارتكاز، فلا تبقى لهذه الفروض التي مضت في المقام ثمرة في مقام إمكان اقتناص المقصود وعدمه من الحديث فيما نحن فيه.

 

55

2 ـ شبهة استفادة قاعدة المقتضي والمانع من الرواية:

الأمر الثاني: قد يناقش في دلالة هذه الصحيحة على الاستصحاب بدعوى عدم معلوميّة كونها بصدد بيان الاستصحاب، وإنّما هي بصدد بيان قاعدة المقتضي والمانع، ويكون لاستفادة قاعدة المقتضي والمانع من هذا الحديث تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّه قد اُسند اليقين في الحديث إلى الوضوء حيث قال: «كنت على يقين من وضوئك» ومن المعلوم أنّ الوضوء ليس شيئاً يدوم فنشكّ في انتقاضه وعدمه، وإنّما الوضوء عمل مخصوص ينتهي بانتهاء مدّة العمل. نعم، هو مقتض للطهارة التي تبقى إلى أن يأتي مانع عن البقاء وهو النوم، والمفروض في المقام احتمال تحقّق النوم، فالحديث ينطبق تماماً على قاعدة المقتضي والمانع دون الاستصحاب.

ويرد عليه: أنّ الوضوء ـ على ما ثبت في الفقه ـ قد اعتبره الشارع تعبداً طهارة، واعتبره ـ أيضاً ـ باقياً، فلو نظرنا إلى الوضوء بما هو فعل من الأفعال، لا معنى لاستصحابه كما بيّن في الإشكال. ولو نظرنا إليه بما هو طهارة قابلة للبقاء. صحّ إسناد اليقين إليه وفرض الشك في بقائه، وقد نظر الشارع إلى الوضوء بهذه النظرة في كثير من الروايات، كالروايات التي تقول: (إنّ العمل الفلاني من النوم أو غيره ينقض الوضوء) فإنّ الوضوء بما هو فعل من الأفعال لا معنى لنقضه بذلك، وفي نفس هذا الحديث قد نُظر إلى الوضوء بهذه النظرة، حيث قال الراوي في أوّل الحديث: «قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء» وهذا يعني: أنّه نُظِر إلى الوضوء بما هو طهارة باقية إلى زمان النوم، فعبّر بتعبير: نام عليها، فظهر أنّ هذا الحديث لا يأبى عن حمله على الاستصحاب.

ولكن الحديث يأبى عن حمله على قاعدة المقتضي والمانع؛ وذلك لأنّ حذف متعلّق اليقين والشك مع وحدة سياقهما دليل على اتّحاد متعلقهما، فلا يناسب فرض متعلّق اليقين الوضوء، ومتعلق الشكّ النوم.

أضف إلى ذلك: أنّ الشكّ إذا كان متعلّقاً بشيء واليقين متعلّقاً بشيء آخر لم تكن من المناسب نسبة النقض بهذا الشك الى ذاك اليقين، فلا بدّ أن يكون ذلك باعتبار المتيقّن والمشكوك، وهو خلاف الظاهر، إذن فلا بدّ من حمل الحديث على الاستصحاب.

التقريب الثاني: أنّه لو كان الحديث ناظراً إلى الاستصحاب لكان يُجرى استصحاب عدم النوم الحاكم على استصحاب الطهارة، ولا مجال لاستصحاب الطهارة لثبوت الاستصحاب في جانب السبب، وهو ناقض الطهارة، وهذا بخلاف ما لو حملناه على قاعدة المقتضي

56

والمانع؛ فإنّه لا توجد هنا قاعدة اُخرى سببيّة تحكم على القاعدة المذكورة في الحديث، فهذا شاهد على إرادة قاعدة المقتضى والمانع.

وقد يجاب على ذلك: بأنّ مورد الرواية هي الشبهة المفهومية؛ لأنّ الراوي يسأل عن الحالة التي يحرّك في جنب النائم الشيء وهو لا يعلم هل هذه الحالة تعتبر نوماً فيبطل الوضوء أو لا؟ وعليه، فلا مجال للاستصحاب الموضوعي الحاكم في المقام بناءً على ما هو الصحيح من عدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهوميّة.

ويرد عليه: أنّه لا يمكن حمل الرواية على الشبهة المفهومية، بل الراوي سأل أوّلاً عن الشبهة المفهوميّة وعرف الضابط فيها بتفصيل الإمام(عليه السلام) بين نوم العين ونوم القلب والاُذن، ثمّ وصلت النوبة إلى الشبهة المصداقية، وعدم التفاته إلى ما حرّك في جنبه منشأ لشكّه في النوم، فسأل عن هذه الشبهة المصداقية، ولو كانت الشبهة مفهومية لكان السؤال عن حدود النوم المبطل للوضوء، وعندئذ لا معنى لأن يجيبه الإمام(عليه السلام) بالاستصحاب، بل لا بدّ من بَيانه(عليه السلام) للحكم الواقعي، وإنّما الذي يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية هو الفقيه غير العارف بالحكم الواقعي، لا الإمام(عليه السلام) الذي شأنه بيان الأحكام الواقعية، إذن، فلا بدّ من استيناف الجواب عن هذه الشبهة.

ويمكن أن يجاب عنها بما يلي:

1 ـ ما سوف يظهر ـ إن شاء الله ـ من أنّ حكومة الأصل السببي على المسبّبي ممّا لا أساس له، وإنّما يقدّم بوجه عرفي الأصل السببي على المسبّبي إذا كانا متعارضين، وفيما نحن فيه لا تعارض بينهما، فلا بأس بالتمسّك باستصحاب الطهارة.

2 ـ لو سلّمنا صحّة مبنى الحكومة في نفسه قلنا: إنّ مقتضى هذا الحديث تقييد نكتة الحكومة وتخصيصها بخصوص الأصل السببي المعارض للمسبّبي دون الموافق له، فإنّه إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق ذلك أو عن الظهور الذي بيّناه للحديث في الاستصحاب كان المتعيّن هو الأوّل حتماً.

3 ـ أن يفرض في المقام أنّ النوم حدّ للطهارة لا مانع عنها، بمعنى كون عدمه مأخوذاً في موضوع الحكم ببقاء الطهارة، وعندئذ لا يترتّب على استصحاب عدم النوم أثر شرعيّ إلاّ بالملازمة، حيث إنّ لازم عدم ثبوت الحدّ والغاية ثبوت المغيّى، وليس ثبوت المغيّى أثراً لعدم النوم مترتباً عليه على حدّ ترتب الحكم على موضوعه، فعندئذ لا يجري استصحاب عدم النوم.

57

ويرد عليه: أنّ العرف لا يتعقّل التفكيك بين فرض عدم النوم داخلاً في موضوع الحكم ببقاء الطهارة وفرض النوم حدّاً وغايةً، بل يفهم من الثاني ـ أيضاً ـ الأوّل، على أنّ هذا الكلام إنّما يتوجّه بناءً على فرض الحكم عبارة عن الاعتبارات والإنشاءات ونحو ذلك. وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من أنّه لا بدّ من لحاظ نفس الحبّ والبغض، فلا محالة يكون عدم النوم دخيلاً في عالم الحبّ والبغض، وإلاّ لما جعل النوم غاية وحدّاً للحكم، فيرجع ذلك إلى كون عدم النوم موضوعاً، ولا يبقى فرق بينهما.

4 ـ أن يقال: إنّ الطهارة من الاُمور التكوينية التي كشف الشارع عنها، وليست حكماً شرعياً مترتّباً بقاؤها على عدم النوم حتّى يمكن إثباتها باستصحاب عدم النوم، فلا بدّ من استصحاب نفس الطهارة، ولا يكفي استصحاب عدم النوم المستلزم تكويناً لبقاء الطهارة.

ويرد عليه: عدم صحّة المبنى، أعني: كون الطهارة من الاُمور التكوينية لا حكماً شرعياً. وتحقيق ذلك موكول إلى الفقه.

 

3 ـ شبهة أنّ السلب في (لا تنقض اليقين) للعموم لا للعامّ:

الأمر الثالث: جاء في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) ذكر شبهة في المقام، وهي: أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» قد يكون سلباً للعموم لا سلباً للعامّ، فلا يدلّ على الاستصحاب بنحو القضية الكلّية. واستظهر هو(قدس سره) كونه سلباً للعام لا للعموم(1).

وهذه الشبهة في نفسها لم تكن تستحقّ الذكر، إلاّ أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) ذكرها وفصّل الكلام في تحقيق الحال فيها، ولعلّه لأجل استخلاص قانون عام يفيد في كثير من الموارد، فذكر(قدس سره): أنّ العموم إذا كان مستفاداً بمعنىً اسمي أمكن فيه توجه السلب إلى العموم؛ لكونه منظوراً إليه بالاستقلال، كما أمكن توجّهه إلى العامّ. وأمّا إذا كان مستفاداً بمعنىً حرفي من قبيل اللام بناءً على إفادته للعموم، أو بنفس كون اسم الجنس في سياق النفي، كما في قوله: «لا


(1) راجع الرسائل: ص 331، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

وقد أجاب الشيخ(رحمه الله) على الشبهة:

أوّلاً: بأنّ اللام لا يدلّ على عموم واقع في سياق النفي حتّى يحمل ذلك على نفي العموم، وإنّما العموم مستفاد من وقوع الجنس في سياق النفي؛ وذلك يدلّ على سلب العامّ.

وثانياً: بأنّه لو سلّم أنّ اللام للاستغراق، فدلّ على العموم، وكان العموم في سياق النفي، قلنا: إنّ الظاهر بقرينة المقام والتعليل وقوله: «أبداً» هو عموم السلب، لا سلب العموم.

58

تنقض اليقين» فلا يمكن أن يكون السلب متوجّهاً إلى العموم. أمّا في الأوّل فلأنّ العموم مستفاد بمعنىً حرفي، والمعنى الحرفي غير منظور إليه استقلالاً، فلا يمكن توجيه السلب إليه. وأمّا في الثاني فلأنّ العموم مستفاد بحكم العقل من باب أنّ سلب الطبيعة لا يكون عقلاً إلاّ بسلب تمام أفرادها، وهذا كما ترى عموم في طول السلب فيستحيل توجه السلب إليه(1).

ويوجد في تقرير الشيخ الكاظمي(قدس سره)(2) تشويش في المقام، حيث ذكر في عنوان المطلب الفرق بين العموم والإطلاق بكون الأوّل معنىً اسمياً يلحظ مستقلاً، فيصحّ توجّه السلب إليه، والثاني معنىً حرفياً غير ملحوظ استقلالاً. ثمّ ذكر في مقام بيان الفرق: أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة يكون في طول الحكم، فيستحيل توجّه السلب إليه(3).

وهذا الكلام ـ بغضّ النظر عن أنّه يغاير ما عنون به المطلب ـ إن كان صادراً من المحقّق النائيني(قدس سره) يوجب تهافتاً في مبانيه، وذلك لأنّه(قدس سره) يرى أنّ العامّ دائماً يحتاج إلى الإطلاق ومقدّمات الحكمة؛ لكون أداة العموم إنّما تدلّ على شمول ما اُريد من مدخوله بالإرادة الجدّية من الأفراد، فلا بدّ من تعيين ذلك بالإطلاق، وإذا كان الإطلاق في طول الحكم إذن فالسلب لا يتسلّط على العموم بلا فرق بين العام و المطلق.

وعلى أيّ حال، فما ذكره(قدس سره) ـ من أنّ العموم إذا كان بنحو المعنى الحرفي لا يمكن تسلط النفي عليه لكونه غير ملحوظ استقلالاً ـ يرد عليه: أنّ تسلّط النفي عليه ليس معناه لحاظه استقلالاً وتوجيه النفي إليه، وإنما معناه تسلط النفي على العامّ بما هو عامّ، لا على ذات العامّ، كما هو الحال عند إرادة نفي أيّ قيد حرفيّ، فمثلاً إذا اُريد نفي تقيّد الجلوس بكونه في الدار لا نفي أصل الجلوس، يقال: (ما جلست في الدار)، فقد نفيت هنا النسبة الظرفيّة، لكن لا بمعنى توجيه النفي ابتداءً إلى النسبة الظرفيّة حتى يقال: إنّ المعنى الحرفي لا يلحظ مستقلاًّ، بل بمعنى توجيه النفي إلى المقيّد بما هو مقيّد، فينفى ـ لا محالة ـ القيد.

وأمّا ما ذكره(قدس سره) من أنّ الإطلاق إذا كان بملاك وقوع الطبيعة في سياق النفي فهذا إطلاق عقليّ في طول النفي ولا يمكن أن يتوجّه إليه النفي، فيرد عليه: أنّ العقل إنّما يحكم بأنّ ما نفي لا بدّ من انتفاء تمام أفراده. وأمّا أنّه هل نفيت ذات الطبيعة بلا قيد حتّى ينتفي تمام أفرادها، أو


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 361.

(2) ج 4، ص 121، بحسب الطبعة التي هي من منشورات مؤسّسة النصر ومكتبة النصر بطهران. وص 338 ـ 339 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) ليس هذا نقلاً لكل ما ورد في فوائد الاُصول، وإنّما هو نقل لما ذكره بلحاظ المفرد المحلّى باللام.

59

نفيت الطبيعة مقيّدة بقيد حتى ينتفي تمام أفراد المقيّد، فهذا غير مرتبط بحكم العقل، ولا بدّ من تعيين الأول بمقدّمات الحكمة، فلا يبقى إلاّ أن يقال: إنّ العموم الحَكَميّ معنىً حرفي لا يلحظ مستقلاًّ، فلا يتوجّه إليه النفي. وقد عرفت ما فيه، أو يقال: إنّ العموم الحَكَمي في طول الحكم، فلا يتوجّه إليه النفي، وهذا ما قلنا: إنّه يوجب التهافت بين مبانيه(قدس سره).

وإن كان الصحيح عندنا هو هذا، أعني: التفصيل بين العموم والإطلاق بأنّ الأوّل يمكن توجّه السلب إليه؛ لعدم كونه في طول الحكم، والثاني لا يمكن توجيه السلب إليه؛ لكونه في طول الحكم.

توضيح ذلك: أنّ هنا فرقاً جوهرياً بين العامّ والمطلق، وهو: أنّ العامّ يحكي بذاته عن الأفراد بغضّ النظر عن الحكم الثابت عليه. وأمّا المطلق فلا يحكي عن الأفراد، ولا يكون ذاته حاكياً إلاّ عن الماهيّة الجامعة بين الأفراد، وإنما الإطلاق معناه وقوع الماهية موضوعاً للحكم بلا دخل لأيّ قيد في ذلك، فيسري الحكم إلى تمام الأفراد، فقبل الحكم لا يتصوّر إطلاق وشمول للأفراد، وإنّما يكون ذلك في طول الحكم، وعليه فلا يمكن توجّه السلب إلى الإطلاق، فيكون المسلوب نفس المطلق.

هذا. ويشبه هذا البحث ما يقال في مثال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) من أنّه هل المعلّق على الشرط مطلق السلب، فينتج مفهوماً عامّاً، أو السلب المطلق، فلا ينتج مفهوماً عامّاً؟

وفي الحقيقة هنا ربطان:

الأوّل: ربط المحمول بالموضوع في الجزاء، أيّ: سلب التنجيس عن الشيء، وهذا يكون داخلاً في ما بيّناه من أنّ شموله يكون بالإطلاق الذي هو في طول الحكم، فلا يكون النفي متوجّهاً إلى الإطلاق.

والثاني: تعليق الجزاء على الشرط، وحيث إنّ هذا يكون بعد تكوّن الإطلاق، فتوجّه التعليق إلى الإطلاق معقول كما يعقل تعليق ذات المطلق. فعلى الأوّل لا ينتج مفهوماً عامّاً، وعلى الثاني ينتج ذلك، وقد استظهرنا في ما سبق في بحث المفاهيم كون المعلّق في باب القضايا الشرطية ذات المطلق، فينتج مفهوماً عامّاً، لكنّنا استثنينا في الفقه من ذلك ما يكون من قبيل قوله: (الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء)، فقلنا: إنّه في مثل ذلك يكون المعلّق هو الحكم المطلق بما هو مطلق، لا مطلق الحكم، فلا ينتج مفهوماً عامّاً. وشرح الكلام في ذلك من حيث المستثنى والمستثنى منه خارج عن المقام.

60

4 ـ شبهة اقتصار الاستصحاب على موارد الارتكاز:

الأمر الرابع: قد مضى أنّ أحد الوجوه الصحيحة لتعميم حكم الاستصحاب في هذه الصحيحة عن مورده هو التمسّك بالارتكاز العرفي، وقد يقال إشكالاً على هذا الوجه: إنّه لا يثبت به إطلاق الحكم بالنحو المقصود، بل لا بدّ من الاقتصار على موارد الارتكاز، ففي مثل مورد الظنّ بالخلاف مثلاً يشكل إثبات الاستصحاب بهذا الحديث؛ لعدم معلوميّة ثبوت الارتكاز فيه.

والجواب: أنّ الارتكاز العرفي قد يكون جليّ الأطراف واضح الحدود في نظر العرف، فيصرف الحكم ـ لا محالة ـ إلى نفسه بحدوده وقيوده، وقد يكون ارتكازاً مطّاطاً مختلف المراتب غير واضح الحدود ولا جليّ الأطراف، وهذا هو الحال في ما نحن فيه، وهذا الارتكاز غاية ما يصنعه أنّه يُلغي خصوصية المورد؛ لكون دخول خصوصيّته على خلاف الارتكاز، وفي طول ذلك يجري الإطلاق ومقدّمات الحكمة لنفي خصوصية اُخرى محتملة الدخل في الحكم، فيثبت في المقام الحكم الاستصحابي بإطلاقه.

 

الرواية الثانية:

وهي صحيحة ثانية لزرارة، قال: «قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني، فعلّمت أثره إلى أن أصبّ عليه الماء (اصيب له الماء ـ خ ـ) فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً، فصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن، فنظرت ولم أرَ شيئاً، فصلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد. قلت: لمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك، فشككت، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، لكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة، وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً، قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛

61

لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ»(1).

 

فقه الرواية:

وهذه الرواية قد تكفّلت ستّة أسئلة من قبل زرارة مع أجوبتها من قبل الإمام(عليه السلام).

1 ـ إذا صلّى الإنسان في ثوب نجس نسياناً لنجاسته بعد علمه بها، والجواب هو: وجوب إعادة الصلاة.

2 ـ لو علم إجمالاً بوقوع النجاسة في بعض نواحي الثوب ولم يقدر على تعيين موضعها بالفحص، فهل يكفي فحصه وعدم رؤيته لها بالرغم من علمه الإجمالي بوجودها، أو لا؟ والجواب يكون بالنفي. وقوله: «لم أقدر عليه» ظاهر في أنّ أصل وجود ما عُلم سابقاً يكون لا زال مفروغاً عنه لكنه لم يقدر على وجدانه، لا أنّ علمه الإجمالي تبدّل إلى الشكّ في أصل النجاسة. نعم، لو كان يعبّر بقوله: (لم أره) بدلاً عن قوله: (لم أقدر عليه) لأمكنت دعوى احتمال تبدّل علمه إلى الشكّ.

3 ـ لو ظننت الإصابة، ففحصت ولم أجد، فصلّيت فرأيت فيه، فقال(عليه السلام): «تغسله ولا تعيد» باعتبار أنّك كنت على يقين من الطهارة فشككت، ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ. وهذه الفقرة مع الفقرة السادسة هما محل الشاهد في هذا الحديث.

وهذا السؤال من زرارة يتصوّر فيه احتمالات أربعة، أحدها فاسد يقيناً، والباقي محتمل على اختلاف درجات الاحتمال.

الأوّل: أن يقصد أنّه فحص إلى أن حصل له العلم بعدم وجود النجاسة، ثمّ صلّى، وبعد الصلاة وجدها، وعلم بأنّها هي النجاسة التي ظنّ بها ولم يجدها.

وبناءً على هذا الاحتمال لا يكون حال السائل من موارد الاستصحاب، ولا من موارد قاعدة اليقين؛ لأنّه لم يكن شاكّاً لا في حال الصلاة، لعلمه بالطهارة، ولا بعدها لعلمه بالنجاسة في حال الصلاة. ومن هنا يكون هذا الفرض غير محتمل، باعتبار أنّ المفروض في جواب الإمام(عليه السلام) هو تطبيق قاعدة من قواعد الشكّ، وفرض وجود شكّ في المقام.

الثاني: أنّه علم بالعدم عند الفحص وعدم الظفر، وبعد الوجدان عقيب الصلاة احتمل كونها نفس ما فحص عنها وعدمه، فينطبق على المقام الاستصحاب بلحاظ حال السؤال،


(1) التهذيب: ج 1، ح 1335.

62

لا حال الصلاة، باعتبار اليقين بالطهارة قبل طروّ هذه النجاسة، كما تنطبق على المقام قاعدة اليقين باعتبار اليقين بالطهارة في حال الصلاة الزائل بعد الصلاة بالشكّ الساري.

الثالث: عكس الصورة السابقة، أي: أنّه عند الفحص لم يحصل له العلم بالعدم، وبعد الصلاة حصل له العلم بأنّ ما وجده هو ما كان يفحص عنه، فينطبق على المقام الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة وحال السؤال معاً؛ إذ كان على يقين من طهارة الثوب قبل هذه النجاسة، ولم يتيقّن في حال الصلاة ولا بعدها بنجاسته في حال الصلاة، ولا تنطبق قاعدة اليقين لعدم يقين بالطهارة زائل بعد ذلك بالشكّ الساري.

الرابع: عكس الصورة الاُولى، أي: لا يحصل له كلا العلمين: لا العلم بالعدم عند الفحص، ولا العلم بعد الصلاة بأنّ ما وجده هو الذي كان يفحص عنه، وعندئذ ينطبق على المقام ـ أيضاً ـ الاستصحاب بلحاظ كلا الحالين، ولا تنطبق قاعدة اليقين.

4 ـ السؤال عن مورد العلم الإجمالي بالإصابة وعدم تعيّن موضعها، والجواب: أنّه يغسل أطراف العلم الإجمالي.

5 ـ عند الشكّ البدوي في أصل النجاسة هل يجب الفحص؟ فأجاب(عليه السلام) بالنفي.

6 ـ لو وجدت النجاسة في أثناء الصلاة لا بعدها فماذا أصنع؟ فالإمام(عليه السلام) ذكر فرضين، فقال: «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك، ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».

وهذا الجواب يحتمل فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون المقصود بالشكّ في موضع منه الشك البدوي، وبقوله: «إن لم تشكّ» أيضاً نفي الشكّ، فبيّن(عليه السلام) حكم فرضين: الأوّل: ما إذا شكّ في النجاسة ثمّ رآها وعلم أنّها نفس ما شكّ فيها، فحكم بالبطلان. والثاني: ما إذا لم يكن كذلك، فاحتمل كون النجاسة وقعت الآن؛ إذ رآها دفعة من دون احتمالها قبل ذلك، فحكم(عليه السلام) بالصحّة.

الثاني: أن يكون المقصود بالشكّ في موضع منه الشكّ في الموضع بعد فرض العلم الإجمالي بأصل النجاسة، وبقوله: «إن لم تشكّ» أيضاً نفي الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي، لا نفي مطلق الشكّ.

ويتبيّن حكم الفرض الأوّل ـ وهو ما إذا شكّ بدواً في النجاسة ثمّ رآها وعلم أنّها نفس ما شكّ فيها ـ من مفهوم التعليل، حيث قال(عليه السلام): «لأنّك لا تدري لعلّه شيء اُوقع عليك»،