13

الاُصول العمليّة

4

 

 

 

الاستصحاب

 

 

 

 

 

1 ـ المقدمة.

2 ـ أدلّة حجّيّة الاستصحاب.

3 ـ الأقوال في حجّيّة الاستصحاب.

4 ـ تنبيهات الاستصحاب.

5 ـ خاتمة.

 

15

الاستصحاب

1

 

 

 

المقدّمة

 

 

✽ حقيقة الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً.

✽ هل الاستصحاب مسألة اُصوليّة؟

✽ الفرق بين الاستصحاب وقواعد اُخرى مشابهة له.

 

 

 

17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تشتمل المقدّمة لبحث الاستصحاب على ثلاثة أبحاث:

 

حقيقة الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً:

 

البحث الأوّل: في تحقيق حول كيفية الاستصحاب جعلاً واستدلالاً واصطلاحاً.

ويظهر المقصود من كلّ واحد من هذه العناوين الثلاثة ضمن البحث عنه. فهنا يقع البحث في اُمور ثلاثة:

 

الأمر الأوّل ـ في الكيفية الممكنة ثبوتاً لجعل الاستصحاب:

وقبل الدخول في بيان ذلك نستذكر نكتتين سابقتين في الأبحاث الماضية:

الاُولى: في حقيقة الحكم الظاهري، حيث قلنا: إنّ حقيقته هي الحكم الناتج عن إعمال المولى لقوانين تزاحم الأغراض في عالم المحرّكيّة لدى وقوع الخلط والشكّ فيها، بناءً على الطريقية على ما مضى من شرح ذلك في بحث الجمع بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة.

الثانية: في كيفية إعمال المولى لقوانين باب التزاحم، وهي عبارة عن تقديم الأهمّ لو كان، فعند أهمّيّة الغرض اللزومي يجعل الاحتياط أو ما بحكمه، كحجّيّة خبر إلزامي، و عند أهمّيّة غرض ترخيصي يجعل البراءة أو ما بحكمها، و الأهمّيّة تارةً تكون بملاك أقوائيّة المحتمل كيفاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة للمولى أهمّ من الأغراض الترخيصيّة، فجعل إيجاب الاحتياط عند الشك، و اُخرى تكون بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر المجموعي الى

18

الأحكام، و يرجع ذلك في الحقيقة الى أقوائية المحتمل كمّاً، كما إذا كانت الأغراض اللزوميّة أكثر من الأغراض الترخيصيّة و إن تساويتا كيفاً، فقدّم جانب الأغراض اللزوميّة بجعل وجوب الاحتياط و نحوه، و ثالثة تكون بملاك أقوائيّة الاحتمال بلحاظ النظر الاستغراقي و الأفرادي، بحيث يحسب المولى حساب خبر ثقة في نفسه بقطع النظر عن وجود أيّ خبر آخر في الأحكام و عدمه، فيجعله حجّة لأقوائيّة احتمال صدقه ولو مع فرض أنّه لم يوجد في الفقه أيّ خبر ثقة آخر غير هذا الخبر، و هذا القسم الثالث تكون مثبتاته حجّة بلا حاجة إلى مؤونة زائدة، كما سوف ياتي ـ إن شاء الله ـ، وهذا بخلاف القسمين الأوّلين(1)، فإنّ اللازم فيهما لا يثبت إلا بمؤونة خاصّة و دليل خاصّ يدل على ثبوت الجعل و التعبد على طبق اللوازم أيضاً.

ثم إذا تساوت الأغراض المتزاحمة، ولم يوجد مرجّح كمّي أو كيفي أو أحتمالي لأحد الجانبين، فعندئذ الواقع لا يتطلّب من المولى ترجيح جعل الأستصحاب اللزومي مثلاً على البراءة أو العكس، فيكون المولى مخيّراً في الجعل، و عندئذ يمكن إعمال مرجّحات ذاتية، أي: غير مربوطة بالواقع لتقديم أحد الجعلين على الآخر، ولا ينافي ذلك الطريقيّة، ولا يستلزم التصويب؛ لأنّ هذا الترجيح كان في طول صيرورة الواقع حيادياً لا يتطلّب تقديم أيّ واحد من الجانبين، ولا يتنفّر من تطبيق الجانب الآخر.

إذا عرفت هاتين النكتتين قلنا: ذكر بعض: أنّ الاستصحاب غير ناظر إلى الأحكام الواقعيّة و الملاكات الواقعيّة أصلاً، و إنّما هو أصل تعبّدي صرف كاصالة الإباحة.

أقول: إنّ مثل أصالة الإباحة أيضاً لابُدّ أن يكون ناظراً إلى حفظ الأحكام الواقعيّة و ملاكاتها، و كذلك كلّ حكم ظاهري بناءً على إنكار السببيّة، و إلاّ لم يكن جواب على شبهة ابن قبة، فجعل الاستصحاب بهذا النحو غير معقول.

وذكر بعض آخر: أنّ الاستصحاب حاله حال أصالة الاحتياط في أنّه ينظر إلى الواقع و التحفّظ عليه بقطع النظر عن مسألة الأماريّة و الكاشفيّة.

وهذا الكلام يرجع بحسب لغتنا إلى أنّ الاستصحاب جعل على أساس المرجّح المحتملي الكيفي، وهذا إنّما يكون معقولاً في أصالة الاحتياط، ولا يكون معقولاً في الاستصحاب؛ وذلك لأنّ نوعيّة الغرض في الاستصحاب غير معلومة و معيّنة، حتى يلحظ أنّه هو الأهمّ أو


(1) لنا كلام مفصّل حول هذا الموضوع مضى في أوّل البراءة فراجع.

19

الغرض الآخر المزاحم له في الحفظ، فإنّ الاستصحاب قد يثبت حكماً إلزامياً، لولا ذلك الاستصحاب لنفيناه بالقواعد الاُخرى. وقد يثبت حكماً ترخيصياً، لولا ذلك الاستصحاب لم نكن نأخذ بذاك الترخيص، بل كنّا نأخذ بجانب الاحتياط بحسب القواعد الاُخرى، فلا يوجد ضابط لموارد جريان الاستصحاب و تحقق اليقين السابق تميّز به نوعيّة الغرض إطلاقاً، كي يحكم عليه بأنّه أهمّ من الغرض الآخر المزاحم له.

والصحيح: أنّه يمكن جعل الاستصحاب بلحاظ الترجيح بقوّة الاحتمال بالنظر المجموعي، بأن يكون المولى معتقداً بكون بقاء ما كان في موارد الشكّ أكثر من زواله. ويمكن أيضاً جعله بلحاظ قوّة الاحتمال بالنظر الاستغراقي، بأن يعتقد المولى كاشفية اليقين السابق و أماريته. ويمكن هنا الجعل بنحو ثالث، وهو أن يفرض أنّ الأغراض المتزاحمة كانت متكافئة، ولم يكن بعض أقسامها أهمّ من بعض آخر بقوّة المحتمل ولا بقوّة الاحتمال، فحصل التخيير من ناحية الواقع في مقام الجعل و حفظ أحد الغرضين، أي: أنّ الواقع صار حياديّاً من ناحية ترجيح أيّ واحد من الجانبين على الآخر، فوصلت النوبة إلى مرجّحات ذاتية غير مرتبطة بالواقع، ولنفرض مثلاً كون ذلك المرجّح المطابقة للطبع العقلائي، أو أيّ شيء آخر، فالمرجّح اقتضى في غير موارد اليقين السابق جعل البراءة، و في موارد اليقين السابق جعل الاستصحاب.

 

الأمر الثاني ـ في كيفية الاستصحاب استدلالاً:

قد اعتاد الفقهاء(قدس سرهم)على أن يجعلوا الدليل على المدّعى عند الاستدلال بخبر الثقة نفس خبر الثقة لا دليل حجّيّة خبر الثقة، كآية النبأ مثلاً، و يجعلوا الدليل على المدّعى عند الاستدلال بالاستصحاب دليل الاستصحاب، و هو صحيحة زرارة مثلاً لا نفس الاستصحاب.

و ليس هذا مجرّد بحث لفظي، بل مردّ ذلك إلى أنّه إذا وجد معارض يدلّ على خلاف المقصود، ففي باب خبر الثقة يجعل معارضه نفس ذلك الخبر لا آية النبأ، فإذا كان الخبر أخصّ من ذلك المعارض قدّم عليه بالأخصّية و إن كانت النسبة بين آية النبأ و ذلك المعارض عموماً من وجه، و في باب الاستصحاب لا يجعل المعارض نفس الاستصحاب في ذلك المورد الجزئي حتّى يقدّم عليه بالأخصّية، بل يجعل المعارض صحيحة زرارة التي تكون النسبة بينها و بين الخبر المعارض عموماً من وجه.

20

وذكر السيّد بحر العلوم(قدس سره): أنّه لا وجه للتفكيك بين خبر الثقة و الاستصحاب، ففي الاستصحاب ـ أيضاً ـ نقول بأنّ المعارض هو خصوص الاستصحابات الجزئية في الموارد الجزئية، فعند تعارض الاستصحاب مع قاعدة الحلّ نخصّص قاعدة الحلّ بالاستصحاب، و لا نلحظ النسبة بين قوله:«كل شيء حلال حتّى تعرف...» و دليل الاستصحاب.

فكأنّه(قدس سره) يرى إلحاق الاستصحاب فقط بخبر الثقة في هذه الجهة، و لا يرى إلحاق أصالة الحلّ به، و لعلّه ينظر ـ و لو ارتكازاً - في تفكيكه بين أصالة الحلّ و الاستصحاب إلى ما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ من بعض الأصحاب المتأخرين.

وأعترض الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) على السيّد بحر العلوم(رحمه الله) بأنّ الاستصحاب ليس كخبر الثقة، فإنّ الاستصحاب بنفسه حكم ببقاء ما كان، فلا معنى لأن يجعل دليلاً على الحكم. و هذا بخلاف خبر الثقة، فإنّه ليس حكماً و إنّما هو دليل على الحكم.

أقول: إنّ هذا الكلام بهذا المقدار لا يحسم أصل الإشكال، فإنّنا ننقل الكلام إلى اليقين السابق مثلاً الذي هو أمارة على البقاء، فإنّه هو الذي يكون بمنزلة خبر الثقة لا الحكم بالبقاء الذي هو بمنزلة حجّيّة خبر الثقة.

ولعله لهذا ذهب بعض الأصحاب المتأخرين(2) الى موافقة السيّد بحر العلوم(رحمه الله)فقال كلاماً ينبىء عن موافقته إيّاه، يفصّل فيه بين تجريد الاستصحاب عن الأماريّة رأساً و إعطائه لوناً من الأماريّة، و أحتمل أن يكون مقصوده من ذاك الكلام هو: أنّ الاستصحاب إن لم يكن فيه شوب من الأماريّة و كان أصلاً صِرفاً كأصالة الحلّ، لم يكن حاله حال خبر الثقة لأنّه حكم صِرف، و ليس كاشفاً عن الحكم، لكن بما أنّه ليس كذلك، بل فيه لون من الأماريّة و لو بنحو التنزيل مثلاً، فهو دليل، فحاله حال خبر الثقة.

أقول: إنّ تقديم خبر الثقة على العامّ المعارض له ليس بملاك أماريّته، بحيث كلّما تعارضت أمارتان إحداهما أخصّ من الاُخرى قُدّمت الأخصّ، فلو تعارضت بيّنتان إحداهما أخصّ لا يجمع بينهما بالتخصيص، بل يعامل معهما معاملة البيّنتين المتعارضتين، و إنّما الملاك في ذلك هو: أنّ العامّ و الخاصّ كلاهما كلام صادر من شخص واحد يكون أحدهما قرينة على مراد متكلّمه من الآخر، و كان موضوع حجّيّة ظهور الأوّل عدم ورود القرينة


(1) راجع الرسائل؛ ص 320 بحسب طبعة رحمة الله.

(2) يقصد به السيّد الإمام الخميني(رضوان الله تعالى عليه).

21

على الخلاف، و دليل حجّيّة الثاني يعبّدنا بورود القرينة، و هذا لا يجري في العامّ مع الاستصحاب الجزئي المعارض له، و إنّما يجري في العامّ مع دليل الاستصحاب؛ لكونهما كلامين صادرين من شخص واحد يقدّم ما هو قرينة على الآخر لو كان.

وعليه، فالصحيح هو ما اعتاده الأصحاب(قدس سرهم) من الفرق بين الاستصحاب و خبر الثقة بجعل الدليل المعارض للعامّ في الثاني هو نفس الخبر لا دليل حجّيّته، و في الأوّل هو دليل حجّيّته لا نفس الاستصحاب.

 

الأمر الثالث ـ في كيفية الاستصحاب اصطلاحاً:

أي: في تعريفه بحسب الاصطلاح الاُصولي.

قد عُرِّف الاستصحاب بأنّه: إبقاء ما كان، أي: الحكم ببقائه، وكذا ما أشبه هذا التعريف ممّا جعل الاستصحاب حكماً.

و أورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ تعريف الاستصحاب يختلف باختلاف المباني، و لا وجه لجعل هذا تعريفاً له إطلاقاً، فلو بنينا على كون الاستصحاب أصلاً عمليّاً فهو حكم، فيصحّ تعريفه بمثل هذا التعريف. و أمّا لو بنينا على كونه أمارة، فليس حكماً، فإنّ الأمارة إنّما هو اليقين السابق و الشكّ اللاحق، فيجب أن يعرّف الاستصحاب باليقين السابق و الشكّ اللاحق(1).

أقول: بناءً على الانسياق مع هذا المنهج من الكلام يجب أن يعرّف الاستصحاب بالحدوث، فإنّ حدوث الشيء هو الذي يكون أمارة على بقائه لا اليقين السابق ولا الشك اللاحق. أمّا عدم دخل الشكّ اللاحق في الأمارية فواضح. نعم، الشكّ هو موضوع حجّيّة الأمارة. وأمّا عدم دخل اليقين السابق في الأمارية فأيضاً واضح بأدنى تأمّل، فإنّ الملازم للبقاء هو ذات الحدوث، و اليقين كاشف عن الحدوث و يقينٌ بالأمارة، من قبيل أن يتيقّن الشخص بصدور خبر الثقة الذي هو أمارة على حكم.

ثمّ هل المقصود أنّ أصل مبنى الأمارية في باب الاستصحاب يلازم عقلاً تعريف الاستصحاب باليقين السابق مثلاً، أو المقصود هو مجرّد استظهار لمراد الأصحاب الذين كانوا يقولون بالأمارية؟


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 5 ـ 6.

22

فإن كان المقصود هو الأوّل، فمن الواضح عدم هذه الملازمة، إذ من الممكن أن يجعل اليقين السابق مثلاً أمارة حجَّةً يثبت به الحكم بالبقاء، ولكن لا يسمّى هذا اليقين بالاستصحاب، بل يسمى هذا الحكم الثابت ببركة هذا اليقين بالاستصحاب. وإن كان المقصود هو الثاني، بأن يقال: إنّهم قد عبّروا بلفظ الأمارة، فقالوا: إنّ الاستصحاب أمارة، فهذا شاهد على أنّهم يسمّون نفس اليقين السابق مثلاً بالاستصحاب؛ لأنّه هو الذي يكون أمارة، قلنا: هذا التعبير إن دلّ في لسان من يقول: (بأنّ الاستصحاب أمارة) على أنّه يسمّي اليقين السابق بالاستصحاب فهو يدل في لسان من يقول: (بأنّ الاستصحاب ليس أمارة) ـ أيضاً ـ على ذلك، فإنّه يقصد نفي أمارية اليقين السابق، لا نفي أمارية الحكم، فإنّ عدم كون الحكم الشرعي هو الأمارة مما لا كلام فيه.

والخلاصة: أنّ هذا التعبير المناسب مثلاً لتعريف الاستصحاب باليقين السابق يوجد في لسان كلا الطائفتين، كما أنّ التعبير بما يناسب تعريف الاستصحاب بالحكم كأنْ يقال: إنّ الاستصحاب هو حرمة نقض اليقين مثلاً ـ أيضاً ـ قد يوجد في لسان كلا الطائفتين.

هذا. ولا شغل لنا بالفحص و صرف العمر في استظهار مقصود الأصحاب بالتتبع في كلماتهم، لنرى أنّه ـ بحسب ما يظهر من مجموعها ـ هل يجعلون الاستصحاب اسماً لهذا أو لذاك.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) أورد على تعريف الاستصحاب بكونه إبقاء ما كان إشكالات عديدة(1) أَقتصِرُ على ذكر واحد منها، و هو: أنّه هل المقصود الإبقاء العملي، أو المقصود الإبقاء الحكمي و الجعلي؟ أمّا الأوّل فهو وإن كان ينسجم مع فرض كون مدرك الإستصحاب هو الروايات، لكونها آمرة بالإبقاء العملي، ومع فرض كون مدركه بناء العقلاء؛ لان العقلاء يبنون على العمل، لكنّه لا ينسجم مع فرض مدركه العقل؛ لأنّ العقل يدرك بقاء الحالة السابقة ظنّاً، وهذا غير الإبقاء العملي. وأمّا الثاني فهو وإن كان ينسجم مع فرض كون مدرك الاستصحاب هو الروايات لأنّها تحكم بالبقاء، ومع حكم العقل ـ ولو مسامحة ـ بأن يسمّى إدراك العقل حكماً، ولكنه لا ينسجم مع فرض كون المدرك بناء العقلاء؛ لأنّ بناء العقلاء يكون على العمل، وهذا هو الإبقاء العملي، لا الحكم بالبقاء.

أقول: يمكن الأخذ بكلّ واحد من الفرضين مع دفع إشكاله:


(1) راجع نهاية الدراية: ج 3، ص 1 ـ 5.

23

فأوّلاً: نأخذ الفرض الأوّل وهو الإبقاء العمليّ، و نقول: إنْ كان العقل يدرك لزوم الإبقاء العملي كما أدرك بقاء الحالة السابقة ظنّاً، فقد انسجم التعريف مع فرض كون مدرك الاستصحاب هو العقل، وإنْ لم يكن يدرك ذلك فلا معنى لجعل مدرك حجّيّة الاستصحاب العقل.

وثانياً: نأخذ الفرض الثاني وهو البقاء الحكمي و نقول:

أوّلاً: إنّنا نقصد ببناء العقلاء بناءهم بما هم موالي بالنسبة لعبيدهم، والعقلاء بما هم موالي لهم أحكام.

وثانياً: إنّ بناء العقلاء بما هو ليس حجّة، وإنّما حجّيّته بملاك الكشف عن حكم الشارع على وفقه، فينسجم التعريف مع كون المدرك هو بناء العقلاء.

وعلى أيّة حال، فإن اُريد بتعريف الاستصحاب تعريف ما سمّاه الأصحاب بالاستصحاب، فهو مربوط بالتتبع في كلماتهم، وقد نظفر بمصطلحات عديدة في ذلك متخالفة و متطوّرة في تأريخ هذا البحث، وإن اُريد بذلك ذكر شيء يصلح أن يكون محوراً للبحث في هذا المقام على جميع أدلّة الاستصحاب، وعلى جميع المباني فيه، ككونه أمارة وعدم كونه أمارة ونحو ذلك، قلنا: إنّ ذلك عبارة عن مرجعيّة الحالة السابقة.

وقد عدلنا عن التعبير بإبقاء ما كان إلى هذا التعبير لما في ذاك التعبير من إجمال في المراد من الإبقاء، فلو كان هو الإبقاء العملي فالاستصحاب ليس هو العمل، ولو كان المراد الحكم بالبقاء فالاستصحاب على بعض المباني شيء ادركه العقل، كحجّيّة الظنّ على الحكومة، وليس حكماً شرعياً، إلاّ أن يقصد بالإبقاء معنىً وسيع، فيقال: إنّ الحكم العقليّ ـ أيضاً ـ نوع إبقاء، ولو كان المراد هو مرجعيّة الحالة السابقة فهي التي ذكرناها.

 

 

 

24

 

 

 

هل الاستصحاب مسألة اُصولية؟

 

البحث الثاني: في أنّ بحث الاستصحاب هل هو مسألة اُصولية أو لا، وهذا يرتبط بتعريف علم الاُصول الذي قد تكلّمنا فيه في أوّل الدورة، وفي أوّل بحث البراءة، وأتكلّم فيه هنا بنحو الاختصار، فأذكر تعريفين منها:

أحدهما: للمحقق النائينيّ(قدس سره) و مدرسته، وهو: أنّ المسألة الاُصولية هي التي تقع كبرى في طريق الاستنباط.

واُورد على ذلك بانطباق هذا التعريف على بعض القواعد الفقهية، كقاعدة(لا ضرر) ونحو ذلك.

وقد أجبنا عن هذا الإشكال في محله، فلا ندخل هنا في البحث عنه.

ونقتصر هنا على ذكر الإشكال الصحيح الوارد على هذا التعريف، وهو: أنّ المسألة الاُصولية لا تقع دائماً كبرى في طريق الاستنباط، بل إنّ بعض المسائل تقع صغرى لذلك، كأبحاث الظهورات من قبيل: أنّ الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، ونحو ذلك ممّا ينقّح الصغرى لكبرى حجّيّة الظهور، وبعض المسائل لا تقع كبرى ولا صغرى، بل تكون دخيلة في الصغرى، بمعنى إثبات بعض قيودها، كما في بحث إمكان الترتّب و إمكان اجتماع الأمر و النهي، ونحو ذلك ممّا يستفاد منه ـ لو ثبت ـ أنّ صيغة الأمر و النهي الواردتين في المقام مثلاً ظاهرتان في أمر ممكن، وهذا صغرى لكبرى حجّيّة الظهور قد ثبت قيده، وهو كون الأمر الظاهر فيه ممكناً ببحث إمكان الترتب، أو اجتماع الأمر و النهي.

وعلى أيّ حال، فالاستصحاب في الشبهة الحكمية ـ بناءً على هذا التعريف ـ داخل في علم الاُصول؛ لأنّه يقع كبرى للاستنباط.

وثانيهما: ما هو المختار: من أنّ علم الاُصول منطق الفقه، توضيح ذلك: أنّ الأشياء الدخيلة في الاستنباط الفقهي للحكم الكلّي على قسمين، ومنذ البدء كما ترى خرج ما يكون دخيلاً في الحكم الجزئي لا الكلي، كقاعدة الفراغ، و التجاوز، و اليد، و الاُصول العملية في الشبهات الموضوعيّة:

25

القسم الأوّل: ما اُخذت فيه مادّة من مواد الفقه، و مواد الفقه هي كل عنوان أوّلي أو ثانوي متعلّق لحكم واقعيّ، كالصعيد مثلاً الذي هو عنوان أوّلي، و كالضرر الذي هو عنوان ثانوي، وهذا ليس داخلاً في علم الاُصول، وبهذا خرجت قاعدة لا ضرر، و البحث عن معنى الصعيد و نحوه.

والقسم الثاني: ما لم تؤخذ فيه مادّة من موادّ علم الفقه، كما هو شأن منطق كل علم، فعلم المنطق المعروف هو منطق لكلّ العلوم؛ ولذا لم تؤخذ فيه أيّ مادّة من أيّ علم، و يكون صورة فارغة صرفاً يمكن ملؤها بموادّ مختلفة من علوم مختلفة، و من كل علم بحسب موادّه كما هو واضح، وبعد علم المنطق توجد بحوث منطقية اُخرى هي منطق لما تحتها من العلوم و ليست خالية من المادة صِرفاً، وإلاّ لدخلت في علم المنطق، ولكنها خالية من مادّة علم تكون منطقاً له، فمثلاً مبدأ استحالة انفكاك المعلول عن العلّة الذي هو مبدأ فلسفي يكون منطقاً لكل العلوم الطبيعية، وهكذا.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ علم الاُصول هو العلم الذي لا يكون ضيّقاً بنحو تؤخذ فيه مادّة من المواد الفقهية فلا يصبح منطقاً لعلم الفقه، ولا يكون وسيعاً بنحو يكون منطقاً لعلوم اُخرى أيضاً، بل اُخذت فيه الموادّ بدرجة سَقَطَ عن قابليّة كونه منطقاً لسائر العلوم، و بقي منطقاً لعلم الفقه و دخيلاً في الاستنباط، بلا اشتراط أن يقع كبرى في طريق الاستنباط.

هذا. و البحث عن وثاقة الراوي وإن كان ـ أيضاً ـ دخيلاً في الاستنباط، ولكن هنا قيد آخر ثابت بالارتكاز المميّز بين علم الاُصول و مثل علم الرجال، وهو أنّ علم الاُصول يجب أن يكون مربوطاً بالحكم، بمعنى أن يكون هو حكماً ظاهرياً كحجّيّة خبر الثقة، أو يكون من مقتضيات الحكم في إحدى المراحل الثلاث: (الجعل) و (الإبراز) و (التنجيز و التعذير). فالأوّل كمباحث إمكان الترتّب، و الملازمة بين وجوب شيء و وجوب ذيه، و نحو ذلك من الاُمور التي يقتضيها الحكم بحسب عالم جعله. والثاني كمباحث دلالة الأمر على الوجوب، والنهي على الحرمة، والمشتق على ما انقضى عنه المبدأ أو المتلبس، ونحو ذلك. والثالث كمباحث منجّزيّة الاحتمال أو معذّريّته عقلاً.

وبناءً على هذا التعريف يدخل الاستصحاب في الشبهة الحكمية في علم الاُصول؛ لكونه دخيلاً في استنباط الحكم الكلّي من أخذ مادّة فقهية فيه، وليس وسيعاً إلى درجة يكون منطقاً لعلم آخر أيضاً، وليس كبحث وثاقة الراوي ممّا هو غير مربوط بالحكم، بل هو حكم ظاهري، كحجّيّة خبر الواحد و نحوها من أحكام تذكر في علم الاُصول.

26

 

 

 

الفرق بين الاستصحاب و قواعد اُخرى مشابهة له:

 

البحث الثالث: في الفرق بين الاستصحاب و قواعد اُخرى، وهي قاعدة الاستصحاب القهقرائي، و قاعدة اليقين، وقاعدة المقتضي و المانع، فنقول:

أمّا الاستصحاب القهقرائي فهو الذي يتمسّكون به في باب الظهورات، وهو أصل عقلائي، ويذكرون في الفرق بينه و بين الاستصحاب الطردي: أنّه في الاستصحاب الطردي يكون المتيقّن متقدّماً زماناً على المشكوك، وفي الاستصحاب القهقرائي الثابت بالارتكاز العقلائي في باب تغيّر اللغة يكون المشكوك متقدّماً زماناً على المتيقّن.

أقول: بما أنّ هذا الاستصحاب في باب الظهورات مدركه هو الارتكاز العقلائي، فلا بُدّ من تحليل هذا الارتكاز لتتّضح حقيقة هذا الاستصحاب، والارتكاز العقلائي هنا ليس على أساس تعبّد صِرف، وإنّما هو على أساس الأماريّة و الكشف، باعتبار أنّ العقلاء لم يروا باُمّ أعينهم تغيّر اللغة إلاّ نادراً؛ لكون تغيّرها في غاية البطء، وهذا بخلاف تغيّر ظواهر كثيرة في العالم، كالحياة والموت، والصحّة والمرض وغير ذلك؛ ولهذا يكون ثبوت معنىً لغوي عندهم مستلزماً لبقائه ولو بنحو الغلبة الشديدة التي أوجبت ارتكاز أصالة الثبات في نظرهم، فاللفظ إذا كان له معنىً وشكّ في تغيّر ذاك المعنى على إجماله وبقطع النظر عن تعيينه، بنوا على أصالة عدم التغيّر، وهذا ما ينطبق عليه الاستصحاب الطردي، ثمّ إذا تعيّن معنى اللفظ في زماننا، ضمّ ذلك إلى هذا الاستصحاب الذي هو في الحقيقة أمارة لاأصل، وتكون مثبتاته حجّة، واستنتج من ذلك باعتبار حجّيّة مثبتاته كون معنى اللفظ في ما سبق ـ أيضاً ـ هو هذا المعنى.

فتحصّل: أنّ الاستصحاب القهقرائي ـ بحسب الحقيقة ـ غير موجود أصلاً، وأنّ الاستصحاب الثابت في باب اللغة بالمعنى المرتكز في أذهان العقلاء مرجعه الى الاستصحاب الطردي نفسه.

وأمّا قاعدة اليقين فقد ذكر: أنّ الفرق بينها وبين الاستصحاب هو: أنّ الاستصحاب يكون متقوّماً بالشكّ في البقاء بعد القطع بالحدوث، وأمّا في قاعدة اليقين فيسري الشكّ إلى نفس المتيقّن السابق، ويجعله مشكوكاً.

27

أقول: إنّ هذا الكلام صحيح في الجملة، إلاّ أنّه لا بدّ لنا من تعميقه، وبيانه: أنّ ركن الاستصحاب ليس في الحقيقة هو الشكّ في البقاء، وإنّما ركنه هو شكّ اُخذ فيه الفراغ عن الحدوث، وثمرة ذلك هي: أنّه إذا علمنا إجمالاً بحدوث شيء إمّا في الآن الأوّل أو في الآن الثاني، وعلى تقدير حدوثه في الآن الأوّل يحتمل بقاؤه الى الآن الثاني، فهنا يجري الاستصحاب، لكن لا على أساس كون الشكّ في البقاء بناءً على عدم كفاية الشكّ في البقاء التقديري، فإنّ البقاء هنا تقديري، أي: أنّه فرع حدوث الحادث في الآن الأوّل المشكوك فيه، بل على أساس أنّ هذا شكّ فرغ فيه عن الحدوث، وهذا الشكّ يمسّ اليقين على حدّ مسّ الشكّ في البقاء لليقين بالحدوث أو أشدّ، فيشمله قوله:«لا تنقض اليقين بالشكّ».

نعم، لو علم إجمالاً بأنّ هذا الشيء إمّا كان ثاتباً في الآن الأوّل فقط، أو في الآن الثاني فقط، فهنا لا يكمن إجراء الاستصحاب لاثبات وجوده في الآن الثاني؛ لأنّ الشكّ هنا يرى عرفاً مقوّماً للعلم الإجماليّ، حيث إنّ أحد طرفي العلم الإجمالي هو ثبوته في الآن الأوّل المساوق بالفرض لعدمه في الآن الثاني،فلا يرى عرفاً هذا داخلاً في باب نقض اليقين بالشكّ(1).

فتحصل: أنّ الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ـ بحسب الأركان ـ هو: أنّ ركن الاستصحاب شكّ فرغ فيه عن الحدوث، وركن قاعدة اليقين هو شكّ في نفس الحدوث الذي كان قبل هذا متيقّناً.

وأمّا الفرق بينهما بحسب النكتة الارتكازية لهما ـ بناءً على أنّ الاستصحاب أصل عقلائي كقاعدة اليقين ـ فهو: أنّ الأمارة على المقصود في باب الاستصحاب هي نفس حدوث الشيء، بدعوى ملازمته غالباً للبقاء مثلاً، وأمّا في باب اليقين فالأمارة على المقصود هي اليقين، بدعوى كون اليقين غالباً مطابقاً للواقع مثلاً.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فقد ذكر في بيان الفرق بينها وبين الاستصحاب: أنّ متعلّق اليقين والشكّ في باب الاستصحاب شيء واحد بقطع النظر عن الفرق من حيث الحدوث والبقاء، وأمّا متعلّق اليقين والشكّ في باب المقتضي والمانع فهو أمران: فاليقين تعلّق بالمقتضي والشكّ تعلّق بالمانع.

أقول: إنّ هذا الفرق صحيح، لكنّه لا بأس بالتعمّق ـ أيضاً ـ في بيان الفرق؛ لإبراز الفرق في النكتة الارتكازية بينهما بناءً على رجوع الاستصحاب إلى أصل ارتكازي عقلائي، وبيان ذلك: أنّ مرجع قاعدة المقتضي والمانع ـ لو كان عندنا مثل هذه القاعدة ـ هي أصالة


(1) ظاهر كلامه(رحمه الله) في بحث الأصل المثبت ينافي ذلك فراجع.

28

عدم المانع؛ فان العقلاء لا يبنون على تحقّق النتيجة بمجرّد ثبوت المقتضي تعبّداً صِرفاً، وإنّما يبنون على تحقّقها باعتبار نفي وجود المانع بأمارة من الأمارات، وهذا الأصل لو قسناه إلى استصحاب عدم المانع، فالفرق بينهما هو: أنّ الاستصحاب قائم على أساس أمارية ثبوت العدم سابقاً على ثبوته لاحقاً، وأصالة عدم المانع قائمة على أساس أماريّة ثبوت المقتضي على عدم المانع، بدعوى: أنّ الغالب في المقتضيات عدم اقترانها بالمانع.

وأمّا لو قسنا القاعدة إلى الاستصحاب الجاري في الممنوع دون الجاري في المانع، فهنا إن فرض أنّ الممنوع ـ وهو الاحتراق مثلاً ـ كان ثابتاً بواسطة المقتضي ـ وهو الملاقاة مع النار ـ وشكّ في بقائه من جهة الشكّ في حدوث المانع، فنتيجة الاستصحاب متّحدة مع نتيجة قاعدة المقتضي والمانع، وعند ئذ إن قلنا: بأنّ الاستصحاب المرتكز عقلائياً إنّما هو في فرض إحراز المقتضي، فالاستصحاب يرجع هنا تقريباً إلى قاعدة المقتضي والمانع، وإلاّ فالفرق بينهما هو: أنّ الأمارة على بقاء الإحراق في الاستصحاب هي ثبوته سابقاً، بدعوى: أنّ الغالب في الشيء الحادث بقاؤه، والأمارة على بقاء الإحراق في القاعدة هي وجود المقتضي، بدعوى: أنّ الغالب في المقتضي عدم اقترانه بقاءً بمانع.

وأمّا ان فرض أنّ الممنوع كان مسبوقاً بالعدم، فهنا يقع التنافي بين قاعدة المقتضي والمانع وقاعدة الاستصحاب، والفرق بينهما هو: أنّ الاستصحاب يكون بنكتة أمارية عدم المعلول في الآن الأوّل على عدمه في الآن الثاني، والقاعدة تكون بنكتة في طرف العلّة، وهي أمارية وجود المقتضي على عدم المانع.

وهنا حساب العلّة مقدّم على حساب المعلول بملاك الأضيقيّة؛ لأنّ حساب الدائرة الأضيق تقدّم على حساب الدائرة الاوسع، فلو علمنا مثلاً أنّ الغالب في الحيوانات عدم الذكاء، وعلمنا أنّ الغالب في الفرس هو الذكاء، ثمّ رأينا فرساً شككنا في ذكائه وعدم ذكائه، كان الحساب الجاري بشأنه هو حساب الدائرة الضيّقة وهي دائرة الفرس، لا حساب الدائرة الواسعة وهي دائرة الحيوانات، وما نحن فيه من هذا القبيل، فحينما يحسب حساب المعدومات إطلاقاً يقال: إنّ الشيء المعدوم يبقى غالباً على ما هو عليه من العدم مثلاً، وحينما يحسب حساب دائرة ضيّقة منها وهي الدائرة التي وجد فيها المقتضي لانقلاب العدم الى الوجود يقال: إنّ هذا المقتضي غالباً لا يقترن بمانع، والحساب الثاني يقدّم على الحساب الأوّل.

هذا تمام الكلام في المقدّمة.

ولنشرع الآن في أدلّة حجّيّة الاستصحاب.

29

الاستصحاب

2

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة حجّيّة الاستصحاب

 

 

 

 

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس إفادته للظن.

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس السيرة العقلائية.

✽ حجّيّة الاستصحاب على أساس الأخبار.

 

 

 

 

 

31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس إفادته للظن:

 

الدليل الأوّل: هو الظنّ، فيقال: إنّ الحالة السابقة تورث الظنّ، فيكون الظنّ دليلاً على حجّيّة الاستصحاب، وذلك إمّا من باب الظنّ النوعي، أو من باب الظنّ الشخصي، والفرق بينهما هو: أنّه إن قلنا: إنّ الحالة السابقة ـ لو خلّيت وطبعها ـ تورث الظنّ، فتكون حجّة حتّى في مورد لم تخلّ وطبعها، أي: اقترنت بمانع يمنع عن حصول الظنّ، كان هذا معناه حجّيّة الاستصحاب من باب الظن النوعيّ. وأمّا إن قلنا: إنّ الحالة السابقة ـ لو خلّيت وطبعها ـ تورث الظنّ فمهما خلّيت وطبعها كانت حجّة، كان هذا معناه حجّيّة الاستصحاب من باب الظنّ الشخصيّ.

ونقطة الفراغ في هذا الدليل هي مسألة حجّيّة الظن التي لم يتعرّض لحالها في هذا الدليل، فلو فرضت حجّيّة هذا الظنّ بدليل الانسداد أو بدليل آخر، وضمّت هذه الكبرى الى ما فرض من الصغرى، وهي إفادة الحالة السابقة للظنّ، كان مجموع ذلك دليلاً كاملاً على حجّيّة الاستصحاب.

ويستشهد للصغرى في المقام بما يذكر في الدليل الثاني من السيرة العقلائية، فيقال: إنّ هذه السيرة من قبل العقلاء لا يحتمل تحققها من باب التعبّد الصرف، وإنّما هي من باب ما يرون في المقام من الطريقية.

والصحيح: أنّ هذا الوجه لا محصّل له لا كبرىً ولا صغرىً.

أمّا الكبرى: فلعدم ثبوت حجّيّة هذا الظنّ لا بدليل الانسداد؛ لعدم تماميّته على ما مضى

32

في محلّه، ولا بدليل خاصّ؛ لعدم أيّ دليل خاصّ على حجّيّته، وإذا اُريد التمسّك بالسيرة وعدم الردع كان ذلك رجوعاً إلى الدليل الثاني.

وأمّا الصغرى: فلأنّ كون الحالة السابقة مورثة للظنّ بالبقاء ـ لو خلّيت وطبعها ـ ممنوعة، فإنّ هذا الظنّ ناشئ من حسابات الاحتمالات المختلفة جدّاً باختلاف الموارد والاشخاص ومقدار البقاء، ومجرد الحالة السابقة لا تورث أيّ ظنّ بالبقاء. وأمّا الاستشهاد على حصول الظن بالسيرة العقلائية فغير صحيح، لأنّ بناءهم على البقاء باعتبار تحقق الحالة السابقة بما هي كذلك وإن كان ثابتاً في الجملة، ولكن ليس ذلك على أساس ظنّ منطقي، وإنّما هو على أساس وهميّ، وهو أساس الاُنس بالحالة السابقة، وبما أنّ هذا الأساس ثابت في الحيوانات، فلذا ترى أنّ هذا الجري ثابت في الحيوانات أيضاً، وبما أنّ هذا الوهم إنّما يتحقّق عندما يتكلّم في فرد معيّن لا في فرد مبهم، ترى أنّ هذا الميل النفسي إلى الحكم بالبقاء عند العقلاء إنّما يوجد عند تعيّن الفرد، فمن أنس ذهنه بصديق له عاش ستّين سنة مثلاً، ثمّ لم يره إلى سنة لسفر ونحوه، ولم يكن له أيّ إطّلاع على حاله، فلو سُئِل عن حياته يُرى أنّه يميل إلى فرض حياته، ولكن لو اُبدل هذا الشخص بشخص آخر مبهم، فقيل له: إنّ شخصاً عاش ستّين سنة ثم مضت عليه سنة ليس لنا اطّلاع على حاله، فهل هو حيّ يرزق أو لا؟ فهنا لا يميل إلى الحياة، بل يظهر الجهل المطلق، فلو كان البناء على البقاء على أساس منطقي لم يكن يفرّق بين الحالين.

 

 

33

 

 

 

حجّيّة الاستصحاب على أساس السيرة العقلائية:

 

الدليل الثاني: قيام السيرة العقلائية على البناء على بقاء الحالة السابقة، بل استشهد بعض بثبوت السيرة عند البشر و الحيوانات.

وقد ناقش في السيرة السيّد الاُستاذ وغيره بأنّ ما يرى من البناء على الحالة السابقة من قبل العقلاء ليس على أساس الحالة السابقة والاستصحاب، وإنّما هو لاُمور اُخرى إتّفاقيّة كثبوت الإطمئنان بالبقاء أحياناً، أو الظن به اُخرى، أو كون ذلك جرياً على الرجاء والاحتياط ثالثةً، أو كونه من باب الغفلة وعدم الالتفات رابعةً(1).

ولكنّ الصحيح ما مضى من أنّ هذه السيرة موجودة في الجملة على أساس الوهم واُنس الذهن بالحالة السابقة، ونفس ما ذكروه من الغفلة يكون منشأها عادةً هو ذاك الوهم، والجري على وفق الظنّ بالحالة السابقة يكون في كثير من الأحيان في موارد لا يكتفون بالظنّ، لكن يؤثّر ضمناً ذاك الوهم الذي يوجب نوعاً من سكون النفس وعدم الاضطراب، ويشهد لهذه السيرة ذكر كثير من العلماء لها، حتى إنّه قيل: لولا هذه السيرة والبناء على الحالة السابقة لاختلّ نظام المعاش، وهو كذلك في الجملة، فكثير من الاُمور يمشي ببركة هذه الغفلة والوهم المانع من الاحتياط واضطراب النفس.

وبعد، فالكلام في المقام تارةً يقع في الصغرى وهي فرض سيرة يكشف عدم الردع عنها عن الإمضاء(2)، واُخرى يقع في الكبرى وهي عدم الردع.

أمّا الكلام في الصغرى فافتراض سيرة يكون عدم الردع عنها دليل الإمضاء يُتصور


(1) راجع مصباح الاصول: ج 3، ص 11.

(2) في كون عدم الردع دليلاً على الإمضاء في المقام إشكال، وهو: أنّ من المحتمل أن تكون الأغراض الواقعيّة نسبتها إلى جعل البراءة وجعل الاستصحاب على حدّ سواء، وأن يكون المولى قد جعل البراءة لكنه لم يهتمّ بإيصال ذلك الى العبيد، باعتبار أنّ ما يصنعه العبيد ليس بأسوأ حالاً من فرض التمسّك بالبراءة؛ لأنّ انحفاظ الغرض الحقيقي بعد الردع وقبله يكون بدرجة واحدة.

وقد أجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك بأنّ الإمام(عليه السلام) يهتمّ بإيصال الأحكام مطلقاً، فلو كان الحكم هو البراءة لردع عن الاستصحاب ولو فرض أنّ نسبة الملاك الواقعي إليهما كانت على حدّ سواء.

34

بثلاثة أنحاء:

1 ـ دعوى أنّ السيرة العقلائية ثابتة في الجري العملي في أغراضهم التكوينية، وقد سرت من موارد أفعالهم وأغراضهم التكوينية إلى موارد الأحكام بمرأىً ومسمع من الإمام(عليه السلام).

2 ـ دعوى أنّ سيرتهم في الجري العملي في أغراضهم التكوينية وإن لم تسرِ إلى باب الأحكام لكنّها تشكّل خطراً على أغراض المولى: إذ هي ـ على أيّ حال ـ في معرض السريان لا محالة، فلو لم يرضَ بذلك الشارع لردع عنه.

3 ـ دعوى السيرة بين العقلاء بما هم موالي، فيُرى في المولويات العرفية الإلزامية ـ كما هو الحال في الأب بالنسبة لا بنه مثلاً، أو الالتماسية كالصديق بالنسبة لصديقه ـ الاستصحاب منجّزاً ومعذّراً، وهذا أيضاً يشكّل ـ لا محالة ـ خطراً على أغراض المولى، فلو لم يرضَ المولى بذلك للزم الردع عنه.

والتحقيق: أنّ دعوى السيرة بالنحو الثالث غير ثابتة، وعهدتها على مدعيها، وكذلك الدعوى الاُولى، فإنّ السيرة ليست محكمة إلى درجة لا يحتمل عدم إسراء العقلاء لها إلى باب الأحكام، ولو من باب ثبوت ارتكاز ذهني لهم على أنّ الأحكام الشرعية يجب اتّخاذها من الشارع، خصوصاً أنّ القول بحجّيّة الاستصحاب لم يكن رائجاً بين العلماء الأقدمين، بل إنّ المحدّثين من أصحابنا قد اكّدوا على عدم حجّيّة الاستصحاب، و ادّعوا الإجماع على ذلك، ومن البعيد جداً أن يفترض بناء أصحاب الائمة(عليهم السلام) على الاستصحاب، ثمّ ابتعاد ذهن العلماء عن قبول الاستصحاب الى هذا المستوى فلا يبقى إذن عدا دعوى مجرّد السيرة الثابتة لدى العقلاء في أغراضهم التكوينية، وعدم الردع عنها الكاشف عن الإمضاء باعتبار أنّها تشكّل خطراً على أغراض المولى.

وأمّا الكلام في الكبرى فما يتصوّر رادعاً عن السيرة في المقام هي الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم مع أدلة البراءة أو الأحتياط، وقد جعل المحقّق الخراساني(رحمه الله) ذلك رادعاً عن السيرة هنا(1)، ولم يقبل رادعيّتها عنها في باب خبر الثقة(2)، ومن هنا اعترض عليه المحقّق النائيني(رحمه الله)(3) بأنّه لا وجه لهذا الفرق، فإمّا أن تكون رادعة في كلا المقامين، أو لا


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 280، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكينيّ.

(2) راجع نفس المصدر، ص 99.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 119، وأجود التقريرات: ج 2، ص 358.

35

تكون كذلك في كلا المقامين.

أقول: إنّنا لا ندخل هنا في البحث عن أنّ هذه الأدلّة هل يمكن دعوى عجزها عن الردع ولو في خصوص خبر الثقة أو لا، لأنّ هذا ما بحثناه في باب خبر الثقة وقد اخترنا هناك عجزها عن ذلك، وإنّما نبحث هنا عن أنّه ـ بعد فرض الفراغ عن عجزها عن الردع في خبر الثقة ـ هل تعجز عن الردع حتّى في المقام، أو يمكن إبداء فرق بين المقامين بحيث إنّ الاستدلال بالسيرة لو تمّ في ذاك المقام لا يتم هنا بغضّ النظر عن أنّ هذا الفرق كان منظوراً للمحقّق الخراساني(رحمه الله) ومقبولاً عنده، أو لا؟

وهناك وجوه لإبداء الفرق بين المقامين نحن نذكر هنا سبعة منها:

الوجه الأوّل: أنّ السيرة كلّما كانت أقواى احتاجت إلى ردع أقوى، والسيرة في خبر الثقة قويّة إلى درجة لا يمكن الاقتصار في ردعها على هذا المقدار من عموم أو إطلاق من هذا القبيل، وهذا بخلاف المقام الذي تحتمل ـ على الأقلّ ـ الكفاية في ردع السيرة بمثل هذه العمومات والإطلاقات؛ لعدم قوّة السيرة بتلك المرتبة.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بعد فرض عدم أولوية جعل هذه الأدلّة رادعة عن جعل السيرة مخصِّصة وبالعكس: من أنّ الردع لم يكن في أوائل البعثة، فالسيرة كانت ممضاة(1) آنذاك، فنستصحب الحجّيّة في باب خبر الثقة، ولكن لا يمكننا استصحاب الحجّيّة في باب الاستصحاب؛ لأنّ هذا يعني إثبات حجيّة الاستصحاب بالاستصحاب، وهو غير معقول(2).

أقول: يرد على هذا الوجه:

أوّلاً: أنّ الاستصحاب مدركه هو خبر الثقة، فكيف نثبت حجيّة خبر الثقة بالاستصحاب؟

وثانياً: أنّ خصوص أصالة عدم النسخ ثابتة بالإجماع ونحوه، ولو أنكرنا الاستصحاب في سائر الموارد إذن يمكننا التمسّك بأصالة عدم النسخ في كلا البابين(3).


(1) ثبوت الإمضاء بالسكوت الذي يواكب تدريجيّة الشريعة في صدر التشريع مشكل.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 3، ص 12.

(3) ثبوت أصالة عدم النسخ بقطع النظر عن الاستصحاب في حكم ثبت بمجرّد السكوت في أوائل الشريعة مشكل؛ لأنّ دليله إمّا ظهور الكلام في دوام الحكم، وهذا غير ثابت في السكوت المواكب لتدريجيّة الشريعة، وإمّا الوجوه اللبّيّة كالإجماع وسيرة المتشرّعة، والمتيقّن منها غير هذا الفرض.

36

هذا، ولكنّ السيّد الاُستاذ لا يقول بأصالة عدم النسخ بقطع النظر عن دليل الاستصحاب.

الوجه الثالث: أنّ ما دلّ على المنع عن العمل بغير العلم إرشادي يدلّ على وجوب كون المبدأ في عمل المكلّف علماً، وهذا شيء مسلّم لا يرتبط بالردع عن السيرة في شيء من المقامين. وأمّا أخبار البراءة فهي لا تردع عن خبر الثقة؛ لثبوتها بخبر الثقة، ولكنه لا مانع من ردعها عن الاستصحاب.

وهذا الوجه مبنيّ على القول بكفاية عدم ثبوت الردع في حجّيّة السيرة، وعدم الحاجة الى ثبوت عدم الردع.

الوجه الرابع: أنّ السيرة في خبر الواحد ـ كما يستفاد من عبارة المحقق الخراساني(رحمه الله)(1) ـ كانت سارية إلى باب الأحكام، وعليه فنفس السيرة دليل بدرجة الاطمئنان على عدم ردع نفسها، فإنّه لو حصل الردع من أمير المؤمنين والحسن(عليهما السلام) لما استمرّت السيرة في باب الأحكام إلى زمان العسكري(عليه السلام).

نعم، لو وجد دليل قويّ في مقابل هذا الدليل يدلّ على الردع بحيث يقابل في تأثيره في النفس دلالة نفس السيرة على عدم الردع، وقع التزاحم بينهما في التأثير، وعند النتيجة لا يثبت الإمضاء، ولا يكفي لذلك مجرد عموم وإطلاق.

وأمّا في المقام فحيث إنّ السيرة لم يثبت سريانها إلى باب الأحكام، بل المظنون عدم سريانها، فهي بنفسها لا تدلّ على عدم الردع، وعندئذ لا طريق إلى استكشاف عدم الردع، لأنّ طريقه هو أن يقال: إنّه لو ردع لوصل الردع، لكن نقول في المقام: إنّه لعل نفس هذا العموم والإطلاق كان بقصد الردع.

الوجه الخامس: أنّ ارتكاز حجّيّة خبر الثقة في الأحكام عند أصحاب الأئمة ـ حتى لو قلنا بأنّه لا يكشف عن عدم الردع؛ لاحتمال ثبوت ردع لم يلتفتوا إليه ـ يوجب إجمال دليل البراءة لمورد خبر الثقة الدال على الإلزام، فنضطرّ الى الأخذ بجانب الإلزام، ومثل هذا الارتكاز لم يثبت وجوده في باب الاستصحاب.

الوجه السادس: أنّ السيرة بين الموالي والعبيد ـ بحسب عالم التنجيز والتعذير ـ ثابتة في باب خبر الثقة، وغير ثابتة في باب الاستصحاب، وعندئذ يمكن إرجاع ذلك في باب خبر


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 98، بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.

37

الثقة ـ كما هو ظاهر عبارة الشيخ الآخوند(رحمه الله)(1) ـ إلى دعوى قصور في حقّ الطاعة، بحيث لا يشمل مورد دلالة خبر الثقة على عدم الإلزام، وهذا لو تمّ فلا حاجة إلى ثبوت الإمضاء. نعم، لو ثبت الردع كان التعويل على خبر الثقة عندئذ مخالفة قطعيّة، وهذا مناف لحقّ الطاعة حتماً.

والخلاصة: أنّه يدّعى في باب خبر الثقة قصور في حقّ الطاعة ما لم يصل الردع، فلا حاجة إلى إثبات عدم الردع. وأمّا في المقام فيقصد إثبات حجّيّة الاستصحاب باثبات جعل المولى له حجّة عن طريق إمضاء السيرة الثابت بعدم الردع، فلابدّ من إثبات عدم الردع، ولم يثبت.

وهذا الوجه يقرب جدّاً من ارتكاز الشيخ الآخوند(قدس سره) وإن لم يكن مقبولاً عندنا.

الوجه السابع: ما يناسب مباني المحقّق النائيني(رحمه الله) الذي اعترض على المحقّق الخراساني(رحمه الله) بعدم الفرق بين المقامين، وهو أن يقال: إنّ بناء العقلاء في الاستصحاب لم يكن على وجه الأمارية، وفي باب خبر الثقة كان على وجه الأمارية وما فيه من الكشف، مع تتميم كشفه وجعله علماً تعبداً، فيصبح حاكماً على(رفع ما لا يعلمون) أو الدليل الرادع عن العمل بغير العلم. وهذا بخلاف الاستصحاب.

 

 

 


(1) راجع الكفاية: ج 2، ص 100 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقة المشكيني.