81

في لزوم الاجتناب عن الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءاً، وكما ورد في ماءين علم بنجاسة أحدهما من قوله: (أهرقهما وتيمّم)، فالإراقة كناية عن عدم الانتفاع بهذا الماء حتى بالشرب، فما صحّ سنداً من هذه الأخبار (1) يبطل الفتوى بالتخيير في المقام.

 

وجه التحقيق في المسألة

إلاّ أنّ الصحيح عدم تماميّة شبهة التخيير في نفسها، بلا حاجة إلى التمسّك بروايات خاصّة في المقام، وذلك حتى في مثل حديث الحلّ الذي لم يتمّ بشأنه الوجه السابق، لوجود كلمة (بعينه) وذلك لما نوضّحه بذكر اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ الحكم الإلزاميّ أو الترخيصيّ ـ سواء كان واقعيّاً أو ظاهريّاً ـ يكون له عادةً مدلولان تصديقيّان: أحدهما: المدلول الإنشائيّ، وهو الإيجاب الإنشائيّ أو التحريم أو الترخيص، وثانيهما: المدلول التصديقيّ الحكائيّ، وهو ثبوت مبادىء الحكم من المصلحة والحبّ، أو المفسدة والبغض، أو مصلحة في التسهيل، أو عدم ملاك للإلزام، أو ترجيح أحد الملاكين على الآخر في عالم المحرّكيّة.

الأمر الثاني: أنّ الإلزام التخييريّ تارةً يكون مدلوله الإنشائيّ إلزاماً بالجامع، واُخرى يكون إلزاماً بكلّ واحد من الطرفين مشروطاً بترك الآخر، كما أنّ مدلوله التصديقيّ الحكائيّ تارةً يكون عبارةً عن وجود المبدأ في الجامع، واُخرى عبارة عن وجوده في كلّ من الطرفين مشروطاً بترك الآخر، ففي الحقيقة يكون هنا حكمان مشروطان، بحيث لو ترك كليهما عوقب بعقابين، بخلاف ما لو كان الواجب هو الجامع مخيّراً.

فإن كان المدلول الإنشائيّ إلزاماً بالجامع، فالظاهر منه أنّ المدلول التصديقيّ الحكائيّ ـ أيضاً ـ كذلك، وإن كان المدلول الإنشائيّ إلزاماً بكلّ واحد من الفردين مشروطاً بترك الآخر، فلعلّ الأنسب له كون المدلول التصديقيّ الحكائيّ أيضاً كذلك،


(1) وكلا المضمونين يمتلكان السند التامّ، فالمضمون الأوّل ورد بسند تامّ في الوسائل: ج 16، ب 30 من الأطعمة المحرّمة ح 1، ص 358، والمضمون الثاني ورد بسند تامّ في الوسائل: ح 1، ب 8 من الماء المطلق، ح 2، ص 113 و ح 14، ص 116.

82

وإن كان لعله يناسب أيضاً كون المدلول التصديقيّ الحكائيّ عبارة عن وجود المبدأ في الجامع، بحيث يكون هنا في الحقيقة وجوب واحد تخييريّ، لا وجوبان مشروطان. هذا كلّه في جانب الإلزام التخييريّ.

وكذلك الأمر في جانب الترخيص التخييريّ، فمن الممكن أن يكون الترخيص ـ بحسب الإنشاء ـ ترخيصاً في الجامع، ومن الممكن أن يكون ترخيصاً في كلّ واحد منهما مشروطاً بترك الآخر، كما أنـّه ـ بحسب المدلول التصديقيّ الحكائيّ أيضاً ـ يمكن أن يكون الترخيص في الجامع، بأن يكون ما تعلّق غرضه الإلزاميّ به أحد الفردين مخيّراً، فيرخّص في الفرد الآخر، كما يمكن أن يكون الترخيص في كلّ واحد منهما على تقدير مخالفة الآخر، بأن يكون ما تعلّق به غرضه الإلزاميّ عبارة عن فعل كلّ واحد منهما على تقدير ترك الآخر، لا أحدهما مخيّراً، فيرخّص في ترك كلّ واحد منهما على تقدير فعل الآخر. هذا كلّه في الحكم الواقعيّ.

وأمـّا في الحكم الظاهريّ، فبحسب المدلول الإنشائيّ وإن كان يعقل تارةً التخيير بمعنى تعليق الحكم بالجامع، واُخرى ذكر حكمين مشروطين، لكن بحسب المدلول التصديقيّ الحكائيّ لا يعقل سوى التخيير بمعنى تعليق الحكم بالجامع؛ وذلك لما عرفته ممّا هو الصحيح في حقيقة الحكم الظاهريّ، فإنّ الحكم الظاهريّ ليس ناشئاً من ملاك في نفس الحكم ـ كما يقال ـ حتى يعقل ترخيصان مشروط كلّ منهما بترك الآخر؛ لكون الملاك هكذا، وإنـّما هو ناتج من ترجيح الملاكات الواقعيّة بعضها على بعض، فإن قدّم الملاك الإلزاميّ على الملاك الترخيصيّ حتى في مرتبة الموافقة القطعيّة اُلزم الاحتياط التامّ، وإن قدّم الملاك الترخيصيّ على الملاك الإلزاميّ حتى في مرتبة المخالفة القطعيّة، رخّص حتى في المخالفة القطعيّة، وإن قدّم الملاك الإلزاميّ على الترخيصيّ في مرتبة المخالفة القطعيّة، والترخيصيّ على الإلزاميّ في مرتبة الموافقة القطعيّة، رخّص في أحدهما المخيّر، إن لم يكن في البين مرجّح للترخيص في أحد الجانبين، وإلاّ رخّص في خصوص ذلك الطرف. وأمـّا الترخيص في كلّ واحد منهما بشرط ترك الآخر فغير معقول، فإنّ إتيان العبد بكلا الطرفين، أو تركه لهما، أو لأحدهما ليس له أثر في درجة اهتمام المولى بأغراضه.

الأمر الثالث: أنـّه لو جعل المولى الترخيص الظاهريّ بلسان: رخّصتك في كلّ واحد منهما إن تركت الآخر، فلا بأس بحمل ذلك على ما عرفته من الترخيص في أحدهما تخييراً. وأمـّا إذا جعل الترخيص بلسان كلّ شيء حلال، أو رفع ما لا

83

يعلمون، ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في كون مصبّ الترخيص كلّ واحد من الطرفين تعييناً، فتقييد كلّ من الترخيصين بترك الآخر وإن كان لا بأس به بلحاظ المدلول الإنشائيّ؛ إذ ليس فيه عدا مؤنة التقييد، لكنّه لا يتمّ لاستلزامه قلب الترخيص في كلّ طرف بعينه بحسب المدلول التصديقيّ الجديّ إلى الترخيص في الجامع، وهذه مؤنة زائدة لا تستفاد من مجموع دليل الترخيص التعينيّ، وقرينة عدم إمكان الترخيص في كلّ من الفردين بالإطلاق، فقياس ما نحن فيه في كلام المحقّق العراقيّ (رحمه الله) وفي كلام المحقّق النائينيّ (قدس سره)لدى بيانه لشبهة التخيير بما لو قال: أكرم كلّ عالم، وعلمنا بعدم وجوب إكرام زيد وعمرو معاً، حيث نستفيد في مثل ذلك التخيير، يكون من باب الغفلة عن المدلول الجدّيّ الأقصى، وقصر النظر على المدلول الإنشائيّ، فالواقع أنّ استفادة التخيير في مثل هذا المثال هي مقتضى القاعدة، ولكن في ما نحن فيه تكون على خلاف القاعدة.

وقد تقول في المقام بجواز إجراء الأصل في أحد الطرفين على أساس مبنى ً نقوله في باب العموم، وتوضيح ذلك: أنـّنا نقول في باب العموم: إنـّه إذا ورد مثلاً: أكرم كلّ عالم، وورد مخصّص ـ ولو متّصلاًـ لا يخرج عن تحت هذا العموم عدا فرد واحد مع احتمال خروج فردين، وذلك لا بمعنى كون المخصّص مجملاً مردداً بين الأقل والأكثر، ويكون المتيقّن منه خروج فرد خاص، بل بمعنى أنّ هذا المخصّص لم تكن له قابليّة إخراج أزيد من فرد واحد، كانت نسبته إلى زيد وعمرو مثلاً على حدّ سواء، أي: أنـّه على تقدير كون الخارج في الواقع كليهما ـ كما هو محتمل ـ لا يكون لما هو الخارج بهذا المخصّص تعيّن حتى في الواقع، فعندئذ دليل حجّيّة الظهور هنا لا يسقط رأساً، بل نلتزم بالتبعيض في الحجّيّة بحيث تثبت لنا قضيّتان مشروطتان: إحداهما: أنـّه إن كان زيد خارجاً، فعموم العامّ حجّة في عمرو، والاُخرى: أنـّه إن كان عمرو خارجاً، فعموم العامّ حجّة في زيد، ونعلم إجمالاً بحصول أحد الشرطين، فنعلم إجمالاً بحصول أحد الجزاءين، فنعلم بنحو العلم الإجماليّ بوجوب إكرام أحدهما.

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام إنـّما يتمّ في فرض المخصّص المنفصل، حيث إنّ الظهورين ثابتان في هذا الفرض، فيمكن دعوى حجّيّة كلّ واحد منهما على تقدير كذب الآخر. وأمـّا إذا كان متّصلاً فينتفي الظهوران؛ لأنّ ثبوتهما معاً غير معقول لفرض المخصّص المتّصل، وثبوت أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح.

84

فإنـّنا نقول في مقام الجواب عن هذا التوهّم: إنّ ظهور العامّ في عنوان (الفرد الثاني) محفوظ عرفاً، ودليل الحجّيّة شامل له، لكن هذا ـ بحسب التدقيق العقليّ ـ يكون على ظاهره محالاً، لعدم معلوميّة تعيّن لعنوان (الفرد الثاني)، حتى في الواقع، فترجع حجّيّة الظهور في عنوان (الثاني) ـ بحسب التحليل الفلسفيّ ـ إلى حجّيّتين مشروطتين.

كما أنـّه لا يرد إشكال: أنّ الحجّيّة تكون بملاك الكاشفيّة، ومثل هذه الحجّيّة لا تتبعّض عند العرف، فإنّ حجّيّة الظهور وإن تبعّضت في المقام فلسفيّاً حيث رجع الأمر ـ بحسب التحليل الفلسفيّ ـ إلى ما عرفته من حجّيّتين مشروطتين، ولكنّها لم تتبعّض عرفاً؛ لأنّ العرف يرى أنّ للكلام ظهوراً في شمول فرد بعنوان (الثاني)، وأنّ هذا الظهور حجّة، وهذا ليس فيه أيّ تبعيض واشتراط في الحجّيّة.

هذاكلامنا في باب العموم، ونقول بعينه في باب الإطلاق، إذ يمكن إرجاع القيد ـ بوجه من الوجوه ـ إلى الطبيعة.

إذا عرفت هذا قلنا: إنـّه قد يتوهّم في المقام أنـّه يمكن الاستفادة من هذا المبنى في باب العموم في ما نحن فيه، لإجراء الأصل في أحد الطرفين، بأن يقال: إنّ الظهور باق على حجّيّته، في كلّ واحد من الفردين على تقدير عدم الترخيص في الفرد الآخر، ونحن نعلم بعدمه في أحد الفردين، فنعلم بحجّيّته في أحدهما.

ويرد عليه: أوّلاً: أنـّه لا فائدة في حجّية أحد الترخيصين؛ إذ لا نعلم بأنّ أيّ الترخيصين هو الحجّة، ولا يثبت بذلك التخيير في ارتكاب أيّ واحد من الطرفين.

وثانياً: أنّ هذا ترخيص في أحد الطرفين تعييناً، دون الترخيص في الطرف الآخر، إلاّ أنـّنا لا نعلم ما هو الطرف المرخّص فيه، في حين أنّ ملاك الترخيص وهو الشكّ، أو ملاك عدمه وهو حرمة المخالفة القطعيّة، نسبته إلى الفردين على حدّ سواء.

نعم، يمكننا أن نستفيد من الدليل الترخيصيّ في أحد الفردين إن كان الفرد الآخر لا يجري فيه الأصل الترخيصيّ في نفسه، كما لو علم إجمالاً في الوقت بأنـّه إمـّا لم يصلّ صلاته، أو أنّ هذا المائع خمر، أو لأصل إلزاميّ حاكم على الأصل الترخيصيّ، كما إذا جرى في أحد الطرفين استصحاب النجاسة. أمـّا الأوّل فواضح، وأمـّا الثاني فلأنّ دليل الأصل له ظهور في الترخيص في كلّ ما لم يعلم تفصيلاً حرمته، ولم يكن طرفاً لعلم إجماليّ، لا يوجد منشأ ـ ولو من الخارج ـ يفهمه العرف؛

85

لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر، فهذه كبرى نستفيدهامن ظاهر دليل الترخيص، ونستفيد صغراها من جريان الأصل المثبت في ذلك الطرف.

وبهذا تنحلّ شبهة القول بأنّ ظهور دليل الترخيص في شمول كلّ طرف معارض بظهوره في شمول الطرف الآخر، فيحصل الإجمال، وجريان أصل مثبت للتكليف من الخارج في أحد الطرفين لا يرفع الإجمال.

ومن هنا يظهر ـ أيضاً ـ أنـّه لو علم إجمالاً بأحد تكليفين، وأحدهما أهمّ من الآخر، فمقتضى القاعدة جريان الأصل في الطرف غير الأهمّ؛ وذلك لما عرفت من ظهور دليل الترخيص في تلك الكبرى، وهي الترخيص في كلّ ما لم تعلم تفصيلاً حرمته، ولم يكن طرفاً لعلم إجماليّ لا يوجد منشأ ـ يفهمه العرف ـ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر، ونستفيد الصغرى من أهمّيّة التكليف في ذلك الطرف.

ولولا هذه النكتة، أي: شمول العام بإطلاقه لعنوان (الفرد الثاني)، وكنّا نحن ودلالة الدليل على الترخيص في هذا بالخصوص، وفي ذاك بالخصوص، لأمكنت المناقشة في إجراء الأصل في الطرف غير ألاهمّ، بأنّ العرف في مقام استظهار المعنى لا يلتفت إلى هذه الأهمّيّة، ويرى الدلالتين متعارضتين متساقطتين، فينتفي الظهور رأساً(1).

 


(1) توضيح المقصود: أنّ نكتة دخل الأهمّيّة في تيقّن سقوط الأصل في طرف الأهمّ مغفول عنها عرفاً، وهذا يجعل تعيّن خروج هذا الفرد غير ثابت بقرينة كالمتّصل، في حين أنّ أصل خروج أحدهما على الإجمال ثابت بقرينة كالمتّصل، وهو عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعيّة عرفاً، وهذا يؤدّي إلى عدم إمكان انحفاظ ظهور الدليل في الترخيص في خصوص الفرد الآخر، وهو غير الأهمّ، ولكن يبقى ظهوره في الترخيص في (الفرد الثاني) على الإجمال ـ وهوما عدا ما خرج على الإجمال بالقرينة التي هي كالمتّصل ـ محفوظاً، فإذا عيّنّا بقرينة منفصلة ذاك الفرد الخارج، وتلك القرينة هي الأهمّيّة، لحكم العقل بعدم إمكان سقوط الأصل في المهمّ وحده، دون الأهمّ، ضممنا ذلك إلى ظهور دليل الأصل في الترخيص في (الفرد الثاني)، وثبت بذلك الترخيص في طرف المهمّ، أو قل: ثبتت حجّيّتان مشروطتان: حجّيّة الأصل في الأهمّ على تقدير سقوطه في المهمّ وبالعكس، وتكون الحجّيّتان لغواً لو لم يحرز من الخارج

86

نعم لو كان المقيّد الدالّ على خروج أحد الفردين منفصلاً، ولم يكن كالمتّصل، فالظهوران كانا محفوظين، كان الظهور في جانب غير الأهمّ حجّة؛ لعدم ابتلائه بمعارضة الظهور في جانب الأهمّ؛ للقطع بعدم حجّيّته وعدم مطابقته للواقع، لكن الأمر ليس كذلك.

نعم، هذه المناقشة لا تأتي في إثبات حجّيّة خبر الأوثق، أو فتوى الأعلم من دليل حجّيّة الخبر، أو الفتوى عند المعارضة لخبر غير الأوثق، وفتوى غير الأعلم؛ لأنّ نكتة الحجّيّة ـ وهي الوثاقة ـ مصرّح بها في الدليل، فلا يلغي العرف في مقام الاستظهار أوثقيّة أحد الجانبين، كما يلغي في ما نحن فيه أهمّيّة أحد الجانبين.

نعم، الشيء الذي يمنعنا عن الأخذ بخبر الأوثق بقطع النظر عن الأخبار العلاجّيّة، هو ما نقّحناه في بحث الفقه من عدم حجّيّة خبر الثقة عند معارضته لأمارة نوعيّة تبطل كشفه، خلافاً لما ذكرناه في الاُصول في بحث خبر الواحد(1).

 


شرط إحدى الحجّيّتين، ولكن أحرزنا أحد الشرطين، وهو سقوط الأصل في طرف الأهمّ، فثبتت الحجّيّة في طرف المهمّ.

(1) اختار اُستاذنا الشهيد ـ في بحث خبر الواحد في الدورة التي حضرتها ـ حجّيّة خبر الثقة المعارضة بما يبطل كشفه النوعيّ من أمارة غير حجّة، بدعوى أنّ كشفه في مورده وإن بطل، لكن كشفه بلحاظ كونه جزءاً من مجموعة تورث العلم الإجماليّ بحساب الاحتمالات لم يبطل، واستشهد أيضاً لمدّعاه ببعض الأخبار العلاجيّة. (راجع الجزء الثاني من القسم الثاني من تقريرنا هذا، ص 585 ـ 591)، ولكنّه عدل عن ذلك في بحث الفقه في كتاب الطهارة، ولم يتعرّض في ذاك البحث للإجابة عن استشهاده في الاُصول ببعض الأخبار العلاجيّة، ولكن تعرّض لما قاله في الاُصول من بقاء الكشف بلحاظ كونه جزءاً من مجموعة تورث العلم الإجماليّ، فأجاب عنه: بأنّ ظهور دليل الحجّيّة في الانحلال، وملاحظة كلّ فرد فرد، وعدم فرض أفراد كثيرة في المقام، كلّ هذا دليل على أنّ الملحوظ هو كاشفيّة خبر الثقة في كلّ مورد مورد، لا كاشفيّته باعتبار العموم المجموعيّ، وتدخّله في تكوّن ذلك العلم الإجماليّ، فإطلاق دليل الحجّيّة قاصر عن الشمول للخبر المبتلى بالمزاحم في الكشف.

انتهى ما ذكره في الفقه في بحث الطهارة، في مسألة مطهّريّة ماء الورد عن الحدث وعدمها.

87

والذي يريحنا عن هذه الجهة إنـّما هو الأخبار العلاجيّة(1) . والأخبار العلاجيّة غير واردة في باب التقليد، فيبقى الإشكال في باب التقليد مركّزاً.

نعم إذا كانت الأوثقيّة أو الأعلميّة، بنحو بقي لخبره أو لفتواه ـ بعد المعارضة بخبر الثقة أو فتواه ـ الكشف بمقدار خبر أدنى درجات الثقة(2)، أو فتواه غير المبتلى بالمعارض، فلا بأس بالقول بحجّيّته(3).

 


وهذا المطلب محذوف في كتابه (رضوان الله عليه) المطبوع باسم (بحوث في شرح العروة الوثقى)، وهو مثبّت في تقريرنا الخطّي لبحثه الشريف.

وعلى أيّة حال، فالمختار لنا في بحث حجّيّة خبر الواحد، هو عدم سقوط خبر الثقة عن الحجّيّة بمعارضته لأمارة ظنّيّة غير حجّة، لأنّ المقياس هو الكاشفيّة النوعيّة، بمعنى غلبة الصدق في خبر الثقة، أو قل: كونه في حدّ ذاته مورثاً للظنّ، لا بمعنى كونه بالفعل مورثاً للظنّ لغالب الناس، وهذه الكاشفيّة النوعيّة لا تبطل بمعارضته لأمارة ظنّيّة. نعم، مجموع هذا الخبر مع الأمارة المعارضة غير الحجّة ليست له كاشفيّة نوعيّة عن المقصود. أمـّا ذات هذا الخبر فلا زالت كاشفيّته النوعيّة محفوظة، فيكون حجّة.

ولكن هذا الكلام لا يأتي في ما إذا كانت الأمارة المعارضة له عبارة عن خبر ثقة مثله، لأنّ نكتة الحجّيّة ـ عندئذ ـ ثابتة لكلا المتعارضين، فيرى الفهم العرفي أنـّهما تتزاحمان في التأثير، ومجرّد أوثقيّة أحد المخبرين لا يحلّ الإشكال ما لم تكن الزيادة في الوثاقة بقدر وثاقة كاملة؛ لأنّ الزيادة التي تكون أقلّ من الوثاقة ليست مصداقاً لنكتة الحجّيّة المصرّح بها في الدليل، فيلغيها العرف في مقام الاستظهار، ويتمّ تعارض الإطلاقين والإجمال، بل ولا يتمّ إطلاق العامّ حتى لعنوان (الفرد الثاني)؛ لأنّ ملاك الحجّيّة المفهوم عرفاً غير ثابت في الفرد الثاني، لأنّ أصل الوثاقة مزاحم بمثله، والزيادة ليست بالغة إلى مستوى ملاك الحجّيّة، إذن فالأوثقيّة إنـّما توجب الحجّيّة رغم المعارض إذا كانت الزيادة في الوثاقة تساوي ـ على الأقلّ ـ أدنى درجات الوثاقة.

(1) ولعلّ المقصود بذلك: أنّ الأخبار العلاجيّة حصرت المرجّح في موافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فالأوثقيّة ليست مرجّحة.

(2) ولعلّ الأخبار العلاجيّة منصرفة عن مثل هذا الفرض بمناسبة الحكم والموضوع.

(3) لنا بحث حول معارضة فتوى الأعلم بفتوى غيرالأعلم، خاصّة إذا فرض أنّ غير الأعلم كان كفوءاً لقيادة المجتمع، والأعلم لم يكن كفوءاً لها، لا بأس بالتعرّض لهذا البحث هنا

88


استطراداً، فنقول:

إذا تعارض فتوى الأعلم مع فتوى غير الأعلم فقد يقال: إنّ الثاني متيقّن السقوط، والأوّل مشكوك السقوط، فنتمسّك بإطلاق الدليل لإثبات حجّيّته، وكذلك البناء العقلائيّ ثابت على حجّيّته، وتيقّن فتوى غير الأعلم للسقوط إن كان واضحاً لدى العرف ـ ولو بنكتة: أنّ العلم مأخوذ في لسان دليل حجّيّة الفتوى ـ يبقى ظهور الدليل في حجّيّة فتوى الأعلم محفوظاً، وإن لم يكن واضحاً لدى العرف، ولكنّه كان واضحاً لدى العقل، إذن يتمسّك بإطلاق الدليل لعنوان الفرد الثاني، بعد العلم بسقوط أحد الفردين إجمالاً، لعدم إمكان حجّيّتهما معاً، ثمّ يعيّن أحد الفردين الساقط في فتوى غير الأعلم بحكم العقل، فتثبت حجّيّة فتوى الأعلم.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ تزاحم مايفهمه العرف من ملاكي الحجّيّة في الفتويين لا يُبقي مجالاً للظهور، لا في حجّيّة فتوى الأعلم، ولا في عنوان الثاني، إلاّ إذا كان الفاصل بين الملاكين كبيراً، أي ما يكون بقدر الملاك الكامل في نظر العرف.

وقد يقال: إنّ البناء العقلائيّ من باب الرجوع إلى أهل الخبرة قائم على أساس ترجيح فتوى الأعلم ولو كانت الأعلميّة بدرجة ضئيلة، وهذا البناء والارتكاز يؤثّر على ظهور الأدلّة اللفظيّة، فتحمل أدلّة التقليد اللفظيّة على الطريقة العقلائيّة في التقليد، فينحفظ لها ظهور في حجّيّة فتوى الأعلم لدى التعارض، ولو كانت الأعلميّة بدرجة قليلة، ولو لم نقبل تأثير هذا البناء والارتكاز على ظهورات الأدلّة اللفظيّة، كفانا القول بأنـّه بعد سقوط الإطلاقات اللفظيّة يبقى لنا البناء العقلائيّ دليلاً تامّاً على حجّيّة فتوى الأعلم بعد ثبوت الإمضاء بعدم الردع.

وقد يفرض أنّ الفتويين المتعارضين أحدهما راجع إلى الأعلم غير الكفوء للقيادة، والآخر راجع إلى الكفوء غير الأعلم، فأيـّهما يقدّم؟

والكفاءة وإن كانت دخيلة في الأعلميّة، فإنّ نظرة الكفوء إلى مفاد الأدلّة تختلف كثيراً عن نظرة غير الكفوء في شتّى الأبواب، من قبيل فهم معنى أدلّة التقيّة، وأدلّة الجهاد، وأدلّة حرمة الربا في أنـّها هل تحرم الحيل التي تؤدّي إلى نتيجة الفوائد الربويّة أو لا، وأدلّة الولايات، وغير ذلك من الاُمور، ولكن مع ذلك قد يتصوّر فرض كون غير الكفوء أعلم؛ لأنّ الملاكات الدخيلة في الأعلميّة عديدة، أحدها الكفاءة، فقد يكون غير الكفوء أعلم بلحاظ قوّته في بعض الملاكات الاُخرى، كحدّة الذكاء مثلاً بمستوى يغلب على مقدار تأثير الكفاءة في الأعلميّة.

89


وتحقيق الحال في المقام: أنّ الأدلّة اللفظيّة للتقليد على قسمين:

أحدهما: ما دلّ على منصب التقليد فقط، دون منصب الولاية، من قبيل: رواية أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنـّه الثقة المأمون. وسأل ابا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنـّهما الثقتان المأمونان(1) . فقوله: (ما أدّى إليك عنّي) و(ما أدّيا إليك عنّي) وإن كان في حدّ ذاته ظاهراً في الإخبار عن الحسّ، فلا يشمل الفتوى، لكن السؤال وهو قوله: (من اُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل) قرينة على كون المقصود ما يعمّ الأداء الحسّيّ والحدسيّ، أي: ما يعم الرواية والفتوى؛ لأنّ التعامل والأخذ الذي هو محلّ الابتلاء ليس هو خصوص أخذ الحديث، بل كثيراً مّا يكون بلحاظ أخذ الفتوى، بل تخصيص كلمة التعامل بأخذ الحديث خلاف الظاهر جدّاً.

ورواية عبد الله بن يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنـّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفيّ، فإنـّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً (مرضيّاً ـ خ لـ )(2) . فإنّ جواب سؤال السائل ليس دائماً بإعطاء الرواية، بل كثيراً ما يكون بإعطاء النتيجة المستفادة من الإطلاق ونحوه.

ورواية يونس بن يعقوب قال: كنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النضريّ؟(3) والمفزع والمستراح ليس هو من يؤخذ برواياته فحسب، بل من يؤخذ بفتواه أيضاً، ومبدأ الولاية ليس مستفاداً من هذا الحديث؛ لأنّ رأس خيط الارتباط اُعطي في الحديث هذا بيد الناس بفزعهم واستراحتهم إلى الحرث بن المغيرة، ولم يعط بيد الحرث بأن يكون له الأمر والنهي ابتداءً، حتى فيما لم


(1) الوسائل: ج 18، ب 11 من صفاة القاضي، ح 4، ص 100.

(2) نفس المصدر: ح 33 ص 105.

(3) نفس المصدر: ح 24 ص 105. وفي الوسائل: ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 145، ورد الحارث بن مغيرة النصريّ، وهو الصحيح، ولم يرد النضريّ في كتب الرجال.

90


يرجعوا فيه بالخصوص إليه، وهذا يناسب منصب الفتوى لا الولاية، والإرجاع إلى الحرث في الفتوى إنـّما هو ـ حسب المرتكز العقلائي ـ إرجاع إليه بما هو فقيه ثقة، لا بما هو شخص معيّن، فيستفاد منه جواز تقليد الفقيه الثقة على الإطلاق.

ورواية عليّ بن المسيّب قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا(1) . وأخذ معالم الدين يشمل الأخذ بالفتوى، ولا يختصّ بأخذ الرواية.

ورواية عبد العزيز بن المهتديّ، والحسن بن عليّ بن يقطين عن الرضا (عليه السلام)، قلت: لا أكاد أصل اليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم(2).

والروايتان الأخيرتان غير تامّتين سنداً.

القسم الثاني ـ ما دلّ على منصب الولاية كالتوقيع الوارد إلى إسحاق بن يعقوب : .... وأمـّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنـّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله(3).

ولا إشكال في أنّ منصب الولاية مشروط بالكفاءة، والقدرة على إدارة الاُمور، وهذا واضح بحكم العقل والارتكاز العقلائيّ. إذن فإطلاق الرواية مقيّد بقيد ارتكازيّ كالمتّصل، وهو قيد الكفاءة، إلاّ أنّ قيد الكفاءة يمكن أخذه بأحد شكلين:

الأوّل: أن يجعل قيداً للرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا الكفوئين، فإنـّهم حجّتي عليكم.

والثاني: أن يجعل قيداً لما يرجع فيه إلى الرواة، فكأنـّما قال (عليه السلام): أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا إلى الرواة في كلّ ما لهم الكفاءة بالنسبة له، فإنـّهم حجّتي عليكم في تلك الاُمور الداخلة في كفاءتهم. إذن، فمن كان منهم كفوءاً في استنباط الحكم الفقهيّ فحسب دون إدارة اُمور المجتمع يرجع إليه في أخذ الفتوى فحسب، ومن كان كفوءاً في إدارة اُمورالمجتمع يرجع


(1) نفس المصدر ح 27 ص 106.

(2) نفس المصدر ح 33 ص 107.

(3) نفس المصدر ح 9 ص 101.

91


إليه في إدارتها، وتكون له الولاية.

والاحتمال الثاني أوفق بالإطلاق، والاحتمال الأوّل أوفق بارتكازيّة الترابط بين مرافق القيادة وعدم الانحلال والتفكيك فيما بينها بالفصل بين منصب الفتوى ومنصب ملء منطقة الفراغ أو تشخيص الموضوعات. فنتكلّم تارةً بناءً على استظهار الاحتمال الأوّل، واُخرى بناءً على استظهار الاحتمال الثاني.

أمّا على الاحتمال الأوّل: وهو فرض الترابط بين شؤون القيادة، وكون الكفاءة قيداً ارتكازياً راجعاً إلى الرواة ـ فهذه الرواية إنـّما دلّت على ثبوت منصب التقليد ضمن منصب القيادة لمن يكون أهلاً للقيادة متمتّعاً بالكفاءة لها، فإذا وقع التعارض بين فتوى الأعلم غير الكفوء للقيادة وفتوى الكفوء لها غير الأعلم. فنحن نتكلّم عندئذ في ما هو مقتضى الفنّ بناءً على فروض ثلاثة بالنسبة للقسم الأوّل من أدلّة التقليد الذي أثبت منصب التقليد فحسب للفقيه دون منصب القيادة:

الفرض الأوّل: أن ننكر ارتكازيّة تقدّم رأي الأعلم على الإطلاق عقلائيّاً في باب الرجوع إلى أهل الخبرة، ونفترض التعارض الداخليّ بين إطلاقي تلك الأدلّة، لعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً، إذن تلك الأدلّة تبتلي بالإجمال الداخليّ، في حين أنّ القسم الثاني من أدلّة التقليد ـ وهو الذي أثبت التقليد ضمن منصب القيادة لا منفصلاً عنها ـ غير مبتل بالتعارض الداخليّ، لاختصاصه بالكفوء قياديّاً، فنأخذ به، ويكون التقليد لدى تعارض الفتويين للكفوء قياديّاً لا للأعلم غير الكفوء.

الفرض الثاني: أن نؤمن بالارتكاز العقلائيّ الدالّ على تقديم رأي الأعلم على الإطلاق، أي حتى مع كون الفاصل بينهما ضئيلاً، ولكن نبني ـ مع ذلك ـ على التعارض الداخليّ في القسم الأوّل من الأدلّة اللفظيّة للتقليد، لعدم قبول تأثير ذاك الارتكاز على ظهور الألفاظ، ولعدم كون الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً. وعندئذ فالقسم الأوّل من الدليل اللفظيّ ساقط بالإجمال. أمـّا البناء العقلائيّ على تقليد الأعلم الذي فرضنا الإيمان به، فهو مقيّد بفرض عدم نصب قائد من قبل الشريعة للرجوع إليه في كلّ شيء حتى الفتوى، إذ من الواضح أنـّه مع مفرض نصب قائد من هذا القبيل لا يبني العقلاء في أخذ آراء تلك الشريعة، والعمل بها على الرجوع إلى غير ذاك المنصوب، ولوكان أعلم، والنصب هنا ثابت بحكم القسم الثاني من الأدلّة الخاصّة بمن هو كفوء قياديّاً، فلا يبقى موضوع للرجوع إلى بناء العقلاء.

92


الفرض الثالث: أن لا نفترض التعارض الداخليّ والإجمال في القسم الأوّل من الدليل اللفظيّ للتقليد، بل نؤمن باختصاصه بالأعلم، إمـّا لفرض كون الفاصل بينهما كبيراً، أو لفرض ارتكاز عقلائيّ يدلّ على تقديم رأي الأعلم وإن كان الفاصل بينهما ضئيلاً، مع الإيمان بأنّ هذا الارتكاز يؤثّر على ظهور الألفاظ، ويوجب حمل الأدلّة اللفظيّة على نفس المنهج المرتكز عقلائيّاً. وعندئذ يقع التعارض بين قسمي الدليل اللفظيّ للتقليد؛ لأنّ الأوّل منهما يشير إلى تقليد الأعلم، والثاني منهما يشير إلى تقليد الكفوء المفروض اختلافه عن الأعلم في الفتوى.

فقد يقال: إنـّهما يتساقطان، ونرجع إلى الارتكاز العقلائيّ الدالّ على ترجيح رأي الأعلم.

ولكن قد يقال في قبال ذلك: إنّ العرف يتعامل مع الدليلين اللفظيين في المقام معاملة العموم والخصوص المطلق لا العموم من وجه، فالنسبة بينهما بالدقّة وإن كانت هي العموم من وجه ـ بعد فرض سقوط رأي غير الأعلم بلحاظ القسم الأوّل لدى التعارض لرأي الأعلم، فيبقى رأي الأعلم كمادّة افتراق للقسم الأوّل، كما بقي رأي الكفوء كمادّة افتراق للقسم الثاني ـ ولكن المفهوم عرفاً هو أنّ النسبة بينهما عموم مطلق، لأنّ القسم الأوّل شمل كلّ الفقهاء، والقسم الثاني اختصّ بالفقهاء الكفوئين قياديّاً، فيكون المرجع هو الفقيه الكفوء قياديّاً تقديماً للخاصّ على العامّ؛ لأنّ الإرجاع إلى الفقيه الكفوء يدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غير الكفوء حتى فيما لو لم يتعارض الفتويان، فالقسمان من دليلي التقليد متعارضان رغم كونهما مثبتين للعلم بوحدة الحكم، أي: أنـّه لا يوجد لدينا وجوبان للتقليد، وإنـّما لدينا وجوب واحد إمّا مقيّد بكفاءة المقلَّد للقيادة، أو غير مقيّد بها، ووزان الدليلين في المقام وزان ما لو ورد دليلان للتقليد: أحدهما لم يدلّ على اشتراط العدالة في المقلَّد، والثاني دلّ على اشتراط العدالة فيه، فعندئذ لا إشكال في أنّ الثاني يقدّم على الأوّل بالأخصّيّة، رغم أنـّه يمكن أن يقال بالتدقيق: إنّ النسبة بينهما عموم من وجه، لأنـّه لو وقع التعارض بين رأي الأعلم غير العادل، ورأي العادل غير الأعلم، فقد سقط رأي غير الأعلم عن الأماريّة، والحجّيّة بلحاظ الدليل الأوّل، وكان رأي العادل غير الأعلم مادّة للافتراق للدليل الثاني.

وإذا ثبت بهذا البيان نصب الفقيه الكفوء، فلا تصل النوبة إلى الرجوع إلى بناء العقلاء، المرجّح لرأي الأعلم كما مضى.

وأمّاعلى الاحتمال الثاني، وهو فرض الانحلال، وجعل قيد الكفاءة راجعاً إلى الاُمور التي

93


تكون فيها الكفاءة، لا إلى نفس الرواة على الإطلاق، فيصبح حال القسم الثاني من أدلّة التقليد اللفظيّة حال القسم الأوّل، ولا يفتح لناباباً للرجوع من الأعلم إلى الكفوء، فقد يكون المرجع للتقليد هو الأعلم، للفاصل الكبير بينهما في العلم، أو لكون الارتكاز قائماً على ترجيح الأعلم ولو مع الفاصل الصغير، ويكون المرجع للقيادة هو الكفوء.

ولو قلنا بإجمال ا لقسم الثاني بين الاحتمالين، سقط بالإجمال، وكان المرجع هو القسم الأوّل بناءً على تعيينه للأعلم، أو بناء العقلاء بناءً على ثبوته في تعيين الأعلم للتقليد، فيتحقّق التفكيك أيضاً بين التقليد والقيادة.

وينبغي أن نلتفت هنا إلى نكتة، وهي أنـّه متى ما انتهينا إلى التفكيك بين التقليد والقيادة، على أثر الكفاءة وعدم الكفاءة، فإنـّما ننتهي إليه في التقليد عن الفتاوى التي لا تعارض الأحكام القياديّة للقائد، وتوضيح ذلك: أنّ الأحكام القياديّة للقائد لا شكّ أنـّها تتأثّر بالفتاوى، إذ لا بدّ له من ملاحظة حدود الأحكام الأوّليّة الفقهيّة، كي لا تعارض أحكامه القياديّة لتلك الحدود، إلاّ بمقدار ما يقتضيه قانون التزاحم، وبلحاظ تلك الأحكام القياديّة يكون المرجع هو القائد الكفوء لا الفقيه غير الكفوء، رغم أنّ تلك الأحكام القياديّة قد تستبطن فتاوىً معارضة لفتوى الأعلم غير الكفوء؛ وذلك لأنّ نكتة الأخصّيّة ـ التي شرحناها في آخر بحثنا على الاحتمال الأوّل ـ تأتي هنا لا محالة.

بل بالإمكان أن يقال: إنّ القائد الفعليّ الذي يعمل ولايته على المجتمع في سدّ نقائص المجتمع تشمل أحكامه الولائيّة النافذة، حتى على من يعلم بخطأه من باقي الفقهاء، حتى الكفوئين منهم بما هم من أفراد المجتمع المولّى عليه، فهم أيضاً يتّبعون القائد في أحكامه الولائيّة ولو ابتنت على فتاوىً في الأحكام الأوّليّة تعارض فتاواهم.

هذا، ولنا طريق ثان لإثبات كون التقليد للفقيه الكفوء، لا للأعلم غير الكفوء، يمكن الالتجاء إليه حتى بناءً على الاحتمال الثاني الذي أنتج الفصل بين القيادة والتقليد، وهو دعوى وقوع التزاحم بين حكم ظاهريّ وهو وجوب تقليد الأعلم وحكم واقعيّ وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة الكفوء للمجتمع، إذ لو أصبح التقليد لغير الكفوء، عجز الكفوء تكويناً عن القيادة، لأنّ التفكيك بين المقامين بفرض القيادة لمن لا يرون كلامه حجّة في الأحكام الشرعيّة خلاف طبع عامّة الناس، فلو اتّبع الناس الأعلم غير الكفوء في الأحكام والفتاوى دون الفقيه الكفوء، عجز

94


الفقيه الكفوء عن قيادتهم.

لا يقال: إنّ هذا يعني أنّ و جوب تقليد الكفوء الذي هو حكم ظاهريّ أيضاً، أصبح تابعاً لمصلحة سلوكيّة، أي أنّ هناك مصلحة في نفس تقليدهم له، وهي مصلحة تهيئة المناخ المناسب للقيادة أثّرت على تعيين الحكم الظاهريّ، في حين أنّ ظاهر أدلّة الأحكام الظاهريّة هي الطريقيّة البحتة لحفظ مصالح الأحكام الواقعيّة المتزاحمة فيما بينها في الحفظ لدى الجهل.

فإنـّه يقال: إنّ حجّيّة الفتوى في ذاتها حكم ظاهريّ، لا يشذّ عن باقي الأحكام الظاهريّة في أنـّها ـ بحسب طبعها الأوّليّـ إنـّما تكون لأجل حفظ الأحكام الواقعيّة لدى التزاحم الحفظيّ، ولكن سقوط رأي الأعلم عن الحجّيّة، ووصول النوبة بالتالي إلى حجّيّة رأي غير الأعلم، إنـّما كان نتيجة التزاحم بين هذا الحكم الظاهريّ ـ وهو حجّيّة رأي الأعلم ـ والحكم الواقعيّ ـ وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة القائد ـ وهذا له نظير في سائر الأبواب، فإنّ التزاحم كما قد يتّفق بين حكمين واقعيّين كما في الصلاة والإزالة، كذلك قد يتّفق بين حكمين ظاهريّين، أو حكم واقعيّ وحكم ظاهريّ، من دون سراية التزاحم إلى الحكمين الواقعيّين، كما لو فرضنا أنّ واجبي النفقة لم يكن تزاحم بين وجوبي الإنفاق عليهما، لكون المنفق مالكاً لما يكفي لنفقتهما معاً، ولكن كلّ منهما وقع الاشتباه فيه بين شخصين، فكان مقتضى الحكم الظاهريّ في كلّ منهما هو العمل بالعلم الإجماليّ بالانفاق على شخصين، بناءً على أنّ الاحتياط في مورد العلم الإجماليّ حكم ظاهريّ، والمنفق لم يكن قادراً على الإنفاق على أربعة أشخاص، فهنا قد وقع التزاحم بين حكمين ظاهريّين، من دون سريان التزاحم إلى الحكمين الواقعيّين، وكما لو فرضنا أنّ واجب النفقة تردّد بين شخصين، وقلنا: بأنّ وجوب الاحتياط بالإنفاق عليهما احتياط شرعىّ، فهو حكم ظاهريّ، ولكن كان ذلك مزاحماً لمصرف أهمّ يؤدّي إلى حفظ النفس مثلاً، حيث لم يكن المنفق قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على طرفيّ العلم الإجماليّ بوجوب النفقة، في حين كان قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على أحدهما، فالتزاحم وقع بين حكم ظاهريّ وحكم واقعيّ، من دون سراية ذلك إلى التزاحم بين حكمين واقعيّين.

هذا، ولو لم نقبل بالتزاحم بين تقليد الأعلم وقيادة غير الأعلم بلحاظ الفتاوى غير المرتبطة بموارد قيادته، فقد لا نناقش في قبول التزاحم بينهما بلحاظ الفتاوى التي لها دخل في أحكامه الولائيّة، حيث يصعب على القائد تنظيم أحكامه القياديّة وفق فتاوى من يقلّده الناس

95


عندما يختلف الناس في التقليد، فهم يقلّدون فقهاء مختلفين يصعب الجمع بين فتاواهم وأخذها جيمعاً ـ رغم تعارضها ـ بعين الاعتبار في أحكامه الولائيّة، فحتى لو لم نؤمن في مثل هذا المورد بما مضى من تقديم رأي الكفوء على أساس الأخصّيّة التي شرحناها تأتي فكرة تقديم رأيه بلحاظ التزاحم الذي عرفت، ولو لم يصعب عليه تنظيم أحكامه القياديّة وفق فتاوى الآخرين، لكنّه لم يرَ داعياً إلى ذلك، ونظّمها وفق فتاواه هو باعتبار اعتقاده بأنـّها أحقّ من فتاوى غيره، تحقّق التزاحم أيضاً بالنسبة للناس، فتقدّم آراء الوليّ باعتبار أهمّيّة الولاية.

وهذان الطريقان اللذان سلكناهما لإثبات ترجيح رأي الكفوء في التقليد على رأي الأعلم يختلفان في بعض النتائج، فلو أخذنا بالاحتمال الثاني من الاحتمالين الماضيين في تفسير دليل الولاية، والذي أدّى إلى التفكيك بين القيادة والتقليد، ثمّ أثبتنا كون التقليد للكفوء بالطريق الثاني، فالنتائج لا تأتي مطابقة تماماً لما إذا أخذنا بالاحتمال الأوّل من الاحتمالين، وبالتالي آمنّا بالطريق الأوّل لترجيح الكفوء في التقليد، فمثلاً:

1 ـ إنّ الكفوء للقيادة لو لم يكن مستعدّاً للتصدّي للقيادة بأيّ سبب من الأسباب، فالطريق الثاني لا يعيّنه للتقليد في مقابل الأعلم غير الكفوء، بينما الطريق الأوّل يعيّنه لذلك.

2 ـ لو فرض كفوءان للقيادة أحدهما: هو المتصدّي عملاً، والآخر: هو الأعلم، فالطريق الثاني يعيّن الأوّل للتقليد حينما يكون تقليد الثاني مضرّاً بممارسة الأوّل لقيادة الساحة، بينما الطريق الأوّل لا يفي بذلك، فلو اقتصرنا على الطريق الأوّل كان مقتضى نظام الترجيح بالأعلميّة هو تقليد الثاني.

3 ـ إنّ الطريق الثاني ليس حدّيّاً كالطريق الأوّل؛ إذ ليس تقليد غير الكفوء بأيّ مستوىً من المستويات مزاحماً لقيادة الكفوء، فلو كان هناك قلّة من الناس يقلّدون غير الكفوء وكان غالبيّة أفرادهم يميّزون بين منصب القيادة ومنصب التقليد في الفتوى غير المؤثّرة على الأحكام الولائيّة للوليّ، فرغم تقليدهم لغير الكفوء يخضعون لقيادة الكفوء مثلاً، فلا تزاحم بين هذا التقليد وتلك القيادة كما هو واضح.

كما أنـّه لو تمّت توعية الاُمّة على التفكيك بين القيادة والتقليد في غير الاُمور الدخيلة في الأحكام الولائيّة للقائد، بحيث ارتفع التزاحم عملاً بين الأمرين، لم يبق مورد للاستفادة من الطريق الثاني، كما أنّ الطريق الأوّل عندي مشكل؛ لعدم وضوح ترجيح الاحتمال الأوّل من الاحتمالين الذين أبديناهما في القسم الثاني من أدلّة التقليد، ولا أقلّ من الإجمال.

96


ثمّ إنـّنا لو سلكنا مسلك من يقول بأنّ ولاية الفقيه ليست بنصّ دالّ على نصبه، وإنـّما تكون ولايته بالانتخاب بعد دلالة الأدلّة على أنّ من ينتخب للولاية تشترط فيه الفقاهة، فهنا نفقد الطريق الأوّل، وينحصر الأمر في الطريق الثاني، لأنّ الطريق الأوّل كان مبتنياً على افتراض إطلاق لفظيّ، لا يحمل على الانحلال والتفكيك بين منصب القيادة ومنصب الفتوى. أمـّا إذا فقدنا مثل هذا الإطلاق، فاحتمال التفكيك موجود عقلاً لا محالة، ولا علاج له إلاّ فرض التزاحم.

نعم نحن مصرّون على أنّ التفكيك بين منصب القيادة ومنصب التقليد في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة للقائد لا معنىً له، وأنّ دليل القيادة، أيّ شيء كان، فهو مقدّم في هذا المورد على دليل التقليد، سواء آمنّا بوجود نصّ يدلّ على نصب الفقيه الكفوء وليّاً، أو افترضنا أنّ الدليل إنـّما دلّ على اشتراط الفقاهة والكفاءة في الوليّ، فإنـّه على كلا التقديرين تكون ولايته بلحاظ الفتوى التي انبنت عليها أحكامه الولائيّة منافية لحجّيّة فتاوى غيره المعارضة لتلك الفتاوى، فيقدّم دليل الولاية على دليل التقليد في الفتاوى التي انبنت عليها أحكامه الولائيّة بنكتة الأخصّيّة.

لا يقال: إنّ النسبة هي العموم من وجه؛ إذ لئن كان موضوع دليل الولاية أخصّ ـ لاختصاصه بالكفوء، بخلاف موضوع دليل التقليد؛ لعدم اختصاصه بالكفوء ـ فمحمول دليل التقليد أخصّ؛ لاختصاصه بالفتاوى، بخلاف محمول دليل الولاية، فإنـّه عبارة عن حجّيّة الفتاوى والأحكام.

هذا، ولو أنكرنا دلالة دليل الولاية على الولاية الفعليّة، وقلنا: إنـّه إنـّما دلّ على شرط الفقاهة والكفاءة في من ينتخب وليّاً، قلنا: إنّ دليلاً من هذا القبيل لا يمنع عن افتراض كون المرجع في الفتاوى غير القائد إلاّ في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة، فتكون النسبة بين الدليلين بلحاظ المحمول عموماً من وجه، يجتمعان في الفتاوى التي انبنت عليها الأحكام الولائيّة، ويفترقان في سائر الفتاوى، وفي الأحكام الولائيّة الاُخرى غير المنبنية على فتاوىً مخالفة، وعندئذ لا ينفع كون النسبة بين الدليلين بلحاظ الموضوع عموماً مطلقاً؛ لأنّ النسبة إذا كانت من جهة عموماً مطلقاً، ومن جهة اُخرى عموماً من وجه، فالنسبة بين الدليلين بالتالي هي العموم من وجه، لا العموم المطلق.

فإنـّه يقال: إنـّه متى ما كان الدليلان المتعارضان أحدهما أخصّ من الآخر بلحاظ

97

وعلى أيّة حال، فالترخيص في جانب غير الأهمّ في ما نحن فيه إنـّما يبطله دليل خاصّ وارد في المقام، وهو ما مضت الإشارة إليه من الأخبار المتفرّقة الواردة في موارد مختلفة في الشبهة المحصورة، كما ورد من لزوم الاجتناب من الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءاً، أو الأمر بإراقة المائين اللذين علمنا بنجاسة أحدهما، فما تمّ سنداً من هذه الأخبار يدلّ على تساقط الأصلين، وعدم جريان الأصل ولو في أحدهما، فهذه الأخبار تشمل فرض أهمّيّة أحد الطرفين، فإنـّه وإن لم تكن في موردها أهمّيّة في أحد الطرفين من حيث المحتمل، لكنّها بإطلاقها تشمل فرض الأهمّيّة من حيث الاحتمال، فيشكل بذلك إجراء الأصل الواحد عند عدم الابتلاء بالمعارض من باب أهمّيّة الجانب الآخر.

 


الموضوع، والثاني أخصّ من الأوّل، أو أعمّ من وجه بلحاظ المحمول، فالجمع العرفيّ يقدّم فيه جانب الموضوع على جانب المحمول على ما ذكر في علم الاُصول.

ولو لم نقبل بهذا الكلام، قلنا: تنقّح أيضاً في علم الاُصول: أنـّه متى ما وقع التعارض بين دليلين بالعموم من وجه، وكان أحدهما آبياً عن التخصيص بالآخر عرفاً، بخلاف العكس، عوملت معهما معاملة العموم المطلق. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ تخصيص دليل التقليد، بإخراج الفتاوى التي انبنت على خلافها الأحكام الولائيّة للوليّ أمر معقول، ولكن تخصيص دليل الولاية بإخراج تلك الأحكام ليس عرفيّاً، فإنـّنا إن قبلنا أنّ التفكيك بين منصب الولاية، ومنصب التقليد في الفتاوى غير المنبنية عليها الأحكام الولائيّة أمر عرفيّ، فمن الواضح جدّاً أنّ التفكيك بين الأحكام الولائيّة بلحاظ معارضة بعضها لفتاوى غيره ليس عرفيّاً، ويعتبر شلاًّ لمنصب الولاية، كما أنـّه ليس من المعقول بقاء تلك الأحكام الولائيّة على حجّيّتها مع بقاء فتاوى غيره المخالفة لما انبنت عليه تلك الأحكام على الحجّيّة أيضاً، فإنـّهما متضادّان ولا يمكن حجّيّتهما معاً.

وبهذا البيان يتّضح: أنـّنا حتى لو قلنا بنصب كلّ الفقهاء الكفوئين وليّاً من قبل الإمام (عليه السلام)، فالذي يمارس الولاية بالفعل هو الذي يتّبع في أحكامه الولائيّة، حتى لو كانت تلك الأحكام على خلاف فتاوى من يقلّده المكلّف من فقيه آخر كفوء.

98

نعم، فرض عدم الابتلاء بالمعارض من باب جريان أصل مثبت للتكليف في أحد الطرفين حاكم على هذا الأصل، أو من باب كونه في نفسه خارجاً عن مورد الأصل غير مشمول لإطلاق هذه الأخبار.

فتحصّل: أنّ اختصاص أحد الطرفين بالأصل؛ لنكتة كون التكليف على تقدير وجوده في الطرف الآخر أهمّ لا يبرّر جريان الأصل في ذاك الطرف غير الأهمّ؛ وذلك للرويات الخاصّة، ولولا الروايات الخاصّة لكان مقتضى القاعدة جريان الأصل في الطرف غير الأهمّ بلحاظ حديث الحلّ(1) .

بقي الكلام في دفع شبهة اُخرى تثبت التخيير في أطراف العلم الإجماليّ، وهي أن يقال: إنـّنا نجري كلا الأصلين في المقام، بلا حاجة إلى تقييد الأصل في كلّ من الجانبين، ولا يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة، وذلك ببيان: أنّ الترخيص في هذا الجانب بالخصوص، وفي ذاك الجانب بالخصوص، لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع وبأحد الفردين، وذلك نظير التخييرات الواقعيّة، كالتخيير بين خصال الكفارات الثلاث، حيث إنّ الجامع واجب، وبالرغم من ذلك نحن مرخّصون في كلّ طرف من الأطراف في الترك.

والجواب: أنـّنا إمـّا أن نختار في باب الواجب التخييريّ بالإلزام بالجامع أنّ الإلزام يسري من الجامع إلى الأفراد، لكنّه إلزام مشوب بالترخيص في الترك إلى البدل


(1) لا بلحاظ (رفع ما لا يعلمون)، ولا بلحاظ الاستصحاب. أمّا الأوّل؛ فلما عرفت من أنـّه لا ينظر إلى حلّ التزاحم بلحاظ الإلزام المعلوم إجمالاً. وأمّا الثاني فأظنّ أنّ نظر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)في عدم جريانه في المقام إلى أنّ دليل الاستصحاب ورد بلسان الكشف، ومن الواضح عرفاً أن أهمّيّة المحتمل وعدمها ليس لهما دخل في الكشف وعدمه.

أمّا إذا افترضنا أنّ الأهمّيّة لم تكن للمحتمل، بل كانت للاحتمال، أي: أنّ احتمال التكليف في أحد الطرفين كان أقوى، فهنا أيضاً لا يجري حديث الرفع في الطرف الموهوم؛ لما عرفت من عدم علاجه للتزاحم بلحاظ الإلزام المعلوم إجمالاً، ولكن يجري حديث الحلّ والاستصحاب، لولا ما عرفته من الأخبار الخاصّة المانعة بإطلاقها عن ذلك، والفرق بينه وبين فرض أهمّيّة المحتمل ـ حيث قلنا بعدم جريان الاستصحاب في ذاته في مورد أهمّيّة المحتمل، بخلاف فرض أهمّيّة الاحتمال ـ واضح، لأنّ أهمّيّة المحتمل أو عدمها ليس لها دخل في الكشف، لكن أهمّيّة الاحتمال أو عدمها يفهم عرفاً دخلها في الكشف.

99

في كلّ واحد من الطرفين، أو نختار أنـّه لا يسري منه إلى الأفراد، فإن اخترنا الأوّل، فمنافاة الترخيص المطلق في كلّ طرف من الأطراف للإلزام بالجامع واضحة، وإن اخترنا الثاني، فعندئذ وإن لم تكن منافاة عقلية بينهما، إلاّ أنّ العرف يفهم من قوله: (ارخّصك في هذا وارخّصك في ذاك) ـ مع فرض التحفّظ على الإطلاقين ـ الترخيص في ترك الجامع، ويرى التهافت بين الترخيصين المطلقين والإلزام بالجامع، فما يمكن أن يستفاد من دليل الأصل لا يمكن التحفّظ عليه بلا تقييد، ومع التقييد يرجع إلى ما عرفت جوابه.

وقد تحصّل إلى هنا: أنّ الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ تتساقط، إمـّا لمحذور عقليّ، وهو كون حكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة تنجيزيّاً كما هو مبناهم، أو لقصور في مرحلة الإثبات، وهو ارتكاز المناقضة بين الحكم الواقعيّ والترخيص في الأطراف في نظر العرف والعقلاء كما اخترناه.

إلاّ أنّ هنا شبهة تأتي على مبنانا دون مبناهم في المقام، وهي أنـّه لو فرضنا أنّ كلّ واحد من طرفي العلم الإجماليّ كان مورداً لأصل ترخيصيّ ليس الآخر مورداً له، فلو كان في الترخيص في المخالفة القعطيّة محذور عقليّ لتساقط الأصلان، لكن على مبنانا من كون الوجه في تساقط الاُصول ارتكاز المناقضة للحكم الواقعيّ في نظر العرف لا وجه لتساقط الأصلين في المقام، وذلك لأنّ الترخيصين لو كانا مستفادين من دليل واحد، فهذا الدليل كان يبتلى بالإجمال من ناحية الارتكاز، فكانت الاُصول تتساقط، ولكن حيث إنـّهما مستفادان من دليلين، فكلّ واحد من الدليلين بخصوصه ليس خلاف الارتكاز، فظهوره محفوظ، وإذا تحقّق الظهوران أخذنا بهما رغم أنـّهما بمجموعهما خلاف الارتكاز، إذ الظهور حجّة ما لم ترد حجّة على خلافه، والارتكاز ليس حجّة في المقام على خلافه، وغاية أثره هي رفع الظهور لو كان على خلافه، والمفروض انحفاظ الظهورين في المقام لعدم كون واحد منهما بنفسه خلاف الارتكاز.

لكنّ الصحيح في المقام: أنّ هذا الارتكاز يولّد ارتكازاً آخر، وهو ارتكاز استلزام الترخيص في أحد الطرفين للإلزام في الطرف الآخر، والملازمة العرفيّة كالملازمة العقليّة في توليد الدلالة الالتزاميّة للكلام، فتصبح لدليل الترخيص في كلّ واحد من الطرفين دلالة التزاميّة على الإلزام في الطرف الآخر، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقيّة في كلّ من الجانبين والدلالة الالتزاميّة في الجانب الآخر، وتتساقطان(1) .


(1) وقد يجاب عن الإشكال في المقام بجواب آخر غير ما أفاده اُستاذنا الشهيد، وهو أن

100

 

 

 

 


الدليل الذي دلّ على حجّيّة الأصلين في الموردين ـ وهو دليل حجّيّة الظهور والإطلاق ـ مبتلىً بتعارض داخليّ؛ وذلك لأنّ الأصلين بمجموعهما يؤدّيان إلى جواز المخالفة القطعيّة، وهو خلاف الارتكاز، فكونهما خلاف الارتكاز وإن كان لا يؤدّي إلى إجمال دليل هذا الأصل، ولا إلى إجمال دليل ذاك الأصل؛ لأنّ أحدهما منفصل عن الآخر، لكن دليل حجّيّة كلّ من إطلاقي الأصلين للموردين هو دليل واحد مشترك بينهما، فذاك الدليل هو الذي يبتلي بالإجمال إن كان ظهوراً، وينعدم إن كان ارتكازاً عقلائيّاً.

ويرد عليه: أنّ كون مجموع ظهورين مؤدّياً إلى خلاف الارتكاز لا يمنع عن شمول الارتكاز العقلائيّ القائم على حجّيّة الظهور لهما، ما لم يؤدِّ ذاك الارتكاز إلى القطع بالكذب، أو إلى تعارض أحدهما للدلالة الالتزاميّة للآخر، كما أفاده اُستاذنا، وحتى لو فرضنا أنّ ذاك الارتكاز أدّى إلى الظنّ بالكذب، فارتكاز حجّيّة الظهور شامل للظهور المظنون كذبه.

نعم، قد يفترض أنّ الارتكاز الذي كان مجموع الظهورين مخالفاً له يكون قويّاً إلى حدّ نقطع بأنّ الردع عنه ـ لو كان مردوعاً ـ لا يكون بظهور من هذا القبيل، بل لا بدّ له من ردع قوّي يصلنا ـ لو كان ـ بأقوى ممّا وصلنا من ظهور، وهذا مطلب آخر .

101

 

 

 

 

 

 

تنبيهات العلم الإجماليّ

 

تقيّد أحد الطرفين بعدم الآخر

 

التنبيه الأوّل: إذا علم إجمالاً بأحد تكليفين، أخذ في موضوع أحدهما عدم الآخر، فهل هذا العلم الإجماليّ يكون منجّزاً، أو لا؟ مثاله: ما إذا علم إجمالاً بأنـّه: إمـّا يجب عليه الوفاء بالدين، فلا يبقى له مال، فلا يكون مستطيعاً ولا يجب عليه الحجّ، أو لا يجب عليه الوفاء بالدين فيجب عليه الحجّ، ويمثّل ـ أيضاً ـ بما لو نذر أنـّه لو لم يجب عليه الوفاء بالدين صام مثلاً، فيعلم إجمالاً بوجوب الوفاء بالدين أو الصوم.

وهذه المسألة ذكرها المحقّق العراقي (رحمه الله) نقضاً على قوله بالعلّيّة، وأجاب عنه(1). ومن هنا جعلنا ذلك أوّل التنبيهات، فإنـّه وإن كان في نفسه مسألة مستقلّة ينبغي البحث عنها، لكنّه مرتبط أيضاً بأصل مبحث العلم الإجماليّ والعلّيّة والاقتضاء، إذ يمكن اعتباره نقضاً على العلّيّة أورده المحقّق العراقيّ على مبناه ودفعه.

ويتّضح الوجه في كونه نقضاً على مبناه بالالتفات إلى أمرين:

الأمر الأوّل: ما مضى من أنّ مبنى المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في باب العلم الإجماليّ، هو أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وموجب لسقوط الأصل في أطرافه حتى بقطع النظر عن المعارض. نعم، هو يقبل جريان


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 315 ـ 316، وراجع المقالات: ج 2 ص 13.

102

الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف في موردين:

المورد الأوّل: ما إذا جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، أي أن يعبّدنا الشارع بأنـّه هو الواقع. وهذا ما مضى في ما سبق، ومضى تحقيق الحال فيه.

المورد الثاني: ما إذا انحلّ العلم الإجماليّ. و أحد أسباب انحلال العلم الإجماليّ عند المحقّق العراقيّ (رحمه الله) هو جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد الجانبين، فلا بدّ من أن يجري أوّلاً الأصل المثبت في أحد الطرفين، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، ثمّ يجري الأصل الترخيصيّ في الجانب الآخر. وهذا ما يأتي بيانه ـ إن شاء الله ـ بعد هذا، مع الإيراد عليه.

الأمر الثاني: أنّ الفقهاء التزموا في هذه المسألة بجريان الأصل في الطرف الأوّل، ووجوب العمل بالطرف الثاني المترتّب على عدم الطرف الأوّل، فيجب عليه الحجّ مثلاً دون الوفاء بالدين.

وعليه يتضّح وجه كون هذا نقضاً على المحقّق العراقي (رحمه الله)، فإنـّه وإن فرض وجوب الحجّ، لكن هذا إنـّما هو في طول نفي وجوب الوفاء بالدين بالأصل الترخيصيّ، مع أنّ المفروض عند المحقّق العراقيّ أنّ الأصل الترخيصيّ إنـّما يجري بعد أن جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، أو ينحلّ العلم الإجماليّ بأصل مثبت في أحد الطرفين، وهنا جعل البدليّة مفقود، فلا بدّ أولاً من ثبوت وجوب العمل بأحد الطرفين، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، فيجري الأصل الترخيصيّ، لا أن يجري الأصل الترخيصيّ في بعض الأطراف، ويثبت بعد ذلك وجوب العمل بالطرف الآخر.

وذكر المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في مقام الجواب عن هذا النقض: أنـّه تارةً يفترض أنّ وجوب الحجّ موقوف على عدم وجوب أداء الدين واقعاً، واُخرى يفترض أنـّه موقوف على مطلق عدم الوجوب ولو ظاهراً، وثالثة يفترض أنـّه موقوف على مطلق المعذوريّة عن أداء الدين، أي: عدم تنجّز ذلك عقلاً عليه.

فإن فرض الأوّل فاستصحاب العدم في جانب الدين محكّم في المقام، إذ الاستصحاب يدلّ بالمطابقة على ذات المستصحب، وبالملازمة على آثار المستصحب، فهنا كما يدلّ على عدم الدين كذلك يدلّ على وجوب الحجّ، ونحن نأخذ أولاً بالدلالة الثانية فينحلّ بها العلم الإجماليّ، ثمّ نأخذ بالدلالة الاُولى.

ولا يرد على المحقّق العراقيّ إشكال تبعيّة الدلالة الالتزاميّة في الحجّيّة

103

للمطابقيّة، بناءً على مبناه من إنكار هذه التبعيّة، على أنّ الدلالتين في المقام عرضيّتان لا طوليّتان.

وإن فرض الثاني، فالكلام هو عين الكلام على الفرض الأوّل، إلاّ أنـّه هنا يمكن التمسّك بأصالة البراءة أيضاً؛ إذ المفروض أنّ وجوب الحجّ أثر لمطلق عدم وجوب الدين ولو ظاهراً.

وإن فرض الثالث، فهنا نقول: إنّ العلم الإجماليّ يستحيل تنجيزه في المقام، إذ يشترط في تنجيزه أن يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجيز في عرض واحد، وهنا ليس الأمر كذلك، إذ لو تنجّز الدين لم يعقل تنجّز الحجّ، لأنّ المفروض أنّ وجوبه فرع عدم تنجّز الدين.

هذا ما أفاده المحقّق العراقيّ (رحمه الله) في المقام. ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ التمسّك أوّلاً بدلالة دليل الأصل على الأثر، وهو وجوب الحجّ، ثمّ الأخذ بدلالته على نفي وجوب أداء الدين إنّما يتمّ لو سلّمنا أن دليل الأصل متكفّل لبيان حكمين، وهذا في أصالة البراءة ممنوع عندنا وعندهم، فلا يدلّ الأصل إلاّ على حكم واحد، وهو رفع وجوب أداء الدين، ويترتّب عليه وجوب الحجّ ذاتاً ترتّب الحكم على موضوعه، من باب أنّ المفروض أنـّه اُخذ في موضوعه عدم وجوب الدين ولو ظاهراً، فلا بدّ أولاً من إثبات عدم وجوب الدين، حتى يثبت وجوب الحجّ، فالنقض في هذا الفرض وارد عليه.

نعم، في الاستصحاب لا بأس بهذا الكلام حسب مبناه (قدس سره)، لكن يرد عليه الإشكال المبنائيّ، حيث إنـّه سوف يأتي ـ إن شاء اللهـ في بحث الاستصحاب أنّ الصحيح أنّ دليل الاستصحاب لا يتكفّل عدا جعل ذات المستصحب، دون آثاره الشرعيّة، ولا العقليّة ولا العاديّة، لكن الآثار الشرعيّة تترتّب ذاتاً بالبيان الذي سوف يأتي هناك(1)، بخلاف الآثار العقليّة والعاديّة.

 


(1) سوف يأتي في بحث الاستصحاب أنّ معنى التعبّد بالمستصحب هو الأمر بالجري العمليّ وفق ما يتطلّبه عقلا ً اليقين بالمستصحب، وأنّ أثر الأثر إذا كانا شرعيّين يترتّب باعتبار كون المستصحب جزء موضوع الأثر الثاني، فيرجع إلى الأثر المباشر.

أقول: إذا رجع الى الأثر المباشر، فترتّبه يكون في عرض ترتّب الأثر الأوّل، إذن فيتمّ ما

104

وثانياً: أنـّه لو كان وجوب الحجّ مترتّباً على مطلق عدم وجوب أداء الدين ولو ظاهراً، فهنا تسليمه (رحمه الله) لمانعيّة العلم الإجماليّ عن جريان الأصل في نفسه، وحل الإشكال بإثبات وجوب الحجّ أولاً، حتى ينحلّ العلم الإجماليّ، ثمّ ينفى وجوب الدين بالأصل، في غير محلّه، فإنّ نفي وجوب الدين يقلب العلم الإجمالي في المقام إلى العلم التفصيليّ بوجوب الحجّ؛ لأنّ المفروض ترتّبه على مطلق عدم وجوب الدين ولو ظاهراً، وقد ثبت ذلك فيقطع بوجوب الحجّ، ولا تعقل مانعيّة مثل هذا العلم الإجماليّ في نفسه عن الأصل؛ إذ هذه المانعيّة دوريّة، فإنـّها لو سلّمت لكان معناها توقّف جريان الأصل على عدم تنجّز هذا العلم الإجماليّ المتوقّف على عدم هذا العلم الإجماليّ، مع أنّ هذا الأصل سبب لانتفاء العلم الإجماليّ، فعدم العلم الإجماليّ موقوف على هذا الأصل توقّف المسبّب على السبب، وهذا دور، ويمكن التعبير عن هذا الدور بشيء من المسامحة، بأنّ مانعيّة هذا العلم الإجماليّ موقوفة على تنجّزه، الموقوف على وجوده، وعدم انقلابه إلى العلم التفصيليّ، الموقوف على عدم نفي وجوب الدين بالأصل، الموقوف على مانعيّة هذا العلم الإجماليّ.

وإن شئت فقل: إنّ مانعيّة العلم الإجماليّ عن الأصل إنـّما كانت لاستلزام الأصل لمحذور عقليّ، وهو الترخيص في المخالفة القطعيّة مثلاً، وهذا المحذور إنـّما يترتّب عند التحفّظ على أمرين: الأصل، والعلم الإجماليّ، فإن فرض أنّ الأصل يقتضي رفع العلم الإجماليّ، فمثل هذا الأصل ليس مخالفاً لحكم العقل، فلا وجه لعدم جريانه.

وثالثاً: أنـّه لو كان وجوب الحجّ مترتّباً على عدم تنجّز الدين، فهنا ليس لدينا علم اجماليّ يتكلّم في تنجيزه وعدم تنجيزه، فإنـّه لو فرض علم إجماليّ في المقام، فما هما طرفاه؟

 


يقوله المحقّق العراقي من أنّ الحجّ تنجّز فأوجب ذلك انحلال العلم الإجماليّ، بناءً على مبناه من أنّ تنجّز أحد طرفي العلم الإجماليّ يوجب انحلاله. وهذا واضح في ما إذا كان المقصود بالاستصحاب استصحاب عدم الدين، فيثبت الأثران: وهما عدم وجوب أداء الدين، ووجوب الحجّ في عرض واحد، وكذلك الحال في ما إذا كان المقصود الاستصحاب الحكمي، أعني: استصحاب عدم وجوب اداء الدين، فإنـّه ـ عندئذ ـ يثبت كون الوظيفة هي الجري العمليّ وفق المستصحب، ووفق أثره، وهو وجوب الحجّ في عرض واحد.

105

فإن قيل: إنّ طرفيه عبارة عن وجوب الحجّ ووجوب أداء الدين، قلنا: إنـّه لا يعقل تحقّق هذا العلم الإجماليّ، حتى قبل إجراء الأصل الشرعيّ والعقليّ المؤمّن عن وجوب أداء الدين، فإنـّه وإن فرض أنّ المكلّف يحتمل تنجّز أداء الدين عليه، ويحتمل عدم تنجّزه، وعلى تقدير عدم تنجّزه يجب عليه الحجّ، لكن ليس هنا علم إجماليّ بوجوب أحد الأمرين؛ إذ من المحتمل أن يكون وجوب أداء الدين منجّزاً عليه من دون أن يكون هذا الوجوب ثابتاً في الوقع، لأنّ التنجّز واللابديّة العقليّة، وكذا الشرعيّة الظاهريّة لا يستلزم ثبوت الحكم واقعاً. وعلى هذا الفرض لا يجب عليه أداء الدين كما هو المفروض، ولا الحجّ؛ لتوقّف وجوبه على عدم تنجّز أداء الدين، والمفروض تنجّزه.

وإن قيل: إنّ طرفيه عبارة عن وجوب الحجّ وتنجّز أداء الدين، قلنا: لا معنى للشكّ في تنجّز أداء الدين وعدمه بعد أن استقرّ عند كلّ شخص مبانيه في العلم الاجماليّ والشكّ البدويّ، من المنجّزيّة وعدم المنجّزيّة وغير ذلك، بل إمـّا يحصل القطع بتنجّزه، وإمـّا يحصل القطع بعدم تنجّزه.

وعلى أيّة حال، فالصحيح في المقام: أنّ الأصل يجري في الطرف الذي اُخذ عدمه في موضوع الآخر، ويثبت وجوب الآخر واقعاً إن كان مترتّباً على عدم وجوب الأوّل ولو ظاهراً، أو عدم تنجّزه، وإمـّا إن كان مترتّباً على عدم وجوب الأوّل واقعاً، فهذا العلم الإجماليّ لا يمنع عن جريان الاستصحاب في الطرف الأوّل، والتأمين من ناحيته بذلك، وإثبات وجوب الطرف الثاني ظاهراً بإحراز موضوعه بالاستحصاب، بناءً على مبنانا من عدم علّيّة العلم الإجماليّ لوجوب الموافقة القطعيّة، وعدم مانعيّته عن الاستصحاب في أحد الطرفين من دون معارض.

وفي الختام لا بأس ببيان الحال في ما ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)من أنّ العلم الإجماليّ يجب أن ينجّز كلا طرفيه في عرض واحد، فإذا لم يمكن ذلك لم يؤثّر العلم الإجماليّ في التنجيز.

وهذا صحيح بناءً على ما يحكم به عقلنا من أنّ الموافقة القطعيّة ـ بما هي موافقة قطعيّة ـ واجبة للتكليف المعلوم بالإجمال. ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ واحد من الطرفين جزء للموافقة القطعيّة والتنجّز الثابت للمجموع، وهو الموافقة القطعيّة، ينبسط ـ لا محالة ـ على الأجزاء على حدّ سواء.

وهذا الكلام صحيح حتى على مبنانا: من أنّ العلم الإجماليّ ليس بياناً إلاّ