68

يشهد (رضوان الله عليه) بعد ذلك في تاريخ (18 ربيع الأوّل) بأنّ: «اُسرة الأضواء التي لاغبار عليها بوجه من الوجوه مورد للاطمئنان الكامل، وهم يعرضون مقالاتهم على الثلاثة(1)، ولم يصادفوا لحدّ الآن مشكلة مبدئيّة في هذا المقام، والحمد لله ربّ العالمين».

«حدسي أنّ الأضواء سوف تستمرّ إن شاء الله تعالى؛ لأنّها تتمتّع الآن برصيد قوىّ من الداخل والخارج، فمن الخارج بلغت عدد الاشتراكات... ومن الداخل تتمتّع برضا جماعة العلماء».

وهكذا تمكّن السيّد الشهيد (رضوان الله عليه) بحكمته وصموده وصبره أن يواصل طريقه مع إخوانه وتلامذته في الجهاد، وأن يقفوا جميعاً في وجه هذه الهجمة الشرسة التي استغلّت أخسّ المشاعر في الإنسان، واستعملت أخبث الأساليب. وتمكّن بسبب ذلك الخطّ الإسلاميّ الأصيل أن يستمرّ في تفاعله مع الاُمّة والتأثير فيها».

انتهى ما أردت نقله من مقاطع من مقال سماحة السيّد الحكيم حفظه الله.

 

3 ـ كلّية اُصول الدين:

وكانت كلّية اُصول الدين هي الاُخرى من المشاريع التي لم تكن تنسب في عرف المجتمع ـ وقتئذ ـ إلى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ولكنّها كانت تحظى برعايته الأبويّة البارّة، وقد كتب الاُستاذ كتاب (المعالم الجديدة في علم الاُصول)؛ لأجل هذه الكلّية كي يدرّس فيها.

وقد جاء في كتاب الجهاد السياسيّ ما نصّه: «كان السيّد الشهيد مشاركاً في مشروع تأسيسها وافتتاحها، ثُمَّ كان مساهماً بالقسط الأوفر في منهجها، وطريقة عملها، وشؤونها المهمّة والثقافيّة بالخصوص. وفيما عدا ذلك فإنّ السيّد الشهيد قد كتب مادّة (علوم القرآن) للسنة الاُولى ونصف السنة الثانية، وظلّت هذه المادّة تدرّس مدّة الأربع سنوات الاُولى، وكتب مادّة الاقتصاد الإسلاميّ والذي كان يدرّس في الكلّية أيضاً، كما أنّ مساهمة السيّد الشهيد في مجلّة رسالة الإسلام التي تصدرها الكلّية كانت مساهمة فعّالة».


(1) الظاهر أنّ المقصود هم: آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين، وآية الله الشيخ حسين الهمدانىّ، وآية الله الشيخ خضر الدجيلىّ تغمّدهم الله برحمته.

69

 

 

 

 

طـلّابـه(قدس سره)

 

ربّـى (رضوان الله عليه) جيلين من العلماء النوابغ:

الجيل الأوّل: نخبة من الفضلاء الأذكياء التحقوا بدرسه في أوّل أوأوائل الدورة الاُولى لأبحاثه الاُصوليّة، وبعضهم كان متشرِّفاً بالتلمذة لديه من قبل ذلك، حيث كان يحضر درس اُستاذنا الشهيد في (كفاية الاُصول) للآخوند الخراسانيّ(رحمه الله) قبل شروعه في تدريس ما يسمّى ببحث الخارج، فتخرّجوا على يده(قدس سره) على مستوى الاجتهاد، أو ما يقرب من الاجتهاد.

والجيل الثاني: نخبة ثانية من الفضلاء الأذكياء التحقوا بدرسه في أواخر الدورة الاُولى لأبحاثه الاُصوليّة، واستمرّوا معه في الدورة الثانية إلى أن تخرّجوا على يده(رحمه الله)على مستوى الاجتهاد، أو ما يقرب منه.

وهناك طلّاب آخرون استفادوا ـ أيضاً ـ من منهله العذب، بالخصوص في الدورة الثانية التي أصبح الحضور فيها عامّاً تقريباً.

وله (رضوان الله عليه) صفوة من الطلّاب من الجيلين اللذين أشرنا إليهما، ومن غيرهما، وصل مستوى تبادل العواطف بينهم وبين اُستاذهم إلى ما قد يصعب تصوّره على غيرهم الذين لم يعيشوا تلك الحالة التي لاتوصف، فاُولئك الصفوة كانوا مخلصين لاُستاذهم، ومحبّين إيّاه بأشدّ من حبّهم لآبائهم وأولادهم، وكانوا يفدونه بأنفسهم.

كان يتشرّف بعضهم بخدمة الاُستاذ في بيته الواقع في سوق العمارة قريباً من مدرسة السيّد البروجرديّ الصغرى، في البُرْهة التي كانوا يحسّون فيها بأنّ النهار مظلم أمامهم كالليل أو أشدّ ظلاماً على أثر طغيان البعث الكافر وعتوّه، وعلى رغم هذا حينما كانوا

70

يجلسون بحضور الاُستاذ في بيته، ويصغون إلى دُرر الكلام التي ينثرها عليهم، كانوا ينسون كلّ شيء، غارقين في الالتذاذ بصحبته بما يفوق الوصف، كأنّهم في دار الخلد.

أمّا الاُستاذ فكان يغمر اُولئك الصفوة بحنانه ورأفته، وعواطفه النبيلة، وحسّه المرهف العظيم، لم يعرف نظيره من الآباء والاُمّهات تجاه أولادهم.

وأكتفي هنا بتسجيل مثال واحد يجسّد لك مدى عواطفه الشفّافة الرقيقة تجاه تلاميذه البررة، ألا وهي الرسالة الصوتيّة التي أرسلها إلى مَنْ هاجر من طلّابه إلى إيران ـ وقتئذ ـ فراراً من البعث الكافر، وإليكم نصّ الرسالة:

بسم الله الرحمن الرحيم

«السلام عليكم أيّها الأحبّة من أبيكم البعيد عنكم بجسمه، القريب منكم بقلبه، الذي يعيشكم في أعماق نفسه، وفي كلّ ذكرياته؛ لأنّكم تعبير حىّ حاضر عن تأريخه وماضيه، وامتداد نابض بواقعه وحاضره، وأمل كبير لمستقبل هذه الاُمّة.

يا صفوة الأحبّة نبلاً ووفاءً وإخلاصاً وحبّاً، يا من افتقدتهم، أو افتقدت قربهم ـ على الأصحّ ـ وأنا أحوج ما أكون إليهم، وأشدّ ما أكون طلباً لعونهم. يا من بنيتهم ذرّة فذرّة، وواكبت نموّهم الطاهر قطرة فقطرة، وعشت معهم السرّاء والضرّاء، واليسر والبلاء، ولم ينفصلوا عنّي في أيّ لحظة من لحظات الليل العبوس، أو النهار المشرق، يا من أجدهم رغم ابتعادهم، وأجدهم في كلّ ما حولي رغم خلوّ الديار منهم، وكيف لا أجدكم يا أولادي معي وكلّ شيء في نفسي أو خارج نفسي يذكّر بكم، ويشير إليكم، وينبّه إلى أيّامكم؟! وهل هناك أقوى دلالةً وأعمق إشارة في هذا المجال من الفراغ الذي خلّفتموه في هذه الرحاب، في هذه الديار؟! هذا الفراغ الذي يصرخ بأسمائكم باستمرار؛ لأنّه فراغ رهيب عاطفيّاً ومنطقيّاً. إنّ بصمات أصابعكم على كلّ حياتي أينما التفتُ، أينما توجّهت وجدت لهذا أو ذاك منكم، فأين الطيّبون البررة؟ وأين اُولئك الذين كان هذا الإنسان الذي رعاهم يجد في قربه منهم معنىً من معاني حياته، وامتداداً من امتدادات أمله؟ أين الأوّلون الذين سبقوا إخوانهم بالهجرة قبل سنين؟ وأين الباقون واللّاحقون الذين تتابعوا

71

خلال سنين جماعات ووحداناً؟ إنّ مثلَ أبيكم ـ كما كتبت إلى أحدكم(1) ـ مثلُ الشجرة تنمو أغصانها وتُورِق، وتمتدّ في الفضاء عالياً، ولكن تتمزّق من داخلها، جذورها وأعصابها الممتدّة في الأرض.

إنّ لحظات سوف تبقى خالدات، وكلّ لحظاتكم خالدات في نفس أبيكم. إنّ لحظة وقوفك أيّها السعيد(2) في فوهة السلّم وأنت تودّعني وتبكي، إنّ تلك اللحظة ما نسيتها، ولن أنساها أبداً؛ لأنّها اللحظة التي تصوّر البنوّة البارّة. إنّ تلك اللحظة التي ودّعتني فيها يا آقاي أخلاقيّ(3) وأنت تعيش لحظة من أحرج لحظاتك، ودّعتني وكنتُ أحسّ بأنّك تنتزع انتزاعاً، وأنّك تتمزّق تمزّقاً، إنّ تلك اللحظة لايمكن أن أنساها.

إنّ تلك اللحظة التي لم تستطع فيها يا أبا أحمد(4) أن تودّعني، أو أن اُلقي نظرةً أخيرةً عليك، إنّ تلك اللحظة تمزّقني أنا تمزّقاً وتمزيقاً. ولئن كنت أعيش مأساة فراقكم أيّها الأحبّة فأنا ـ في الوقت نفسه ـ أشعر من خلال هذه المأساة بانتصاركم؛ لأنّكم أثبتّم من خلالها كلّ ما يودّ الأب أن يراه في أبنائه من ثبات، ونبل، وشهامة، وإخلاص، ووفاء، وهذا أقصى ما يسعد الأب، وما يشعره بامتداده في أبنائه، فأنتم معي على الرغم من الزمان، وعلى الرغم من المكان، ولتكن هذه المعيّة في الله، ومن أجل الله، تعبيراً حيّاً عن لقائنا باستمرار إلى أن يجتمع الشمل، وتعود الأغصان إلى الشجرة الاُمّ.

إنّ مقوّمات الصمود والثبات والاستمرار في الحياة هي الحبّ، والأمل، والثقة، ونحن جميعاً نملك هذه العناصر الثلاثة، نسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقرّ عيني بكم، ويرعاكم بعينه التي لاتنام، ويجعل منكم دائماً وأبداً المستوى الأمثل في سلوكه، وورعه، وإيمانه، ودرسه وعلمه؛ لكي تكونوا المَثَل والقدوة والامتداد والأمل الكبير في حياة المسلمين. والسلام عليكم من قلب لايملّ الحديث معكم، ورحمة الله وبركاته».


(1) كان هذا المضمون مكتوباً فى رسالة منه(رحمه الله) إلىّ.

(2) المقصود هو الشيخ سعيد النعمانىّ أحد مخلصيه الأعزّاء، وهو يعيش اليوم فى طهران.

(3) هو الشيخ عبّاس الأخلاقى أحد طلّابه البررة، وهو اليوم يعيش فى قم المقدّسة.

(4) هو السيّد عبدالهادي الشاهروديّ أحد طلّابه المخلصين، وهو يعيش في(علي آباد كتول)، ويقيم صلاة الجمعة هناك.

72

وكان الاُستاذ (رحمه الله) حينما سجّل هذه الرسالة في شريط تسجيل لإرسالها إلى طلّابه كانت الدموع تجري من عينيه على ما قاله الشيخ محمّدرضا النعمانيّ: وهو أحد طلّابه الأعزّاء، قال حفظه الله: «لو تراه وهو يتحدّث ـ وأنا الوحيد الذي رأيته يتحدّث ـ والدموع تجري من عينيه، وأراه يعصر بيديه، ولو لاوجودي معه في الغرفة، فلست أدري ماذا سيصنع، وماذا سيقول؟ فهو حياءً منّي تماسك، وصبر حتّى خرجت هذه الكلمة».

ولست أنا بصدد سرد أسماء طلّابه الأعزاء، وقد وردت أسماء بعضهم في ثنايا كتابنا هذا، ولو كنت بصدد ذلك لصعب على ذاكرتي حصرهم، وهم كثيرون ومنتشرون في بلاد الله العريضة، ولكنّي أذكر هنا اسمين ممّن تتلمذوا على يده في درس الكفاية، واستمرّوا معه فيما اصطلح عليه في الحوزات العلميّة ببحث الخارج، وأذكر اسماً واحداً من الجيل الثاني الذين التحقوا ببحثه الشريف في أواخر الدورة الاُولى:

 

1 ـ السيّد محمّد باقر الحكيم:

ابن المرحوم آية الله العظمى السيّد محسن الحكيم(قدس سره) تتلمذ على يد الاُستاذ الشهيد في درس الكفاية، واستمرّ معه في بحث الخارج، وحضر قسماً كبيراً من البحث فقهاً واُصولاً، واعتقل من قبل البعث الكافر المسيطر على العراق الجريح مرّتين، وحكم عليه في المرّة الثانية بالسجن المؤبّد، وبعد مضىّ سنة ونصف تقريباً على سجنه شمله ما يسمّى بالعفو العامّ من قبل الدولة، وبعد فترة من الزمن خرج من العراق إلى سورية، واليوم يعيش في إيران الإسلام، ويمارس دوره السياسي رئيساً للمجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق.

 

2 ـ السيّد نورالدين الإشكوريّ:

ابن المرحوم حجّة الإسلام السيّد علي الإشكوريّ رضوان الله عليه، تتلمذ على يد الاُستاذ الشهيد في الكفاية، واستمرّ معه في بحث الخارج فقهاً واُصولاً إلى أن ذهب كعالم دين إلى (ذي الكفل)، ثُمَّ انتقل كعالم ــ أيضاً ـ إلى الكاظميّة، كان يمارس نشاطه الدينيّ

73

مع الناس، ويدرّس في نفس الوقت ثلّة من علماء الكاظميّة وبغداد، ثُمَّ انتقل مرّة اُخرى إلى (ذي الكفل)، وبعده انتقل إلى الحلّة، واستمرّ في نشاطه الدينيّ مع الناس في الحلّة، والإشراف على وضع عدد من علماء الحلّة إلى أن سفّرته الحكومة الجائرة في العراق إلى إيران، وعندئذ مارس فترة من الزمن نشاطه العلميّ في قم المقدّسة، ثُمَّ انتقل كعالم دين إلى قزوين، ثُمَّ نفته حكومة الشاه المقبور من مقرّ عمله إلى بلد من البلاد الواقعة في الجانب الشمالي لخراسان يسمّى (درّ گز) قريباً من الحدود الروسيّة، ثُمَّ اُفرج عنه في أواخر أيّام الشاه التي اُفرج فيها عن باقي العلماء المبعّدين أيضاً؛ نتيجة الضعف الذي اُصيبت به الحكومة في مقابل الثورة الإسلاميّة. وهو اليوم يعيش في كرج، ويمارس عمله كعالم دين في تلك المنطقة.

 

3 ـ السيّد محمود الهاشميّ:

ابن المرحوم الحجّة السيّد علي الحسينيّ صاحب كتاب الدراسات(رحمه الله)، التحق ببحث الاُستاذ في أواخر الدورة الاُولى، واستمرّ معه في الدورة الثانية إلى قسم ممّا يسمّى بالمباحث العقليّة إلى أن هاجر إلى إيران، وحضر في تلك المدّة أبحاثه الفقهيّة أيضاً. اعتقل من قبل حزب البعث في العراق، وعذّب تعذيباً لايطاق بتهمة انتمائه إلى حزب الدعوة الإسلاميّة، ثُمَّ اُفرج عنه بعنوان البراءة من التهمة، وحظي أخيراً بإجازة الاجتهاد من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في (27 / ربيع الآخر / 1399 هـ ).

وهو اليوم يمارس نشاطه العلميّ في قم المقدّسة، ويمارس نشاطه السياسيّ ناطقاً رسميّاً للمجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق.

 

75

 

 

 

 

الأخلاق الفاضلة لاُستاذنا الشهيد(قدس سره)

 

لا أستطيع أن أقول شيئاً تحت هذا العنوان عدا كلمة واحدة، وهي: أنّ أخلاقه الفاضلة كانت تذكّرنا بما سجّل التأريخ عن الأنبياء والمرسلين، والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، وحكاه لنا القرآن الكريم عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) بقوله تعالى: ﴿وإنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم﴾وبقوله تعالى: ﴿فَبِما رَحْمَة مِنَ اللَّه لِنْتَ لَهُمْ، وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوْا مِنْ حَوْلِك﴾.

وقد يتراءى للقارئ الكريم أ نّي مبالغ فيما قلت، غير أنّك تستطيع أن تستدلّ على ذلك ببعض الحكايات التي مضى ذكرها تحت عنوان (ذكريات عن حياته(قدس سره))، وكذلك بعض الحكايات التي سيأتي ذكرها ـ إن شاء الله ـ في فصل استشهاده نقلاً عن الشيخ محمّد رضا النعماني حفظه الله.

 

أولاده:

تزوّج(رحمه الله) إحدى بنات عمّه، وهي اُخت السيّد موسى الصدر رئيس المجلس الشيعيّ الأعلى في لبنان، ورزقهما الله تعالى خمس بنات، وابناً واحداً سمِّي بجعفر، وهو رابع الأولاد.

77

 

 

 

 

استراتيجيّته(قدس سره) السياسيّة في العمل الإسلاميّ

 

إنّ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) مرّ بأدوار عديدة في عمله الإسلاميّ، والتطوّر المشهود في أساليب عمله يرجع إلى عدّة أسباب:

1 ـ إنّ العمل المتكامل في فترة طويلة نسبيّاً يتطلّب بطبيعته المرحليّة التطوّر والتغيّر بمرور الزمن، بمعنى: أنّ ما يصحّ من العمل في مرحلة منه ربّما لايصحّ في المرحلة المسبقة، والعكس صحيح أيضاً.

2 ـ إنّ تبدّل العوامل الخارجيّة الذي ربّما لايكون من أوّل الأمر بالحسبان، يؤثّر لامحالة في طريقة العمل.

3 ـ إنّ أصل النظريّة في اُسلوب العمل قد تنضج وتتكامل وتتطوّر في ذهن الإنسان بمرور الزمان، ممّا يؤثّر في اُسلوب العمل، ويؤدّي إلى تطويره.

إنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أسّس في أوائل شبابه حزباً إسلاميّاً باسم (حزب الدعوة الإسلاميّة)، وكان هذا في وقته تقدّماً ملحوظاً في الوعي السياسيّ بالنسبة إلى مستوى الوعي المتعارف آنئذ في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، حتّى إنّ كثيراً من المتديّنين بالتديّن الجافّ آنذاك كان يرمي من ينتمي إلى حزب إسلاميّ ـ فضلاً عمّن يؤسّس حزباً إسلاميّاً ـ بالانحراف عن خطّ الإسلام الصحيح، وبالارتباط بالاستعمار الكافر، وكلّ من كان يدّعي ضرورة إقامة الحكم الإسلاميّ كان يُتّهم بمثل هذه الاتّهامات؛ لأنّ إقامة الحكم الإسلاميّ لاتكون في نظرهم إلّا بعد ظهور الإمام صاحب الزمان عجلّ الله فرجه.

أمّا تأريخ تأسيسه(رحمه الله) لهذا الحزب، ففي شهر ربيع الأوّل من سنة (1377 هـ )، على حسب ما قاله الحاجّ محمّد صالح الأديب حفظه الله، وهو يعدّ أحد أعضاء النواة الاُولى، أو يعتبر إحدى اللبنات الأوّليّة لبناء صرح الحزب.

78

وقال الحاجّ محمّد صالح الأديب أيضاً: إنّ السيّد الشهيد(رحمه الله) خرج من التنظيم بعد تأسيسه إيّاه نحو أربع سنين ونصف، أو خمس سنين.

وكانت قِصّة خروجه من التنظيم على ما حدّثنا الحاجّ الأديب (حفظه الله) مايلي:

«كثر الكلام من قبل بعض المغرضين لدى المرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم(قدس سره)على الشهيد الصدر(رحمه الله) بحجّة تأسيسه للحزب، أخيراً جاء (حسين الصافي) ـ وهو رجل بعثيّ لئيم ـ إلى المرحوم آية الله الحكيم(قدس سره)، وقال: إنّ السيّد الصدر وآخرين ممّن ذكر أسماءهم قد أسّسوا حزباً باسم حزب الدعوة الإسلاميّة، وبهذا سيهدمون الحوزة العلميّة، وبدأ يهدّد ويتكلّم ضدّ من أسماهم مؤسّسين للحزب، فنهره آية الله العظمى السيّد الحكيم، وقال له: أفأنت أحرص على مصالح الحوزة العلميّة من السيّد الصدر؟! ثُمَّ أخرجه من بيته بذلٍّ وهوان، ثُمَّ أرسل (رضوان الله عليه) أحد أولاده إلى السيّد الصدر(رحمه الله)، وقال له عن لسان والده: إنّ دعم كلّ الوجودات الإسلاميّة والأعمال الإسلاميّة هو من شأنك، وممّا ينبغي لك أن تقوم به، أمّا أن تُحسب على جهة إسلاميّة معيّنة وحزب خاصّ، فهذا ممّا لاينبغي لمن هو مثلك في المقام العلميّ والاجتماعيّ الشامخ، والذي يجب أن يكون دعامة لكلّ الأعمال الإسلاميّة من دون التأطّر بإطار خاصّ، قال السيّد الشهيد(قدس سره) ساُفكّر وأتأمّل في الأمر.

وفي اليوم الثاني أرسل(رحمه الله) رسالة مفصّلة إلى حزب الدعوة عن طريق الحاجّ محمّد صالح الأديب، وكانت خلاصة ما هو مكتوب في الرسالة بعد التأكيد الشديد على ضرورة استمراريّة عمل حزب الدعوة الإسلاميّة والإشادة الكبيرة بذلك: أنّ آية الله الحكيم طلب منّي أن لاأكون في التنظيم، وأنا أفهم أنّ هذا رأي إلزاميّ له، وعليه فأتوقّف الآن عن الانتماء إلى التنظيم، طالباً منكم الاستمرار بجدّ في هذا العمل، وأنا أدعمكم في عملكم الإسلاميّ المبارك». انتهى ما أخذته من الحاجّ صالح الأديب حفظه الله.

وبعد ذلك مضت الأيّام والليالي إلى أن تصدّى السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) للمرجعيّة بالتدريج من بعد وفاة المرحوم آية الله العظمى الحكيم(قدس سره)، وطرح أخيراً فكرته عن ضرورة الفصل بين جهاز المرجعيّة الصالحة، والتنظيم الحزبيّ؛ بسبب أنّ المرجعيّة الصالحة هي القيادة الحقيقيّة للاُمّة الإسلاميّة، وليس الحزب، وإنّما الحزب يجب عليه أن

79

يكون ذراعاً من أذرع المرجعيّة، ويأتمر بأوامرها، والتشابك بين التنظيم الإسلاميّ والجهاز المرجعيّ يربك الاُمور.

وما يدرينا لعلّ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) كان مؤمناً بهذه الفكرة منذ تأسيسه للحزب، وإن أجّل إبرازها إلى الوقت المناسب، فلم يكن هناك تناقض بين المرحلتين من عمله.

وقد أنشأ(رحمه الله) في بيته في ضمن العشرة الأخيرة من سنيّ عمره المبارك مجلساً اُسبوعيّاً كان يضمّ عِيْنَة طلّابه، وكان يتداول معهم البحث في مختلف الاُمور الاجتماعيّة والقضايا الأساسيّة، وكانت تطرح في هذه الجلسات الكثير من مشاكل المسلمين في شتّى أرجاء العالم، وكان يبرز لمن يحضر هذه الجلسات مدى تبنّي الاُستاذ الشهيد لتلبية حاجات المسلمين في كلّ مكان من البلاد الإسلاميّة وغيرها، وتفكيره الدائب في كلّ ما ينفع الإسلام والمسلمين، وتخطيطه الحكيم للحوزات العلميّة، ولملء الشواغر العلمائيّة في كلّ بلد يوجد فيه تجمّع إسلاميّ، ولإرشاد العاملين ضدّ الكفر والطاغوت في جميع البلدان، ولتنشيط الحيويّة في المسلمين جميعاً وما إلى ذلك، ولست هنا بصدد سرد الأبحاث التي كانت تدار في تلك الجلسات الاُسبوعيّة إلّا بالمقدار الراجع من تلك الأبحاث إلى ما نحن بصدده من بيان استراتيجيّته(رحمه الله) في العمل السياسيّ، وهي ثلاثة اُمور:

أوّلاً: موقفه من العمل المرحليّ المعروف عن حزب الدعوة الإسلاميّة الذي تبنّاه هو(رحمه الله) عند تأسيس الحزب.

ثانياً: اُطروحته للمرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة.

ثالثاً: رأيه في مدى صحّة اشتراك الحوزة العلميّة في الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة.

 

العمل المرحليّ لحزب الدعوة

 

أمّا الأوّل: وهو العمل المرحليّ لحزب الدعوة الإسلاميّة الذي تبنّاه هو (رضوان الله عليه) لدى تأسيسه للحزب، فالمعروف اليوم عن حزب الدعوة أنّه يؤمن بمراحل أربع للعمل:

1 ـ مرحلة تكوين الحزب وبنائه، والتغيير الفكريّ للاُمّة.

80

2 ـ مرحلة العمل السياسيّ التي يتمّ بضمنها جلب نظر الاُمّة إلى الاُطروحة الإسلاميّة للحزب، ومواقفه السياسيّة، وتبنّيها لتلك المواقف، ودفاعها عنها.

3 ـ مرحلة استلام الحكم.

4 ـ مرحلة رعاية مصالح الإسلام والاُمّة الإسلاميّة بعد استلام الحكم.

ولكنّ الذي نقله الاُستاذ (رضوان الله عليه) في تلك المجالس الاُسبوعية لطلّابه هي المراحل الثلاث الاُولى، وهو المثبت في النشرات الأوّليّة للحزب، ولم يتعرّض للمرحلة الرابعة.

وعلى أيّة حال، فقد تناول الاُستاذ (رحمه الله) هذا العمل المرحليّ بالبحث، ولم يكن غرضه من ذلك شجب أصل كبرى المرحليّة في العمل؛ فإنّها من أوّليّات العمل الاجتماعيّ، وقد طبّقها (رضوان الله عليه) فيما كتبه عن عمل المرجعيّة الصالحة، وإنّما الذي بيّنه في بحثه عن ذلك هو النقاش في مصداق معيّن بلحاظ الانتقال من المرحلة الاُولى إلى المرحلة الثانية، وخلاصة ما قاله بهذا الصدد هي: أنّنا حينما نعيش بلداً ديمقراطيّاً يؤمن باحترام الشعب وآرائه، ولاتجابههم السلطة بالتقتيل والتشريد بلا أىّ حساب وكتاب، يكون بالإمكان افتراض حزب ما يبدأ عمله بتكوين بنية ذاتيّة بشكل سرّيّ، ثُمَّ يبدأ في مرحلة سياسيّة علنيّة، ومحاولة كسب الاُمّة إلى جانبه، وجرّها إلى تبنّي تلك المواقف السياسيّة، ولكنّ الواقع في مثل العراق ليس هكذا، ففي أىّ لحظة تحسّ السلطة الظالمة بوجود حزب إسلاميّ منظّم يعمل على وفق هذه المراحل لتحكيم الإسلام، تقتل وتشرّد وتسجن وتعذّب العاملين، وتخنق العمل في تلك البلاد قبل أن يتمّ تعاطف الاُمّة معه وتحرّكها إلى جانبه، فما لم يصادف هناك تحوّل آخر دوليّ في العالم يقلب الحسابات ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الاُولى إلى المرحلة الثانية. قال(رحمه الله) هذا الكلام بحدود سنة (1392 هـ ).

والذي تحقّق بعد ذلك في واقعنا المعاش هو انتصار المرجعيّة الصالحة في إيران بقيادتها للاُمّة الإسلاميّة الخاضعة لها، ولو لاقيام الدولة المباركة في إيران بجهود الاُمّة جميعاً وبقيادة المرجعيّة الرشيدة المتمثّلة في الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ لم يكن هناك

81

معقل للإسلاميّين يلجأون إليه، ولم تكن أرض لهم ينطلقون منها في عملهم، ولكنّ الله تعالى قد منّ على العباد بهذه الدولة التي لولاها لما بقي حتّى اليوم في العراق مسجد للصلاة، أو مرقد لإمام معصوم، فضلاً عن بقاء عمل إسلاميّ منظّم فيه.

 

المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة

 

وأمّا الثاني: فقد بحث(رحمه الله) طيلة عدّة أسابيع اُطروحة لما أسماه (بالمرجعيّة الصالحة)، ولما أسماه (بالمرجعيّة الموضوعيّة)، وأردف ذلك ببيان بعض المقترحات التي ينبغي أن تقوم بها المرجعيّة الصالحة، وبعد انتهائه عن هذا البحث أمرني بكتابة كلّ ما جرى فيه، فامتثلت أمره، وكتبت ما تلخّص في تلك الأبحاث، فأخذه الاُستاذ(رحمه الله)، وأعاد هو بصياغته الخاصّة كتابة أبحاث المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة، ولكن لم يكتب المقترحات التي كان قد أردف البحث بها.

ونحن هنا نتعرّض أوّلاً لذكر ما كتبه بقلمه الشريف في ترسيم وضع المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة مع تغيير يسير لفظيّ كوضع بعض العناوين الجانبيّة في الأثناء، ثُمَّ نتعرّض لخلاصة المقترحات التي كان قد أردف البحث بها، ولم يكتبها:

أمّا ما كتبه بقلمه الشريف، فهو ما يلي:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أهمّ ما يميّز المرجعيّة الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقيّة التي يجب أن تسير المرجعيّة في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محدّدة لهذه الأهداف، فهي مرجعيّة هادفة بوضوح ووعي تتصرّف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أن تمارس تصرّفات عشوائيّة، وبروح تجزيئيّة، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئيّة المتجدّدة.

وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام في كلّ الأوضاع التي يمتدّ إليها تأثيره ونفوذه.

82

أهداف المرجعيّة الصالحة:

ويمكن تلخيص أهداف المرجعيّة الصالحة رغم ترابطها وتوحّد روحها العامّة في خمس نقاط:

1 ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدىً ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيّة تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصيّ.

2 ـ إيجاد تيّار فكريّ واسع في الاُمّة يشتمل على المفاهيم الإسلاميّة الواعية، من قبيل المفهوم الأساسيّ الذي يؤكّد أنّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة، واتّخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3 ـ إشباع الحاجات الفكريّة الإسلاميّة للعمل الإسلاميّ، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلاميّة الكافية في مختلف المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمقارنات الفكريّة بين الإسلام وبقيّة المذاهب الاجتماعيّة، وتوسيع نطاق الفقه الإسلاميّ على نحو يجعله قادراً على مدّ كلّ جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككلٍّ إلى مستوى هذه المهامّ الكبيرة.

4 ـ القيمومة على العمل الإسلاميّ، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ: من مفاهيم، وتأييد ما هو حقّ منها، وإسناده وتصحيح ما هو خطأ.

5 ـ إعطاء مراكز العالميّة من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القياديّة للاُمّة بتبنّي مصالحها، والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

ووضوح هذه الأهداف للمرجعيّة وتبنّيها وإن كان هو الذي يحدّد صلاح المرجعيّة، ويحدث تغييراً كبيراً في سياستها العامّة، ونظراتها إلى الاُمور، وطبيعة تعاملها مع الاُمّة، ولكن لايكفي مجرّد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعيّة الصالحة؛ لأنّ الحصول على ذلك يتوقّف ـ إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه واستهدافه ـ على عمل مسبق على قيام المرجعيّة الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات على اُسلوب المرجعيّة ووضعها العمليّ من ناحية اُخرى.

83

أمّا فكرة العمل المسبق على قيام المرجعيّة الصالحة، فهي تعني: أنّ بداية نشوء مرجعيّة صالحة تحمل الأهداف الآنفة الذكر تتطلّب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الأهداف في داخل الحوزة وفي الاُمّة، وإعدادها فكريّاً وروحيّاً للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعيّة الصالحة؛ إذ ما لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح في أفكاره وتصوّراته، وتنظر إلى الاُمور من خلال معطيات تربية ذلك الإنسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كاف لإيجاد المرجعيّة الصالحة حقّاً، وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.

وبهذا كان لزاماً على من يفكّر في قيادة تطوير المرجعيّة إلى مرجعيّة صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـ بالرغم من صلاحهم ـ يشعرون عند تسلّم المرجعيّة بالعجز الكامل عن التغيير؛ لأنّهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحدّدوا مسبقاً الأهداف الرشيدة للمرجعيّة والقاعدة التي تؤمن بتلك الأهداف.

 

تطوير اُسلوب المرجعيّة:

وأمّا فكرة تطوير اُسلوب المرجعيّة وواقعها العمليّ، فهي تستهدف:

أوّلاً: إيجاد جهاز عمليّ تخطيطيّ وتنفيذيّ للمرجعيّة يقوم على أساس الكفاءة، والتخصّص، وتقسيم العمل، واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعيّ الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة.

ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً من الحاشية التي تعبّر عن جهاز عفويّ مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة؛ لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة وبدون أهداف محدّدة واضحة.

ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة تتكامل وتنمو بالتدريج إلى أن تستوعب كلّ إمكانات العمل المرجعيّ. ويمكن أن نذكر اللجان التالية كصورة مُثلى وهدف أعلى ينبغي أن يصل إليه الجهاز العمليّ للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله:

1 ـ لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسيّ في الحوزة العلميّة، وهي تمارس تنظيم

84

دراسة ما قبل (الخارج)، والإشراف على دراسات الخارج، وتحدّد الموادّ الدراسيّة، وتضع الكتب الدراسيّة، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزويّة بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة، وتستحصل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.

2 ـ لجنة للإنتاج العلميّ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث، ومتابعة سيرها، والإشراف على الإنتاج الحوزويّ الصالح وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالميّ بما يتّصل بالإسلام، والتوافر على إصدار شيء كمجلّة أو غيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.

3 ـ لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتبّع سيرهم وسلوكهم واتّصالاتهم، والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجماليّ في وقت رتيب أو عند طلب المرجع.

4 ـ لجنة الاتّصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات بالمرجعيّة في المناطق التي لم تتّصل بالمركز، ويدخل في مسؤوليّتها إحصاء المناطق، ودراسة إمكانات الاتّصال بها، وإيجاد سفرة تفقّديّة إمّا على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم، وتولّي متابعة السير بعد ذلك، ويدخل في صلاحيّتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات كفرصة الحجّ.

5 ـ لجنة رعاية العمل الإسلاميّ والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلاميّ، وتكوين فكرة عن كلّ مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.

6 ـ اللجنة الماليّة التي تعني بتسجيل المال وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليِّين، والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز مع التسجيل والضبط.

ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتّساع والتخصّص يتوقّف على تطوّر طويل الأمد، ومن الطبيعيّ أن يبدأ الجهاز محدوداً وبدون تخصّصات حدّية تبعاً لضيق نطاق المرجعيّة، وعدم وجود التدريب الكافي.

85

والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسيع والتخصّص.

وثانياً: إيجاد امتداد اُفقيّ حقيقيّ للمرجعيّة يجعل منها محوراً قويّاً تنصبّ فيه قوى كلّ ممثّلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم؛ لأنّ المرجعيّة حينما تتبنّى أهدافاً كبيرةً، وتمارس عملاً تغييريّاً واعياً في الاُمّة لابدّ أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ؛ لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج وبشكل وآخر السير في طريق تلك الأهداف على كلّ ممثّليها في العالم.

وبالرغم من انتساب كلّ علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتساب نظريّ وشكليّ لايخلق المحور المطلوب كما هو واضح.

وعلاج ذلك يتمّ عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجع تأريخيّاً يمارس عمله المرجعيَّ كلّه ممارسة فرديّة؛ ولهذا لاتشعر كلّ القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤوليّة، والتضامن الجادّ معه في المواقف، وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة والقوى الممثّلة له دينيّاً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعيّ موضوعيّاً، وإن كانت المرجعيّة نفسها بوصفها نيابة عن الإمام قائمة بشخص المرجع، غير أنّ هذه النيابة القائمة بشخصه لم تُحدّد له اُسلوب الممارسة، وإنّما يتحدّد هذا الاُسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامّة.

وبهذا الاُسلوب الموضوعيّ من الممارسة يصون المرجع عمله المرجعيّ من التأثّر بانفعالات شخصه، ويعطي له بعداً وامتداداً واقعيّاً كبيراً؛ إذ يشعر كلّ ممثّلي المرجع بالتضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليّات العمل المرجعيّ وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصالحة التي تقرّر من خلال ذلك المجلس. وسوف يضمّ هذا المجلس تلك اللجان التي يتكوّن منها الجهاز العمليّ للمرجعيّة، وبهذا تلتقي النقطة السابقة بهذه النقطة.

ولئن كان في اُسلوب الممارسة الفرديّة للعمل المرجعيّ بعض المزايا ـ كسرعة

86

التحرّك، وضمان درجة أكبر من الضبط، والحفظ، وعدم تسرّب عناصر غير واعية إلى مستوى التخطيط للعمل المرجعيّ ـ فإنّ مزايا الاُسلوب الآخر أكبر وأهمّ.

ونحن نطلق على المرجعيّة ذات الاُسلوب الفرديّ في الممارسة اسم المرجعيّة الذاتيّة، وعلى المرجعيّة ذات الاُسلوب المشترك والموضوعيّ في الممارسة اسم المرجعيّة الموضوعيّة.

وهكذا يظهر أنّ الفرق بين المرجعيّة الذاتيّة والمرجعيّة الموضوعيّة ليس في تعيين شخص المرجع الشرعيّ الواقعيّ؛ فإنّ شخص المرجع دائماً هو نائب الإمام، ونائب الإمام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلّبات النيابة، وهذا يعني: أنّ المرجعيّة من حيث مركز النيابة للإمام ذاتيّة دائماً، وإنّما الفرق بين المرجعيّتين في اُسلوب الممارسة.

وثالثاً: امتداداً زمنيّاً للمرجعيّة الصالحة لاتتّسع له حياة الفرد الواحد.

فلابدّ من ضمان نسبيّ لتسلسل المرجعيّة في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعيّة الصالحة؛ لئلّا ينتكس العمل بانتقال المرجعيّة إلى من لايؤمن بأهدافها الواعية، ولابدّ ـ أيضاً ـ من أن يُهيَّأ المجال للمرجع الصالح الجديد؛ ليبدأ ممارسة مسؤوليّاته من حيث انتهى المرجع العامّ السابق، بدلاً من أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاقّ هذه البداية وما تتطلّبه من جهود جانبيّة، وبهذا يتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.

ويتمّ ذلك عن طريق شكل المرجعيّة الموضوعيّة؛ إذ في إطار المرجعيّة الموضوعيّة لايوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات، ويوجد الموضوع، وهو المجلس بما يضمّ من جهاز يمارس العمل المرجعيّ الرشيد، وشخص المرجع هو العنصر الذي يموت، وأمّا الموضوع فهو ثابت، ويكون ضماناً نسبيّاً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصالح في حالة خلوّ المركز، وللمجلس وللجهاز ـ بحكم ممارسته للعمل المرجعيّ، ونفوذه وصلاته، وثقة الاُمّة به ـ القدرة دائماً على إسناد مرشّحه، وكسب ثقة الاُمّة إلى جانبه.

وهكذا تلتقي النقطتان السابقتان مع هذه النقطة في طريقة الحلّ.

87

مراحل المرجعيّة الصالحة:

وللمرجعيّة الصالحة ثلاث مراحل:

1 ـ مرحلة ما قبل التصدّي الرسميّ للمرجعيّة المتمثّل بطبع رسالة عمليّة، وتدخل في هذه المرحلة ـ أيضاً ـ فترة ما قبل المرجعيّة إطلاقاً.

2 ـ مرحلة التصدّي بطبع الرسالة العمليّة.

3 ـ مرحلة المرجعيّة العليا المسيطرة على الموقف الدينيّ.

وأهداف المرجعيّة الصالحة ثابتة في المراحل الثلاث، وفي المرحلة الاُولى يتمّ إنجاز العمل المسبق الذي أشرنا سابقاً إلى ضرورته؛ لقيام المرجعيّة الصالحة.

وطبيعة هذه المرحلة تفرض أن تمارس المرجعيّة ممارسة أقرب إلى الفرديّة بحكم كونها غير رسميّة، ومحدودة في قدرتها، وكون الأفراد في بداية التطبيق والممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجعيّة في هذه المرحلة ذاتيّة، وإن كانت تضع في نفس الوقت بذور التطوير إلى شكل المرجعيّة الموضوعيّة عن طريق تكوين أجهزة استشاريّة محدودة، ونوع من التخصّص في بعض الأعمال المرجعيّة.

وأمّا في المرحلة الثانية، فيبدأ عمليّاً تطوير الشكل الذاتيّ إلى الشكل الموضوعيّ، لكن لا عن طريق الإعلان عن اُطروحة المرجعيّة الموضوعيّة بكاملها، ووضعها موضع التنفيذ في حدود المستجيبين؛ لأنّ هذا وإن كان يولّد زخماً تأييديّاً في صفوف بعض الراشدين في التفكير، ولكنّه من ناحية يفصل المرجعيّة الصالحة عن عدد كبير من القوى والأشخاص غير المستعدّين للتجاوب في هذه المرحلة، ومن ناحية اُخرى يضطرّها إلى الاستعانة بما هو الميسور في تقديم صيغة المرجعيّة الموضوعيّة، وهذا الميسور لايكفي كمّاً ولاكيفاً لملء حاجة المرجعيّة الموضوعيّة.

بل الطريق الطبيعيّ في البدء بتحقيق المرجعيّة الموضوعيّة ممارسةُ المرجعيّة الصالحة لأهدافها ورسالتها عن طريق لجان وتشكيلات متعدّدة بقدر ما تفرضه بالتدريج حاجات العمل الموضوعيّة، وقدرات المرجعيّة البشريّة والاجتماعيّة، ويربط بالتدريج بين تلك اللجان والتشكيلات، ويوسّع منها حتّى تتمخّض في نهاية الشوط عن تنظيم كامل شامل للجهاز المرجعيّ.

88

ويتأثّر سير العمل في تطوير اُسلوب المرجعيّة وجعلها موضوعيّة بعدّة عوامل في حياة الاُمّة: فكريّة وسياسيّة، وبنوعيّة القوى المعاصرة في الحوزة للمرجعيّة الموضوعيّة، ومدى وجودها في الاُمّة، ومدى علاقتها طرداً أو عكساً بأفكار المرجعيّة الصالحة، ولابدّ من أخذ كلّ هذه العوامل بعين الاعتبار والتحفّظ من خلال مواصلة عمليّة التطوير المرجعيّ عن تعريض المرجعيّة ذاتها لانتكاسة تقضي عليها، إلّا إذا لوحظ وجود مكسب كبير في المحاولة ولو باعتبارها تمهيداً لمحاولة اُخرى ناجحة يفوق الخسارة التي تترتّب على تفتّت المرجعيّة الصالحة التي تمارس تلك المحاولة.

انتهى ما جرى على قلم اُستاذنا الشهيد لترسيم وضع المرجعيّة الصالحة والمرجعيّة الموضوعيّة، وقد طبع هذا البحث أكثر من مرّة، إحداها ما جاء في مجلّة صوت الاُمّة العدد الخامس للسنة الاُولى.

أمّا المقترحات التي كان قد أردف البحث بها ولم يكتبها، فنحن هنا نتعرّض لخلاصة من تلك المقترحات، وهي ما يلي:

1 ـ اقتراح إنشاء حوزات علميّة فرعيّة في المناطق التي تساعد على ذلك، ترفد بها الحوزة العلميّة الاُمّ.

2 ـ اقتراح إيجاد علماء في الفقه والاُصول والمفاهيم الإسلاميّة في سائر أصناف الناس، فليكن لنا في ضمن الأطبّاء علماء، وفي ضمن المهندسين علماء، وما إلى ذلك من الأصناف، ولا يشترط في هؤلاء العلماء التخصّص والاجتهاد في الفقه والاُصول، ويكون كلّ من هؤلاء مصدر إشعاع في صنفه، يبثّ العلم والمعرفة وفهم الأحكام الشرعيّة والمفاهيم الإسلاميّة فيما بينهم(1).


(1) قال الشيخ محمّدرضا النعمانىّ حفظه الله: «وقد بدأ السيّد الشهيد بتنفيذ هذه الفكرة ولو بشكل متواضع حين كبرت مرجعيّته وامتدّت؛ إذ بدأ يشجّع عدداً من الأطباء والمهندسين والأساتذة على دراسة الفقه والاُصول والمنطق وكافّة الموادّ الدراسيّة المقرّرة والمتعارفة فى الحوزة العلميّة، وبنفس الوقت شجّع بعضهم على الانخراط فى الحوزة العلميّة، وترك تخصّصاتهم السابقة، وكان السيّد الشهيد يستهدف من تشجيع بعضهم على الانخراط فى الحوزة العلميّة ما يلى:

1 ـ الإسراع فى تربية علماء يملكون ثقافة عصريّة إلى جانب ثقافتهم الحوزويّة.

2 ـ الارتفاع بالمستوى الاجتماعيّ للحوزة العلميّة؛ إذ إنّ وجود عناصر ذات مستوىً رفيع فى نظر المجتمع كالأطبّاء والمهندسين سوف يغيّر من نظرة اُولئك الذين يحملون انطباعاً سلبيّاً عن الحوزة العلميّة».

89

3 ـ ربط الجانب الماليّ للعلماء والوكلاء في الأطراف بالمرجعيّة الصالحة، فلايعيش الوكيل على ما تدرّ عليه المنطقة من الحقوق الشرعيّة، بل يسلّم الحقوق كاملة إلى المرجعيّة، وتموّله المرجعيّة ليس بالشكل المتعارف في بعض الأوساط من إعطاء نسبة مئويّة من تلك الأموال كالثلث أو الربع، ممّا يجعل علاقة الوكيل بالمرجعيّة سنخ علاقة عامل المضاربة بصاحب رأس المال، بل بالشكل الذي يغطي مصاريف الوكيل عن طريق عطاءَين من قبل المرجعيّة:

الأوّل: راتب شهريّ مقطوع يكفل له قدراً معقولاً من حاجاته الضروريّة.

والثاني: عطاء مرن وغير محدّد يختلف من شهر إلى شهر، وربّما لايعطى في بعض الأشهر، وقد يضاعف أضعافاً مضاعفةً في بعض الأشهر، ويكون المؤثّر في تقليل وتكثير هذا العطاء عدّة اُمور:

أحدها: احتياجاته بما هو إنسان، أو بما هو عالم في المنطقة؛ فإنّها تختلف من شهر إلى شهر.

والثاني: مقدار ما يقدّمه للمرجعيّة من أموال وحقوق شرعيّة.

والثالث: مقدار ما يقدّمه للمنطقة من أتعاب وجهود.

والرابع: مقدار ما ينتج في تلك المنطقة من نصر للإسلام.

هذه الاُمور الأربعة قد تؤثّر ـ أيضاً ـ في تحديد مقدار العطاء المتمثِّل في الراتب المقطوع(1).

4 ـ دعم المرجعيّة الصالحة لمكتب صالح ونظيف من بين المكاتب، وهي التي كانت تسمّى في النجف (بالبرّانيّات)، بحيث يصبح ما يصدر عن ذاك المكتب ممثّلاً في نظر


(1)قال الشيخ محمّدرضا النعمانىّ حفظه الله: «وفعلاً فقد نفّذ شهيدنا العظيم هذه الفكرة، ولم تبقَ مجرّد فكرة، فبعد أن تحسّن الوضع المالىّ للمرجعيّة بدأ السيّد الشهيد بإعطاء رواتب لوكلائه ولو بشكل محدود، وقد كانت لتنفيذ هذه الفكرة آثار إيجابيّة عظيمة، يمكن تلخيصها بما يلى:

1 ـ استقلال العالم استقلالاً تامّاً، فهو لم يعد بحاجة إلى محاباة أصحاب الأموال الذين كانوا قد يحوّلون العالم إلى أداة بأيديهم، وأصبح العالم ينفّذ إرادة المرجعيّة وما تتطلّبه مصلحة الإسلام.

2 ـ بدأ الكثير من المدن والمناطق تطالب المرجعيّة بعالم يقيم لديها؛ إذ إنّ العقبة التى كانت تقف أمامهم هو الفقر والحاجة الماليّة لكثير من أهالى هذه المناطق؛ إذ لم تكن لديهم القدرة الماليّة على تغطية شؤون العالم الدينيّة، ومن الواضح للجميع الآثار السلبيّة التى تترتّب على عدم وجود ممثِّل للمرجعيّة فى المدن والمناطق».

90

الناس بدرجة ضعيفة لرأي المرجعيّة، وفائدة ذلك: أنّ المرجعيّة الصالحة قد تريد أن تنشر فكرة سياسيّة أو اجتماعيّة أو غير ذلك من دون أن تتبنّاها مباشرة؛ لمصلحة في عدم التبنّي المباشر، أو تريد أن تفاوض السلطة في أمر من الاُمور بشكل غير مباشر، فذاك المكتب يتبنّى أمثال هذه الاُمور.

 

الحوزة العلميّة والتحزّب

 

وأمّا الثالث: وهو رأيه في مدى صحّة اشتراك الحوزة العلميّة في الأحزاب السياسيّة الإسلاميّة، فقد رسم (رضوان الله عليه) في تلك الأبحاث الاُسبوعيّة خطوطاً ثلاثة، ذكر أنّ اثنين منها خطّان ثابتان، وواحداً منها خطّ متحرّك:

الخطّ الأوّل: ضرورة الفصل بين جهاز المرجعيّة الصالحة والعمل الحزبيّ.

والخطّ الثاني: عدم البأس باشتراك طلّاب الحوزة العلميّة غير المرتبطين بجهاز المرجعيّة الصالحة في العمل الحزبيّ الإسلاميّ.

وهذان خطّان ثابتان.

والخطّ الثالث: ـ وهو ما أسماه بالخطّ المتحرّك ـ أنّ من كان عضواً في جهاز المرجعيّة الصالحة وهو في نفس الوقت عضو في حزب الدعوة الإسلاميّة، ويكون انسحابه من صفوف الحزب مؤدّياً إلى إرباك الوضع في داخل الحزب، يبقى محتفظاً بارتباطه بالحزب إلى حينما يرى أنّ انفصاله لايؤدّي إلى مثل هذا الارتباك، فعندئذ ينفصل عن الحزب.

وكان تأريخ تحديده (رحمه الله) لهذه الخطوط الثلاثة بحدود أوائل سنة (1393 هـ ).

وبعد هذا حينما اعتقلت السلطة الكافرة في العراق ثلّةً من العلماء الأعلام، وثلّةً من المؤمنين الكرام، وكان في ضمنهم الشهداء الخمسة الشيخ عارف وصحبه، وكان في ضمنهم ـ أيضاً ـ السيّد الهاشميّ، وكنت أنا وقتئذ في إيران، وأفرجت السلطة بعد ذلك عن جماعة منهم السيّد الهاشميّ، وبقي جماعة آخرون في الاحتجاز، أصدر الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)كلمته المعروفة التي ذكر فيها فصل الحوزة العلميّة كاملة عن العمل الحزبيّ،

91

وكان هذا بتأريخ (10 / شعبان / 1394 هـ ).

وكتبت ـ بعدئذ ـ رسالةً إلى اُستاذنا الشهيد أستفسره فيها عمّا هو المقصود الواقعيّ بهذه الكلمة، فذكرت له: أنّ المحتملات عندي أربعة:

1 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: لحاظ مصلحة في أصل ذِكرها ونشرها كتقيّة (وعلى حسب تعبير علماء الاُصول تكون المصلحة في الجعل).

2 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: اُولئك العلماء والطلّاب المرتبطون بمرجعيّتكم، وإن اقتضت المصلحة إبرازها على شكل العموم.

3 ـ أن يكون المقصود بهذه الكلمة: فصل طلّاب الحوزة العلميّة في العراق عن العمل الحزبيّ درءاً للخطر البعثيّ الخبيث عنهم، الذي يؤدّي إلى إبادتهم.

4 ـ أن يكون المقصود بها: فصل جميع الحوزات العلميّة في كلّ زمان ومكان عن العمل الحزبيّ الإسلاميّ (وعلى حسب تعبير الاُصوليّين: تكون القضيّة قضيّة حقيقيّة، وليست خارجيّة). وعلى الاحتمال الأخير يكون تعليقي على هذه الكلمة: أنّ هذا الإجراء سيؤدّي في طول الخطّ إلى انحراف الحركة الإسلاميّة الحزبيّة عن مسار الإسلام الصحيح نتيجة ابتعادهم في أجوائهم الحزبيّة عن العلماء الأعلام.

فكتب لي (رضوان الله عليه) في الجواب: أ نّي قصدت المعنى الأوّل والثاني والثالث، دون الرابع.

وكان هذا كلّه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.

أمّا بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، فقد عزم الاُستاذ الشهيد (رحمه الله) على تصعيد معارضته لحكومة البعث في العراق، ونزوله إلى الميدان بشكل سافر نسبيّاً، وبهذا لم يبقَ مورد لمسألة الاهتمام بدرء الخطر البعثيّ الذي كان أحد ملاكات تلك الكلمة (أعني: فصل الحوزة العلميّة عن العمل الحزبيّ)؛ فإنّ الحوزة العلميّة الواعية ستقع لامحالة وجهاً لوجه أمام السلطة الجائرة، والخطر محدق على أىّ حال. وفي هذا التأريخ جاء السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ إلى إيران، وأخبرني بأنّ السيّد الاُستاذ بعث على أحد الوجوه البارزة آنئذ لحزب الدعوة الإسلاميّة، وقال له فيما قال: إنّ كلمتي التي أصدرتها في انفصال الحوزة عن العمل الحزبيّ قد انتهى أمدها.

92

أقول: إنّي لاأفهم من هذا الكلام انتهاء أمد هذه الكلمة بالقياس إلى جهاز المرجعيّة الصالحة المفروض فيها أن تكون فوق الحركات والأحزاب، وتكون في موقع الاُبوّة والقيادة للاُمّة بجميع أجنحتها وأفرادها، وإنّما أفهم منه انتهاء أمد هذه الكلمة باعتبار المعنى الثالث من المعاني الثلاثة التي قصدها بها.

 

أساس الحكم

 

أمّا رأي الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في أساس الحكومة الإسلاميّة في زمان غيبة المعصوم، فقد مرّ ـ أيضاً ـ بمراحل عديدة، فحينما أسّس حزب الدعوة الإسلاميّة كان يرى أنّ أساس الحكومة الإسلاميّة في زمن الغيبة هي الشورى، وهذا ما أثبته فيما كتبه لحزب الدعوة باسم (الاُسُس)، مستدلّاً بقوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وبعد ذلك ترك هذا الرأي، وقال أخيراً بمبدأ ولاية الفقيه تمسّكاً بالتوقيع المعروف عن الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم»، وقد انعكس هذا الرأي في رسالتيه العمليّتين: (الفتاوى الواضحة، والتعليق على منهاج الصالحين).

وقد بحثنا هذين المبدأين، وهما: مبدأ الشورى، ومبدأ ولاية الفقيه في كتابنا (أساس الحكومة الإسلاميّة) بتفصيل.

وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عدّل (رحمه الله) رأيه في أساس الحكومة في زمن الغيبة، فقال بما يكون مزيجاً من الشورى وولاية الفقيه، على ما هو منعكس في بعض حلقات ما نشر عنه باسم (الإسلام يقود الحياة)، وقد بحثناه مفصّلاً في آخر كتابنا الذي كتبناه في بحث اللُّقَطة.