195

بحث القطع

2

 

 

 

حُجّيّة القطع

 

 

 

○ أساس حُجّيّة القطع.

○ جعل الحُجّيّة ورفعها في القطع.

○ الفروع الموهمة للترخيص في مخالفة العلم.

 

 

 

 

197

 

 

 

 

ذكر المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) وغيره: أنّ بحث حجّيّة القطع خارج من مباحث علم الاُصول، وإنّما يبحث هنا بالمناسبة.

والوجه في ذلك: أنّ حجّيّة القطع لايستنبط منها الحكم الشرعىّ؛ فإنّ المفروض في موضوعها هو الوصول إلى الحكم الشرعىّ؛ لأنّه القطع بالحكم الشرعىّ، فلو عرّفت القاعدة الاُصوليّة: بأنّها ما تقع كبرى في طريق استنباط الحكم الشرعىّ ـ مثلاً ـ كما قيل، فحجّيّة القطع لم تكن كذلك، بل الاُصول العقليّة ـ أيضاً ـ ليست كذلك؛ إذ لاتوصلنا إلى حكم الشرع.

ولو عطفت على ذلك جملة: (أو ما ينتهى إليه في مقام العمل) إدخالاً للاُصول العمليّة، أمكن القول: إنّ هذا لايدخل حجّيّة القطع في التعريف؛ لأنّ الانتهاء إليه في مقام العمل يعني: أنّه بعد الفحص واليأس ينتهي الأمر في مقام العمل إليه، في حين أنّ فرض القطع هو فرض الظفر بالمطلوب وعدم اليأس.

ويمكن القول في قبال ذلك: إنّه لايشترط في القاعدة الاُصوليّة الوصول عن طريقها إلى الحكم الشرعىّ مع عطف جملة (أو ما ينتهى إليه في مقام العمل) مثلاً، بل من أوّل الأمر نقول: إنّ ما يقع كبرى في قياس التنجيز والتعذير، فهو داخل في علم الاُصول، وحجّيّة القطع من هذا القبيل.

وذكر المحقّق الأصفهانىّ(رحمه الله): أنّ اُصول الفقه عبارة عن المبادئ التي يصل الفقيه بمعونتها إلى غرضه؛ ولذا سمّيت اُصولاً للفقه، وغرض الفقيه بما هو فقيه إنّما هو: فهم الحكم الشرعىّ الذي هو مفروغ منه في المرتبة السابقة على حجّيّة القطع، فهذا البحث خارج عن علم الاُصول.

ويرد عليه: منع كون غرض الفقيه بما هو فقيه منحصراً في ذلك، بل فهم التنجيز والتعذير العقليّين ـ أيضاً ـ داخل في غرضه؛ ولذا لو لم يجد الفقيه في مسألة ما دليلاً على

198

الحكم، حتّى على مستوى الأصل العمليّ الشرعىّ، ووصلت النوبة في رأيه إلى البراءة العقليّة، نراه يفتي في رسالته العمليّة بالإباحة؛ اعتماداً على ما نقّحه في علم الاُصول من البراءة العقليّة، مع أنّها ليست حكماً شرعيّاً.

والتحقيق(1): أنّ حجّيّة القطع خارجة عن المسائل الاُصوليّة؛ لأنّها غير دخيلة أصلاً في عمليّة الاستنباط في الفقه، ولاتشكّل أيّ مقدّمة في القياس الفقهىّ.

وتوضيح ذلك: أنّ هدف الفقيه في استنباطه ليس إلّا الوصول إلى القطع بالحكم، أو ما يقوم مقام القطع به: من الأمارات، أو الاُصول الشرعيّة، أو العقليّة، وبعد تحصيل القطع لايترقّب الفقيه ـ بما هو فقيه ـ أىّ شيء آخر، فمباحث الأمارات والاُصول الشرعيّة والعقليّة إنّما نعدّها من علم الاُصول؛ لأنّها دخيلة في القياس الفقهىّ ولو على مستوى تنجيز الحكم، لكن القطع لايعتبر داخلاً في القياس الفقهىّ وإن كان هو ـ أيضاً ـ منجّزاً للحكم، وعلم الفقه شأنه شأن كلّ العلوم الاُخرى التي تكون الغاية القصوى فيها هي تحصيل القطع بالنتائج، وبعد فرض حصول القطع لايترقّب شيء.

 

أساس حُجّيّة القطع

 

ولنبحث الآن أساس حجّيّة القطع.

إنّ حجّيّة القطع لها معنيان:

الأوّل: صحّة الاعتماد عليه في مقام اقتناص الواقع كشفاً وعملاً، وهذه هي الحجّيّة بالمعنى المنطقىّ، والتي أسميناها في كتاب (فلسفتنا) بنظريّة المعرفة، وليس هنا محلّ بحثها.

والثاني: كونه منجّزاً ومعذّراً، وهذه هي الحجّيّة بالمعنى الاُصولىّ، وهي المعنى المبحوث عنه هنا.

وهذه من أحكام العقل العمليّ التي أدخلوها جميعاً تحت قاعدة حسن العدل وقبح


(1) هذا البيان لإخراج حجّيّة القطع عن المسائل الاُصوليّة لم يذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا في الدورة التي حضرت فيها بحث القطع، وإنّما أخذته من بحثه في تعريف الاُصول في أوّل علم الاُصول في دورته الأخيرة.

199

الظلم، فتكون حجّيّة القطع عندهم من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم.

ومن هنا تختلف المبانىّ في حجّيّة القطع باختلافها في تلك القاعدة، فالمشهور بين الاُصوليّين: أنّ حسن العدل وقبح الظلم أمر واقعىّ يدركه العقل من قبيل الإمكان والامتناع، وعلى هذا فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من هذا القبيل.

وذهب جماعة من الاُصوليّين إلى ما هو مبنى الفلاسفة: من أنّ حسن العدل وقبح الظلم حكم عقلائىّ حكم به العقلاء لصالح نظامهم الاجتماعىّ، وهذا ما يسمّى في المنطق بــ (المشهورات). وعلى هذا فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من مجعولاتهم.

وربّما يتراءى من بعض العبائر مبنىً ثالث واضح البطلان، ولعلّه ليس مقصوداً بالعبارة، وهو: أنّ حسن العدل وقبح الظلم حكم إلزامىّ للعقل، فالعقل هو الذي يحكم على الإنسان بوجوب العدل، وينهاه عن الظلم، وعليه فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من هذا القبيل. ولكن من الواضح: أنّ العقل وظيفته الإدراك لاالحكم.

وقد أورد السيّد الاُستاذ على المبنى الثاني إيرادين انتصاراً للمبنى الأوّل:

الأوّل: أنّ حجّيّة القطع لو كانت من مجعولات العقلاء لنظامهم الاجتماعىّ، لما كان حجّة للفرد الأوّل من البشر، في حين أنّ القطع كان حجّة له أيضاً.

والثاني: أنّها لو كانت من مجعولاتهم للنظام الاجتماعىّ، لم يكن حجّة بالنسبة إلى الأوامر غير الدخيلة في وضعهم الاجتماعىّ الثابتة تعبّداً بالشرع، فماذا يقال في تلك الأوامر؟!

ويرد على الأوّل: أنّه إن أراد بحجّيّة القطع لآدم(عليه السلام) حجّيّته بمعنى أنّه لو رأى مائعاً وقطع بكونه ماءً ـ مثلاً ـ لرتّب على قطعه الأثر بشربه عند ما يعطش، فهذا مسلّم وثابت في الحيوانات أيضاً، لكن هذه هي حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ.

وإن أراد بالحجّيّة معنى التنجيز والتعذير، قلنا: لاسبيل لمعرفة حجّيّة القطع لآدم(عليه السلام) إلّا أحد أمرين:

الأوّل: التجربة بأن نظفر بإنسان عاش وحيداً، وفي غير مجتمع عقلائىّ، ورأيناه يعتقد بحجّيّة القطع لنفسه. وهذه التجربة لم تحصل.

والثاني: دعوى أنّ العقل قد أدرك حجّيّة القطع على الإطلاق، بلا فرق بين فرض

200

وجود مجتمع عقلائىّ وعدمه. وهذا يعني المصادرة على المطلوب.

ويرد على الثاني: أنّ المقصود بكون القطع حجّة ببناء العقلاء حفظاً للنظام الاجتماعىّ ليس هو دخل متعلّق الأمر في نظمهم، كي يقال: إنّ هناك أوامر غير دخيلة في النظم الاجتماعىّ، بل المقصود به: أنّ العقلاء رأوا أنّ في نفس التزامهم بأوامر رئيسهم مصلحة اجتماعيّة، ولو قطعوا في بعض أوامر الرئيس بأنّه أخطأ ـ مثلاً ـ في إصدار هذا الأمر، وأنّ متعلّقه لم يكن ذا مصلحة اجتماعيّة، فالمصلحة الاجتماعيّة في نظر العقلاء إنّما هي في نفس التقيّد بأوامر الرئيس.

والصحيح: أنّ استنتاج حجّيّة القطع من قاعدة حسن العدل وقبح الظلم في غير محلّه، سواء فسرّت القاعدة بالمبنى الأوّل، أو بالمبنى الثاني.

بيان ذلك(1): أنّ الظلم عبارة عن سلب ذي الحقّ حقّه، والعدل عبارة عن إعطائه إيّاه وعدم سلبه عنه، فلابدّ أن يفترض في المرتبة السّابقة حقّ، كي يقال: إنّ سلبه ظلم، وهذا الحقّ هنا عبارة عن حقّ المولويّة، فلو لم نفترض الآمر مولىً، لم يكن القطع منجّزاً أو معذّراً كما هو واضح. فإن كان المقصود من الاستدلال على حجّيّة القطع بقبح الظلم وحسن العدل إثبات مولويّة المولى بذلك، كان هذا دوراً واضحاً؛ فإنّ كون العمل بالقطع عدلاً ومخالفته ظلماً فرع مولويّة المولى، فلايمكن إثبات مولويّته بذلك.

وإن كان المقصود إثبات حجّيّة القطع بأمر المولى بعد فرض مولويّته في المرتبة السابقة، ورد عليه: أنّه بعد فرض مولويّة المولى فيما نقطع به من أحكامه تثبت الحجّيّة للقطع بلا حاجة إلى قاعدة حسن العدل وقبح الظلم التي يكون جريانها في طول المولويّة؛ فإنّ مولويّة المولى تعني: لزوم إطاعة أمره، وقد قطعنا بتحقّق الأمر بحسب الفرض.

وبكلمة اُخرى: أنّ حجّيّة القطع بمعنى التنجيز والتعذير ليست إلّا عبارة عما تتحقّق كبراها بفرض مولويّة المولى، وصغراها بنفس القطع بحكم المولى، وتكفي في ثبوت النتيجة تماميّة الصغرى والكبرى، ولو قطع العبد بحكم مولاه ومع ذلك لم يطعه، لم يكن له عذر إلّا أحد أمرين:


(1) ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في خارج مجلس البحث: أنّ أصل قاعدة حسن العدل وقبح الظلم قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، ووضّح ذلك بما يقرب من نفس هذا البيان، ونحن لم نتعرّض لتوضيح ذلك هنا اعتماداً على ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ مفصّلاً في بحث الحسن والقبح العقليّين حيث تعرّض له اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحثه هناك.

201

الأوّل: منع مولويّة المولى فيما قطع به من أمره، والمفروض هو الفراغ من مولويّته.

والثاني: إنكار وصول أمره إليه، والمفروض وصوله بالقطع الذي هو حجّة بالمعنى المنطقىّ بلا إشكال.

وهذه النتيجة أعني الحجّيّة يمكن نسبتها إلى القطع باعتبار وقوعه في صغراها، أمّا كونها من ذاتيّات القطع فلا، وإنّما هي من ذاتيّات مولويّة المولى.

وإن شئت فعبّر: بأنّها من ذاتيّات القطع بحكم المولى مع فرض التحفّظ على مولويّته فيما قطع به، أي: إنّها ذاتيّة لمجموع الصغرى والكبرى.

ومولويّة المولى على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن تكون مولويّة مجعولة لنفس المجتمع، كأن يجتمع العقلاء وينصبوا على أنفسهم سلطاناً؛ ليطيعوه باعتبار ما تقتضيه المصالح الاجتماعيّة. وفي هذا القسم تكون سعة دائرة الحجّيّة وضيقها دائرة مدار سعة جعل المولويّة وضيقها، فلو فرض ـ مثلاً ـ أنّهم جعلوه مولىً على أنفسهم في أوامره المظنونة دون أوامره المقطوعة، كان الظنّ هو الحجّة دون القطع.

والثاني: أن تكون مجعولة لمولىً فوق هذه المولويّة، كجعل مولويّة الرسول من قبلالله تعالى. والحجّيّة في هذا القسم ـ أيضاً ـ تتبع دائرة جعل المولويّة سعة وضيقاً، فلو فرض ـ مثلاً ـ جعل المولويّة في خصوص المظنونات، كان الظنّ هو الحجّة ـ أيضاً ـ دون القطع.

والثالث: أن تكون مولويّة ذاتيّة غير مجعولة لجعل جاعل. وفي هذا القسم لايتصوّر اختصاص المولويّة بغير ما قطع به من أوامره، فمن كان له حقّ الطاعة ذاتاً لا إشكال في ثبوت هذا الحقّ فيما قطع به من أوامره، فيكون القطع به حجّة.

والمفروض هو الفراغ من المولويّة الذاتيّة لله تعالى في علم الكلام(1)، وليس البحث عنها مربوطاً بعلم الاُصول. وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ القطع بحكم الشارع حجّة بلا إشكال.

 


(1) على أساس وجوب شكر المنعم، كما اشتهر على لسان المتكلّمين. وهناك أساس آخر له أيضاً، وهو: الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى؛ إذ هو خالقنا وموجدنا، إذن فهو مالك لنا بالحقيقة. والأساس الصحيح ـ فيما أرى ـ هو الأوّل فحسب.

202

 

جعل الحُجّيّة ورفعها في القطع

 

وبعد هذا يبقى أن نرى أنّ هذه الحجّيّة هل هي قابلة للجعل التشريعيّ أو الردع، أو لا؟ فهنا مسألتان:

الاُولى: أنّ حجّيّة القطع غير قابلة للجعل التشريعىّ؛ لما عرفت: من أنّ حجّيّته بالمعنى الاُصولىّ ثابتة بضمّ مولويّة المولى إلى حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ، فجعل حجّيّته بالمعنى الاُصولىّ لايكون إلّا بجعل حجّيّته بالمعنى المنطقىّ، أو بجعل المولويّة. ومن الواضح أنّ الشخص لايمكنه جعل مولويّة نفسه، كما أنّ حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ ذاتيّة له، فلاتقبل الجعل، إذن فحجّيّة القطع بالحكم الشرعىّ بمعناها الاُصوليّ غير قابلة للجعل.

والثانية: أنّ حجّيّة القطع بحكم الشارع هل هي قابلة للردع، أو لا؟

ذكر بعض الأخباريّين حصول الردع عن العمل بقطع لم يحصل عن الأخبار والروايات. وقد شدّد النكير عليهم من قبل الاُصوليّين إلى مستوىً بدأ يبرز الأمر بما يشبه تشنيع إحدى طائفتين متعاندتين على الاُخرى. وعلى أىّ حال، فلابدّ من البحث في ذلك بشكل موضوعىّ، فنقول:

إن جميع ما ذكروه هنا لإثبات عدم إمكان الردع بعد دعوى البداهة يرجع إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ الردع عن العمل بالقطع يوجب اجتماع المتضادّين في الواقع، إن كان القطع مصادفاً للواقع، وفي الاعتقاد إن كان مخالفاً له، وكما أنّ اجتماع المتضادّين في الواقع مستحيل كذلك الاعتقاد بتحقّق المحال مستحيل.

الثاني: أنّ حكم الشارع بعدم حجّيّة القطع مناقض لحكم العقل بحجّيّته، ولايصحّ حكم الشارع بما يناقض حكم العقل.

الثالث: أنّ ردع الشارع عن العمل بالقطع نقض لغرضه.

أقول: تارة يفرض ردع الشارع عن حجّيّة تمام أفراد القطع، واُخرى يفرض ردعه عن بعض أفراده:

203

أمّا الأوّل: فلاإشكال في بطلانه؛ إذ لايمكن أن يترتّب أثر على هذا الردع، سواء وصل إلى المكلّف أو لم يصل، أمّا مع عدم الوصول، فواضح؛ إذ الأثر فرع الوصول، وأمّا مع الوصول وحصول القطع به؛ فلأنّ إسقاط تمام أفراد القطع عن الحجّيّة يساوق إسقاط نفس هذا القطع عن الأثر.

وأمّا الثاني: وهو الذي صدرت دعواه عن الأخباريّين، فلايرد عليه ما ذكرناه في الفرض الأوّل، ويبقى ما مضى من الوجوه الثلاثة لإبطاله، ففيما يلي نتعرّض لتمحيص تلك الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل: وهو المضادّة بين الواقع والردع عن العمل بالقطع، فالتضادّ بينهما: إمّا أن يكون بلحاظ مبادئ الأحكام، وإمّا أن يكون بلحاظ المحرّكيّة.

أمّا التضادّ بلحاظ المبادئ، فهذا الإشكال بعينه يطرح في مسألة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ أيضاً، فلابدّ من ملاحظة ما يختار من الجواب هناك؛ كي نرى أنّه هل يجري في المقام أيضاً، أو لا؟

والواقع: أنّ هذا يختلف باختلاف الأجوبة هناك، فمن كان مختاره هناك جواباً يجري في المقام، لايحقّ له إثبات عدم صحّة الردع عن القطع بلزوم التضادّ في المبادئ.

فمثلاً: من قال هناك في حلّ الإشكال: إنّ الحكم الظاهرىّ في طول الشكّ في الحكم الواقعيّ الذي هو في طول الحكم الواقعىّ، وإنّ تعدّد الرتبة كاف في دفع هذا التضادّ، وجب عليه أن يقول هنا ـ أيضاً ـ: إنّ الردع عن العمل بالقطع في طول القطع بالحكم الذي هو في طول الحكم، فيرتفع التضادّ.

وأمّا التضادّ بلحاظ المحرّكيّة، فهذا ـ أيضاً ـ من إشكالات الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ، ويجاب عنه في الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ: بأنّ الحكم الواقعىّ لو وصل، انتفى موضوع الحكم الظاهرىّ، ولو لم يصل، لم يكن محرّكاً.

وهذا الجواب ـ كما ترى ـ لايجري في المقام؛ إذ الحكم الواقعىّ واصل بالقطع، فيأتي ـ لامحالة ـ السؤال عن أنّه كيف يمكن الجمع بين محرّكيّة الحكم الواصل بالقطع، وبين الردع عن القطع؟

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ التحرّك نحو أوامر المولى تارة يفترض بداعي المحرّكيّة

204

الشخصيّة، كما لو تحرّك نحو أوامر المولى حبّاً له، واُخرى يفترض بداعي ما يحكم به العقل من التنجيز ووجوب الطاعة وحجّيّة القطع، فإن كان المراد من التضادّ بين الردع والمحرّكيّة هو التضادّ بين الردع والمحرّكيّة الشخصيّة، قلنا: ليس هذا إشكالاً على ردع المولى؛ فإنّ المولى من شأنه ـ دائماً ـ الردع عن المحرّكيّات الشخصيّة، ولا استحالة في ذلك.

وإن كان المراد هو التضادّ بين الردع والمحرّكيّة العقليّة، قلنا: هذا رجوع إلى الوجه الثاني، وهو: أنّ ردع الشارع مناقض لحكم العقل، وهذا ما سنبحثه الآن.

وأمّا الوجه الثاني: وهو التضادّ بين ردع الشارع وحكم العقل، فتوضيحه على حدّ مصطلحات القوم: أنّ العقل حكم بكون الحجّيّة من ذاتيّات القطع، وذاتىّ الشيء يستحيل انفكاكه عنه.

إلّا أنّ صرف كون ما حكم به العقل من ذاتيّات القطع لايكفي في إثبات عدم إمكان الردع عنه، بل يجب أن يرى أنّ ما حكم به العقل، ويكون من ذاتيّات القطع، هل هو حجّيّة القطع المعلّقة على عدم الردع عنها، بحيث يكون الردع رافعاً لموضوع حكم العقل، أو هي الحجّيّة التنجيزيّة؟

فعلى الأوّل يصحّ الردع، وعلى الثاني لايصحّ الردع، وتعيين أحد الاحتمالين موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

وأمّا توضيحه على حدّ مصطلحاتنا، فهو: أنّ فرض مولويّة المولى هو فرض وجوب طاعته، فالردع عن ذلك ردع عن مولويّة المولى، وذلك مستحيل.

وهنا ـ أيضاً ـ نقول: إنّ صرف كون المولويّة عبارة عن استحقاق الطاعة لايكفي لإثبات عدم صحّة الردع، بل يجب أن يرى أنّ جوهر المولويّة هل هو عبارة عن حقّ الطاعة التنجيزيّ، أو عبارة عن حقّ الطاعة المعلّق على عدم إسقاطه؟ فعلى الأوّل لايقبل حقّ الطاعة الإسقاط، وعلى الثاني يقبل الإسقاط، من دون أن يستلزم ذلك إسقاط المولى نفسه عن المولويّة، كي يقال: إنّ هذا مستحيل. وتعيين أحد الاحتمالين هنا ـ أيضاً ـ موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

205

وأمّا الوجه الثالث: وهو كون إسقاط حجّيّة القطع نقضاً للغرض، فإن اُريد بالغرض الملاك الموجود في المتعلّق، رجع ذلك إلى الشقّ الأوّل من الوجه الأوّل، وهو: التضادّ بحسب عالم المبادئ.

وإن اُريد به الداعي إلى الجعل حيث يقال: إنّ المولى لو أراد الردع عن حجّيّة القطع بما أمر به، فما الذي دعاه إلى أصل الجعل؟!

قلنا: إنّ الداعي إلى أصل الجعل إنّما هو المحرّكيّة التي يقتضيها العقل، فيضيق ويتّسع بضيق تلك المحرّكيّة العقليّة وسعتها، فلو فرضنا أنّ تلك المحرّكيّة تعليقيّة، لم تكن مضادّة بين الداعي إلى الجعل والردع عن الحجّيّة، فلم يكن ذلك نقضاً للغرض، فلم يصحّ هذا الوجه على فرض تعليقيّة التحريك العقلىّ، كما لم يصحّ الوجه الثاني على هذا الفرض، أي: إنّ الوجهين متلازمان صحّة وبطلاناً. أمّا أنّ الصحيح هل هو تعليقيّة التحريك، أو تنجيزيّته؟ فقد مضى أنّ تعيين أحد الاحتمالين موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

أمّا الكلام في تحقيق أصل المطلب، فكما يلي:

إنّ غرض المولى تارة يفترض تعلّقه بحصّة خاصّة من الفعل، وهي: الإتيان به بداعي المحرّكيّة الشخصيّة على أساس حبّ العبد للمولى، لابداعي التنجيز العقلىّ، كما لو أراد المولى أن يمتحن عبده، ويرى أنّ حبّه له هل بلغ مرحلة تكفي لتحريكه للامتثال من دون تنجيز عقلىّ، أو لا؟

واُخرى يفترض تعلّقه بطبيعىّ الفعل من دون نظر إلى صدوره بالمحرّكيّة الشخصيّة أو المحرّكيّة المولويّة.

فإن فرض تعلّق الغرض بتلك الحصّة الخاصّة، كان إمكان إسقاط القطع عن الحجّيّة متوقّفاً على القول بتعليقيّة حقّ الطاعة، بمعنى كونه معلّقاً على عدم إسقاطه، فإن قلنا بتعليقيّة حقّ الطاعة، أمكن للمولى إسقاط القطع عن الحجّيّة بإسقاط حقّ الطاعة؛ كي يصبح أمره الإلزامىّ كالأمر الإلزامىّ الناشئ من قبل من لاتجب عقلاً طاعته على المأمور، وبذلك يجرّب المولى مدى حبّ العبد له، وأنّه هل بلغ حبّه إلى مستوىً يكفي

206

وحده لتحريك العبد نحو الامتثال، أو لا؟ وإن قلنا بتنجيزيّة حقّ الطاعة، لم يمكن ذلك(1).

وإن فرضنا تعلّق الغرض بطبيعىّ الفعل من دون نظر إلى صدوره بالتحريك الشخصىّ، أو التحريك المولوىّ، فهنا لايعقل الردع؛ لأنّ ردعه عن العمل بالقطع: إمّا أن يكون بالحكم النفسيّ، أو يكون بالحكم الطريقىّ:

أمّا الردع بالحكم النفسىّ، فغير معقول؛ لوقوع المضادّة بينه وبين الواقع من حيث المبادئ، وإنّما نحلّ هذا الإشكال في باب الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ باعتبار طريقيّة الحكم الظاهرىّ، وكونه ناشئاً بملاك التحفّظ على الواقع لابملاك نفسىّ، أمّا لو قيل: إنّ الحكم الظاهرىّ حكم نفسىّ، فلامفرّ من هذا الإشكال(2).


(1) الواقع: أنّ إسقاط حقّ الطاعة في المقام أو تعليقيّة حقّ الطاعة على عدم الإسقاط معقول بمعنى إسقاط الإلزام على نفس النسق المعقول في المستحبّات.

وتوضيح ذلك: أنّ هنا إشكالاً في تصوير الأمر غير الإلزامىّ الصادر عن المولى في المستحبّات، وهو: أنّه لماذا يجعل المولى أمره غير إلزامىّ؟ والجواب عنه (بأنّه إنّما جعله غير إلزامىّ لعدم بلوغ غرضه في الأهمّية إلى مستوى الإلزام) ربّما لايكفي في دفع الإشكال جذريّاً؛ إذ قد يقول القائل:

إنّ غرض المولى مهما كان ضئيلاً، فما دام تحقّقه خيراً من عدمه لاداعي لجعل الأمر به غير إلزامىّ، فلابدّ من تعميق الجواب بأن يقال:

إنّ غرض المولى قد تعلّق بالفعل، ومهما فرض ضئيلاً، ومعارضاً لمصلحة التسهيل مثلاً، فالمفروض أنّ الصعوبة الموجودة في الفعل على العبد لم تسقط الفعل ـ بالكسر والانكسار فيما بين المصالح ـ عن المحبوبيّة لدى المولى، وإلّا لما كان مستحبّاً أيضاً، ولكن يوجد في مقابل هذا الغرض غرض آخر للمولى متعلّق بعدم كون الأمر ملزماً، وهو غرض التسهيل، لابمعنى السهولة العمليّة للعبد بأن يترك الفعل لكون الترك أسهل من الفعل، بل بمعنى إعطاء الحرّيّة للعبد وعدم التضييق عليه بالإلزام، فالغرض الذي أوجب الأمر كامن في الفعل، والغرض الذي أوجب جعل الأمر غير إلزامىّ ليس كامناً في الترك كي يزاحم الغرض الأوّل ويسقطه، وإنّما هو كامن في كون العبد حرّاً في تصرّفه وعدم شعوره بالإلزام المولوىّ واللابدّيّة العقليّة، والجمع بين الغرضين يكون بإصدار الأمر غير الإلزامىّ، وما نحن فيه من هذا القبيل، فللمولى غرض متعلّق بالفعل، وفي نفس الوقت له غرض متعلّق بكون العبد حرّاً في تصرّفه، وأن لايشعر بالإلزام المولوىّ واللابدّيّة العقلّية، إلّا أنّه ليس هنا لأجل مصلحة التسهيل، وإنّما هو لأجل معرفة مدى تحرّك العبد بتحريك الحبّ وحده للمولى مثلاً، فالمولى ـ عندئذ ـ يصدر الأمر، ويجعله غير إلزامىّ، ويسمّى ذلك باسم إسقاط حقّ الطاعة، أو بأىّ اسم آخر.

(2) سيأتي في محله ـ إن شاء الله ـ أنّه بناءً على نفسيّة الحكم الظاهرىّ قد يدفع التضادّ بين المبدءين بافتراض أنّ الأمارة ليست سبباً لحدوث الملاك في نفس مصبّ ملاك الواقع، كي يقع التضادّ بينهما، بل هي سبب لحدوث الملاك في عنوان الانقياد.

إلّا أنّ هذا الوجه سواء تمّ هناك أو لم يتمّ لايعقل تطبيقه على المقام، إلّا بأن يحوّل إلى القول بأنّ ملاك الردع كامن في عدم الانقياد لمولويّة المولى، بمعنى عدم ثقل الكاهل بحقّ الطاعة، وهذا رجوع إلى الفرض الأوّل، وهو فرض تعلّق الغرض بحصّة خاصّة من الفعل، وهي: الحصّة التي لم تنشأ من التحريك المولوىّ.

207

وأمّا الردع بالحكم الطريقىّ، فغير ممكن؛ لأنّ الحكم الطريقىّ لايمكن أن يتنجّز على المكلّف بنفسه، وإنّما دوره هو دور تنجيز ما هو طريق إليه من الحكم الواقعىّ، والمفروض في المقام أنّ المكلّف قاطع بعدم وجود حكم واقعىّ يناسب تنجيزه بهذا الردع، فلايبقى أثر لهذا الحكم الطريقىّ.

وتوضيح ذلك:

أنّ الردع عن حجّيّة القطع بحكم طريقىّ لايخلو عن أحد فروض ثلاثة:

الأوّل: أن يفرض أنّ قطع المكلّف قد تعلّق بالإباحة، وأنّ المولى أراد ردعه عن حجّيّة القطع بإلزامه بفعل ما قطع بعدم وجوبه، أو ترك ما قطع بعدم حرمته؛ وذلك بملاك أنّ العبد يخطأ في بعض الأحيان في قطعه بالإباحة وعدم الإلزام؛ فحفاظاً على ملاك الواقع الكامن في موارد خطأ العبد حكم بعدم حجّيّة قطعه بنفي الإلزام حكماً طريقيّاً.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم الطريقىّ لا أثر له؛ إذ إنّه لايقبل التنجيز؛ لكونه طريقيّاً، ولايؤثّر في تنجيز الواقع؛ لأنّ المكلّف قاطع بعدمه.

فتبيّن: أنّ الردع عن معذّريّة القطع غير معقول بخلاف الردع عن معذّريّة الشكّ، فالردع عن معذّريّة الشكّ يكون بإيجاب الاحتياط إيجاباً طريقيّاً، أمّا الردع عن معذّريّة القطع لا يمكن أن يكون بحكم نفسىّ، ولابحكم طريقىّ، أمّا الأوّل، فلأنّه يؤدّي إلى التضادّ بين المبادئ، وأمّا الثانىّ، فلما قلنا: من أنّ هذا الحكم الطريقىّ لايقبل التنجيز؛ لكونه طريقيّاً، ولايؤثّر في تنجيز الواقع؛ لفرض القطع بعدمه.

الثاني: أن يفرض أنّ قطع المكلّف تعلّق بالإلزام، وأنّ المولى أراد إسقاط حجّيّة القطع بحكم طريقىّ؛ لعلمه بأنّ العبد قد يخطأ في قطعه، فيحصل له القطع بالإلزام في مورد لايوجد فيه الإلزام، ويفترض أنّ في التزام العبد بما تخيّله في موارد الخطأ من الإلزام مفسدة أكبر من المصلحة الكامنة في موارد عدم الخطأ، وهي مفسدة بروز الشريعة على شكل شريعة صعبة وغير سمحة مثلاً؛ فحذراً من هذه المفسدة الواقعيّة حكم المولى حكماً طريقيّاً بالردع عن حجّيّة قطع العبد بالإلزام.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم الطريقىّ لا أثر له؛ فإنّ هذا الترخيص في مخالفة القطع ترخيص اضطرارىّ بملاك التزاحم بين المصلحة في مورد والمفسدة في مورد آخر،

208

ودوران الأمر بينهما في كلّ ما قطع العبد فيه بالإلزام، ولكن المفروض أنّ العبد يقطع بعدم الدوران، وبأنّه قد ميّز موارد المصلحة من موارد المفسدة، فهو قادر على تحصيل كلا الغرضين، وفي هذا الفرض لايكون ترخيص المولى عذراً له.

الثالث: أن يفرض قطع المكلّف بالحكم الإلزامىّ في بعض الموارد، فى حين أنّه يكون الحكم في بعض موارد قطعه إلزاميّاً على عكس الإلزام الذي قطع به، بأن يكون بعض ما تخيّله واجباً محرّماً في الواقع أو بالعكس، فحرّم عليه المولى العمل بقطعه طريقاً للتحفّظ على الأحكام التي أخطأ العبد فيها.

وهذا الردع في الحقيقة له جانبان: جانب التنجيز للإلزام الذي قطع بخلافه، وجانب التعذير عن الإلزام الذي قطع به، والكلام في الجانب الأوّل هو الكلام في الفرض الأوّل، والكلام في الجانب الثاني هو الكلام في الفرض الثاني.

 

الفروع المُوهِمة للترخيص في مخالفة العلم

 

قد يذكر في المقام فروع يتخيّل فيها أنّ الشارع رخّص في مخالفة العلم بالحكم في تلك الفروع.

 

الفرع الأوّل: الدراهم عند الودعىّ

لو كان عند الودعىّ درهمان لزيد، ودرهم لعمرو، فُسرِق أحد الدراهم، فقد حُكِم بأنّ أحد الدرهمين يعطى لزيد، والآخر ينصّف بينهما. وهذا قد يؤدّي إلى مخالفة العلم التفصيلىّ، كما لو انتقل كلّ من النصفين إلى شخص، فاشترى بهما جارية، ووطأها.

أقول: تارة يقع الكلام في هذا الفرع من الناحية الفقهيّة، واُخرى من ناحية كونه نقضاً على حجّيّة القطع وعدم إمكانيّة الردع عنه.

أمّا الكلام من الناحية الفقهيّة، فتفصيله: أنّ هذه الدراهم تارة يفرض عدم معروفيّة ما كان منها لزيد، وما كان منها لعمروعلى أثر وقوع الخلط والامتزاج، واُخرى يفرض ذلك على أثر النسيان دون خلط أو امتزاج.

209

أمّا الفرض الأوّل: ففيه أقوال ثلاثة:

1 ـ إعطاء أحد الدرهمين لزيد، وتنصيف الآخر بينهما.

2 ـ تثليث الدرهمين، وإعطاء ثلثيهما لزيد، وثلثهما لعمرو.

3 ـ تشخيص مالك الدرهم الثاني بالقرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.

أمّا القول الأوّل: وهو التنصيف، فيدلّ عليه أمران:

الأوّل: رواية السكونىّ، لكنّها ساقطة عن درجة الاعتبار؛ لضعف السند(1).

الثاني: قاعدة العدل والإنصاف، والدليل عليها ـ على ما أفاده السيّد الاُستاذ ـ هو السيرة العقلائيّة الممضاة من الشارع.

ومُفادها ـ على ما يستفاد من كلماته ـ مجموع أمرين:

الأمر الأوّل: الحكم التكليفىّ، وهو: أنّه إذا دار الأمر في مال بين وصول نصفه فقط قطعاً إلى المالك، أو وصول تمامه احتمالاً إليه، فمقتضى السيرة العقلائيّة هو الأخذ بالثاني.

والآخر: الحكم الوضعىّ، وهو: ثبوت الملك ظاهراً لكلّ من النصفين لمن يعطى له. وذكر في المقام: أنّ تنصيف المال بينهما الموجب لوصول أحد النصفين إلى صاحبه وفوات النصف الآخر عليه، يكون نظير صرف الحاكم نصف المال حسبة، مقدّمة لإيصال النصف الآخر إلى مالكه.

ولعلّه يقصد بذلك مجرّد التنظير والتقريب إلى الذهن.

وعلى أيّ حال، فتارة تفترض دعوى السيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف. وحجّيّتها في باب القضاء، ولعلّه المقصود للسيّد الاُستاذ، كما يشهد لذلك تنظيره بمسألة اختيار الحاكم إيصال نصف المال بصرف النصف الآخر.

واُخرى تفترض دعوى السيرة على ذلك، وحجّيّة القاعدة في نفسها، وبغضّ النظر عن باب القضاء. ولاتلازم بين حجّيّة الشيء في نفسه، وحجّيّته في مقام القضاء والحكم، فاليمين ـ مثلاً ـ حجّة في مقام الحكم، وليس حجّة في نفسه، والاستصحاب حجّة في


(1) المقصود بذلك ما ورد في الوسائل ج 13 باب 12 من الصلح ص 171 عن السكونىّ عن الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) «في رجل استودع دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها، قال: يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين» والسند ضعيف بالنوفلىّ.

210

نفسه، وليس حجّة في مقام الحكم.

أمّا الدعوى الاُولى: وهي دعوى السيرة على قاعدة العدل والإنصاف في مقام فصل الخصومة، فإن ثبتت، لم تفدنا شيئاً؛ لأنّ هذه السيرة مردوعة بإطلاق الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ القضاء إنّما هو بالبيّنات والأيمان، فإنّها ناظرة إلى إسقاط كلّ ما يجعل فاصلاً للخصومة عدا البيّنة واليمين عن درجة الاعتبار، فلايمكن إثبات جواز فصل الخصومة بشيء آخر، إلّا بالنصّ الخاصّ، لا السيرة العقلائيّة(1).

وعلى أيّ حال، فلاحاجة لنا في باب فصل الخصومة إلى هذه السيرة؛ لدلالة النصّ الخاصّ على قاعدة العدل والإنصاف فيه، حيث ورد في فرض تعارض البيّنتين وعدم مرجّح لأحدهما على الاُخرى الحكمُ بالتنصيف(2).

ومقتضى الجمود على اللفظ هو الاقتصار في فصل الخصومة بهذه القاعدة على خصوص فرض تعارض البيّنتين المتساويتين، دون ما لم تكن هناك بيّنة أصلاً، لكن الظاهر عرفاً من الكلام: أنّ الحكم بالتنصيف يكون بنكتة أنّ البيّنتين بعد التعارض وعدم المرجّح كالعدم، فتتّجه حجّيّة هذه القاعدة في مقام فصل الخصومة حتّى مع عدم وجود البيّنة.

وأمّا الدعوى الثانية: وهي دعوى قيام السيرة على حجّيّة قاعدة العدل والإنصاف في نفسها، فهي ممنوعة بكلا جانبيها التكليفىّ والوضعىّ.

والحاصل: أنّ السيرة إن سلّمت، فإنّما تسلّم في مورد فصل الخصومة، ولاحاجة إليها هناك؛ للردع أوّلاً، وللنصّ الخاصّ ثانياً، ولاتسلّم في غير باب فصل الخصومة.


(1) قد يفسّر قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» على وفق مناسبات الحكم والموضوع بحصر أدلّة تشخيص الحقّ في باب الترافع بالبيّنة والأيمان، في حين أنّ قاعدة العدل والإنصاف لا تستعمل لتشخيص الحقّ، بل تستعمل بعد فرض تردّد الحقّ بين من يقسّم المال عليهم بالعدل والإنصاف.

(2) من قبيل ما ورد عن غياث بن إبراهيم بسند تامّ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، «أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دا بّة، وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» (الوسائل ج 18 باب 12 من كيفية الحكم، ح 3 ص 182) إلّا أنّه يوجد بهذا الصدد ـ أيضاً ـ ما دلّ على القرّعة، كما ورد بسند تامّ عن سماعة، قال: «إنّ رجلين اختصما إلى عليّ(عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقاما كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة... إلى أن قال: فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها» (المصدر نفسه ج 12 ص 185).

211

ونقول بعنوان بيان نكتة الفرق (إن وجدت سيرة في باب الخصومة)، لابعنوان إقامة البرهان: إنّ الفارق بين باب الخصومة وغيره هو: أنّ في ذاك الباب كان المطلوب فصل الخصومة ورفعهما، والتنصيف يصلح لذلك، فقامت السيرة على التنصيف. وهذا بخلاف فرض عدم الخصومة.

يبقى الكلام فيما هو الحكم بالنسبة إلى هذا المال في غير باب الخصومة، فنقول: تارة يفرض الكلام فيما هو حكم الشخص الثالث الذي بيده هذا الدرهم المردّد مالكه بين شخصين.

واُخرى يفرض الكلام بالنسبة إلى نفس الشخصين اللذين تردّد المال بينهما.

أمّا الكلام بالنسبة إلى الشخص الثالث، فقد يقال: إنّه يجب على هذا الودعيّ إيصال الدرهم إلى مالكه؛ لأدلّة وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها. وعليه يدور أمره بين الموافقة الاحتماليّة المقرونة بالمخالفة الاحتماليّة، وذلك بإيصال الدرهم إلى أحد الشخصين، وبين الموافقة القطعيّة في نصف الدرهم المقرونة بالمخالفة القطعيّة في النصف الآخر، وذلك بالتنصيف. وهنا يمكن أن يقال بلزوم اختيار الشقّ الأوّل؛ لوجهين:

الوجه الأوّل: ما هو المختار في سائر موارد العلمين الإجماليّين: من أنّه إذا دار الأمر بين الموافقة القطعيّة لأحدهما المقرونة بالمخالفة القطعيّة للآخر، وبين الموافقة والمخالفة الاحتماليّتين لهما، تعيّن الثاني؛ لأنّ العلم الإجمالىّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، دون وجوب الموافقة القطعيّة؛ وذلك بنكتة تعلّق العلم بالجامع، فيجب امتثاله، ويكفي في إيجاد الجامع إيجاد أحدهما(1).

ويرد عليه: أنّ تعلّق العلم بالجامع الذي نسبته إلى كلا الطرفين على حدّ سواء إنّما هو فيما نسمّيه بالعلم الإجمالىّ البسيط، كما لو علمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة. أمّا فيما نسمّيه بالعلم الإجمالىّ المعقّد، وهو ما علم فيه بتعلّق التكليف بالشيء بالإضافة إلى


(1) لعلّ مقصوده (رضوان الله عليه) من كون المختار علّيّة العلم الإجمالىّ لحرمة المخالفة القطعيّة، كونه مختاراً له على المبنى المشهور: من علّيّة البيان للتنجيز ولو كان إجماليّاً، وإلّا فسيأتي منه أنّ المختار ـ بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ هو اقتضاء العلم الإجماليّ البسيط حرمة المخالفة القطعيّة فحسب، ووجوب الموافقة القطعيّة ـ أيضاً ـ في العلم الإجماليّ المعقّد. وبناءً على إنكار تلك القاعدة يكون مقتضياً لحرمة المخالفة القطعيّة، ولوجوب الموافقة القطعيّة مطلقاً.

212

عنوان، كوجوب إكرام العالم بما هو عالم، وكان التردّد في انطباق هذا العنوان على هذا الطرف أو ذاك الطرف، كما لو علمنا إجمالاً بعالميّة أحد الشخصين، فهنا ليس العلم متوقّفاً على الجامع الذي نسبته إلى الطرفين على حدّ سواء، بل نفذ العلم بالتكليف إلى عنوان (إكرام العالم)، ومن الواضح أنّه ليست نسبة ذلك إليهما على حدّ سواء، وإنّما تردّدنا نحن في انطباقه. فما تنجّز بالعلم إنّما هو إكرام العالم، وهو أكبر من الجامع الذي يعبّر عنه بمثل أحدهما. وسيأتي في محله ـ إن شاء الله ـ تفصيل الكلام في الفرق بين القسمين. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ وجب ردّ المال إلى المالك بما هو مالك، وتردّد لدينا انطباقه بين هذا وذاك.

الوجه الثاني: أنّه على رغم نفوذ العلم بالوجوب إلى ردّ المال إلى المالك بما هو مالك ـ ولذا لم نقبل بالوجه الأوّل ـ يمكن الترخيص في مخالفة ذلك مخالفة احتماليّة، ولايمكن الترخيص في مخالفتها مخالفة قطعيّة ولو في أحد النصفين؛ وذلك لأنّ الترخيص في المخالفة الاحتماليّة حكم ظاهرىّ قابل للجمع مع الحكم الواقعىّ بوجه يجمع به بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، أمّا الترخيص في المخالفة القطعيّة، فغير ممكن. فلابدّ من إرجاعه إلى تقييد الواقع؛ إذ يشترط في الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ عدم القطع بمخالفته للواقع، فإطلاق دليل الحكم الواقعىّ يطرد الترخيص في المخالفة القطعيّة(1).

إلّا أنّ تمام ما ذكرناه إلى هنا كان مبنيّاً على دعوى وجوب إيصال المال إلى مالكه على هذا الودعىّ.

لكن التحقيق: أنّه لادليل على وجوب ذلك عليه، بل إنّما يجب عليه التخلية بين المال ومالكه، بأن يقول لهما ـ مثلاً ـ: كلّ من كان منكما مالكاً لهذا المال، فليأخذه. وأمّا وجوب


(1) لعلّ هذا ـ أيضاً ـ مبنىّ على مبنى القوم: من أنّ العلم الإجمالىّ كالتفصيلىّ في علّيّته للتنجيز، ولكن مع ذلك يمكن الترخيص في المخالفة الاحتماليّة في مورد العلم الإجمالىّ، كما رخّص فيها في مورد العلم التفصيلىّ بمثل قاعدة الفراغ وغيرها.

إلّا أنّ الواقع: أنّ نفس النكتة التي جعلت الترخيص في المخالفة الاحتماليّة جائزاً في مورد العلم الإجمالىّ والتفصيلىّ، جعلت الترخيص في المخالفة القطعيّة في مورد العلم الإجماليّ جائزاً أيضاً، وسيأتي منه(رحمه الله)منع كون العلم الإجمالىّ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة. وتفصيل الكلام يتّضح في الأبحاث الآتية في محلّها إن شاء الله.

213

إيصال المال إلى المالك، فلادليل عليه سوى أمرين:

أحدهما: قاعدة على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.

والصحيح: أنّ عمدة الدليل عليها هي السيرة العقلائيّة، وهي لاتقتضي فيما نحن فيه أكثر من التخلية بالشكل الذي أشرنا إليه.

وثانيهما: دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها.

والتحقيق: أنّه ليس المستفاد منه عرفاً لزوم الإيصال؛ ولذا لم يفت الفقهاء بأنّه يجب على الأمين حمل المال إلى باب دار صاحبه، وإنّما قالوا بوجوب التخلية عليه، وهذا هو المفهوم عرفاً من دليل ردّ الأمانات. والتخلية بين المال والمالك ـ بمعنى رفع المانع من ناحية نفسه عن أخذ المالك ـ تحصل برفع الحاجب بين المال وكلا هذين الشخصين.

نعم، لايحصل بذلك رفع مانع احتمال مالكيّة ذاك الشخص الآخر الذي ليس في الحقيقة مالكاً، لكنّه لايقدر على رفع هذا المانع حتّى يجب عليه، إلّا بأن يقرّ بعدم مالكيّة الشخص الآخر، فيكون إقراره حجّة من باب حجّيّة إقرار ذي اليد، ولكن لايجوز له هذا الإقرار؛ لفرض كونه شاكّاً. بل لو فرض إمكان رفع هذا المانع، لم يجب ـ أيضاً ـ رفعه؛ إذ دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها لايدلّ على وجوب التخلية بمعنىً يشمل ذلك، وإنّما يدلّ على وجوب التخلية بمعنى رفع المانع من قبله فقط(1).

وأمّا الكلام بالنسبة إلى من تردّد بينهما المال: فلو أرادا الصلح، أو رفع أحدهما أو كلاهما اليد عن المال، فلاكلام، وإلّا فإن كان كلّ منهما يدّعي القطع بأنّه المالك، خرجت


(1) بل الظاهر: أنّ المفهوم منه أكثر من هذا، فلو كان يعلم أنّ هذا المال لزيد، وليس لعمرو، لم يكن يكفي بأن يخلّي بين هذا المال وبينهما، ويبقيهما حائرين بشأن هذا المال، بل كان عليه أن يشهد بالواقع. وشأن السيرة العقلائيّة على قاعدة اليد ـ أيضاً ـ كذلك.

نعم، في خصوص ما نحن فيه ـ باعتباره غير قادر على شهادة من هذا القبيل إلّا بأن يشهد بغير علم ـ لايفهم عرفاً من دليل وجوب ردّ الأمانات إلى أهلها وجوب الشهادة بغير علم عليه، فيكتفي بالتخلية بين المال وبينهما.

نعم، لو كان كلّ منهما مصمّماً على أن يستأثر بالمال، فالتخلية بين المال وبينهما (لا بينه وبين المالك) إيجاد للحاجب عن المال، ومعه لاتتمّ التخلية الواجبة في الحالات الاعتياديّة، لكن في فرض الشكّ والتردّد بينهما لادليل على وجوب التخلية بالمعنى الشامل؛ لعدم إيجاد حاجب من هذا القبيل، لامن السيرة العقلائيّة، ولامن دليل ردّ الأمانات إلى أهلها. أمّا السيرة العقلائيّة، فلعدم ثبوتها على ذلك في مثل المقام، وأمّا دليل ردّ الأمانات، فهو ـ أيضاً ـ ينصرف عن ذلك في مثل المقام بالمناسبات العقلائيّة.

214

المسألة عمّا نحن فيه، وعليهما أن يرفعا النزاع إلى الحاكم، وقد مضى أنّ الحاكم يحكم بقاعدة العدل والإنصاف، وإن كان كلّ منهما يحتمل كون المال له، فبعد ما عرفت من عدم حجّيّة قاعدة العدل والإنصاف في غير باب الحكومة، لايبقى شيء عدا القرعة، وتصل النوبة إليها.

وأمّا القول الثاني: وهو التثليث، فمنشؤه القول بحصول الشركة بالامتزاج، وهل هذه الشركة ظاهريّة، أو واقعيّة؟ فمقتضى كلام صاحب الجواهر(رحمه الله) أنّها ظاهريّة، والذي حمله على المصير إلى ذلك ما تسالموا عليه من كون الامتزاج موجباً للشركة من ناحية، ومن كون عقد الشركة موجباً للشركة ـ أيضاً ـ مشروطاً بالامتزاج من ناحية اُخرى.

فيرد الإشكال: بأنّ الامتزاج لو كان وحده موجباً للشركة، فافتراض كون عقد الشركة مشروطاً بالامتزاج موجباً للشركة ضمّ للحجر في جنب الإنسان. ففراراً من هذا الإشكال افترض أنّ الامتزاج إنّما يولّد الشركة الظاهريّة، في حين أنّه لو انضمّ إليها العقد، أصبحت الشركة واقعيّة.

أقول: إنّ كون الشركة ظاهريّة فيما نحن فيه غير متصوّر؛ إذ لو لم يكن الامتزاج موجباً للشركة الواقعيّة، إذن نحن نعلم بأنّ كلّ مال قد بقي في ملك مالكه، ومعه كيف نفترض الشركة الظاهريّة؟ ولامجال للحكم الظاهرىّ مع القطع بالخلاف!!

والواقع: أنّ دليله على كون الامتزاج شرطاً لحصول الشركة بالعقد هو الإجماع، ونحن لانراه في المقام بنحو يكشف عن رأي المعصوم. وتحقيق المقياس في ذلك يرجع إلى بحث الإجماع.

والدليل الصحيح على كون الامتزاج موجباً للشركة هو السيرة العقلائيّة، وهي لم تثبت في مطلق الامتزاج، وإنّما ثبتت فيما إذا كان الامتزاج بين الشيئين بنحو يأبى العرف عن كون المركّب موضوعين لحكمين بالملكيّة، كما في امتزاج الماء بالماء، أمّا امتزاج الدرهم بالدرهم، فليس كذلك. وحتّى لو كان دليلنا على الشركة هو الإجماع، فالقدر المتيقّن منه هو الامتزاج بالشكل الأوّل.

ومن هنا ينحلّ الإشكال الموجود في الجمع بين الفتوى بكون الامتزاج موجباً للشركة، والفتوى بكون تأثير العقد في إيجاد الشركة مشروطاً بالامتزاج ـ لو سلّمنا

215

الاعتماد على الإجماع المستدلّ به في المقام ـ وذلك لأنّ الامتزاج الموجب للشركة إنّما هو الامتزاج بالنحو الأوّل، سنخ امتزاج الماء بالماء، والقدر المتيقّن من اشتراط الامتزاج في نفوذ عقد الشركة هو أدنى مراتب الامتزاج الثابت في مثال الدرهم؛ لأنّ الدليل على اشتراط الامتزاج ليس لفظيّاً، وإنّما هو دليل لبّىّ لابدّ فيه من الاقتصار في مقام تقييد إطلاقات نفوذ عقد الشركة على القدر المتيقّن.

وأمّا القول الثالث: وهو تحكيم القرعة، فقد ظهر حاله ممّا سبق؛ فإنّه إن اُريد القرعة بمعنى حكم القاضي بذلك، فقد عرفت أنّ القاضي يجب أن يحكم بقاعدة العدل والإنصاف، بحكم النص، وإن اُريد القرعة بالنسبة إلى الشخص الثالث الودعىّ، فقد عرفت أنّه ليس عليه سوى التخلية بينهما وبين المال، وإن اُريد القرعة بالنسبة إلى نفس الشخصين الشاكّين، فقد عرفت صحّتها في ذلك.

وأمّا الفرض الثاني: وهو كون الاشتباه بسبب النسيان من دون أىّ خلط وامتزاج في المقام، فهذا حاله حال الفرض الأوّل في تمام ما مضى، عدا أنّ القول الثاني ـ وهو الشركة ـ لا مجال لتوهّمه هنا.

هذا تمام الكلام في هذا الفرع من الناحية الفقهيّة.

وأمّا افتراضه نقضاً على حجّيّة القطع وعدم الردع عنها، فخلاصة الكلام في ذلك:

أنّه بناءً على القول الثالث ـ وهو القرعة ـ لاتوجد في المقام مخالفة للعلم كما هو واضح. وكذلك الحال بناءً على القول الثاني، وهو الشركة؛ لما عرفت من أنّ الحقّ هو أنّ الشركة واقعيّة لاظاهريّة.

وأمّا بناءً على التنصيف لقاعدة العدل والإنصاف، فهنا قد يؤدّي العمل بآثار القاعدة إلى الانتهاء إلى مخالفة العلم، كما لو وقع النصفان في يد شخص ثالث، فهو يعلم إجمالاً بعدم مالكيّته لهما، وكما لو اشترى بهما جارية، فهو يعلم تفصيلاً بعدم الملكيّة المستقلّة، وحرمة الوطء.

لكنّنا نلتزم في مثل هذه الموارد بحرمة المخالفة، ونقتصر في مقام العمل بقاعدة العدل والإنصاف وترتيب آثارها على ما لايلزم منه مخالفة العلم بعد ثبوت منجزيّة العلم خصوصاً فيما إذا كان دليل القاعدة خصوص السيرة؛ فإنّ ثبوتها على ترتيب مثل هذه الآثار ممنوع.

216

الفرع الثاني: اختلاف المتبايعين في أحد العوضين

نبحث في هذا الفرع فيما لو وقع الخلاف في الثمن أو المثمن، كما لو قال البائع: بعتك كتاب الجواهر بعشرة دراهم، وادّعى المشتري: أنّك بعتني كتاب الحدائق بهذا الثمن، ولم يكن لأحدهما بيّنة، فالمورد مورد التحالف. فإن حلفا، حكم الحاكم للبائع بالكتابين، وللمشتري بالثمن. فلو وقع الكتابان في يد ثالث، علم إجمالاً بعدم مالكيّته لهما، ولو اشترى بهما جارية، علم تفصيلاً بعدم مالكيّته لها بالاستقلال، وعدم حلّيّة الوطء.

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّه مع التحالف إمّا أن نقول بالانفساخ الواقعىّ، أو الظاهرىّ. فإن قلنا بالأوّل، فلا إشكال في المقام، وإن قلنا بالثاني، فإن كفى تصرّف ذي اليد ظاهراً في جواز تصرّف غيره واقعاً، فلا إشكال أيضاً، وإلّا التزمنا بلزوم اجتناب الشخص الثالث.

أقول: تارة يقع الكلام في التحالف.

واُخرى في الانفساخ الظاهرىّ.

وثالثة في الانفساخ الواقعىّ.

ورابعة في النقض بالمسألة على حجّيّة القطع.

أمّا الأوّل: وهو ثبوت التحالف هنا وعدمه، فهو مبتن على تحقيق نكتة في بحث القضاء، وهي: أنّه لا إشكال في أنّ البيّنة على المدّعي، والحلف على المنكر. فالتحالف إنّما يكون فيما لو كان كلّ منهما منكراً بلحاظ، أمّا إذا كانا مدّعيين من دون أن يصدق عليهما عنوان المنكر، فلامعنىً للتحالف.

ولا إشكال في أنّ كلّ واحد منهما منكر في ذاته، أي: إنّه ينكر بيع أحد الكتابين، وهو يطابق أصالة عدم البيع، إلّا أنّ هذا الأصل معارض للأصل في دعوى الطرف الآخر. فإن قلنا: إنّ المقياس في الإنكار هو مطابقة الكلام للأصل، أو الدليل في ذاته، وبغضّ النظر عن المعارض الذي قد يثبت في دعوى الطرف الآخر، إذن فكلّ منهما مدّع ومنكر، ويجري التحالف.

وإن قلنا: إنّ المقياس في الإنكار هو المطابقة للأصل، أو الدليل الذي يكون حجّة بالفعل، ولا تكفي الحجّيّة الشأنيّة ـ أي: الحجّيّة لولا المعارض ـ إذن فهما مدّعيان، ولامجال للتحالف. والمختار في باب القضاء ـ على ما أتذكّر ـ هو الأوّل، فكلّ منهما مدّع ومنكر. والخصومة في الحقيقة منحلّة إلى خصومتين بعدد البيعين اللذين اختلفا بينهما،

217

فكلّ منهما مدّع في إحدى الخصومتين، ومنكر في الاُخرى. ومن هنا يأتي التحالف.

وأمّا الثاني: وهو الانفساخ الظاهرىّ هنا ـ لو أنكرنا الانفساخ الواقعىّ ـ فمستحيل؛ للعلم بمخالفته للواقع. فإن كان هناك انفساخ، فهو الانفساخ الواقعىّ(1).

وأمّا الثالث: فيمكن الاستدلال على الانفساخ الواقعىّ في مطلق موارد التحالف في باب التنازع في المعاملات بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ نفس التحالف يقتضي الانفساخ، من ناحية أنّ التحالف إنّما ثبت في باب القضاء لإنهاء الخصومة، ولو لم تنفسخ المعاملة، تكون الخصومة ثابتة على حالها.

ويرد عليه: أنّ إنهاء الخصومة في باب القضاء ليس بمعنى رفع موضوع الخصومة، بل بمعنى: أنّ حكم الحاكم يفرض عليهما ترك التخاصم، أي: لايجوز لأحدهما أن يخاصم الآخر، ويجب عليه السكوت والصبر حتّى لو علم بأنّه حكم عليه حكماً غير مطابق للواقع، وأنّه هو على الحقّ. فلو حكم عليه ـ مثلاً ـ بأنّ المال المتنازع فيه لصاحبه، لم يجز له أن يسرقه من صاحبه لعلمه بأنّه له، وأمّا انتفاء أصل منشأ الخصومة، فليس هو المقصود من قوانين باب الترافع.

الوجه الثاني: تطبيق قانون (تلف المال قبل قبضه من مال بائعه) على المقام، بدعوى أنّ من كانت دعواه غير مطابقة للواقع، فقد عجّز الآخر عن أخذ ماله ومطالبته به؛ إذ بحكم الحاكم قد حرم عليه مطالبته بالمال، وهذا بحكم تلف المال عليه، والتلف قبل القبض من مال البائع.

وقد فسّروا هذه القاعدة بالانفساخ.

ويرد عليه: أنّه لو سلّم(2) ذلك، فهو لايعمّ مطلق موارد التحالف في باب المعاملات؛ لثبوت القاعدة بنصّ خاصّ في باب البيع قبل القبض. وربّما يكون الترافع في غير البيع، وربّما يكون بعد القبض.

الوجه الثالث: أنّ المعاملة تنفسخ بعد التحالف؛ للغويّة بقائها؛ لعدم ترتّب فائدة عليها عندئذ.


(1) قد يقصد بالانفساخ الظاهرىّ نفي تحقّق كلّ واحد من البيعين ظاهراً. واحتمال مطابقة كلّ من الحكمين للواقع موجود، وإن علم إجمالاً بمخالفة أحدهما له.

(2) ولانسلّمه.

218

ويرد عليه: أنّه تترتّب على بقائها عدّة ثمرات(1): منها أنّه لو اهتدى بعد ذلك من كان على خطأ، وأقرّ بالحقّ، أعطى مال صاحبه لصاحبه، وأخذ ماله. وهذا بخلاف فرض الانفساخ.

والتحقيق: أنّه لاوجه للقول بالانفساخ بقول مطلق في تمام موارد التحالف في المعاملات. نعم، نثبت فيما نحن فيه الانفساخ بمقدّمتين:

الاُولى: أنّ من كان محقّاً منهما قد حصل له خيار تخلّف الشرط الضمنىّ؛ لأنّه انحرم من ماله بحكم الحاكم بسبب دعوى صاحبه، والمعاملة تشتمل على شرط ضمنىّ للتسليم والخيار(2) في فرض عدم التسليم، فكلّ واحد منهما بحسب دعواه يكون ذا خيار على أساس عدم تسليم صاحبه العوض.

الثانية: أنّ الظاهر عرفاً من هذه الدعوى والمرافعة: هو عدم رضا كلّ واحد منهما بالمعاملة إن لم يثبت مقصوده(3).

وهذا كاف في حصول الانفساخ عند جواز الفسخ، سنخ ما قال الفقهاء: من أنّ إنكار الوكالة فسخ لها، وإنكار الطلاق رجوع إلى الزوجيّة. وعليه فكلّ واحد منهما يكون بحسب دعواه فاسخاً. هذا حالهما.

وأمّا حال الشخص الثالث، فهو يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما ذوخيار، وإنّ صاحب الخيار قد فسخ المعاملة، فيجوز له شراء كلا الكتابين.

وأمّا الرابع: فقد ظهر أنّه لامجال للنقض بهذه المسألة على حجّيّة القطع؛ لتحقّق الانفساخ واقعاً.

وأمّا لو أنكر ما مضى من الظهور العرفىّ، فمن الممكن لهما حلّ الإشكال بالفسخ،


(1) على أنّ مجرّد عدم ترتّب الثمرة على البقاء لامسّوغ لإيجابه للانفساخ، غاية ما هنا أنّه لايمكن ـ أيضاً ـ نفي الانفساخ بالاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب مشروط بالثمرة العمليّة.

(2) الشرط الضمنىّ ليس منصبّاً على الخيار، بل هو منصبّ على التسليم، ومع عدمه يحصل خيار تخلّف الشرط.

(3) بل الظاهر من ذلك: إنّما هو عدم رضا كلّ واحد منهما بالمعاملة التي يدّعيها الآخر لو كانت حقّاً، أي: إنّ إنكار تلك المعاملة يدلّ على عدم الرضا بها، سنخ ما قالوا في إنكار الوكالة وإنكار الطلاق. أمّا عدم الرضا بالمعاملة التي يدّعيها هو ـ لو كانت حقّاً ـ لمجرّد أنّها لم تثبت بحكم الحاكم، فلاموجب لاستظهاره. نعم، يمكن أن يقال: إنّ ظاهر الحال عدم رضا أىّ واحد منهما بمعاملة حجر فيها شرعاً عن التصرّف فيما انتقل إليه.

219

بعد ما عرفت من ثبوت الخيار.

فإن فسخا، لم يبق إشكال في المقام، وإن لم يفسخا، التزمنا بعدم جواز مخالفة القطع، وحرمة تصرّف الثالث، ومحظوريّة وطء الجارية المشتراة بهما(1).

 

الفرع الثالث: العلم الإجمالىّ بالجنابة

لو علم شخصان إجمالاً بجنابة أحدهما، أجرى كلّ واحد منهما أصالة عدم الجنابة بشأن نفسه مع أنّ هذا قد يوجب مخالفة العلم كما لو اقتدى أحدهما بالآخر.

أقول: نحن لا نكتفي بقولنا: (لا يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر للزوم مخالفة العلم)(2)، بل نقول: لاتجري أصالة عدم الجنابة بشأن أىّ واحد منهما عند كون طهارة


(1) لا أدري لماذا فرض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) الإشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث، في حين أنّه يوجد لنفس المشتري ـ بعد فرض علمه إجمالاً بتحقّق أحد البيعين ـ العلم التفصيلىّ بأنّ الثمن ليس له؟! فإن حلّ إشكاله بوجه من الوجوه، لم يبق إشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث، وإلّا فأصل الإشكال يكون بالنسبة إلى المشتري بلحاظ مخالفة العلم التفصيلىّ، وبالنسبة إلى البائع بلحاظ الكتاب الذي يعلم أنّه قد خرج من ملكه.

والواقع: أنّ القاضي لو علم بتحقّق أحد البيعين، وقلنا: إنّ علمه بهذا الموجب للتعارض بين أصالة عدم تحقّق هذا البيع وأصالة عدم تحقّق ذاك البيع يوجب عدم التحالف؛ لسقوط الأصلين، لوصلت النوبة إلى الحكم بالقرعة، ومعه لا إشكال في المقام بالنسبة إلى الشخص الثالث. وأمّا بالنسبة إلى البائع لو خرجت القرعة على خلاف ما يعتقد، فلا إشكال عليه في تصرّفه في الثمن؛ لأنّه ملكه على كلّ حال، ولا في الكتاب الباقي لديه حتّى لو كان أغلى قيمة من الكتاب الذي أخذ منه؛ لأنّ صاحبه راض بخسارة هذا الكتاب لقاء حصوله على ذاك الكتاب، وهذا كاف في أن يحقّ له التملّك وسقوط احترام يد صاحبه بهذا المقدار، أمّا لو لم يكن أغلى،فمن الواضح أنّه يحقّ له تملّكه بالتقاصّ، وكذا الحال بالنسبة إلى المشتري في تصرّفه في الكتاب الذي اُعطي له لو خرجت القرعة على خلاف ما يعتقد.

أمّا لو لم يعلم القاضي إجمالاً بصدق إحدى الدعويين، أو علم بذلك، ولكن مع هذا حكمنا بالتحالف، فالقاضي يحكم بنفي كلّ واحد من البيعين على وفق الحلف، وهذا نفي ظاهرىّ للبيع، وبعد ذلك سيكون للمحقّ خيار الفسخ، فإن فسخ، لم يبق إشكال في المقام، وإن لم يفسخ، كان من حقّه التصرّف في المال وتملّكهبعد أن كان صاحبه يرضى بهذا في مقابل أن يتمكّن من المال الآخر؛ إذ قد أسقط احترام يده بهذا المقدار. فإن تملّك، ارتفع الإشكال عن التصرّفات الموقوفة على الملك أيضاً، وإلّا فالإشكال يبقى بلحاظ التصرّفات الموقوفة على الملك. أمّا إذا باعه، فظاهر البيع أنّه تملكه، وهذا حجّة للشخص الثالث باعتباره يأخذ المال من يد ذي اليد.

(2) قد يقال: إنّ صحّة الصلاة ظاهراً للإمام تكفي للصحّة الواقعيّة لصلاة المأموم، فلامخالفة للعلم.

والجواب: أنّ صحّة الصلاة ظاهراً للإمام إنّما تكفي في الموارد المتعارفة للصحّة الواقعيّة لصلاة المأموم