490

فتحصل: أنّ مشكلة الحمل واردة على هذا القول، ولا يمكن دفعها بكلا الجوابين. هذا.

مضافاً إلى أنّه يرد على هذا القول ما نقلناه عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في مقام الإشكال على أخذ النسبة في مدلول المشتقّ من أنّ النسبة إذا كانت مأخوذة من دون الذات، لزم تقوّمها بطرف واحد، وهو الحدث، مع أنّ النسبة متقوّمة بطرفين ولا يعقل تقوّمها بطرف واحد. وهذا الكلام قد أصلحناه سابقاً وقلنا: لا ينبغي أن يكون المراد: كون النسبة بواقعها متقوّمة بطرفين، وإنّما ينبغي أن يراد أنّ النسبة بلحاظ مرحلة مدلول الكلام يجب أن تتقوّم بطرفين حتّى يكون الكلام تامّاً ومستقرّاً، فلو كان «ضارب» يعطي معنى المبدأ والنسبة فحسب لكان الكلام بحسب عالم الدلالة ناقصاً، ففي قولنا: «رأيت ضارباً» يلزم أن يكون الكلام ناقصاً، وهذا خلاف الوجدان، فإنّ معنى «ضارب» سنخ معنىً لا يحتاج إلى متمّم ومكمّل كما هو الحال في «ضَرَب» المحتاج إلى الفاعل دائماً لدلالته على الحدث والنسبة فحسب، إذن فضارب: إمّا لم تؤخذ فيه النسبة، أو اُخذت فيه النسبة مع الذات.

 

تحقيق القول الرابع:

وأمّا القول الرابع: وهو التركب من الذات والحدث ونسبة بينهما، فالكلام فيه يقع في مقامين:

1 ـ فيما يدّعى برهاناً على هذا القول.

2 ـ فيما يدّعى برهاناً على نقض هذا القول وإبطاله.

أمّا المقام الأوّل: فحاصل ما برهن به أصحاب هذا القول عليه هو: أنّ المشتقّ يجب أن يغاير مفهومه مفهوم المصدر؛ لأنّ العلم مثلاً لا يصحّ حمله على الذات، وهو برهان التغاير مع الذات، والعالم يصحّ حمله على الذات، وهو برهان الاتّحاد

491

معها، والمغاير غير المتّحد.

وهذا البرهان بهذا البيان اندفع بما ذكرناه في توضيح وتحقيق تفسير المحقّق النائينيّ(رحمه الله) للابشرطيّة والبشرط لائيّة، حيث قلنا: يمكن انحفاظ مفهوم واحد يطرأ عليه لحاظان، بأحد اللحاظين يصحّ الحمل وباللحاظ الآخر لا يصحّ، وبرهنّا على ذلك بمثال الشيء والشيئيّة، حيث وضّحنا: أنّهما يعطيان مفهوماً واحداً ومع ذلك يصحّ حمل شيء على الذات دون الشيئيّة، وقلنا: إنّ هذين اللحاظين والاعتبارين عبارة عن النظر الجمعيّ والنظر التحليليّ.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّنا لو تكلّمنا بمنظار الدقّة والواقع، فقد لا يكون هذا البرهان المُقام على القول الرابع تامّاً في شيء من المشتقّات أصلاً، ذلك أنّ المشتقّات المحمولة على الذوات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ ما يكون مبدؤه ذاتيّاً بمعنى الذاتيّ في كتاب الكلّيّات، بأن يكون نوعاً أو جنساً أو فصلاً كما في «زيد انسان» فمبدؤه الجعليّ وهو الإنسانيّة ذاتيّ في كتاب الكلّيّات لزيد.

2 ـ أن يكون مبدؤه ذاتيّاً في كتاب البرهان، أي، من لوازم الذات بلا حاجة إلى ضمّ أمر خارج إليها، وذلك من قبيل: الشيئيّة التي هي من لوازم زيد.

3 ـ أن يكون المصدر أمراً عرضيّاً، أعني: أنّه يحتاج إلى ضمّ أمر خارجيّ كما في العلم والبياض ونحو ذلك من الأعراض الحقيقيّة، ففرضه في زيد يحتاج إلى ملاحظة أمر خارج عن زيد فرض وجوده فيه.

فالقسم الأوّل لا إشكال في أنّ المبدأ فيه عين الذات، والقسم الثاني أيضاً عين الذات باعتباره أمراً منتزعاً عن الذات بلا ضمّ أمر خارجىّ، فوجوده بعين وجود منشأ انتزاعه وهو الذات. وأمّا القسم الثالث فقد مضى: أنّه لا برهان على مغايرته

492

للذات، فبالمنظار الدقّىّ لعلّ المبدأ بجميع أقسامه عين الذات، ولكن قلنا: إنّه بالنظر العرفىّ والفطرىّ لا إشكال في أنّ الأعراض الحقيقيّة مغايرة وجوداً للذات، فالعلم والبياض ونحو ذلك وجود، والذات وجود آخر، وحيث إنّ اللغة بنت العرف والفطرة لا بنت الفلسفة والدقّة، إذن فيحتاج تصحيح الحمل على الذات إلى أن يؤخذ في المشتقّ مفهوم الشيء الذي هو ذاتىّ في كتاب البرهان، أو مصداق الشيء الذي هو ذاتىّ في كتاب الكلّيّات، وبهذا يتمّ البرهان بمنظار العرف وعلى مستوى الإدراك الفطرىّ، حيث إنّ المشتقّ كثيراً ما يكون مبدؤه من القسم الثالث كما في عالم وعادل وأبيض وغير ذلك. نعم قد يكون المشتقّ أيضاً من القسم الثاني كما في الممكن الذي مبدؤه الإمكان، ولكن حيث إنّ وضع الهيئة الاشتقاقيّة نوعيّ فبشكل عامّ قد اُخذ مفهوم «شيء» أو نحوه في المشتقّ، حيث نحتاج إلى أخذ ذلك في موارد القسم الثالث، ولا يضرّنا ذلك في موارد القسم الثاني(1) وبهذا يحصل الاتّحاد مع الذات في موارد القسم الثالث، فيصحّ حمل المشتقّ فيها على الذات، ولكن لا يصحّ حمل المبدأ فيها عليها؛ لعدم الاتّحاد، وأمّا في القسم الأوّل والثاني فالاتّحاد ثابت في المبدأ أيضاً، إلاّ أنّه يصحّ الحمل فيهما على الذات في المشتقّ دون المبدأ من باب اختلاف اللحاظ بالنظر الجمعىّ والنظر التحليلىّ الذي مضى بيانه.

وأمّا المقام الثاني: ففي توضيح البرهان المدّعى على عدم إمكان أخذ الذات في مدلول الهيئة الاشتقاقيّة يقسّم عادة أخذ الذات فيه إلى فرضين:

1 ـ أخذ مفهوم الشيء في مدلول المشتقّ.


(1) وكذلك في موارد القسم الأوّل لو وجدنا فيها مشتقّاً حقيقيّاً كما لو فرضنا أنّ الناطق كذلك.

493

2 ـ أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتقّ. والمقصود من مصداق الشيء ما هو معروض المبدأ حقيقيةً، ففي «ضاحك» يؤخذ الإنسان، وفي «صاهل» يؤخذ الحصان وهكذا. ثُمّ يُبدأ بكلّ واحد من الاحتمالين، فيبرهن على عدم صحّته حتّى يتمّ البرهان على عدم أخذ الذات في مدلول الهيئة، فالكلام إذن يقع أوّلاً في أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ، وثانياً في أخذ مصداقه فيه.

أمّا الأوّل: وهو أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ، فقد بُرهن على استحالته ببرهان مأخوذ من بعض كلمات المحقّق الشريف(رحمه الله) في تعليقته على شرح المطالع، وهو: أنّه قد يكون المشتقّ فصلاً كناطق، فلو اُحذ مفهوم الشيء فيه لزم دخول العرض العامّ في الذاتيّ؛ لأنّ مفهوم الشيء عرض عامّ والفصل ذاتيّ، فلزم تقوّم الذاتيّ بالعرض.

وهذه الصيغة للبرهان ناقشها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) مع تسليمه لجوهر البرهان بأنّ الأفضل تبديل هذه الصيغة بصيغة اُخرى، وذلك بأن يقال (بدلاً عن قولنا: لزم دخول العرض في الفصل): (لزم دخول الجنس في الفصل)؛ وتقوّم الفصل بالجنس أيضاً مستحيل. والوجه في العدول عن تلك الصيغة إلى هذه الصيغة دعوى: أنّ الشيء ليس مفهوماً عرضيّاً، وإنّما هو جنس الأجناس تقع تحته كلّ الأجناس العالية والمقولات الممكنة.

والكلام تارةً يقع في هذا التعديل الذي أدخله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على الصيغة، واُخرى في أصل الصيغة:

أمّا تعديل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو مبنيّ على ما عرفت من افتراض أنّ الشيء


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 111 ـ 113 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 69 ـ 71 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

494

هو جنس الأجناس، وليس عرضاً. وهذه الدعوى من قبله لا ينبغي أن تردّ بمثل ما قيل من أنّ مفهوم الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً، وإلاّ لزم وجود جنس أعلى من المقولات العشر، أي: الجوهر والمقولات العرضيّة التسع، فإنّ الشيء يعمّها جميعاً مع أنّه برهن في محلّه من الحكمة على أنّ المقولات العشر أجناس عالية ليس فوقها جنس(1)، فإنّ هذا الكلام لم يتحصّل في الحكمة أصلاً، ولم يبرهن في الفلسفة على أنّها أجناس عالية وأنّه يستحيل دخول اثنين منها أو أكثر في جنس أعمّ كما اعترف صاحب الأسفار. نعم، حاول بعضهم البرهنة على أنّ مفهوم العرض ليس جنساً عالياً كما حاولوا أيضاً البرهنة على أنّ الوجود ليس جنساً عالياً، ولم يبرهنوا على أنّ المقولات العشر ليس فوقها أو فوق بعضها جنس أعلى. نعم، هم صنّفوا المقولات إلى الجوهر وإلى الأعراض التسعة، وترسّخ ذلك في الأذهان، فأوجب ترسّخه في الأذهان تخيّل: أنّه بُرهِن عليه.

ولكن ينبغي الإيراد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ مفهوم الشيء يستحيل أن يكون جنساً عالياً؛ لبرهان يخصّ مفهوم الشيء، وهو: أنّه لو كان جنساً عالياً لاحتاج ـ لكي يصير نوعاً ـ إلى ضمّ فصل إليه، فننقل الكلام إلى هذا الفصل، فنقول: هذا الفصل أهو شيء أو ليس شيئاً من الأشياء؟ فإن قيل: إنّه ليس شيئاً فهو غير معقول؛ لأنّ الفصل ـ لا محالة ـ مفهوم من المفاهيم، فهو شيء لا محالة، فلابدّ من القول بالأوّل، أي: أنّ هذا الفصل شيء، وحينئذ نقول: إنّ الشيء الذي انطبق على هذا الفصل هل هو تمام حقيقته أو جزؤه، أي: جنسٌ له؟ فعلى الأوّل لزم كون


(1) هذا كلام ورد في أجود التقريرات بعنوان: (إن قلت). راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 70 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

495

الفصل عين الجنس؛ لأنّ الجنس هو الشيء، والفصل تمام حقيقته هو الشيء. وعلى الثاني يحتاج هذا الفصل في نفسه إلى فصل، وننقل الكلام إلى ذاك الفصل وهكذا حتّى يتسلسل، ويلزم تركّب الماهية من أجزاء لا متناهية، فهذا برهان على استحالة كون الشيء جنساً عالياً.

هذا، مضافاً إلى أنّ الشيء إن كان جنساً عالياً، فعلى كلّ حال يلزم دخول الجنس في الفصل سواء قلنا بالبساطة أو التركّب، فلنفرض أنّ مفهوم المشتقّ بسيط، وأنّه هو بعينه مفهوم المبدأ، ولكن أفليس المبدأ شيئاً؟! طبعاً المبدأ شيء من الأشياء، فإذا فرض أنّ الشيء ذاتىّ لكلّ ما يصدق عليه، لزم دخول الجنس في الفصل، فلا محيص عن مشكلة لزوم دخول الجنس في الفصل إلاّ بالبرهنة(1) على


(1) بل تلك المشكلة بنفسها برهان كاف لإثبات عدم جنسيّة الشيء هذا.

وما يصلح في كلمات الشيخ النائينيّ(رحمه الله) كبرهان على كون مفهوم شيء جنساً أمران:

الأمر الأوّل: أنّ مفهوم «شيء» لو كان عرضاً عامّاً لكان عروضه على ما يعرض عليه خارجاً بواسطة عروضه لجنسه القريب أو البعيد، في حين أنّنا لا نجد وراء مفهوم الشيء جنساً مشتركاً للجوهر والمقولات التسع كي يكون مفهوم الشيء عارضاً عليه.

والأمر الثاني: أنّ عنوان «شيء» لم يكن من قبيل عنوان التقدّم والتأخّر مثلاً ممّا انتزع من الذات بقيام أمر عرضيّ خارج من ذاته به، بل انتزع من مقام الذات مباشرة من دون دخل طروّ عرض عليه، فهو برغم كونه أمراً انتزاعيّاً يكون ذاتيّاً، ونظيره مثلاً الإنسانيّة المنتزعة من الإنسان ونحو ذلك، فبما أنّ منشأ انتزاع الشيئيّة ليس من الاُمور العرضيّة فلا تكون هي عرضيّة أيضاً.

إلاّ أنّ شيئاً من الوجهين لا يكفي في المقام:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ العرض العامّ إن سلّمنا أنّه يعتبر عرضاً للجنس الأوسع من النوع أو الفصل، فإنّما يكون ذلك لو وجد جنس من هذا القبيل، وإلاّ فلا برهان على ضرورة

496

عدم جنسيّة الشيء كما صنعناه.

وأمّا أصل الصيغة، وهي لزوم دخول العرض العامّ في الفصل وهو محال، فهذا مبنيّ على الالتزام بكون كلمة «ناطق» قد حكم عليها بالفصليّة بما لها من معنىً لغويّ وعرفىّ، ولكن هذا أوّل الكلام، فإنّ كلمة «ناطق» التي اعتبرها المناطقة فصلاً لم يعرف أنّهم جعلوها فصلاً بما لها من معنىً لغويّ وعرفيّ، بل نقطع بعدمه؛ إذ لابدّ لتصوير فصليّته من التصرّف في مادّته وهي النطق؛ لوضوح: أنّ النطق يراد به لغةً وعرفاً التكلّم؛ أو يراد به بنحو من العناية الإدراك. والتكلّم الذي هو من مقولة الكيف المسموع، والإدراك الذي هو من مقولة الكيف النفسانيّ كلاهما أمر عرضيّ، وما يكون ذاتيّاً وفصلاً للإنسان هو منشأ التكلّم والإدراك، فإذا فرض التصرّف في المادّة فلماذا يستبعد التصرّف في الهيئة؟! ولو سلّم عدم تصرّفهم في الهيئة فغاية ما يلزم اشتباه المناطقة في المعنى العرفيّ للناطق، فتخيّلوا عدم دخول مفهوم الشيء فيه. وهذا الاشتباه ليس عجيباً؛ لأنّ تشخيص المفهوم اللغويّ للناطق شأن اللغويّ لا المنطقىّ حتّى يستبعد خطؤهم في ذلك، ويصبح كلامهم برهاناً على معنى الناطق. هذا.

وإن كان مراد المحقّق الشريف(رحمه الله) البرهنة على بساطة الفصل، أي: عدم دخول مفهوم الشيء فيه، هو صحيح ولا علاقة لذلك بما نحن فيه. وتوضيح ذلك: أنّ


عروضه على جنس من هذا القبيل بحيث نكتشف من افتراض عدم جنس أوسع كون هذا أمراً ذاتيّاً لا عرضيّاً. نعم، لو كان العرض عرضاً حقيقيّاً ومعلولاً لمعروضه، فقد كنّا نستكشف بقانون (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد) وجود جنس فوق تلك المعروضات كي تكون هي العلّة لذاك العرض، أمّا العرض الانتزاعيّ فلا يأتي فيه هذا البيان.

وأمّا الوجه الثاني: فكون الانتزاع من الذات بلا واسطة أمر عارض عليه إنّما يثبت ذاتيّته له بالمعنى المقصود في كتاب البرهان لا بالمعنى المقصود في كتاب الكلّيّات.

497

المناطقة لم يكونوا بصدد بيان مفاهيم الألفاظ كالاُصوليين، وقد صاروا بصدد بيان: أنّ الفكر كيف يتوصّل إلى أمر مجهول، فقالوا: إنّ التفكير هو ترتيب اُمور معلومة للتوصّل إلى أمر مجهول. ونوقش في ذلك بأنّ الفكر قد يتوصّل إلى شيء مجهول بترتيب أمر واحد وهو الفصل في التعريف بالحدّ الناقص. وأجاب عن ذلك شارح المطالع بأنّ الفصل أيضاً ينحلّ إلى أمرين؛ إذ ينحلّ إلى شيء له النطق، فهنا صار المحقّق الشريف بصدد الردّ على كلام شارح المطالع، فذكر: أنّه يلزم من ذلك دخول العرض العامّ في الفصل(1).

وهذا الكلام بهذا المقدار صحيح، ولا ربط له بما نحن فيه، فكلامهم ناظر إلى ذوات المعاني وعمليّة التفكير، وأنّ الفصل من حيث هو فصل هل هو أمر واحد أو أمران؟ فيقول المحقّق الشريف: إنّه أمر واحد: وهذا غير دعوى كون معنى «شيء» غير داخل في المدلول اللغويّ والعرفىّ لهيئة ناطق.

وأمّا الثاني: وهو أخذ مصداق الشيء في المشتقّ، فقد برهن على عدم إمكانه بأنّه يلزم منه انقلاب القضيّة المتسالم على إمكانها إلى ضروريّة، فقولنا: «الإنسان كاتب» يرجع إلى قولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة» فيصير من حمل الشيء على نفسه، وهو ضرورىّ مع أنّه لا إشكال في أنّها قضيّة ممكنة.

وهذا المقدار من البيان اُشكل عليه حلاًّ ونقضاً:

أمّا الحلّ، فبأنّ حمل الإنسان على الإطلاق على الإنسان على الإطلاق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 68 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 109 ـ 110 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع شرح المطالع لقطب الدين الرازي، ص 7 ـ 8 الطبعة الحجريّة بإيران، وحاشية الشريف على شرح المطالع، هامش ص 9.

498

ضرورىّ كقولنا: «الإنسان إنسان»، ولكنّ الإنسان المأخوذ في «كاتب» إنسان مقيّد بقيد الكتابة الذي ليس قيداً ضروريّاً، والمقيّد بغير الضروريّ، ليس ضروريّاً.

وأمّا النقض، فبأنّه لو تمّ هذا المطلب، فلماذا خصّصتم هذا الإشكال بالشقّ الثاني مع أنّه على تقدير تماميّته يجري في الشقّ الأوّل أيضاً؟ فإنّه إذا اُخذ مفهوم الشيء في «كاتب» صار معنى الكلام: «الإنسان شيء له الكتابة»، وثبوت الشيئيّة للإنسان أيضاً ضروريّ.

وهناك محاولات لتصحيح البرهان، بعضها إن تمّ يفي بدفع الحلّ والنقض، وبعضها إن تمّ يفي بدفع الحلّ فقط، ونحن نختار للذكر منها ثلاث محاولات:

1 ـ أن يقال: إنّ مصداق الشيء قد يتّفق فرداً جزئيّاً خارجيّاً لا يقبل التقييد كما في «زيد كاتب»، فليس عندنا زيدان حتّى يكون قيد الكتابة محصّصاً لزيد المأخوذ في مفهوم «كاتب» وإنّما اُخذت الكتابة مجرّد إشارة وتعريف، فلئن لم يتمّ الإشكال فيما إذا كان الموضوع كلّيّاً تكفي تماميّته فيما إذا كان جزئيّاً حقيقيّاً.

وهذا الكلام لو تمّ، دَفَع الحلّ والنقض معاً: أمّا الأوّل فلأنّه في مثل «الإنسان كاتب» وإن لم يلزم المحذور لتقيّد الإنسان في طرف المحمول بقيد غير ضرورىّ، ولكن في مثل «زيد كاتب» يتمّ المحذور؛ لأنّ زيداً غير قابل للتقييد حتّى يقال: إنّ حمل زيد المقيّد بقيد غير ضرورىّ ليس ضروريّاً. وأمّا الثاني فلأنّ مفهوم «شيء» كلّىّ قابل للتقييد، فيأتي فيه: أنّ المقيّد بغير الضرورىّ غير ضروريّ.

ولكنّه غير تامّ:

أمّا أوّلاً، فلأنّه مبنىّ على أن يراد بمصداق الشيء ما وصف في القضيّة بالمشتقّ، وأمّا إذا كان المراد تلك الطبيعة التي من شأنها في عالم الأعيان والتكوين الاتّصاف بذلك المحمول، فيكون معنى «زيد كاتب»: «زيد إنسان له

499

الكتابة» والإنسان قابل للتقييد بالكتابة، وهو قيد ممكن له، فلا يتمّ فيه هذا الجواب.

وأمّا ثانياً، فلأنّنا لا نسلّم أنّ زيداً لا يقبل التقييد؛ فإنّه إنّما لا يقبل التقييد الأفراديّ؛ لأنّه ليس كلّيّاً، لكنّه يقبل التقييد الأحوالىّ؛ لأنّه يتّصف بأحوال مختلفة، ويقبل الإطلاق من ناحية الأحوال، والمقيّد بقيد غير ضرورىّ يخرج عن كونه ضروريّاً سواء كان التقييد أفراديّاً أو أحواليّاً.

2 ـ أن يقال: إنّنا حينما نقول: «الإنسان كاتب» ونفسّر ذلك بقولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة»، فقيد الكتابة في المحمول إن فرض مجرّد مشير ومعرّف إلى الإنسان من قبيل: (خاصف النعل)(1) فعندئذ يرجع كلامنا إلى «الإنسان إنسان» فتصبح القضيّة ضروريّة. وإن فرض أخذه قيداً حقيقيّاً بحيث كان المحمول هو


(1) راجع البحار، ج 20، ص 344 و 360، و ج 32، ص 300 و 302 و 307، و ج 38، ص 250.

وإنّني أنقل هنا نصّاً واحداً من هذه النصوص، وهو الوارد في البحار، ج 32، ص 302:

«إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) انقطع شسع نعله، فدفعها إلى عليّ(عليه السلام) ليصلحها، فقال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم، فقال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا، قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن هو خاصف النعل، يعني: عليّاً. قال أبو سعيد: فخرجت فبشّرته بما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلم يكترث به فرحاً كأنّه سمعه».

وهذا النصّ موجود في مستدرك الحاكم، ج 3، ص 122 ـ 123 كالتالي: «عن أبي سعيد قال: كنّا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فانقطعت نعله، فتخلّف عليّ يخصفه، فمشى قليلاً، ثُمّ قال: إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبوبكر وعمر رضي الله عنهما. قال أبوبكر: أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل، يعني: عليّاً، فأتيناه فبشّرناه فلم يرفع به رأسه كأنّه قد كان سمعه من رسول الله».

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

500

المقيّد بما هو مقيّد، يلزم الانقلاب، ولكن يلزم حينئذ محذور حمل الخاصّ من حيث المفهوم على العامّ من حيث المفهوم(1)؛ إذ المحمول هو نفس المفهوم المأخوذ في الموضوع مقيّداً بقيد زائد، مع أنّ المحمول لا يجوز أن يكون أخصّ مفهوماً من الموضوع، بل يجب أن يكون مساوياً أو أعمّ، فيصحّ: «الإنسان حيوان»، ولا يصحّ «الحيوان إنسان».

وهذا البيان لو تمّ يدفع الحلّ والنقض معاً: أمّا الحلّ فلأنّه دار الأمر بين أحد محذورين: إمّا انقلاب القضيّة ضروريّة، أو حمل الخاصّ على العامّ. وأمّا النقض فلأنّه لو قيل: «الإنسان شيء له الكتابة»، لم يلزم حمل الأخصّ؛ لأنّه لم يؤخذ في المحمول نفس المفهوم المأخوذ في الموضوع، بل مفهوم أعمّ وهو شيء وقيد بالكتابة.

ولكنّ هذا الوجه أيضاً غير صحيح؛ إذ لا نقبل عدم جواز كون المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع. وتوضيح ذلك: أنّ هناك تصوّرين للقضيّة الحمليّة:

التصوّر الأوّل: أنّ دور الموضوع والمحمول في القضيّة الحمليّة واحد، وهو الفناء في وجود واحد، ويكون معنى حمل أحد المفهومين على الآخر ملاحظتهما بما هما مرآتان إلى الواقع الخارجيّ أو النفس الأمر، ونسبة كلّ واحد من المفهومين إلى هذا الواقع الواحد واحدة، فكلاهما يفنيان في الواقع بنهج واحد.

وبناء على هذا التصوّر يكفي في صحّة الحمل اتّحادهما في الوجود، سواء كان المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع أو بالعكس، أو لم يكن أحدهما أخصّ من


(1) أي: أنّ المحمول وإن لم يكن أخصّ من الموضوع مصداقاً فالمفروض أن يكون المقصود بالكاتب مثلاً ما يصدق على موضوعه، وهو الإنسان بتمام مصاديقه، كأن يكون المقصود: ما من شأنه الكتابة، ولكنّه أخصّ من الموضوع مفهوماً؛ لأنّه يشمل مفهوم الإنسان حسب الفرض زائداً قيد الكتابة.

501

الآخر، فإنّ وظيفتهما هي فناؤهما في وجود واحد وهو ثابت، فاشتراط أن لا يكون المحمول أخصّ مفهوماً بلا موجب.

التصوّر الثاني: أن يقال: إنّ دور الموضوع يختلف سنخاً عن دور المحمول، فالموضوع ينظر إليه (حتّى فيما إذا كان مفهوماً لا ذاتاً خارجيّة) بما هو ذات، وبما هو عين مصاديقه ومرآة إليها، فالموضوع في قولنا: «الإنسان كاتب» وإن كان هو مفهوم الإنسان، لكنّه كأنّما اُحضرت المصاديق؛ لأنّه لوحظ فانياً فيها. وأمّا المحمول فيلحظ بما هو مفهوم، ويكون معنى الحمل: أنّ هذا المصداق يندرج تحت هذا المفهوم.

وهذان التصوّران تترتّب عليهما نكات كثيرة في فلسفة القضيّة من الناحية المنطقيّة.

وعلى هذا التصوّر أيضاً يمكن أن يكون المحمول أخصّ مفهوماً من الموضوع، فإنّ الأعمّيّة والأخصّيّة إنّما هي بين المفهومين بما هما مفهومان، والمفروض: أنّ الموضوع لم يؤخذ بما هو مفهوم، بل بما هو فان في مصاديقه، ومصاديقه ليست أعمّ من المحمول على كلّ حال.

3 ـ إنّه أصبح المحمول مركّباً من جزءين، فتنحلّ القضيّة إلى قضيّتين: الاُولى: الموضوع مع الجزء الأوّل، وهو: الإنسان إنسان، والثانية: الموضوع مع الجزء الثاني، وهو: الإنسان له الكتابة. والاُولى ضروريّة.

وهذا لو تمّ دفع الحلّ فقط، فإنّ عين المحذور يلزم في قولنا: «الإنسان شيء له الكتابة».

إلاّ أنّ هذا البيان غير صحيح في نفسه؛ لأنّ تعدّد القضيّة مساوق لتعدّد الحكم، وهنا لا يوجد حكمان من قبل الحاكم، بل حكم واحد، وذلك باعتبار أنّ المحمول إنّما يكون منحلاًّ إلى جزءين باعتبار أخذ النسبة الناقصة فيه، وهذا تحليل خارج اُفق الذهن؛ لما برهنّا عليه فيما مضى من أنّ النسبة الناقصة تصيّر الشيئين شيئاً

502

واحداً في الذهن، وأنّها ليست نسبة في عالم الذهن، وإنّما بالتحليل تكون نسبة، فالمحمول في اُفق ذهن الحاكم واحد.

وقد تحصّل: أنّ هذا البرهان على عدم أخذ مصداق الشيء في المشتقّ غير صحيح.

نعم، أخذ مصداق الشيء في المشتقّ في نفسه غير صحيح أيضاً؛ لأنّه إن اُريد بمصداق الشيء ما حكم عليه في القضيّة بالمشتقّ، فمن الواضح: أنّه قد لا يكون المشتقّ محكوماً به، بل يكون محكوماً عليه كما في قولنا: «أكرم الكاتب». وإن اُريد به تلك الطبيعة التي من شأنها في عالم الأعيان والتكوين أن تتّصف بالكتابة، فهذا أيضاً باطل بالوجدان؛ إذ يصحّ بالوجدان استعمال الكاتب في غير الإنسان بأن يقال: «غير الإنسان كاتب» فهذا وإن كان كذباً، ولكن الاستعمال صحيح وليس مستبطناً للتناقض، بينما لو اُخذ فيه طبيعة الإنسان لرجع إلى قولنا: «غير الإنسان إنسان»، وهذا تناقض.

وبهذا تمّ البحث في المشتقّ، وبذلك تمّ الكلام في المقدّمة بتمامها. وبعد ذلك يقع الكلام في مقاصد.