83

وأجاب على ذلك المحقّق الاصفهاني (رحمه الله)(1) بان نكتة شرط الاتصال بين الإيجاب والقبول في مفهوم العقد هي انّ العقد يعني خلق العقدة بين التزامين وشدّ احدهما بالآخر، فمفهوم العقد استبطن الربط والوصل فإذا وقع الفصل الطويل بينهما كان المدعى في المقام انهدام هذا الوصل، أمّا عنوان البيع أو التجارة فغير مشتمل على مفهوم الربط والوصل.

وذكر السيّد الإمام (رحمه الله)(2): انّ الاستفادة في المقام من مفهوم الربط والوصل المستبطن في معنى العقد بمعنى الشدّ غير صحيحة في نفسها واجنبية عن مراد الشيخ الانصاري (رحمه الله).

أقول: أمّا كونها اجنبية عن مراد الشيخ الانصاري (رحمه الله) فكأنه إشارة إلى تفسير آخر لدعوى لزوم الصورة الاتصالية في العقد غير التفسير الذي استظهره الشيخ الاصفهاني من المكاسب من الإشارة إلى مسألة الربط والوصل المستبطن في مفهوم العقد بمعنى الشّد وذلكَ التفسير الآخر أيضاً مذكور في تعليقة الشيخ الاصفهاني إلّا انّه (رحمه الله) يعتقد انّ هذا ليس هو المستفاد من عبارة الشيخ وكأنّ السيد الإمام (رحمه الله)يستظهر هذا التفسير الآخر وهو ان يقال: إنّ الإيجاب والقبول وإن كانا كلامين لشخصين ولكن بما انّهما يتفاعلان في خلق أثر واحد وهو النقل والانتقال فهما بمنزلة كلام واحد لشخص واحد يتقوّم عرفاً بالهيئة بالاتصالية كما هو الحال في مثل الأذان أو الإقامة أو الصلاة، ومن الواضح انّ هذا التقريب لا يفرق فيه بين عنوان العقد وعنوان البيع أو التجارة.

 


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 171.

(2) في كتاب البيع 1: 231.

84

وأ مّا عدم صحّة الاستفادة في المقام من مفهوم الربط المستبطن في كلمة العقد بمعنى الشدّ وعدم تماميّة الاستدلال بذلك على شرط الموالاة فلعلّه أيضاً إشارة إلى ما ورد في نفس كلام المحقّق الإصفهاني(رحمه الله)(1)، حيث اعترض على هذا الوجه بأنّ الربط والشدّ المستفاد من مفهوم العقد ليس بمعنى وصل الإيجاب والقبول بمعنى كون أحدهما قريباً زمنيّاً، وإنّما هو إذا قسناه إلى الالتزامين القلبيّين يكون بمعنى توارد الالتزامين على شيء واحد، فلو التزم أحدهما بشيء والآخر بشيء آخر لم يتمّ العقد لعدم تواردهما على شيء واحد، ولو التزم بشيء ثمّ تراجع عنه فالتزم الآخر به لم يتمّ الربط أيضاً ; لأنّ الربط لا يتحقّق بين معدوم وموجود، وهذا كلّه لا علاقة له بكون تخلّل الزمان قصيراً أو طويلا، وأمّا إذا قسناه إلى العقد اللفظي فأيضاً ليس الربط هنا بمعنى اتّصال لفظ بلفظ وكلام بكلام حتّى تشترط الموالاة وإنّما هو بمعنى أن يكون أحدهما مطاوعة للآخر(2)، وهذا أيضاً لا علاقة له بمسألة تخلّل الزمان بين الكلامين.

أقول: إنّه حتّى الآن بقي التفسير الآخر لدليل شرط الاتّصال ـ بقطع النظر عن كونه مقصوداً للشيخ الأنصاري (رحمه الله) أو لا ـ بمعزل عن الإشكال، وهو التفسير بكون المقصود أنّ الإيجاب والقبول بمنزلة كلام واحد كالأذان والإقامة أو الصلاة ولو بنكتة أنّهم يتفاعلان في إيجاد تأثير قانوني واحد، فكما تشترط عرفاً في


(1) راجع تعليقته على المكاسب 1: 71.

(2) لازم هذا عدم تمامية القبول بمثل «اشتريت» والأولى ان يقال إنّ ارتباط القبول اللفظي بالإيجاب اللفظي ليس عدا كشفها عن الالتزامين المترابطين ولا حاجة إلى الفحص عن ارتباط آخر بلحاظ عالم الألفاظ غير الارتباط الثابت في عالم الالتزامين.

85

صدق عنوان الأذان أو الإقامة أو الصلاة الموالاة كذلك الحال في العقد وعين البيان يأتي في البيع والتجارة فهذا التفسير كما ترى لا يرد عليه إشكال الشيخ الانصاري (رحمه الله)بعدم تأتِّي ذلك في البيع والتجارة إذ لا فرق في هذه النكتة بين العقد وبين البيع والتجارة، وكذلك لا يرد عليه إشكال المحقّق الاصفهاني إذ لا علاقة له بمعنى الربط والشدّ المستبطن في مفهوم العقد.

ولكن قد أورد على هذا السيد الإمام (رحمه الله)(1) وكذلك السيد الخوئي (قدس سره)(2)بانّ العقد التزامان قلبيان مترابطان والمفروض تعاهدهما ولا علاقة للهيئة الاتصالية للألفاظ بذلك فان العقد ليس عبارة عن الإيجاب والقبول اللفظيين.

أقول: بالإمكان أن يقال: إنّ العقد وإن لم يكن من مقولة الألفاظ وانّما هو من مقولة الإرادة الباطنية بشرط الإبراز لكن الإنشاء اللفظي لا يبرز الإرادة في الحالات الاعتيادية إلّا بلحاظ فترة قصيرة من الزمن فمن قال لصاحبه: بعتك هذه العين بكذا وصاحبه لم يبرز القبول إلّا بعد عدة أيام مثلا فإيجاب الموجب ليس مبرزاً لبقاء إرادة البيع إلى حين قبول القابل فلو تمّ البيع بهذا الشكل فقد تمّ على أساس إرادة باطنية بحتة بلا إبراز، فشرط الموالاة في الحقيقة يكون على أساس دخلها في تمامية الإبراز الذي هو شرط في العقود بلا إشكال، ومجرّد استصحاب بقاء الإرادة الباطنية لا يكفي لانّ نفس الإبراز له الموضوعية في تمامية العقد وما دام الإيجاب السابق قاصراً عرفاً عن الإبراز بلحاظ الزمان المتأخّر إذن نحتاج إلى إ براز جديد.


(1) راجع كتاب البيع 1: 230.

(2) راجع المحاضرات 2: 134، ومصباح الفقاهة 3: 54.

86

نعم، في الموارد التي يكون الإبراز السابق دالّا بلحاظ بعض المناسبات والقرآئن على استمرار الإرادة لحين لحوق القبول نلتزم بصحّة العقد كما في مثال البيع من مكان بعيد بواسطة إرسال رسالة كتبية أو شفهية أو بواسطة البرقية، أو الهبة المعاطاتية التي تتمّ من شخص إلى شخص متباعدين مكاناً بواسطة مسافر يأتي بالعين من الواهب إلى الموهوب له وما شابه ذلك حيث انّ القرينة قائمة هنا ان مقصود الموجب عادة هو الاستمرار في إرادته والتزامه لحين وصول الرسالة أو البرقية أو الرسول إلى صاحبه.

وإن شئت فعبّر بانّ الموالاة في كل شيء بحسبه فالموالاة المعتبرة في مثل البيع أو الهبة بواسطة الرسالة أو البرقية أو الرسول ليست بمعنى المنع عن الفاصل الزمني الذي يتطلّبه سفر الرسول أو بلوغ الرسالة أو البرقية وانّما هي بمعنى المنع عن الفصل الطويل من بعد وصول الرسول أو الرسالة أو البرقية.

وبكلمة دقيقة ليست الموالاة في الحقيقة شرطاً وليس في المقام شيء عدا نفس الركن الثاني من أركان العقد وهو إبراز الإرادة والاخلال بالموالاة قد يوجب الاخلال بهذا الإبراز.

وأمّا المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) فقد قسّم في المقام العقد إلى قسمين: العقد الإذني، والعقد العهدي، ويقصد بالعقد الإذني ما يكون قوامه بمجرّد الإذن والرضا حدوثاً وبقاء كما في العارية والوديعة ويقول في هذا القسم بعدم اشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول لانّ قوام العقد ليس إلّا بنفس الاذن والرضا الباطني فما دام موجوداً يتمّ الأمر سواء تمّت الموالاة بين الإيجاب والقبول أو لا، وبكلمة اُخرى: انّ هذا القسم ليس عقداً إلّا بالمسامحة.

 


(1) راجع منية الطالب 1: 111 ـ 112، وكتاب المكاسب والبيع 1: 290 ـ 291.

87

وأمّا العقود العهدية فقسّمها إلى عقود معاوضية كالبيع وغير معاوضية كالهبة:

وذكر في القسم الأوّل: انّه لا بد من الموالاة واستدل على ذلك بدليلين:

أحدهما ـ ما مضى بحثه من مسألة الهيئة الاتصالية بين الإيجاب والقبول آخذاً ذلك بتفسيره الثاني من التفسيرين الماضيين ولذا لم يقبل الفرق في ذلك بين عنوان العقد وعنوان البيع أو التجارة.

وثانيهما ـ انّ مفاد العقد مشتمل على الخلع واللبس وبيان ذلك في ظاهر أحد التقريرين يختلف عنه في ظاهر التقرير الآخر، فظاهر كتاب منية الطالب للشيخ موسى النجفي (رحمه الله) هو انّ المقصود خلع الموجب لعلقة الملكية عن نفسه ولبس القابل ايّاها وان محذور الفصل بينهما هو بقاء العلقة بلا طرف في فترة الفصل وهو محال، وظاهر كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي (رحمه الله) هو انّ المقصود خلع الموجب لملكية المثمن عن نفسه ولبسه ملكية الثمن وان محذور الفصل بينهما هو انّهما يعدّان عملا واحد، فالإعطاء والأخذ هما سبب واحد، ومع الفصل الطويل بينهما يخرجان عن مصداق الواحد فيكون الإعطاء إعطاء لشيء مستقل والأخذ أخذاً لشيء آخر مستقل، وكأنّ المقصود من هذا الكلام: أنّ هذه الوحدة العرفية بين الخلع واللبس أوجبت في نظر العرف شرط الاتصال والموالاة بينهما.

وأمّا القسم الثاني: وهو العقود غير المعاوضية كالهبة فاختار فيها أيضاً شرط الموالاة مستدلاًّ بالدليل الأوّل، وأمّا الدليل الثاني ففي منية الطالب لم يذكره في هذا القسم، أي اقتصر في هذا القسم على ذكر الدليل الأوّل في حين انّه في القسم الأوّل استدل بكلا الدليلين، وهذا ظاهر في انّه يرى انّ الدليل الثاني خاص

88

بالقسم الأوّل ولا يرد في القسم الثاني، وأمّا في كتاب المكاسب والبيع فقد صرّح بكون الدليل الثاني خاص بالقسم الأوّل وعدم وروده في الثاني.

ومن هنا اظن انّ ما هو موجود في المكاسب والبيع للشيخ الآملي الظاهر في إرادة خلع الموجب ولبسه هو المطابق لمقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) دون ما يستفاد من منية الطالب من خلع الموجب ولبس القابل وإلّا لورد عليه بوضوح ما أورده السيد الإمام (رحمه الله)(1) من انّ هذا الوجه لو تمّ لجرى في غير المعاوضية أيضاً كالهبة لانّ فيها أيضاً خلعاً ولبساً، فالواهب يخلع عن رقبته علقة ملكية العين الموهوبة والموهوب له يلبسها فأيضاً يقال: لو وقع الفصل بينهما لبقيت العلقة بلا طرف. في حين انّ هذا الإشكال لا يرد على ما يظهر من كتاب المكاسب والبيع للآملي من إرادة خلع ولبس الموجب، فانّ الموجب في البيع يخلع ملكية المثمن ويلبس ملكية الثمن، وأمّا الواهب فيخلع ملكية العين الموهوبة ولا يلبس شيئاً.

كما يرد أيضاً على ما في منية الطالب إشكال آخر يسلم عنه ما في تقرير الشيخ الآملي وهو ما أورده السيد الخوئي على ما في المصباح(2) من انّ فرض استحالة العلقة بلا طرف لا يفرق فيه بين الفصل الطويل والفصل القصير، والقبول على أي حال ينفصل عن الإيجاب ولو قصيراً فيلزم بقاء العلقة بلا طرف ولو في آن واحد، وأضاف إلى ذلك السيد الإمام (رحمه الله)(3) انّنا حتى لو فرضنا الاتصال الحقيقي بين الإيجاب والقبول فقد لزم أيضاً بقاء العلقة بلا طرف بعد تمامية


(1) في كتاب البيع 1: 228.

(2) مصباح الفقاهة 3: 55.

(3) في كتاب البيع 1: 228 ـ 229.

89

الإيجاب وقبل تمامية القبول، فان القبول حتى لو كان في أوّله متصلا بآخر الإيجاب فآخره يتأخّر عن الإيجاب بلا إشكال، والقبول لا يتمّ أثره إلّا عند تمامية صيغته، إذن فلازم هذا الإشكال استحالة العقد على الإطلاق.

ويرد أيضاً على ما في منية الطالب ما يسلم عنه ما في كتاب الشيخ الآملي وهو انّه لو فرض تاخّر اللبس عن الخلع فتفسير ذلك ليس منحصراً بما هو مستحيل من بقاء العلقة بلا طرف بل يمكن تفسيره بما هو ممكن من زوال العلقة ثم تكوّنها مرة اُخرى.

ويرد عليه أيضاً ما أفاده السيد الإمام (رحمه الله) بقوله في مقام الطعن على هذا الدليل: (وربما يتشبّث بدليل عقلي على الاعتبار(1)) وحاصله انّ الاستدلال بدليل عقلي من هذا القبيل في الاعتباريات البحتة لا معنى له.

وأمّا الإشكال المشترك الورود على ما أفاده المحقّق النائيني أي ما يرد عليه سواء بتقريبه الوارد في منية الطالب، أو بتقريبه الوارد في المكاسب والبيع فهو ما جاء في المحاضرات(2) وجاء ما يشبهه في كتاب البيع للسيد الإمام(3)أيضاً من انّه ان قصد بالخلع واللبس الخلع واللبس في اعتبار الموجب فقد تحقّقا في آن واحد بإيجابه، وان قصد بهما الخلع واللبس في اعتبار الشارع فهما يتحقّقان في آن واحد لدى تمامية القبول.

وذكر المحقّق النائيني (رحمه الله) في القسم الثاني من العقود العهدية، أعني العقود


(1) في كتاب البيع 1: 228.

(2) المحاضرات 2: 133.

(3) كتاب البيع 1: 229.

90

غير المعاوضية كالهبة على ما ورد في منية الطالب: انّ في اشتراط الموالاة فيه إشكالا وذلك لأجل معارضة الدليل الذي ذكرناه لشرط الموالاة بالسيرة القطعية على قسم المعاطاة في الهدايا والهبات التي تهدى من مكان بعيد بواسطة المسافرين إلى مكان آخر. فينفصل القبول لا محالة عن الإيجاب وتشهد لذلك قصة مارية القبطية التي اُهديت إلى النبي (صلى الله عليه وآله)(1).

ثم أجاب عن الإشكال بانّ القبول لم ينفصل عن الإيجاب لانّ الإيجاب يتمّ حينما تصل الهدية إلى المهدى إليه، فهذا مثاله مثال من له يد طويلة يمدّها من المشرق إلى المغرب لإيقاع معاملة معاطاتية مع من في المغرب فيتأخر حصول الإيجاب مدّة من الزمان إلى حين وصول يده إلى المغرب.

أقول: إنّ ما ذكره من المثال غريب وكانّما تخيّل انّ من له يد طويلة يتأخّر وصول يده من المشرق إلى المغرب للفاصل المكاني البعيد وعلى أيّة حال فهذا غير مهم ولا مناقشة في الأمثال.

والمهم انّ ما فرضه من تاخر الإيجاب في الهدية المعاطاتية من مكان بعيد إلى حين وصول المسافر للمهدى إليه غير صحيح، فانّ الإيجاب ان حصل فانّما يحصل حين إعطائه الهدية للمسافر لا حين وصولها للمهدى إليه وقد ينام أو يغفل ـ على حدّ تعبير السيد الخوئي في المصباح(2) ـ في حين وصولها إلى المهدى إليه


(1) راجع البحار 18: 416 ـ 419، الباب 4 من أبواب أحوال الرسول (صلى الله عليه وآله) من البعثة إلى نزول المدينة، وهو باب الهجرة إلى الحبشة، حيث ورد فيهما انّ النجاشي بعث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)بمارية القبطية اُمّ ابراهيم وبعث إليه بثيات وطيب وفرس.

(2) مصباح الفقاهة 3: 57.

91

فكيف يقصد الإيجاب وقتئذ؟! بل قد تفسّر هذه الهدية بالمعنى الآخر من معنيي الهدية للذين مضى ذكرهما في بحث المقدمات، وهو كونها بمعنى رفع المانع عن تملّك المهدى إليه للمال فانّ هذا الاحتمال وارد في الهبات خصوصاً المعاطاتية منها، وعليه فلا إيجاب في المقام بالمعنى المألوف حتى يفرض تأخّر القبول عنه.

وهناك وجه ثالث لإثبات شرط الموالاة في العقود وهو ما ورد ذكره في كتاب البيع للسيّد الإمام (رحمه الله)(1) وهو انّ الإيجاب تمليك من حينه فإذا تأخّر القبول فإن كان القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب فأمّا ان لا ينفذ وهذا يعني بطلان العقد، أو ينفذ وهذا يعني تقدّم حصول النقل على القبول وإن لم يكن قبولا لتمام مضمون الإيجاب لزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول والفاصل القليل يغتفر عرفاً.

ويرد عليه: ما أورده السيد الإمام (رحمه الله) عليه من انّ الإيجاب يدل على ذات التمليك من حينه.

هذا تمام الكلام في وجوه اشتراط الموالاة.

أدلّة عدم اعتبار الموالاة:

وأمّا وجوه عدم اشتراط الموالاة فهي أيضاً عديدة:

الأوّل ـ الإطلاقات بعد فرض إبطال أدلّة اشتراط الموالاة.

وهذا الوجه صحيح لكنّه لا ينافي المقدار الذي نحن قرّبناه من شرط الموالاة من انّ الموالاة قد تؤثّر في صدق الإبراز لانّ الإطلاقات لا تصدق في فرض عدم تمامية الإ براز.


(1) كتاب البيع 1: 229.

92

والثاني ـ السيرة على المعاملات المعاطاتية بالكتابة ونحوها وإن شككنا في ثبوتها في بمثل الكتابة في زمان المعصوم فلا اظنّ التشكيك في ثبوت الهبة المعاطاتية بواسطة المسافرين في ذاك الزمان مع استبعاد الفرق بين الهبة وغيرها كالبيع مثلا.

وهذا الوجه لو تمّ فهو أيضاً لا ينافي ما ذكرناه من لزوم حفظ الموالاة لدى دخلها في صدق الإبراز لانّ مثل هذه الموارد التي يدعى قيام السيرة فيها على عدم الموالاة يكون الواقع فيها انّ هذا الفصل المفروض لم يكن يضرّ بالإ براز العرفي .

هذا مضافاً إلى ما مضى منّا من التشكيك في انّ ما يقع من الهبة المعاطاتية عقداً مركباً من ا لإيجاب والقبول بالمعنى المألوف، فلعلّ الواقع هو انّ الواهب يرفع المانع عن تملك الموهوب له للمال بالقبض، بل لعلّ هذا التشكيك يأتي في البيع المعاطاتي أيضاً بأن يكون كل من المتبايعين رافعاً للمانع عن تملك صاحبه في مقابل العوض لا مجاناً من دون أن يكون هناك إنشاء التمليك.

الثالث ـ قصة هبة مارية القبطية للنبي (صلى الله عليه وآله). ويأتي فيه ما ذكرناه في الوجه الثاني.

الرابع ـ حديث المرأة التي طلبت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزويجها وقد ورد الحديث بسند تام عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)فقالت زوّجني فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من لهذه؟ فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله زوّجنيها فقال ما تعطيها؟ فقال ما لي شيء قال: لا فاعادت فاعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)الكلام فلم يقم أحد غير الرجل ثم أعادت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)في المرة الثالثة اتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم قال: قد زوّجتكها على ما

93

تحسن من القرآن فعلّمها إيّاه(1) بناء على حمل كلمة «زوّجنيها» على القبول المقدّم بلسان الطلب مثلا، وقول الرسول (صلى الله عليه وآله) «زوّجتكها» على الإيجاب وقد وقع الفصل بينهما بالسؤال عن معرفته بالقرآن والجواب بل الفصل أكثر من هذا بناء على بعض نُقول الحديث غير التامة سنداً كما عن عوالي اللآلي روى سهل الساعدي انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)جاءت إليه امرأة فقالت يا رسول الله انّي قد وهبت نفسي لك فقال (صلى الله عليه وآله) لا إربة لي في النساء فقالت زوّجني بمَن شئت من أصحابك فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها فقال (صلى الله عليه وآله) هل معك شيء تصدقها فقال والله ما معي إلّا ردائي هذا فقال ان اعطيتها إيّاه تبقى ولا رداء لك هل معك شيء من القرآن؟ فقال: نعم سورة كذا وكذا فقال (صلى الله عليه وآله): زوّجتكها على ما معك من القرآن(2).

وعلى أيّة حال فإضافة إلى انّه لا دليل على انّ قوله «زوّجنيها» كان هو القبول، والحديث ليس بصدد البيان من هذه الناحية كي نستظهر من ترك ذكر القبول بعد الإيجاب انّ قوله «زوّجنيها» كان قبولا نقول: إنّ هذا المقدار من الفاصل لا يعدّ فاصلا كبيراً يضرّ بالموالاة.

وعلى تقدير تمامية الاستدلال بهذا الحديث فهو لا ينفي ما قلناه من اشتراط الموالاة بالمقدار الحافظ للإبراز عرفاً بداهة ثبوت الإبراز في مورد الحديث.

وأمّا ما مضى من كلام المحقّق النائيني (رحمه الله) عن العقود الإذنية من انّه لا يشترط الموالاة، فقد أورد عليه السيد الإمام (رحمه الله)(3) بانّه لا تكون لنا عقود إذنية


(1) الوسائل 15: 403، الباب 2 من أبواب المهور.

(2) مستدرك الوسائل 15: 61، الباب 2 من أبواب المهور، الحديث 2.

(3) راجع كتاب البيع 1: 227.

94

وانّ الموكّل لا يوقع إلّا الوكالة، أمّا الإذن فإيقاع لا يحتاج إلى القبول والمخاطب لو لم يقبل الوكالة أو ردّ الإيجاب ثم باع لا بعنوان قبول الوكالة لم ينفذ البيع بخلاف المأذون.

ولا يوجد في الحقيقة في هذا الكلام إشكال فنّي على المحقّق النائيني (رحمه الله)فالمحقّق النائيني (رحمه الله) هو الذي يقول: إنّ العقود الإذنية ليست عقوداً في الحقيقة لغة وعرفاً وهو الذي يقول(1): إنّ الوكالة على قسمين فقسم منها يكون عقداً، وقسم آخر يكون إذناً، فلا يبقى عدا انّ الفقهاء هل يسمّون هذه الاُمور الإذنية عقوداً أو لا؟ وانّها هل تشتمل على إيجاب وقبول أو لا؟

وأظنّ أنّ الفطرة العرفيّة ترى هذه الاُمور مجرّد اُمور إذنيّة بحتة بما فيها الوكالة، وأنّها ليست بحاجة إلى القبول سواء سمّيت عقوداً مسامحةً أو لا، فلا أثر عملي لمجرّد التسمية.

 


(1) راجع منية الطالب 1: 33، وكتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 82.

95

 

أركان العقود وشرائطها

4

 

 

المتعاقدان

 

 

1 ـ اعتبار الأهلية في المتعاقدين.

2 ـ اعتبار الملكية أو الولاية أو الإذن.

 

 

97

 

 

 

الركن الثالث: المتعاقدان. وكون العاقد ركناً في العقد بديهيّ.

 

اعتبار الأهليّة في المتعاقدين

 

وأوّل شرط نذكره للعاقد هو أن لا يكون قاصراً أو ناقص الأهليّة، وهذا عنوان مشير إلى واقع ما يوجب نقص الأهليّة كالصغر والجنون والسفه فلا يرد عليه لزوم أخذ المحمول في الموضوع ببيان انّ نقص الأهليّة عبارة اُخرى عن عجزه عن إجراء العقود وهذا هو الحكم في المقام لا الموضوع.

ولا نتكلّم هنا عن الحجر الطارىء بحكم الحاكم بواسطة التفليس، أو عدم جواز تصرّف المريض في مرض الموت في التركة أو عدم جواز تصرّف الزوجة في مالها بلا إذن الزوج بناء على القول بذلك، أو عدم جواز تصرّف المملوك بلا إذن مالكه ونحو ذلك، فأمثال هذه الأبحاث نحوّلها على أبوابها الخاصّة ونقتصر هنا على ذكر القصور في ذات المالك، وهذا القصور لا يكون إلّا بصغر أو جنون أو سفه أو ذهول، ولا حاجة للبحث عن الجنون.

وأمّا السفه فهو عبارة عن كون الإنسان الكبير غير رشيد ونقتصر في بحث الرشد والسفه وكذلك الذهول على حديث مختصر بعد انتهاء البحث عن شرط البلوغ أو مانعية الصغر، إذن فلدينا في اشتراط أهلية العاقد بحثان:

 

98

 

شرط البلوغ:

البحث الأوّل ـ في شرط البلوغ أو حجر الصغير عن التصرّف في أمواله.

دلالة الكتاب على اشتراط البلوغ:

ويدلّ على ذلك من الكتاب قوله تعالى:

﴿وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً ان يكبروا ومن كان منكم غنيّاً فليستعفف ومَن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا﴾(1).

واختصاص الآية باليتامى لا يضر بالاستدلال بشأن كل صغير لعدم احتمال الفرق، وكأنّ النكتة في نزولها بخصوص شأن اليتامى: إنّ ما كان محلا للابتلاء بلحاظ حفظ أموالهم أو صرف المال عليهم أو أخذ اُجور الخدمة عليهم كانوا هم اليتامى.

أمّا غير اليتيم فهو يعيش عادة تحت كنف أبيه ولا يطلب الأب عادة الاُجور بل لا يملك الطفل الذي في كنف أبيه غالباً مالا يخصّه فنزلت الآية بلحاظ الواقع الخارجي الذي كان يتطلّب بيان أحكام هذه الاُمور.

مّا الحَجر فلا يختص باليتيم كما هو واضح.

وهل الآية تدلّ على شرط البلوغ أو تدلّ على شرط الرشد فحسب؟

قد يستفاد من كلمة (أن يكبروا) شرط البلوغ ببيان انّ الآية منعت عن أن


(1) النساء: 6.

99

يأكل الولي مال اليتيم إسرافاً أو بداراً مخافة أن يكبروا، وهذا يعني انّ اليتيم انّما يتسلّم المال من الولي بعد أن يكبر.

ولكن قد يدغدغ في هذا الاستدلال بدعوى احتمال كون المقصود أنّ اليتيم انّما يقدر على الغلبة التكوينية على الولي وأخذ المال منه قهراً بعد أن يكبر فقد يستغل الولي فرصة عجزه التكويني عن ذلك فيأكل المال إسرافاً وبداراً قبل أن يكبر.

وعلى أيّة حال فهل صدر الآية وحده كاف في الاستدلال بقطع النظر عن الاستيناس بما في ذيلها من كلمة (أن يكبروا) أو لا؟

ذكر المحقّق النائيني (رحمه الله)(1) في معنى الآية المباركة احتمالين:

الأوّل ـ أن يكون قوله: ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ غاية للابتلاء خارجة عن المغيّى، أي انّ زمان الابتلاء هو ما قبل البلوغ ويكون قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ تفريعا على الابتلاء قبل البلوغ، فالمعنى انّ الابتلاء يكون لما قبل البلوغ وإذا ظهر بالابتلاء رشدهم وجب دفع المال إليهم، وهذا يعني انّه لا يشترط في دفع المال البلوغ بل يكفي الرشد.

والثاني ـ أن تكون حتى للغاية ويكون قوله: فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم تفريعاً على الابتلاء مع البلوغ فالمعنى: ابتلوهم من زمان قابليتهم للابتلاء إلى زمان البلوغ فإذا بلغوا راشدين فادفعوا إليهم أموالهم، وهذا يعني دلالة الآية على شرط البلوغ، وانّما أمر بالابتلاء من قبل البلوغ بأمل أن يثبت


(1) راجع منية الطالب 1: 169 ـ 170، وكتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 396 ـ 397.

100

رشده من أوّل البلوغ أو قبله فيدفع إليه المال من حين البلوغ في حين انّنا لو بدأنا بابتلائهم من حين البلوغ فقد نتأخّر عن دفع المال إليهم فترة الابتلاء، مع انّهم كانوا مستحقّين للدفع من حين بلوغهم لانّهم بلغوا راشدين.

واستظهر المحقّق النائيني (رحمه الله) المعنى الثاني وأبطل المعنى الأوّل حسب ما ورد في منية الطالب بوجهين:

الأوّل ـ أنّ المعنى الأوّل يقتضي كفاية الرشد وحده لدفع المال إليهم وكفاية البلوغ وحده أيضاً لدفع المال إليهم، فدفع المال إليهم مشروط بظهور الرشد، وهذا الحكم المشروط مغيّى ببلوغ النكاح، أي انّهم إذا بلغوا النكاح دفعت إليهم أموالهم ولو لم يكونوا راشدين في حين انّنا لئن احتملنا كفاية الرشد لدفع المال إليهم فانّنا لا نحتمل كفاية البلوغ بلا رشد لدفع المال إليهم لانّ هذا يخالف الآية السابقة على هذه الآية وهي قوله تعالى: ﴿ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً﴾(1) فانّ النهي عن ايتاء السفهاء للمال يعني شرط الرشد. وهذا البيان هو الذي نحمل عليه عبارة منية الطالب ونقول: انّه في أكبر الظن هو المقصود رغم ضعف العبارة وغموضها فراجع.

والثاني ـ انّ قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ لو كان تفريعاً على الابتلاء لا على الابتلاء مع البلوغ كان جعل بلوغ النكاح غاية لغواً وكان المناسب ان يقال: وابتلوا اليتامى فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم.

ويمكن الجواب على الوجه الأوّل لو بقي وحده بانّ مفاد الآية على المعنى


(1) النساء: 5.

101

الأوّل لا ينحصر توجيهه بفرض كفاية البلوغ لدفع المال، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان حكم ما قبل البلوغ وهو الاختبار مع دفع المال إليهم إن ثبت رشدهم مع السكوت عن حكم ما بعد البلوغ، ولعل البلوغ لا أثر له أصلا كما يمكن الجواب على الوجه الثاني لو بقى وحده بما أفاده السيد الإمام (رحمه الله)(1): من انّه لعل جعل البلوغ غاية كان لأجل إفهام انّ لزوم الابتلاء انّما هو قبل البلوغ دون ما بعد البلوغ، لانّ البلوغ وحده كاف في دفع المال إليهم أي أنّ الاختبار وإمساك المال له غايتان: كل منهما وحدها كاف في دفع المال إليهم احداهما ظهور الرشد، والثانية البلوغ.

إلّا انّنا إذا ضممنا الوجهين احدهما بالآخر وكوّنّا منهما وجهاً واحداًلم يرد ما عرفته من الإشكال وذلك بأن يقال: إنّنا إن حملنا الآية على المعنى الأوّل وهو كون قوله: ﴿فان آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ تفريعاً على الابتلاء قبل البلوغ فالرشد وحده كاف لدفع المال إليهم، فالأمر عندئذ لا يخلو من أحد فرضين فإمّا أن نفترض أنّ الرشد وحده يجوّز دفع المال إليهم، والبلوغ وحده أيضاً يجوّز ذلك ولو لم يكونوا راشدين، أو نفترض أنّ الرشد وحده يجوّز دفع المال إليهم أمّا البلوغ فلا اثر له أصلا.

فانْ فرض الأوّل ورد عليه الوجه الأوّل لانّ فرض كفاية البلوغ وحده لدفع المال إليهم وإن لم يكونوا راشدين ينافي الآية السابقة وهي قوله: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾.

وإن فرض الثاني ورد عليه الوجه الثاني لانّ البلوغ إن كان لا أثر له فجعله


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.

102

في الآية الشريفة غاية لغو، وهذا بخلاف ما لو أخذنا بالمعنى الثاني وهو تفريع (ان آنستم منهم رشداً فادفعوا... الخ)، تفريعاً على الابتلاء مع البلوغ فعندئذ يكون الابتلاء بما هو مطعّم ـ بقرينة هذا التفريع ـ بالحكم بعدم الدفع ولو فرض رشيداً مغيّى بالبلوغ ; لانّ البالغ إذا ثبت رشده يدفع إليه ماله بخلاف غير البالغ.

ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد المحقّق النائيني (قدس سره)كما يشهد لذلك أنّ الوجهين لم يذكرا في تقرير الشيخ الآملي بهذا الشكل المنفصل أحدهما عن الآخر، بل ذكرا بالنحو الذي قلناه من الدمج بينهما ضمن دليل واحد بفرق انّه ليس فيه استشهاد بقوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾، وانّما فرض فيه عدم كفاية البلوغ بلا رشد لدفع المال أمراً واضحاً ومتفقاً عليه بين الكل. فذكر: انّ حمل الآية على المعنى الأوّل يستلزم أحد أمرين، إمّا لغوية ذكر البلوغ لانّه لا أثر له نهائياً، أو كفاية أحد الأمرين: البلوغ والرشد، وهذا يعني جواز دفع المال للبالغ غير الرشيد وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ولم يلتزم به أحد.

هذا. وقد أورد السيد الإمام (رحمه الله)(1) على الوجه الأوّل من الوجهين الواردين في منية الطالب في المقام: انّ قوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾لا يدلّ على ما أراده المحقّق النائيني من إبطال المعنى الأوّل للآية وتأييد المعنى الثاني، بل قد يؤيّد المعنى الأوّل بدعوى انّ هذه الآية تخصيص لما ورد قبلها بآيات من قوله: ﴿وآتوا اليتامى أموالهم﴾(2) فإطلاق قوله ﴿آتوا اليتامى أموالهم﴾يقتضي وجوب الإيتاء ولو مع سفههم، وقوله تعالى: ﴿لا تؤتوا


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.

(2) النساء: 2.

103

السفهاء أموالكم﴾ تقييد لذلك، أي لا تؤتوهم إن كانوا سفهاء فهذا يعني: آتوا اليتامى أموالهم إن أصبحوا راشدين، وهذا هو ما يستفاد من قوله تعالى: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً﴾.. بناء على المعنى الأوّل.

وهذا الإشكال أيضاً كما ترى لا يرد على التقريب المذكور في تقرير الشيخ الآملي، وانّما يختص بالتقريب المذكور في منية الطالب حيث استفاد فيه من قوله تعالى: ﴿لا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾ أمّا تقرير الشيخ الآملي فقد اعتمد على وضوح عدم جواز إيتاء المال للبالغ غير الرشيد فقهياً من دون استدلال بتلك الآية.

على انّه قد يقال: إنّ هذا الإشكال لا يردّ حتى على ما جاء في منية الطالب وذلك بدعوى: انّ السفيه يقصد به البالغ غير الرشيد لا الصغير، أو انّ البالغ غير الرشيد هو القدر المتيقن منه بحيث لا يحتمل تخصيصه بالصغير وذلك بنكتة انّ السفه بمعنى خفّة العقل والمصداق البارز منه هو البالغ الذي خفّ عقله، أمّا الصغير الذي لا يتوقّع منه ضرورة الرشد فعدم الرشد فيه لا يعتبر خفّة وسفهاً، أو انّ المتيقن من إطلاق الكلام غيره.

ثم انّه قد يقال: إنّ تقريب المحقّق النائيني (رحمه الله) للاستدلال انّما يتمّ بعد دمج الوجهين في وجه واحد بناء على ما بنى هو عليه في الاُصول من دلالة الغاية إذا كانت خارجة عن المغيّى على المفهوم، أمّا لو قلنا بانّ الغاية لا تدلّ إلّا على ارتفاع شخص الحكم بحصولها دون سنخ الحكم، فهذا الاستدلال لا يتمّ لانّه يبطل بذلك الشق الثاني من شقّي الكلام وهو القول بانّه إن كانت الغاية خارجة عن المغيّى وكان ا لبلوغ غير مؤثّر في جواز الدفع، أي انّ الرشد وحده يكفي للدفع

104

والبلوغ وحده لا يكفي كان جعل البلوغ في الآية الشريفة غاية لغواً فانّ هذا يجاب عليه: بانّ البلوغ انّما هو غاية لشخص الحكم فليس من المترقّب تأثير هذه الغاية على سنخ الحكم بنفيه.

نعم جعل هذه الغاية لشخص الحكم بحاجة إلى مناسبة عرفية تخرج ذلك عن اللغوية ويكفي أن تكون المناسبة في ذلك أي في التركيز على خصوص حكم ما قبل الغاية رغم تماثله لحكم ما بعد الغاية، انّ توهّم عدم كفاية الرشد لدفع المال انّما يختص بما قبل البلوغ دون ما بعده وكانت الآية بصدد دفع هذا التوهّم ساكتة عن حكم ما بعد البلوغ.

إلّا انّ الصحيح انّ إنكار مفهوم الغاية بشكل عام لا يضرّ بالاستدلال في المقام وذلك لانّ الغاية في خصوص المقام تدلّ على المفهوم لانّ المرتكز عقلائياً على تقدير كفاية الرشد في الصبي لدفع المال إليه مع كون دفع المال في البالغ أيضاً مشروطاً بالرشد هو انّ حكم اشتراط دفع المال إليه في ما قبل البلوغ وبعده بالابتلاء يكون بجعل واحد لا بجعلين فلا يحتمل عقلائياً انّ موضوعية الرشد للدفع أو ضرورة الابتلاء فيما قبل البلوغ تكون بجعل، وفيما بعده تكون بجعل آخر، إذن فيكفي جعل الغاية لشخص الحكم لفهم انتفاء سنخ الحكم بحصولها، لانّ انتفاء شخص الحكم عند انحصار الحكم بذاك الشخص مساوق لانتفاء سنخ الحكم.

ثم انّ التفسيرين اللذين ذكرهما المحقّق النائيني للآية ثم استظهر الثاني منهما كلاهما مبنيان على جعل «حتى» في الآية الشريفة للغاية مع فرض قوله: «فإن آنستم الخ» تارة تفريعاً على الابتلاء قبل البلوغ كما هو الحال في التفسير الأوّل، واُخرى على الابتلاء والبلوغ كما هو الحال في التفسير الثاني، في حين انّ

105

لـ «حتى» معاني ثلاثة: الغاية، والعطف، والتعليل، إذن فالاستدلال بالآية على شرط البلوغ بإبطال التفسير الأوّل من التفسيرين لا يتمّ إلّا بإبطال الاحتمالات الاُخرى أو إثبات انّ الاحتمالات الاُخرى أيضاً تناسب الاستدلال بالآية فلتتميم منهج استدلال المحقّق النائيني (رحمه الله) نقول: إنّ هنا احتمالين آخرين في الآية المباركة:

الأوّل ـ أن تكون حتى للعطف من قبيل أكلتُ السمكة حتى رأسها بنصب الرأس فكأنّ الآية تقول: وابتلوا اليتامى في كل زمان حتى إذا بلغوا النكاح وهنا تتمّ الجملة ويكون قوله «فإن آنستم منهم رشداً الخ» جملة اُخرى، وبناء على هذا تكون الآية دالة على انّ الابتلاء لكشف الرشد لا بد منه سواء قبل البلوغ أو بعده وانّه متى ما انكشف الرشد يدفع إليه المال إذن فالبلوغ لا أثر له في المقام.

وهذا الاحتمال لم يتعرّض له المحقّق النائيني (رحمه الله).

وعلى أي حال فهذا الاحتمال يمكن دفعه بدعوى انّ حمل حتى على العطف لدى إمكان حمله على غير العطف خلاف الظاهر على ما قيل في علم العربية(1) من انّ استعمال حتى في العطف نادر حتى انّ الكوفيين اوّلوا مثل أكلتُ السمكة حتى رأسها بالنَصب بإرجاعها إلى حتى الابتدائية مع تقدير ما يكمل الجملة بعد حتى.

والثاني ـ أن تكون حتى للتعليل وتكون إذا أداة شرط وعندئذ تكون حتى حرف ابتداء(2) وقد ذكر هذا الاحتمال المحقّق النائيني على ما في منية الطالب


(1) راجع بهذا الصدد مغنى اللبيب، الباب الأوّل، حرف حتى.

(2) نقل صاحب الجواهر هذا الوجه عن المرحوم بحر العلوم في 26: 19.

106

بعنوان: (قيل انّ إذا للشرط وجوابها مجموع الشرط والجزاء وحتى حرف ابتداء) ولم يصبح المحقّق النائيني بصدد دفع هذا الاحتمال أو تأييده وكانّه لأجل انّ هذا الاحتمال وجوده وعدمه سيّان في المقام، لانّ هذا الاحتمال هو في صالح الاستدلال بالآية وليس ضده لانّ معنى الآية على تقدير شرطية إذا هو جعل البلوغ شرطاً في استلام المال وهذا هو المقصود.

هذا غاية ما يمكن ان يذكر لتوجيه استدلال المحقّق النائيني (رحمه الله) في المقام.

إلّا انّ الصحيح رغم كل هذا عدم تمامية استدلاله في المقام لانّ الشق الثاني من شقّي استدلاله وهو القول بانّه لو حملت الآية على المعنى الأوّل وفرض انّ البلوغ لا أثر له في دفع المال وان تمام الموضوع لدفع المال انّما هو الرشد في كل الحالات لزم كون جعل البلوغ غاية لغواً يرد عليه: انّ بالإمكان افتراض انّ الرشد هو الموضوع لدفع المال دون البلوغ ومع ذلك لا يكون جعل البلوغ غاية في الآية الشريفة لغواً وذلك بأن يكون البلوغ غاية للابتِلاء ويكون المعنى انّ دفع المال إلى الصبي يكون مشروطاً بالرشد، وانّه يجب ابتلاء الصبي لمعرفة رشده، وأمّا البالغ فالرشد وإن كان ايضاً شرطاً في دفع المال إليه ولكن لا يجب ابتلاؤه بل تجري فيه أصالة الرشد فإذا بلغ الصبي يدفع إليه ماله ما لم ينكشف عدم رشده، وليس دفع المال إليه لعدم اشتراط رشده بل لأصالة الرشد فيه، فإذا جاء هذا الاحتمال بطل الاستدلال لانّنا احتفظنا في هذا الاحتمال بغائية البلوغ للابتلاء من دون ان يلزم من ذلك عدم شرطية الرشد في دفع المال إلى البالغ.

هذا تمام الكلام في تقريب المحقّق النائيني (رحمه الله) للاستدلال بالآية في المقام وإبطاله.

107

وللسيد الإمام (رحمه الله) تقريب آخر(1) للاستدلال بالآية فهو أولا يدّعي ظهور كلمة (حتى) في الغاية وبهذا يبطل احتمال العطف الذي لم يكن في صالح الاستدلال بالآية ثم يقول: إنّ معنى جعل البلوغ غاية للابتلاء هو انّ الابتلاء مستمر ولو عرفاً إلى أوّل البلوغ، فإذا فرّع على هذا الابتلاء المستمر حسب الفرض إلى أوّل البلوغ قوله: ﴿فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم﴾ فلا محالة يكون دفع المال إليهم بعد البلوغ وهذا هو المقصود.

أقول: إنّ الابتلاء ليس دائماً مستمراً ولو عرفاً إلى زمان البلوغ لانّنا لو افترضنا انّنا ابتلينا اليتيم فتبيّن بذلك رشده ثم بقيت فترة طويلة نسبيّاً بين ظهور الرشد بالابتلاء والبلوغ فهنا لا يصدق ولو عرفاً استمرار الابتلاء إلى زمان البلوغ، وما ورد في الآية من جعل البلوغ غاية للابتلاء لا يعني كون البلوغ غاية لزمان فعلية الابتلاء بمعنى ضرورة استمرار الابتلاء الفعلي إلى زمان البلوغ ولو عرفاً، وانّما يعني جعله غاية للفترة التي جعلت مهلة للابتلاء بمعنى انّه لا بدّ من البدء بالابتلاء في فترة زمنية قبل البلوغ بحيث نضمن كفايتها عادة إلى أوّل البلوغ لظهور الرشد إن كان رشيداً فالفترة التي جعلت ظرفاً للابتلاء تكون مستمرة إلى حين البلوغ بحيث لو فرض انّه لم يظهر الرشد في الأيّام الاُولى من الابتلاء فهناك مجال للاستمرار في الابتلاء إلى حين البلوغ، لا انّه لا بدّ من استمرار الابتلاء بالفعل إلى حين البلوغ ولو ظهر الرشد في الأيّام الاُولى.

ولكن مع هذا يمكن تحوير المطلب بشيء من الإصلاح كي يتمّ الاستدلال بالآية ـ ولعلّ هذا هو لبّ مقصود السيّد الإمام (رحمه الله) ـ ولو ارتكازاً وهو ان يقال: إنّه


(1) راجع كتاب البيع 2: 8.