65

هو الضمان الوحيد ـ أيضاً ـ لتحقيق رضا الله عز وجل وسعادة الحياة الآخرة.

ووفقاً لهذا المبدأ لا معنى للبحث عن كون السيادة للشعب أو للأمة وأمثال ذلك، وإنما السيادة الحقيقية لله لا غير، وهو يعين السلطة الحاكمة. وهنا يجب البحث عن نوعية هذه الولاية ولمن أعطيت من قبل الله.

هل ينتهي الحكم الإسلامي للإستبداد؟

ربما يُدعى في هذا الصدد أن الحكم الإلهي يعني الالتزام بالثيوقراطية التي تؤكد على ان السلطة الحاكمة تستمد قدرتها على الحكم وقدسية أوامرها من الله تعالى، وهي بالتالي تحكم بلا منازع ولا رادع ودون أي حساب، إذ الراد عليها يعتبر راداً على الله وهو المولى الحقيقي الذي يحكم بما يشاء، وكذلك تحكم حكومته بما تشاء، وهذا يؤدي الى أتعس ألوان الحكم الاستبدادي الدكتاتوري.

والواقع أن هذا الادعاء باطل وبلا أي مبرر، فإذا افترضنا كون رئيس الدولة معصوماً من الزلل والخطأ والانحراف ـ كما هو الحال في رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في رأي الشيعة ـ فلا معنى لهذا، إذ الواقع حينئذٍ أن السماء

66

بكل ولايتها وعطفها وعلمها وحكمتها هي التي تحكم، وكذا الحال حينما يكون الحاكم نائباً خاصاً للإمام المعصوم يتشرف بخدمته ويسترشد بهداه، كما هو الحال في النواب الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم) في رأي الشيعة.

أما لو لم يكن الحاكم معصوماً ـ بأن كان الحاكم هو نائب الإمام العام، كما سيأتي توضيح ذلك ـ أو الشخص المنتخب بالشورى ـ كما يرى بعض علماء السنة ـ فإن لهذا المدعى مجالاً، ولكنه مع ذلك لا يتم إذا اخذنا بعين الاعتبار نقطتين هامتين:

النقطة الأولى: التربية الاسلامية للقادة والمجتمع:

الاسلام يولي اهتمامه الكامل بتهذيب نفوس المسلمين عموماً، ويؤكد على تربية القائد المسلم تربية ممتازة توجِد في أعماقه الدوافع الدينية الأخلاقية الأصيلة التي تعبر عن نفسها في موضوعية أصلية واتباع للحق أينما كان، وتضحية بالنفس والنفيس في سبيل أمر الله وتطبيق شريعته ونشر العدالة الحقة..

بينما كنا نناقش النظام الديموقراطي بعد امتلاكه الضمان الكافي لمنع أتباع الأهواء والمصالح الشخصية وتقديمها على المصالح العامة ـ ذلك لأن إطار النظام اطار مادي ضيق ـ نجد أن إيمان المسلمين وحكامهم بالله العظيم والآخرة والمثُل والقيم الاسلامية وانخراطهم في اطار عملية التربية الاسلامية الشاملة يشكل

67

ضماناً قوياً لعدم الانحراف.

ويمكن ـ لأجل التعرف على أساليب هذه التربية الرائعة ـ مراجعة ما كتبه سيدي الاستاذ آية الله العظمى السيد الصدر (رحمه الله) بشكل مشبع في مقدمة كتابه القيم "فلسفتنا" وغيرها من كتاباته، وكذلك مراجعة كتابنا "الأخلاق".

وقبل أن ننتقل الى النقطة الثانية لا بأس ببيان خلاصة ما يستفاد من كلمات مونتسكيو في ذكر الأسس التي ينبغي ارتكاز الحكومات عليها كي تبقى الدول متماسكة ونزيهة الى حد معقول، وهي عنده عبارة عن أسس ثلاثة بعدد أقسام الحكومات عنده؛ فالحكومات عنده منقسمة الى ثلاثة أقسام: الجمهورية، والملكية الدستورية، والمستبدة.

والأسس التي ينبغي ارتكاز هذه الحكومات عليها ثلاثة: التقوى أو الفضيلة، والشرف، والخوف أو الرعب.

فالأول ينبغي أن يكون أساساً للجمهورية، والثاني ينبغي أن يكون أساساً للملكية الدستورية، والثالث ينبغي أن يكون أساساً للحكومة الاستبدادية.

أما التقوى أو الفضلية، فليس مقصوده بها التدين أو الاتصاف بما يعتبره علماء الأخلاق من الصفات الحسنة، وإنما المقصود بها حب الوطن والمساواة وأن يحب دولته أكثر من نفسه، وهو يرى

68

أن الجمهورية على قسمين:

1 ـ الديموقراطية: ويكون الحكم فيها بيد الكل، وحينئذٍ لولا تفاني المجتمع في حب الوطن والمساواة لفسدت الدولة وانهارت الحكومة، إذ لا قوة مركزية مهيمنة تمسك زمام الأمور بيد حديدية وتمنع عن طغيان بعض على بعض وتبقى الدولة متراصة متماسكة، فالشيء الوحيد الذي يحفظ الدولة عن الفساد والانهيار هو شيوع التقوى والفضيلة.

2 ـ الارستقراطية: ويكون الحكم فيها بيد قسم من الشعب. وهذه الحكومة أيضاً بحاجة الى أساس التقوى والفضيلة، ولكن لا بقدر حاجة الجمهورية الى ذلك.. وذلك لأن قسماً من الشعب، وهم غير الارستقراطيين ـ نسبتهم الى الارستقراطيين كنسبة الرعايا الى الملك في النظام الملكي ـ مقيدون ومسيّرون بالقوانين التي يمليها عليهم الارستقراطيون، والحكومة الارستقراطية في حد ذاتها أقوى من الحكومة الديموقراطية، وأقدر على تقييد الشعب وتسييره.

أما الارستقراطيون فيما بينهم فلا يفيدهم القانون ولا الضمان لانحفاظ المساواة في الحقوق فيما بينهم إلا بالتقوى والفضيلة؛ فلو كانت التقوى عندهم قوية جداً الى حد تجعلهم يوجدون المساواة بينهم وبين الشعب عاد الأمر الى جمهورية واسعة، ولو كانت تقوى

69

خفيفة نسبياً أنتجت على الأقل تساوي الارستقراطيين فيما بينهم وحفظتهم من الانهيار.

وأما الشرف فيقصد بذلك روح الكرامة والإباء الشعبيين وطلب الجاه والطموح في مقابل الخسة ودناءة الطبع. ويرى أن هذا ينبغي أن يكون أساساً للملكية الدستورية؛ فمن ناحية من الصعب أن ننتظر من رجال البلاط الملكي عدم الظلم والطغيان وعدم سوء الخلق، وبالتالي من الصعب أن نفترض في أفراد أمة تعيش تحت أيدي هؤلاء أن يصبحوا من ذوي التقوى ويحبون وطنهم وحكومتهم ودولتهم، إذ هذا يعني أن الحاكمين يظلمون ويغفلون دائماً والمحكومين يغفلون ويستسيغون الظلم دائماً.

ومن ناحية أخرى لا حاجة مهمة في نظام الحكومة الدستورية الى التقوى، إذ القوانين في هذا النظام إذا انضمت الى أساس الشرف نابت مناب التقوى، فقوة القانون تقيد الناس وتسيرهم وقوة الشرف أيضاً تحركهم نحو الخير بدافع كسب الشهرة والمحبوبية. وهذا ـ وإن لم يكن شرفاً فلسفياً واقعياً، بل هو شرف ظاهري تصنّعي ـ يفيد في بقاء أعضاء الهيئة متماسكين وإبقاء الدولة في خير وعافية.

أما الحكومة الاستبدادية فلا يجتمع معها الشرف في نفوس المجتمع؛ فإن الشعب نسبتهم الى الملك المستبد نسبة العبيد الى

70

المولى، بينما الشرف وإباء النفس يمنع عن ذلك، ولا يستطيع الملك المستبد أن يتحمل من الشعب الشرف والإباء وعدم الهروب من الموت. فالشرف ـ الذي كان يوجد في الممالك الدستورية ويقوي الهيئات السياسية والقوانين بل ويقوي التقوى ـ لا يوجد في الممالك الاستبدادية.

فما هو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الحكومة الاستبدادية؟

ليس هو التقوى ولا حاجة إليها، ولا الشرف بل الشرف، كما عرفت يولد الأخطار والمشاكل، بل هو الخوف والرعب كي يمنع من ناحية أن يفكر أحد في قلب الهيئة الحاكمة أو يحس بطلب الجاه والمقام ويمنع من ناحية أخرى رجالات الحكومة والذين بيدهم زمام أمور المملكة من ظلم الشعب؛ إذ لولا خوفهم من الملك فإنهم لا يبقون شيئاً ولا يذرون، حيث لا شرف ولا تقوى ولا قوانين ثابتة ومتقنة، وإنما الشيء الوحيد هو إرادة الملك.

أما شأن الدين ورجال الدين، فيرى "مونتسكيو" بهذا الصدد أن الملك المستبد لا يقف أمام إرادته وقدرته عدا الدين؛ فالملك لو أمر إنساناً أن يترك أباه تركه، أو أن يقتله قتله، أما لو أمر الناس بشرب الخمر فلم يشربوا لأن الدين الذي تنبسط سلطته على الناس وعلى الملك نفسه لا يسمح بذلك.

أما في الحكومة الدستورية والمعتدلة في التصرف، فالشرف

71

هو الذي يحدد من قدرة الملك، فلا يتحدث أحد مع الملك عن الدين، ولو تحدث معه أحد رجال البلاط عن الدين لكان قابلاً للاستهزاء، وإنما يتحدث معه دائماً عن الشرف وعلو النفس.

ومع هذا، فبما أن الحكومة الملكية الدستورية تنقلب بطبيعتها الى الاستبداد لولا وجود روابط ووسائط وقوى فيما بين الملك والشعب، فلابد من وجود أشراف من ناحية عن طريقهم تطبق القوانين وتجري فيما بين الناس كي لا ينقلب الملك رأساً الى ملك مستبد، ومن ناحية أخرى ينبغي أن تكون لرجال الدين قدرة ونفوذ عند الشعب في مقابل نفوذ الحكومة، على الخصوص إذا كانت الحكومة تميل الى الاستبداد؛ أما في الحكومة الجمهورية ففرض القدرة لرجال الدين خطر وغير صحيح.

هذه خلاصة ما يمكن استفادته مما كتبه مونتسكيو خلال عدة صفحات من كتابه (روح القوانين).

ونحن إزاء هذا النص لا نملك إلا أن نفترض أن مونتسكيو وأمثاله يتحدثون عن حكومات مثالية وخيالية لا تمتلك نصيباً من الواقع وإنما تعيش على مستوى فروض فلسفية ممكنة وصور عقلية تجريدية. وإلا فلو كان البحث عن واقع حكومي خارجي فإننا نجد ـ عادة ـ أنه لا يقف أي شيء في قبال المصالح الشخصية والظلم والطغيان اللذين ينتجهما حب الذات الا الدين والعقيدة

72

والأخلاق الفاضلة التي تغرسها السماء عن طريق الأنبياء والوحي في النفوس.

ولا نقصد بالدين طبعاً ذلك الدين الذي لا يملك من القدرة إلا منع الناس من شرب الخمر بينما لا يستطيع أن يمنع الابن من قتل أبيه! ـ كما جاء في كلمات مونتسكيو ـ وإنما نعني الدين الذي لم يكن مونتسكيو وأمثاله من أئمة القوانين الوضعية قادرين على تصوره؛ إنه الدين الذي يأمر بكل ما هو خير وينهى عن كل ما هو شر، ويربي الانسان المضحي بماله ومقامه ودمه في سبيل انتصار العقيدة طالباً بذلك رضا الله لا غير.

أما إذا ضربنا صفحاً عن العقيدة والدين، فسوف لن نلقى أي ضمان في النظام الدستوري أو الجمهوري لاتباع الحق والعدل، وأي شرف يتصور فيمن لا يعتقد بنظام مسيّر للحياة مبشرٍ كلّ من ضحى بمصالحه الشخصية الدانية لصالح المجتمع والعقيدة بجنة عرضها السماوات والأرض، والخلود في السعادة الأبدية، كما لا يعتقد بحقيقة المثُل والقيم التي غرستها أوامر السماء في النفوس؟!

وما مضمون السعي لتحقيق المساواة ودوافعه مادامت الغريزة الذاتية تثور في الفرد فتدفعه للتعالي على الآخرين ومنافستهم في حطام الدنيا وملذاتها، ما لم تؤطر هذه الغريزة بإطار تربوي سماوي؟!

73

أما حب الوطن ـ بالمعنى الذي يفهمه الانسان الغربي ـ فسوف لن يؤدي إلا الى مد النظر الى الأوطان الأخرى وخيراتها والعمل على استعبادها واستعمارها، محققاً بذلك مصالح وطنه في قبال مصالح الأوطان الأخرى. هذا بالنسبة لخارج الوطن، أما بالنسبة للداخل فمن الطبيعي أن يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الآخرين عندما تتعارض فيما بينها، متبعاً بذلك غريزة حب الذات.

فلا شرف إذن ولا تقوى، بمعنى يؤدي الى المنفعة العامة في نظام جمهوري أو ملكي دستوري.

والدين وحده ـ وبمعناه الصحيح ـ هو الذي يكفل إجراء الحق والعدالة في المجتمع وعدم انحراف الحاكم واستبداده مادام المجتمع متديناً حقاً بالدين الصحيح. ونحن عندما ننظر للحكم الاسلامي الذي يقوده انسان غير معصوم ولكنه يستمد ولايته من الدين، فإنما ذلك مع إفتراض اطار ديني عام للحكومة والمجتمع لنتوقع بعد ذلك الثمار الطيبة.

وعلى أي حال، فإن العنصر الكفيل بأن لا ينتهي الحكم الاسلامي الى الاستبداد يتوفر في روح الحكم الاسلامي نفسها، وهو الدين والتدين، ومن المعقول تماماً أن يهتم أولياء الله بتربية المجتمع الذي يقوده الدين، كما توفر ذلك في بعض عصور التطبيق الإسلامي الصحيح، كعصر النبي (صلى الله عليه وآله) الذي مارس التجربة في منطقة كانت

74

أبعد ما يتصور من الإنسانية والشرف والتقوى والأخلاق، فأوجد ذلك المجتمع الذي تؤطره التقوى والعدالة.

هذا في حين تفقد النظم الأخرى ما يكفل لها من ذاتها عدم التحول الى الاستبداد، كما لا يتوفر لها عادة في الواقع الموضوعي عامل يحول دون هذه النهاية المرة.

وهذه ديموقراطيات العالم اليوم نراها ونلمس آثارها وما جرته على العالم من دمار واستعمار وامتصاص لدماء الشعوب الضعيفة، ومازال العالم يعيش على فوهة بركان مطامعها ويهدده بين آونة وأخرى شبح الحروب العالمية وما يتبعها من الفناء والاضمحلال.

وكذلك عدنا نرى أن المساواة ـ لو صحت في نفسها ـ لا وجود لها في المجتمعات الديموقراطية ـ إطلاقاً، أما المجتمعات التي فرضت عليها المساواة قسراً فلا مسحة ديموقراطية لها إطلاقاً.

إن الدولة التي ينتظر منها العدل وإقامة الحق ومراعاة الوظائف الحقيقية للدولة، هي تلك التي تجعل نصب عينيها أداء حق العبودية لله جل وعلا وطلب مرضاته، لا الدولة التي تنتابها الأهواء والمصالح ولا يستهدف أفرادها ـ عند دراسة خلفيات أهدافهم ـ إلا الاعتلاف والتقمم، وإشباع الرغبات الضيقة.

هذه هي النقطة الأولى التي تمنع من تحول الحكم الاسلامي الى حكم مستبد.

75

النقطة الثانية: عدم الانسجام بين شكل الحكم الاسلامي والاستبداد.

وذلك أن الصيغة التي يمكن استفادتها لشكل الحكم الاسلامي، والتي تمنح من خلالها الولاية للهيئة الحاكمة ـ بعد فرض عدم وجود المنصوص عليه من قبل السماء كرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند جميع المسلمين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) عند الشيعة ـ هذه الصيغة هي أحد أمرين:

الأمر الأول: نظام الشورى:

ويدعي بعض علماء السنة قيام الحكم منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا الأساس، في حين يرى الشيعة أن الحكم أوكل بنص من النبي وبأمر إلهي الى الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فإذا أمكن تصور نظام للشورى ـ عندهم ـ فليس إلا في عصر غيبة المعصوم الكبرى.

وعلى أي حال، فنظام الشورى (لو قبلنا به في عصر الغيبة) يختلف عن الديموقراطية في أن أمر التشريع الرئيس ليس بيد الناس، بل بيد الله تعالى عن طريق الأحكام والشرائع الاسلامية، وقد ترك الاسلام منطقة فراغ معينة المعالم يقوم بملئها ولي الأمر في الإطار الاسلامي العام. فإذا أمكن تصور شورى فإنما هي في ملء هذه المنطقة فحسب وعلى ضوء تصورات الاسلام، أو في انتخاب من

76

يملؤها ومن ينفذ القوانين الاسلامية.

كما أن نظام الشورى يختلف عن النظام الدكتاتوري، بأنه لا استبداد لرئيس الدولة في شيء، لا في التشريعات الأساسية ولا فيما أسميناه بمنطقة الفراغ ولا في انتخاب المنفذين؛ لأن التشريعات الأساسية بيد الله والاسلام، وأما الأمور الأخرى فتتم بالشورى لا بالاستبداد.

إلا أننا سنوضح ـ في بحث الشورى بطلان هذا التصور للحكم الاسلامي، وأن نظام الشورى لا يمتلك أي مستند شرعي مطلقاً.

الأمر الثاني: نظام نيابة الفقيه عن الامام المعصوم (عليه السلام)، فيكون الولي الحقيقي هو الامام المعصوم، وهو الذي عين الفقيه نائباً عنه.

وهذا هو الشكل المنسجم مع المنهج الشيعي.

ويختلف نظام نيابة الفقيه وولايته عن الدكتاتورية في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: أن واضع القوانين الأساسية في دولة قائمة على أساس ولاية الفقيه هو الله تعالى لا الفقيه.

النقطة الثانية: ان الولاية ليست محصورة بفقيه معين، وإنما هي لكل فقيه جامع للشروط، ويكون الكل أولياء يراقبون الولي المخول للحكم أو هيئة الفقهاء العاملة فعلاً في مجال القيادة، ويحدون من

77

أخطاء القيادة الحاكمة. وربما نقضوا حكمها في الموارد التي يكون فيها نقض الحكم أقل مفسدة من الخطأ الذي وقع فيه حكمها، ويكون عصيان الحاكم أفضل من تفادي مضاعفات الإنشقاق بمجاراة أخطائه في نظرهم.

النقطة الثالثة: ان الولاية هنا لا تقوم على أساس القهر والغلبة، وإنما تتحقق بتحقق شروطها، وعمدتها: الفقاهة، والعدالة، والكفاءة.. وهي شروط تقود تصرفات ولي الأمر نحو الخط الصحيح، وتدع الأمة مراقبة له ولتوفر الشروط فيه، بعد أن كانت قد ربيت على الالتفات لهذه الشروط.

كما أن دائرة الولاية هنا محددة بحدود مصلحة الأمة، وهذا أيضاً يقود تصرفات الولي نحو الخط الصحيح، ويدع الأمة المتربية على الالتفات الى ذلك مراقبة له. وحينما تقتضي المصلحة وضع الشيء موضع التصويت والأخذ بأكثرية الآراء وجب على ولي الأمر ذلك.

كما أن نظام نيابة الفقيه وولايته يختلف عن الديموقراطية، بأنه لا يتضمن مبدئياً أي نظام للتصويت وتجميع الآراء، وذلك لا في مجال القوانين الأساسية الاسلامية، ولا في منطقة الفراغ السالفة الذكر، ولا في مجال تعيين الهيئة التنفيذية.

فالاسلام هو مشرع القوانين الأساسية، والفقيه هو الذي يملأ

78

منطقة الفراغ أو يعين من يملؤها، كما يعين الهيئة التنفيذية أيضاً أو يعين من يعينها. نعم قد تستدعي المصلحة ـ كما أشرنا ـ أن يعمل الفقيه أسلوب التصويت في منطقة الفراغ، أو في تعيين الهيئة التنفيذية، فيتبع في الحدود التي يعينها الفقيه لذلك.

79

الشورى

81

حاول بعض علماء السنة تصوير إقامة الدولة الاسلامية على أساس "مبدأ الشورى" كروح لنظام الحكم الاسلامي.

السؤال المحير

ولأول وهلة يثور سؤال هام أمام هذه النظرية، هو:

إذا كان الاسلام قد خطط لنظام الحكم على أساس من مبدأ الشورى بحيث تكون حجر الزاوية فيه ومصدر الولاية والسلطة الشرعية، فإن من الطبيعي ـ والحال هذه ـ أن يقوم ـ أي الاسلام ـ بتثقيف واسع للأمة واطلاع كامل لها على حدود هذا الأساس الهام وتفاصيله وبنوده، وذلك لأهمية الأمر وضرورته المتناهية، إلا أننا لا نجد لهذا الثقيف أثراً في الكتاب أو السنة، فكيف نفسر هذه الظاهرة على ضوء هذه النظرية؟

وقد بادر بعض الكتاب والعلماء السنة للإجابة عليه، وأفضل

82

جواب ذكروه هنا هو التأكيد على أن الاسلام قد تعمد اعطاء مبدأ الشورى بلا أي تحديد لها في قالب معين موكلاً أمرها الى الأمة، وذلك انطلاقاً من الصفة الواقعية العامة التي تمتاز بها الشريعة الاسلامية، وهي صفة المرونة التي أمكن من خلالها أن يكون نظاماً خالداً يستوعب مختلف الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية.

ومن الواضح أن أمر الشورى يختلف باختلاف الأحوال الاجتماعية، وتتدخل في صياغة نوعية الشورى عوامل سعة الاقليم، وعدد السكان، وأهمية موضوع الشورى، وما الى ذلك من عناصر متحركة متغيرة بتغير الظروف الزمكانية؛ فلا يمكن أن تفرض نوعية عملية الشورى في مجتمع بدء الرسالة ـ مثلاً ـ بما يتناسب وفطرته الساذجة وقتئذ. هذه النوعية لا يمكن أن تفرض على كل الحالات والشعوب في كل حين، لأن صلاحية النظم نسبية، فما يصلح لقوم قد لا يصلح لغيرهم.

قال قحطان عبد الرحمن الدوري في كتابه (الشورى بين النظرية والتطبيق):

"وما مرونة شكل الحكم إلا حسنة جليلة امتاز بها الاسلام على غيره من النظم تجعله صالحاً لكل زمان ومكان"(1).

هذا، ولكن الحقيقة هي:



(1) الشورى بين النظرية والتطبيق ص67.

83

ان هذه المرونة المدعاة لو كانت بحيث ان الاسلام رسم للأمة خطوط نظام الشورى العامة وأعطاها القواعد والمبادئ الرئيسية فيه تاركاً لها تطبيق هذه القواعد تطبيقاً متفاوتاً بتفاوت الظروف، يتأكد معه من أن نظام القاعدة موجود في شكله المناسب للظرف المعين، وان اختلف هذا الشكل عن الشكل المطبق في ظرف آخر.

وبحيث كان لكل ظرف خاص شكل معين خاص يتأكد الناس بلا أي تشكيك من أنه الشكل المطلوب. نعم، لو كانت المرونة بهذا النحو لأمكن أن يجعل هذا حسنة جليلة يمتاز بها الاسلام ـ على حد تعبيره ـ على غيره من النظم تجعله صالحاً لكل زمان ومكان. إلا أن الواقع يخالف هذا تماماً؛ فإن هناك أشكالاً عديدة ومصاديق مختلفة تتصور حتى في اطار زمان واحد وظروف متحدة في الخصائص وتبقى الاسئلة هنا حائرة بلا جواب؛ فمثلاً لو اختلف المستشارون على قولين وكانت الأكثرية في طرف معين في حين كان أكثر أهل السداد والصلاح والمشهورين اجتماعياً في الطرف الآخر، فلأي الطرفين يكون الترجيح؟ وهل نهتم بعنصر الكم أو بعنصر الكيف؟ ولو أن الجانبين تساوياً كماً وكيفاً، فما هو الموقف؟ وهل يؤثر الترجيح بصوت واحد أم لا؟ ومن هم الذين ينبغي أن يكونوا مشتركين في الشورى؟ هل كل من

84

يصلح للمشورة له الحق في هذا، أو يقتصر على البعض منهم؟ وما هو مقدار هذا البعض؟ وكيف نستفيد ذلك من نصوص الشورى؟

ربما يقول البعض في هذا الصدد ان المشاورين هم كل من كان موضوع الشورى يهمهم من المسلمين، وذلك بدليل قوله تعالى ﴿وأمرهم شورى بينهم، فبملاحظة وحدة مرجع الضميرين في "أمرهم" و "بينهم" يعلم أن المشتركين في عملية التشاور هم كل من كان الأمر المتشاور فيه أمرهم.

ولكن كيف نحسم الموقف في موضوع يرتبط بجماعة بدرجة من الارتباط، كما يرتبط بقطاع خاص من قطاعات هذه الجماعة نفسها بدرجة أشد وأوثق، بحيث يمكن ان ينسب العرف (الأمر) تارة الى هذا القطاع الخاص وأخرى الى الدائرة العامة الشاملة له ولغيره؟ وأي هاتين الجماعتين (العامة والخاصة) تشترك في عملية الشورى؟

وهناك الكثير من الأمثلة العملية التي يمكن أن تصدق عليها هذه الصورة؛ فمثلاً لو اتفقت الأمة ـ على سبيل الإجمال ـ على انتخاب فقهاء البلد لإدارة الحكم، ثم وقع الخلاف في مجال تنسيق الأعمال وتقسيمها على الفقهاء بين أكثرية الناس ـ بما فيهم الفقهاء ـ وأكثرية الفقهاء أنفسهم، فما هو موقفنا بعد الإيمان بمبدأ الترجيح بالأكثرية؟

85

ها نحن نجد أكثرية الناس من جهة تؤمن بلزوم إرجاع الأمور كلها الى الفقهاء وتوافق عليه، ومن جهة أخرى نلاحظ أن أكثرية الناس أيضاً تفضل أن يعين فلان رئيساً للدولة، أو أن يتم الحكم عن طريق "مجلس قيادة" بدلاً من القيادة الفردية. إلا أن أكثرية الفقهاء أنفسهم، ومن جهة ثالثة، كانت تخالف رأي أكثرية الأمة في ذلك.

فهل العبرة بأكثرية الناس لأن الأمر أمرهم، أو بأكثرية الفقهاء لأن الأمر يختص بمجال عملهم وأسلوب تقسيمه فيما بينهم في المجال الإداري الذي سلمه الناس إليهم؟

هذا أحد الأمثلة، وهناك مثال آخر:

فلو فرضنا جماعتين أريد أن ينتخب لكل منهما شخص متخصص في معرفة مصلحة الجماعة التي يمثلها، وذلك بروح أن يشترك الشخصان في عملية تنسيق بين المصالح العامة والخاصة بما يحقق مصلحة المجموع لا بروح أن يكون كل فرد منهما يدافع عن مصالح الجماعة التي يمثلها فقط، فلمن نمنح حق إنتخاب هذين الشخصين، هل لمجموع الجماعتين أو يختص إنتخاب كل شخص بالجماعة التي هو خبير بمصالحها ومهتم بها؟

ان الأمر كما يمكن أن ينسب ـ عرفاً ـ الى الجماعة الخاصة يمكن أن ينسب الى المجموع أيضاً، فهو أمر الكل.

86

ومثال ثالث:

أريد التشاور في قانون يمس النساء أكثر من غيرهن، فهل يختص التصويت بهن لأن الأمر أمرهن أو يرجع للكل لأن الأمر أمر الكل؟ ولأي الأكثريتين يرجع لو اختلفتا؟

وبعد كل هذا، فلو تخلّف بعض الأشخاص الذين كان الأمر أمرهم عن الاشتراك في الشورى، فهل تبطل الشورى أولاً؟ وبأي قدر من الانسحاب تبطل ـ لو قلنا بالبطلان ـ؟ وهل يجبرون على الاشتراك في عملية التشاور من قبل من اكتسب السلطة والولاية في مرحلة سابقة؟

على أنه يوجد في الناخبين أو المستشارين الكثيرون من المستضعفين ممن لا يؤثر دخولهم في عملية التشاور في الاقتراب الى ما هو الأصلح والأقرب الى الحق، وذلك لعدم قدرتهم على التفكير الصحيح المستوعب لموضوع الشورى، مثل كثير من العامة والنساء الجاهلات في بعض الأجواء الاجتماعية. وهذا القطاع من المستضعفين يملأ ـ أحياناً كثيرة ـ مساحة واسعة من الأمة، فهل يشترك هؤلاء في العملية لأن الأمر أمرهم أيضاً ولا يستثنى منها إلا الأطفال الصغار أو المجانين أو السفهاء شديدو السفه مثلاً، اما من عداهم فيشتركون بمقتضى إطلاق عبارة ﴿وأمرهم شورى بينهم ويدعون الى التشاور ولو على أساس تأليف القلوب وجلب رضا

87

الجيمع مثلاً، أو يرفض اشتراكهم باعتبار أن الهدف من الشورى ليس إلا معرفة أصلح السبل فيمنعنا ذلك عن فهم الاطلاق من الدليل؟ وعلى التقدير الثاني فما هي بالضبط الحدود الفاصلة بين من يحق له الاشتراك في الانتخاب ومن لا يحق له ذلك؟

إن هذه الأسئلة الشاخصة وعشرات غيرها تبقى بلا جواب، وتدع المجتمع ـ أي مجتمع ـ في غمرة من الحيرة في مجال اختيار الشكل الواحد من الأشكال الأخرى للشورى والتي يمكن أن يفترض أنها هي الصحيحة في نفس هذا الزمان وهذا الظرف.

ومن هنا يؤكد الاشكال على أن المرونة الاسلامية إنما تتصور وتصبح مزيّة جليلة للإسلام ـ على فرض قوله بنظام الشورى ـ فيما إذا حدد قواعد هذا النظام ومبادئه بشكل لا يؤدي الى هذه الحيرة العجيبة. اما ترك الأمور على عواهنها وعدم تثقيف الأمة بتلك القواعد والاكتفاء بإشارة من آية قرآنية الى الشورى، فلا يعبر إلا عن نقص فاحش يتبرأ الاسلام من نسبته إليه وإلى مبلغه وجاعله تعالى.

هذا هو السؤال المحير الذي يطرح أمام النظرية السنية القائلة بنظام الشورى، فلنتعرف على ما يمكن أن نجيب به عليه.

ويمكننا هنا ان نتصور الإجابات كما يلي:

88

الجواب الأول:

أن يدعى أن الامامة والدولة وكيفية الحكم أمر دنيوي لا يفترض في الشريعة الاسلامية التدخل فيه، كغيره من الشؤون الدنيوية. ولذا فلا يعتبر عدم تعرض الاسلام لهذا الجانب الدنيوي نقصاً، أما وقد تفضل الاسلام وتعرض له فإن من الطبيعي له أن يكتفي بالإطار العام دون أن يقيده بأي قيود تمنع من تطبيقه في كل زمان ومكان مع اختلاف الظروف الزمانية والمكانية، ولذا أعطت الشريعة المفهوم العام وتركت للأمة أمر تحديد الشكل والخصوصيات المناسبة لها، بعد أن كان للإسلام أن يترك لها حتى حق اختيار نظام الشورى ـ من أصله ـ أو رفضه بلا أن يشكل ذلك أي نقص منطقي فيه لأنه من شؤون الدنيا.

وهكذا يمكن أن نقول: ان ترك التحديد بنحو لا ينسجم مع مختلف الظروف هو حسنة جليلة للاسلام.

ولكن هذا الجواب الأول باطل تماماً للأمور التالية:

أولاً: إن مسألة الحكم والامامة من الضرورات التي لا يمكن غض النظر عنها بعد أن كان حفظ أصل الاسلام وقوانينه في المجتمع متوقفاً عليها؛ فإذا افترضنا الاسلام مهتماً بنفسه وتشريعه وجب أن نفترض وقوفه موقفاً إيجابياً من مسألة الحكم، ولو بإعطاء نظام

89

ذي قواعد مرنة تقبل الانطباق على مختلف الظروف وعدم إيكال هذا الجانب الى العقول الإنسانية التي ينتابها الضعف من مختلف الجوانب فيتيه الناس وينسحق بالتالي أصل الشريعة.

وثانياً: إن الاسلام نظام كامل شامل للحياة، ولم يغفل تنظيم شؤون الحياة الانسانية الدنيوية بالمقدار الممكن ترقّبه من الشريعة والدين الواقعي. ويتوضح هذا بملاحظة النظم الاقتصادية والاجتماعية وتحديد أساليب السلوك الفردي والاجتماعي وتنظيم الأمور العائلية وغير ذلك. بل إن تدخل الاسلام في الشؤون الدنيوية من ضروريات الدين الاسلامي أو الفقه ـ على أقل تقدير ـ الأمر الذي لا ينكره إلا مكابر، ومع هذا كيف نتصور الاسلام يغفل جانب الحكم، وهو من أهم المسائل الحياتية للمجتمع الذي عمل على بنائه ووضع أسسه.

وثالثاً: ان الامامة أو تأسيس الدولة يتضمن ـ كما أوضحناه فيما سبق ـ إعمال نفوذ شخص وأشخاص في مجالات كثيرة، الأمر الذي لا ينسجم مع الأحكام الأولية للناس.

وعليه، فلو لم يكن تأسيس الدولة هذا قائماً على أساس من ولاية إسلامية تعطى ضمن نظام خاص لمن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، لأمكن تصور التورط في محرمات كثيرة. الأمر الذي يعيق تشكيل أي حكومة إسلامية صحيحة، وبالتالي يوقع المجتمع